المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ب.• أحاديث الأبدال - جامع المسائل - ابن تيمية - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌بين يدي الكتاب

- ‌فتوىفي الغوث والقطب والأبدال والأوتاد

- ‌ب.• أحاديث الأبدال

- ‌الشخص الذي يدور عليه أمر من الأمورِ هو قطبُ ذلك الأمرِ

-

- ‌ قول القائل: "الغوث الذي تنتهي إليه حوائج الخلق

- ‌مازال الناسِ يُجْدِبون ويستولي عليهم العدو، وهذا الغوثُ لا ينفع ولا يَدفع

- ‌فصل

- ‌ هذه الأمصار كانت في أول الإسلام ديارَ كفر، لم يكن بها أحد من أولياء الله

- ‌إذا كان الأبدالُ الأربعون أفضلَ الأمة فمن الممتنع أن يكونوا في زمن علي بالشام

- ‌فصل

- ‌إذا كان العبد يناجي ربَّه ويخاطبه، والله يَسمعُ كلامَه ويجيب دعاءَه، فأين حاجتُه إلى الوسائط

- ‌قاعدة في الاستحسان

- ‌ نفقةَ الصغيرِ وأجرةَ مُرضِعِه على أبيه دونَ أمِّه

- ‌ جواز إجارة الظئْر

- ‌جواز الإجارة

- ‌جواز القرض والقراض

- ‌القول بالاستحسان المخالفِ للقياسِ لا يمكنُ إلاّ مع القولبتخصيصِ العلَّةِ

- ‌ القرعةَ منسوخة بآية الميسر

- ‌ العقوبةَ الماليةَ منسوخةً بالنهي عن إضاعةِ المال

- ‌تحقيق هذا الباب أنه إما أن يُعلَم استواءُ الصورتين في الصفات المؤثرة في الشرع، وإما أن يُعلَم افتراقُهما، وإما أن لا يُعلم واحدٌ منهما

- ‌ متى ثبتَ الحكم في بعض الصوَر دون بعضٍ عُلِم أن العلَّة باطلة

- ‌لا يكون الاستحسان الصحيح عدولاً عن قياس صحيح، والقياس الصحيح لايجوز العدول عنه بحالٍ

- ‌تارةً ينكرون صحةَ الاثنين

- ‌هذا استحسان بفرقٍ رآه مؤثراً

- ‌قاعدة في شمول النصوص للأحكام

- ‌ عنوان الكتاب وتوثيق نسبته إلى المؤلف

- ‌ وصف النسخ الخطية

- ‌نماذج من النسخ الخطية

- ‌فصلفي شمول النصوص للأحكام وموافقة ذلك للقياس الصحيح

- ‌ ضَمَانُ النفوس والأموال مبناهُ(4)على العدل

- ‌ النصوصُ محيطةٌ بجميع أحكام العبادِ

- ‌ قد يَقْصُر فَهْمُ كثيرٍ من الناس عن فَهْمِ ما دلَّت عليه النصوصُ

- ‌لا للإسلام نَصَرُوا ولا للأعداء كَسَرُوا

- ‌ا: ردّ القياس الصحيح

- ‌فهرس المصادر والمراجع

الفصل: ‌ب.• أحاديث الأبدال

مؤلفاتهم بشان الأولياء ورجال الغي‌

‌ب.

• أحاديث الأبدال

احتج الصوفية ومن تابعهم لهذه الفكرة بالأحاديث التي ورد فيها ذكر الأبدال، ويلاحظ أنه لم يَرِد ذكر هذا اللفظ في شيء من الأحاديث في الكتب الستة إلاّ في حديث واحد عند أبي داود (4286)، وهو حديث ضعيف لا تقوم به حجة

(1)

.

أما الأحاديث الأخرى التي اشتملت على لفظ "الأبدال" خارج الكتب الستة فقد أخرجها بعض المحدثين، مثل: عبد الرزاق في "المصنف"(11/ 249 - 250)، وأحمد في "المسند"(1/ 112، 5/ 322)، وابن أبي الدنيا في كتاب "الأولياء"(بأرقام 8، 57 - 59)، والحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"(ص 69 - 71)، والطبراني في "المعجم الكبير" و"الأوسط"(كما في "مجمع الزوائد" 10/ 63)، وابن عدي في "الكامل"(في مواضع متفرقة)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 8 - 9) و"أخبار أصبهان"(1/ 180)، وأبو محمد الخلاّل في "كرامات الأولياء"، والبيهقي في "شعب الإيمان"(7/ 439)، والديلمي في "الفردوس"(1/ 154)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق "(1/ 289 - 304، 334 - 341) وغيرهم.

(1)

استقصى طرق هذا الحديث وبيان ما فيها من الاضطراب وأن أكثرها منقطعة- أخونا الفاضل الدكتور عبد العليم البستوي في "الموسوعة في أحاديث المهدي الضعيفة والموضوعة" ص 324 - 335. وانظر "سلسلة الأحاديث الضعيفة" للألباني (1965).

ص: 20

وقد أفردها السخاوى وبيَّن عللها في جزء سماه "نظم اللآل في الكلام على الأبدال"

(1)

، وجمعها السيوطي في "الخبر الدال على وجود القطب والأوتاد والنجباء والأبدال"

(2)

، ولكنه سردها دون نقدها وبيان ما فيها من العلل. وكان الدافع له على تأليفه إنكار بعضهم ما اشتهر عن الصوفية من أن منهم أبدالاً ونقباء ونجباء وأوتاداً وأقطاباً، فحاول إثبات ذلك بجمع الأحاديث والآثار الواردة في هذا الباب. ولم يفلح السيوطي في إثبات المدَّعى، فلم يصحّ من هذه الأحاديث شيء عند المحدثين النقاد، وعلى فرض ثبوت بعضها عند المتساهلين في التصحيح فليس فيها ما يفيد وجود رجال الغيب ومراتبهم وصفاتهم ووظائفهم واجتماعاتهم وقراراتهم حسب ما يتصورها الصوفية.

وقد أورد السيوطي هذه الأحاديث أو بعضها في مؤلفاته الأخرى، مثل:"اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة"(2/ 330 - 332) و"التعقبات على الموضوعات"(ص 471) و"الدر المنثور"(1/ 765 - 767) و"الجامع الصغير"(3/ 167 - 170 بشرح المناوي)، وادعى صحتها وتواترها. وقلَّده في إيرادها وتصحيحها من جاء بعده من المؤلفين

(3)

، والواقع أنه لا يبقى منها

(1)

كما ذكر ذلك في "المقاصد الحسنة" ص 10. ولا أعرف وجود هذا الجزء في المكتبات.

(2)

ضمن "الحاوي للفتاوي"(2/ 241 - 255).

(3)

مثل القسطلاني في "المواهب اللدنية"(1/ 430 - 431)، وابن عراق في=

ص: 21

شئ يصلح للاحتجاج بعد نقدها على منهج المحدثين، فبعضها أوهى من بعض، ومنها ما هو موضوع، ومنها ما هو شديد الضعف ومنكر، ولذا ضعَّفها القاضي أبو بكر ابن العربي في "سراج المريدين"

(1)

، وحكم عليها ابن الجوزي بالوضع وذكرها في "الموضوعات"(3/ 150 - 152)، وقال ابن الصلاح في "فتاواه" (ص 53):"لا يثبت". وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من كتبه

(2)

أن هذه الأسماء الدائرة على ألسنة الصوفية ليست موجودة في كتاب الله، ولا هي مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح ولا ضعيف محتمل، إلاّ لفظ "الأبدال" فقد روى فيه حديث شامي منقطع الإسناد عن علي بن أبي طالب مرفوعاً.

="تنزيه الشريعة المرفوعة"(2/ 356 - 307)، وابن حجر الهيتمي في "الفتاوى الحديثية"(ص 323 - 324)، وعلي المتقي البرهانفوري في "كنز العمال"(14/ 53 - 55) و"منتخب كنز العمال"(5/ 331 - 334 بهامش "مسند أحمد")، والفتني في "تذكرة الموضوعات"(ص 193 - 194)، والقاري في "المعدن العدنىِ في فضل أويس القرني"(ص 65 - 74)، والمناوي في "فيض القدير"(3/ 167 - 170)، والزرقاني في "شرح المواهب اللدنية"(5/ 396 - 400)، والعجلوني في "كشف الخفاء"(1/ 24 - 26)، ومرتضى الزبيدي في "إتحاف السادة المتقين"(8/ 385 - 387)، وابن عابدين في "إجابة الغوث"(2/ 269 - 272 من "مجموعة رسائله" والألوسي في "روح المعاني" (11/ 178) ومحمد صبغة الله المدراسي في "ذيل القول المسدد" ص 108 - 112 وغيرهم. وانظر "روض الرياحين" لليافعي ص 10.

(1)

كما ذكر ذلك صنع الله الحلبي في "سيف الله على من كذب على أولياء الله" ص 65.

(2)

سيأتي ذكرها فيما بعد.

ص: 22

وقال ابن القيم في "المنار المنيف"(ص 136): "أحاديث الأبدال والأقطاب والأغواث والنقباء والنجباء والأوتاد كلها باطلةٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأقرب ما فيها: "لا تسبوا أهل الشام، فإنّ فيهم البدلاء، كلَّما مات رجلٌ منهم أبدلَ الله مكانَه رجلاً آخر". ذكره أحمد، ولا يصحُّ أيضًا، فإنّه منقطع".

وذكر الذهبي في "تلخيص الموضوعات"(ص 408 - 410) الأحاديث التي أوردها ابن الجوزي، وحكم عليها بالوضع. وذكر في "ميزان الاعتدال"(3/ 105) حديث أنس منها، وقال:"هذا باطل".

وأورد ابن كثير بعض هذه الأحاديث في "تفسيره"(1/ 669 - 670) و"تاريخه"(9/ 213، 214) و"جامع المسانيد والسنن"(19/ 240 - 241، 7/ 134 - 137)، وقال في الموضع الأخير بشأن حديث عبادة بن الصامت:"فيه نكارة شديدة جدًّا".

وقال السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص 8): "حديث الأبدال له طرق عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً بألفاظ مختلفة كلها ضعيفة". ثم ذكر بعض الأحاديث وقال (ص 9): "بعضها أشد في الضعف من بعض".

وبعد أن أورد الأمير الصنعاني بعض هذه الأحاديث في "الإنصاف في حقيقة الأولياء وما لهم من الكرامات والألطاف "(ص 58 - 59) قال: "في صحتها عند أئمة الحديث مقال".

وليس هنا مجال لنقد هذه الأحاديث واحدًا واحدًا، حتى نعرف صحة هذه الأحكام التي أصدرها النقاد، ويمكن مراجعة تعليقات العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي على "الفوائد المجموعة"

ص: 23

للشوكاني (ص 245 - 249)، وكلام الشيخ الألباني في "سلسلة الأحاديث الضعيفة"(بأرقام 935 - 936، 1474 - 1479، 2498) ففيهما غنية لمن أراد الوصول إلى الحق والصواب. وفي مجلة "المنار" المجلد 11 (1908) ص 50 - 56 نقد لحديث ابن مسعود الذي يستند إليه الصوفية، بقلم السيد محمد رشيد رضا.

وأودّ أن أقف هنا مع كلامٍ للمناوي في "فيض القدير"(3/ 170) يشتمل على القدح في شيخ الإسلام ابن تيمية ورَمْيه بالتهور والمجازفة في الحكم على هذه الأحاديث، وبالعناد والتعصب لكونه لم يُقوّها بكثرة الطرق وتعدّد المخرجين. قال المناوي:"زعم ابن تيمية أنه لم يرد لفظ الأبدال في خبر صحيح ولا ضعيف إلاّ في خبر منقطع، فقد أبانت هذه الدعوى عن تهوره ومجازفته، وليته نفى الرواية، بل نفى الوجود، وكذب من ادعى الورود".

لم ينقل المناوي كلام شيخ الإسلام بنصه، بل تصرَّف فيه، ونصُّه كما في "مجموعة الرسائل والمسائل"(1/ 48)

(1)

: "فهذه الأسماء [أي الغوث والأوتاد والأقطاب والأبدال والنجباء] ليست موجودة في كتاب الله، ولا هي أيضًا مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا بإسناد صحيح ولا ضعيف محتمل، إلاّ لفظ الأبدال، فقد رُوِي فيهم حديث شامي منقطع الإسناد عن علي بن أبي طالب مرفوعاً".

(1)

وعنها في "مجموع الفتاوى"(11/ 433، 434) بتحريف يسير. وقد نقله الألوسي في "روح المعاني"(6/ 95) على الصواب.

ص: 24

فانظر كيف حرَّف المناوي هذا الكلام، اختار لفظ "الأبدال" بدلاً من "هذه الأسماء" التي تُشير إلى الألفاظ الخمسة، وحذف لفظ "محتمل" بعد "ضعيف"، ليوهم أن شيخ الإسلام ينفي ورود هذه الألفاظ بإسناد ضعيف مهما كان ضعفه. والذي يتأمل كلام الشيخ يفهم منه بوضوح أنه ينكر ورود الألفاظ المذكورة بإسناد صحيح أو ضعيف محتمل، ولا ينكر أن يَرِد شئ منها في حديث موضوع أو ضعيف غير محتمل. وكل ما ذكره السيوطي وغيره من هذا القبيل، فورود مثل هذا لا ينقض قول شيخ الإسلام، بل هو أدرى بمثل هذه الأحاديث الواهية من غيره.

واستدراكه فيما بعد بقوله "إلاّ لفظ الأبدال، فقد رُوي فيهم حديث شامي منقطع الإسناد عن علي بن أبي طالب مرفوعاً"- لأنه أحسن ما ورد في الباب، وقد رواه الإمام أحمد في "مسنده"(1/ 112)، فاستحق التنويه. ومع ذلك فهو منقطع الإسناد. قال ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (1/ 289):"هذا منقطع بين شريح [بن عبيد] وعلي، فإنه لم يلقَه". وقال الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على "المسند"(2/ 171): "إسناده ضعيف لانقطاعه، شريح بن عُبَيد الحمصي لم يدرك عليّاً، بل لم يدرك إلاّ بعض متأخري الوفاة من الصحابة".

أما قول الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 62): "رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح غير شريح بن عبيد، وهو ثقة، وقد سمع من المقداد، وهو أقدم من علي"- فقد وهم فيه اغتراراً بما

ص: 25

ذكره المزي في ترجمة شريح، وقد تعقبه الحافظ ابن حجر. فالصواب أنه لم يلق عليّاً، والحديث منقطع الإسناد كما قال شيخ الإسلام.

وقد اكتفى بذكر هذا الحديث كنموذج، لأنه أحسن ما ورد في الباب، ومع ذلك فهو منقطع، أما الأحاديث الأخرى فنكارتها واضحة وبطلانها ظاهر، ولذا لم يُشِر إليها، مع أن حديث عبادة بن الصامت منها أخرجه أيضًا أحمد في "مسنده" (5/ 322) وقال عقب روايته:"هو منكر"، فلم يستحق التنويه مثل غيره من الأحاديث الواهية في المصادر الأخرى.

بهذا التفصيل يظهر لنا جليّاً مقصود شيخ الإسلام من نفي ورود هذه الألفاظ "بإسناد صحيح أو ضعيف محتمل"، والغرض من استدراك لفظ "الأبدال" والإشارة إلى وروده في حديث شامي منقطع. فنسبة المناوي إلى الشيخ أنه ينكر ورود لفظ "الأبدال" في خبر صحيح أو ضعيف إلاّ في خبر منقطع- غلط، ورميه بالتهور والمجازفة يدلّ على عدم فهمه للمقصود، فلم ينفِ الشيخ ورود لفظ "الأبدال" بإسناد ضعيف غير محتمل، ولم يُكذِّب من ادعى ذلك، وكلُّ ما ورد في هذا الباب لا يُبطل ما قاله.

أما قول المناوي: "وهذه الأخبار وإن فرض ضعفُها جميعها، لكن لا يُنكِر تقويَ الحديثِ الضعيف بكثرة طرقه وتعدد مخرجيه إلاّ جاهل بالصناعة الحديثية أو معاند متعصب"- فهو خطأ وقع فيه كثير من العلماء المتأخرين حيث أطلقوا أن الحديث الضعيف إذا

ص: 26

جاء من طرقٍ متعددة ضعيفة ارتقى إلى درجة الحسن أو الصحيح، فإنه إذا كان ضعف الحديث لفسق الراوي أو اتهامه بالكذب، ثم جاء من طرق أخرى من هذا النوع ازداد ضعفًا إلى ضعف، لأن تفرد المتهمين بالكذب أو المجروحين في عدالتهم بحيث لا يرويه غيرُهم يرفع الثقةَ بحديثهم، ويؤيد ضعفَ روايتهم

(1)

. وعلى هذا فمن قوَّى أحاديث الأبدال التي انفرد بروايتها المتهمون بالكذب والمتروكون ونحوهم يكون على الجادة أم من يُنكِر تقويتها؟

• مصدر هذه الفكرة

رأينا فيما سبق أن الأحاديث التي يستند إليها الصوفية كلها موضوعة وواهية، ثم إنها لا تساعدهم على صياغة فكرة "القطب" الذي يرأس رجالَ الغيب في نظرهم، فلا ذكر لهذا اللفظ في شيء من الأحاديث والآثار. ولذا يرى أكثر الباحثين أنها فكرة دخيلة استمدها الصوفية من غيرهم، واختلفوا في تحديد المصدر، فذكر بعضهم أن مفهوم "القطب" بوصفه المبدأ الفعال (أو الباطن)

(2)

لكل إلهام شبيهٌ بالعقل "النُّوسْ" في الأفلاطونية الحديثة، ويُشبه عقيدة الإسماعيلية القائلة بتجسيد العقل الأول (الإمام) في الناطق

(3)

.

(1)

انظر "الباعث الحثيث" لأحمد محمد شاكر (1/ 135).

(2)

كما عند القاشاني في "اصطلاحات الصوفية" ص 141

(3)

انظر"دائرة المعارف الإسلامية"- بالإنجليزية- الطبعة الجديدة، مقال "القطب"

(5/ 544)؛ و"ابن الفارض والحبّ الإلهي" لمحمد مصطفى حلمي ص 277

ص: 27

وهناك باحثون آخرون التفتوا إلى التشابه القائم بين مفهوم الشيعة عن "الإمام" بوصفه تجليًا للكلمة الإلهية ومفهوم "القطب" الأكبر عند الصوفية، والتقاء أحدهما بالآخر

(1)

. كما لاحظ باحثون عديدون ذلك التوازي بين التدرج الرئاسي للقائمين على الدعوة الإسماعيلية والتدرج الرئاسي في التصوف برئاسة القطب، وقرروا أنه مستمد من الإسماعيلية

(2)

. وقد صرّح بعض علماء الشيعة أن القطب والإمام مصطلحان معناهما واحد، وينطبقان على شخص واحدٍ

(3)

. وأكد المستشرق هنري كوربان في عددٍ من بحوثه ودراساته أن فكرة القطب هذه انتقلت إلى التصوف من الشيعة، وأنها فارسية الأصل

(4)

.

ويرى أحمد أمين

(5)

أن الصوفية اتصلت بالتشيع اتصالاً وثيقًا، وأخذت فيما أخذت عنه فكرة المهدي، وصاغتها صياغة جديدة وسمَّته "قطبًا"، وكوَّنت مملكة من الأرواح على نمط مملكة

(1)

انظر: "الصلة بين التصوف والتشيع" لكامل مصطفى الشيبي ص 463؛ وهنري كوربان في كتابه عن الإسلام الإيراني (1/ 92).

(2)

انظر: "الصلة بين التصوف والتشيع" ص 457 وما بعدها؛ وي. ماركوي في مجلة "أرابيكا" المجلد 15 (1968) ص 27؛ وص التصوف: المنشأ والمصادر، لإحسان إلهى ظهير ص 235؛ و"الإسماعيلية: تاريخ وعقائد" له ص 594 - 612.

(3)

انظر"الفلسفة الشيعية" للآملي ص 223؛ و"الإسلام الشيعي" لمحمد حسين طباطبائي (الترجمة الإنجليزية) ص 114.

(4)

انظر: "الإسلام الإيراني"(1/ 186، 229، 3/ 279).

(5)

في "ضحى الإسلام"(3/ 245).

ص: 28

الأشباح، وعلى رأس هذه المملكة الروحية القطب، وهو نظير الإمام أو المهدي في التشيع.

وقد سبق هؤلاء الباحثين بعضُ العلماء القدامى، فأدركوا التشابه بين القطب عند الصوفية وبين الإمام المنتظر عند الشيعة وبين الباب عند النصيرية، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية وابن خلدون وغيرهما. وسيأتي ذكر موقفهما فيما بعد إن شاء الله. ومما يؤكد أن هذه الفكرة مأخوذة من الشيعة أن أحد علماء الشيعة حيدر ابن علي الآملي (ت بعد 782) قرَّر في كتابه " نص النصوص"

(1)

جميع ما عند الصوفية بشأن رجال الغيب وأولياء الله، وذكر أن "القطبية الكبرى هي مرتبة قطب الأقطاب، وهو باطن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يكون إلاّ لورثته، لاختصاصه عليه السلام بالأكملية، فلا يكون خاتم الولاية وقطب الأقطاب إلاّ على باطن ختم النبوة".

بعد هذا العرض الموجز لآراء بعض الباحثين المحدَثين والعلماء القدامى نصل إلى أن فكرة "القطب" فكرة دخيلة عند الصوفية، انتقلت إليهم من الشيعة القائلين بالإمام المنتظر، ومن الإسماعيلية الذين جعلوا رجالهم في مراتب ودرجات. وقد كان الصوفية القدامى إلى منتصف القرن الرابع بعيدين عنها، ْ ثم تسربت إليهم وتحكّمت فيهم بعد اتصالهم بالشيعة ومخالطتهم لهم في بلاد العجم. وتطورت هذه الفكرة فيما بعد إلى نظرية "الديوان الباطني"

(1)

ق 91 - 96 (نسخة مكتبة مجلس الأمة بطهران)، وعنه في ملحق كتاب "ختم الأولياء" للحكيم الترمذي، ص 503 - 506.

ص: 29

الذي يجتمع فيه رجال الغيب برئاسة القطب، ويديرون شئون العالم المرئي وغير المرئي

(1)

. ولا تزال هذه النظرية عند الصوفية مسلّمة إلى يومنا هذا

(2)

.

• أثرها في المجتمع الإسلامي

لقد كان لنظرية القطب والأبدال هذه آثار خطيرة في المجتمع الإسلامي من نواع عديدة، أهمها في مجال العقيدة، فقد قرر الصوفية أن للأولياء القدرة النافذة على التصرف المقيد والمطلق في شئون العالم العلوي والسفلي، فأربعة منهم يمسكون العالم من جوانبه الأربعة (هم الأوتاد)، وسبعة آخرون كل واحدٍ منهم مشرف على قارة من قارات الأرض السبع (هم الأبدال)، وفوقهم جميعًا وليٌّ واحد هو موضع نظر الله (يسمى القطب أو الغوث)، وهو الذي يدبر شأن الملك، ومن جهته يكون مدد أهل الأرض بل الملائكة والطير والحيتان، وبواسطته يفيض الخير إلى سائر الخلق. وإذا نزلت الشدَّة بأهل الأرض رفعها الأدنى إلى الأعلى حتى ينتهي الأمر إلى الغوث، فلا يرفع بصره حتى تنفرج تلك النازلة.

(1)

انظر (الإبريز من كلام عبد العزيز) للسجلماسي (1/ 2 وما بعدها).

(2)

انظر: "السيف الرباني في عنق المعترض على الغوث الجيلاني" لمحمد المكي بن مصطفى بن عزوز ص 74؛ و"فتح الرحيم الرحمن في شرح نصيحة الإخوان" للحنصلي ص 176؛ و"فيض الوهاب" لعبد ربه بن سليمان القليوبي (5/ 57 وما بعدها)؛ ومحمد زكي إبراهيم في مجلة "المسلم" المجلد 15: 7 (يونيو 1965) ص 15، والمجلد 20/ 11 (أغسطس 1970) ص 11.

ص: 30

هذه الأمور وغيرها مما ذكرها الصوفية (والتي تحدثنا عنها فيما مضى مع ذكر النصوص من المصادر المعتمدة لديهم) لا يخفى ما في الاعتقاد بها من خطورة على عقيدة التوحيد، فهي محاولة خبيثة لتجريد الإله الحق سبحانه وتعالى من اختصاصاته التي لا يشاركه فيها مخْلوق، وجعلها مشاعًا بين الخالق والمخلوق على حدّ سواء، وهذا هو الشرك في الربوبية -والعياذ بالله-، وهو أقبح أنواع الشرك، فقد كان المشركون القدامى على علم بربوبية الله وخصوصيته في الخلق والرزق والملك والتدبير والإحياء والإماتة وغيرها من أمور الربوبية كما حكى عنهم القرآن. فالذي يعتقد ذلك في الأولياء هو أجهل من أولئك المشركين وأضلّ.

وبهذا نعرف ما نتج عن فكرة القطب هذه من مخاطر جسيمة في باب العقيدة لدى عامة الناس، الذين تعلقوا بها واعتقدوها ونشأوا عليها في البيئات الصوفية، ولُقِّنوها منذ الصغر. ولا زلنا نرى في البلاد الإسلامية من ينادي "الغوث" للمدد، ويعتقد في الأولياء بما لا يجوز اعتقاده إلاّ في الله، فإنّا لله وإنا إليه راجعون.

وكان من آثارها السيئة على العلماء أن كثيرًا منهم نقلوا مقالات الصوفية في هذا الباب، وأدرجوها في مؤلفاتهم دون نقد أو تعقيب، وقد تسربت هذه الفكرة إلى كتب التفسير وشروح الحديث، والفقه والفتاوى، والسيرة والأخلاق، والتاريخ والتراجم، والأدب واللغة وغيرها، ويطول بنا القول لو ذَكَرنا جميع النصوص في المصادر التي رجعنا إليها، ولذا نقتصر على

ص: 31

الإشارة إلى بعضها تاركين التفصيل لموضع آخر.

لقد كانت كتب التفسير إلى القرن السادس خالية من الإشارة إلى فكرة الأبدال، فلا نجد لها ذكرًا عند الطبري والبغوي وابن عطية وابن الجوزي وغيرهم في تفاسيرهم، حتى جاء القرطبي في القرن السابع فنقل في تفسيره

(1)

عن بعض العلماء في تفسير قول الله تعالى (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّه النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) أن المدفوعَ بهم الفسادُ هم الأبدال! ثم ذكر بعض ما ورد من الأحاديث والآثار الضعيفة والموضوعة، وسكت عنها.

وجاء بعده السيوطي، فسَرَد هذه الروايات في تفسيره

(2)

دون نقد وتمحيص، ففتح المجال لغيره من المفسرين أن يوردوها، ويفسروا بعض الآيات القرآنية بها، ويتكلموا على القطب والأبدال وغيرهما بأدنى مناسبة

(3)

.

ولم يكن قد اشتهر عند شرّاح الحديث والمشتغلين به إلى زمن الحافظ ابن حجر الكلام على القطب والأبدال ومراتب رجال الغيب كما هي عند الصوفية -وإن وُجد عند أبي جمرة في "بهجة النفوس" شيٌ من ذلك-؛ بل كانوا يقتَصرون على رواية الأحاديث الواردة في هذا الباب بأسانيدها ليبرءوا من عهدتها، أو نقدها وتضعيفها وبيان عللها. وجاء المتأخرون فسردوا هذه الروايات دون نقدها

(1)

"الجامع لأحكام القرآن"(3/ 259).

(2)

"الدر المنثور"(1/ 765 - 767)

(3)

انظر مثلاً "روح المعاني" للآلوسي (6/ 94 - 95، 11/ 178، 22/ 19 - 20).

ص: 32

وتمحيصها، وادعوا صحَّتها وتواترها، وتلقَّوها بالقبول، ثم تكلموا على شرحها وبيان معانيها بالاستناد إلى أقوال الصوفية، ويكفي أن نذكر هنا كمثال: المناوي

(1)

وملاّ علي القاري

(2)

، اللذين قرَّرا ما قاله الصوفية، ونقلا عنهم نصوصًا غريبة في أثناء شرح الحديث دون استنكار أو تعليق.

أما كتب الفقه والفتاوى فنذكر منها نص فتوى الشيخ زكريا الأنصاري (الملقب بشيخ الإسلام لدى الشافعية)، لما سُئِل عن شخصٍ ادعى أن القطب ليس له وجود في زمن من الأزمنة، ولا ثَمَّ شيءٌ في الوجود يقال له القطب، هل هذه الدعوى صحيحة أو لا؟ فأجاب بأن القطب موجود في كل زمان، كلَّما مات قطبٌ أقام الله مقامه آخر، نفعنا الله ببركتهم. وهذا أمر مشهور، والمنكر لذلك محروم من بركة الأقطاب، معترف بأن منّة الله بلقائهم لم تواجهه. وليته إذا فاته الوصول إليها لا يفوته الإيمان بها

(3)

.

هذا نصّ كلامه الذي يُقرِّر فيه وجودَ القطب في كل زمان، وأن منكره محروم من بركته، وعليه أن لا يفوت الإيمان به إن لم يُقدَّر له الوصول إليه!!

وذكر ابن حجر الهيتمي

(4)

أنه كان في مجلس الشيخ محمد

(1)

"فيض القدير"(3/ 167 - 170).

(2)

"مرقاة المفاتيح"(5/ 181 - 183).

(3)

"العناية والاهتمام بجمع فتاوى شيخ الإسلام" ص 381.

(4)

"الفتاوى الحديثية" ص 325.

ص: 33

الجويني يوماً، فانجرَّ الكلام إلى ذكر القطب والنجباء والنقباء والأبدال وغيرهم، فبادر الشيخ إلى إنكار ذلك بغلظة، وقال: هذا كله لا حقيقة له، وليس فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له الهيتمي:"معاذ الله! بل هذا صدقٌ وحق لا مريةَ فيه، لأنّ أولياء الله أخبروا به، وحاشاهم من الكذب، وممن نقل ذلك الإمام اليافعي، وهو رجل جمع بين العلوم الظاهرة والباطنة"، فزاد إنكار الشيخ وإغلاظه عليه. ثم ذهبا إلى الشيخ زكريا الأنصاري الذي عاتب الجويني عليه، فآمن الجويني بذلك وصدَّق به وأقرَّ بثبوته!! هذا نموذجٌ مما كان يجري بين الفقهاء في هذا الموضوع، فلا يَسَعُ المنكرَ إنكارُ ذلك، ويضطرّ إلى الإيمان به والتصديق به والإقرار بثبوته إذا أراد أن يعيش بينهم. وعلى هذا فلا نستغرب أن يُدخِلَ بعض المؤلفين هذا الموضوع في كتب العقيدة، كما فعل إبراهيم اللقاني في "عمدة المريد لجوهرة التوحيد"، ويتكلم عنه المؤلفون في السيرة النبوية ويعتبروا وجود الأقطاب والأبدال من خصائص الأمة المحمدية، كما فعل القسطلاني في "المواهب اللدنية"(1/ 430 - 431)، والحلبي في "السيرة الحلبية"، وابن التلمساني في "حواشي الشفا"، والزرقاني في "شرح المواهب اللدنية"(5/ 396 - 401) وغيرهم.

بهذا العرض الموجز نستطيع أن نقدّر كم تكدَّرت ينابيع الثقافة الإسلامية بهذه الفكرة الخرافية التي لا أساس لها من الكتاب والسنة، ولم يقل بها أحد من سلف الأمة من الصحابة والتابعين وأتباعهم.

ص: 34

• الذين نقدوا هذه الفكرة

نظرًا لخطورتها على العقيدة وما في شيوعها من آثار سيئة على المجتمع، انتقدها بعض العلماء وذكروا أنها من مخترعات الصوفية وأباطيلهم. ومن أوائل من ردّ عليها وبيَّن ضلال القائلين بها القاضي أبو بكر ابن العربي المالكي، فقد تكلم عليها في كتابه "سراج المريدين " الذي ألَّفه في التصوف

(1)

. ومنهم من اقتصر على نقد الأحاديث الواردة في الأبدال، والحكم عليها بالوضع والبطلان، وقصد بذلك هدم الفكرة من أساسها، وبيان أنه لا مستند لها في الكتاب والسنة، وهذا ما فعله ابن الجوزي وغيره من العلماء الذين سبق ذكرهم فيما مضى عند الكلام على أحاديث الأبدال، فلا نعيده هنا.

وسُئل ابن الصلاح: هل ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "على كل قدم نبي من الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- ولى من أولياء الله تعالى"؟ وأن القطب على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وأن في الأرض سبعة أوتاد وأبدال ونجباء ونقباء؟ كلما مات رجل أقام الله عز وجل

(1)

أعارني أخي البحاثة المحقق محمد السليماني نسخة مصورة من هذا الكتاب، وبحثتُ فيها عن كلامه في هذا الموضوع، فلم أجده في مظانه. وقد أشار بعض المؤلفين إلى كلامه في الكتاب المذكور، انظر:"سيف الله على من كذب على أولياء الله" لصنع الله الحلبي ص 64 - 65؛ و"تيسير العزيز

الحميد" ص 235؛ و"غاية الأماني في الرد على النبهاني" (2/ 68).

ص: 35

عوضه رجلاً، ولا تزال الوراثة دائمة في علم الباطن وفي علم الظاهر إلى قيام الساعة. الأمر على مما ذكر أم لا؟

فأجاب: لا يثبت هذا الحديث، وأما الأبدال فأقوى ما رويناه فيهم قول علي رضي الله عنه إنه بالشام الأبدال، وأيضًا فإثباتهم كالمجمع عليه بين علماء المسلمين وصلحائهم. وأما الأوتاد والنجباء والنقباء فقد ذكرهم بعض مشايخ الطريقة، ولا يثبت ذلك. ولا تزال طائفة من الأمة ظاهرة على الحق إلى أن تقوم الساعة، وهم العلماء

(1)

.

وللعزّ بن عبد السلام رسالة في إبطال قول الناس أن قطب الأقطاب والأبدال لهم تصرف، بيَّن فيها بطلان قول الناس فيهم، وردَّ على من يقول بوجودهم، وأقام النكير على قولهم "بهم يحفظ الله الأرض"

(2)

. وقد وصلت إلينا نسختان من هذه الرسالة: إحداهما في مكتبة الأوقاف ببغداد برقم [2/ 9683 مجاميع] في ثماني ورقات؛ والأخرى في معهد الاستشراق في ليننغراد في ست ورقات

(3)

.

(1)

"فتاوى ابن الصلاح " ص 53. ونقل بعضها ملا علي القاري في "الأسرار المرفوعة" ص 77 (وتحرف فيه "الأوتاد" إلى "الأدباء"!).

(2)

ذكرها حاجي خليفة في "كشف الظنون"(1/ 883)؛ ومرتضى الزبيدي في "تاج العروس" مادة بدل (7/ 223)؛ وإسماعيل باشا البغدادي في "هدية العارفين"(1/ 580).

(3)

كما في فهرس المعهد المذكور (1/ 140). وقد ذكر هاتين النسختين إياد خالد الطباع في مقدمة تحقيقه لكتاب "شجرة المعارف والأحوال" للعز بن=

ص: 36

جاء بعدهم شيخ الإسلام ابن تيمية فكتب كتابات عديدة في هذا الموضوع، وناقش الصوفية في القطب والأبدال والأوتاد وغيرها من الألفاظ، وبيَّن ما ورد منها على لسان السلف ومعانيها عندهم، وأبطل الأحاديث الواردة في هذا الباب، وفصَّل الكلام على مخالفة هذه النظرية للدين والعقل. وسنعرِض آراءَه في هذا الموضوع في الفصل القادم إن شاء الله.

وممن تأثر بشيخِ الإسلام تلميذُه ابن القيم الذي حكم على أحاديث الأبدال والأوتاد بأنها باطلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

. واختصر مرعي بن يوسف الكرمي في كتابه

(2)

فتوى لشيخ الإسلام، وظنَّ أن السيوطي لم يطلع على كلام الشيخ، لأنه لم يتعرض لذكره، ولا لردّ ما احتجَّ به مما لا يمكن ردُّه. وأرى أن السيوطي وقف على كلام الشيخ، ولكن تجاهله لأنه لم يقدر على مناقشته، فأحبَّ السكوت عنه. وقد صَرَّح المناوي في شرح كتابه "الجامع الصغير"

(3)

أن المؤلف (السيوطي) خالف عادته هنا باستيعاب طرق حديث الأبدال إشارةً إلى بطلان قول ابن تيمية.

وانتهج الشيخ صنع الله الحلبي الحنفي

(4)

نهجَ شيخ الإسلام في

= عبد السلام، ص 25.

(1)

"المنار المنيف" ص 136.

(2)

"شفاء الصدور في زيارة المشاهد والقبور" ص 400 - 406.

(3)

"فيض القدير"(3/ 170).

(4)

في "سيف الله على من كذب على أولياء الله" ص 64 - 65.

ص: 37

الرد على من يدعي أن للأولياء تصرُّفًا في الحياة وبعد الممات على سبيل الكرامة، وأن منهم أبدالاً ونقباء، وأوتادًا ونجباء، وسبعين وسبعة، وأربعين وأربعة، والقطب هو الغوث للناس. فقال:"هذا الكلام فيه تفريط وإفراط، بل فيه الهلاك الأبدي والعذاب السرمدي، لما فيه من روائح الشرك المحقق، ومصادمة الكتاب العزيز المصدق، ومخالفة لعقائد الأئمة وما اجتمعت عليه الأمة".

ثم أطال في مناقشته هذه الدعاوي، وقال في آخر البحث: إنها من موضوعات إفكهم، كما ذكره القاضي المحدث ابن العربي في "سراج المريدين" وابن الجوزي وابن تيمية.

أما ابن خلدون

(1)

فيكشف عن صلة هذه النظرية بما عند الإسماعيلية والشيعة، فيقول:"كان سلفُهم (أي الصوفية) مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة، الدائنين أيضًا بالحلول وإلهية الأئمة مذهبًا لم يُعرَف لأولهم، فأشرِبَ كلُّ واحدٍ من الفريقين مذهب الآخر، واختلط كلامهم وتشابهت عقائدهم، وظهر في كلام المتصوفة القولُ بالقطب، ومعناه رأس العارفين يزعمون أنه لا يمكن أن يساويه أحد في مقامه في المعرفة حتى يقبضه الله، ثمّ يورث مقامه لآخر من أهل العرفان. وقد أشار إلى ذلك ابن سينا في كتاب "الإشارات" في فصول التصوف منها، فقال: "جلّ جناب الحق أن يكون شِرعةً لكل وارد، أو يطلع عليه إلاّ واحدٌ بعد

(1)

"مقدمة ابن خلدون" ص 473، وانظر "شفاء السائل لتهذيب المسائل" له.

ص: 38

الواحد"، وهذا كلام لا تقوم عليه حجة عقلية ولا دليل شرعي، وإنما هو من أنواع الخطابة، وهو بعينه ما تقوله الرافضة ودانوا به. ثم قالوا بترتيب وجود الأبدال بعد هذا القطب كما قاله الشيعة في النقباء".

هذه آراء بعض العلماء القدامى ونُتَف من انتقاداتهم، تؤكّد أن هذه النظرية أجنبية عن الفكر الإسلامي الأصيل، تسربت إلى الصوفية من غيرهم وتحكمت فيهم عبر القرون.

• موقف شيخ الإسلام منها

لم يناقش فكرة القطب والأبدال أحدٌ مثلما ناقشها شيخ الإسلام ابن تيمية، فله كتابات عديدة في هذا الباب، كتبها ردًّا على بعض الأسئلة التي وُجِّهت إليه، أو تناولها عرضًا في بعض كتبه. وأكثرها تفصيلاً واستيعابًا هذه الفتوى التي بين أيدينا والتي وصلت إلينا بخطه، وفتوى أخرى (مخطوطة) لم تنشَر بعد

(1)

، وفتوى ضمن السؤال عن أهل الصفة

(2)

، وفتوى ضمن السؤال عن زيارة القبور

(3)

، وتكلم عليها عرضًا في بعض

(1)

ثم نشرتُها ضمن المجموعة الأولى من "جامع المسائل" التي تحتوي على خمس وعشرين رسالة وفتوى ومسألة للشيخ لم تُنشَر حتى الآن.

(2)

نُشرت أولاً في "مجموعة الرسائل والمسائل"(1/ 46 - 51)، وعنها في "مجموع الفتاوى"(11/ 433 - 444).

(3)

نشرت مرارّا أولاها في المطبع الخليلي بآره (الهند)؛ ثم في "مجموعة=

ص: 39

مؤلفاته (1) وفتاواه (2). وفيما يلي استعراض لأهم الجوانب التي تناولها شيخ الإسلام بالبحث، ودراسة لموقفه منها، في ضوء هذه الفتوى والكتابات الأخرى التي سبق ذكرها.

ذكر شيخ الإسلام دعوى الصوفية أن في الأرض ثلاث مائة وبضعة عشر هم "النجباء"، وسبعين هم "النقباء"، وأربعين هم "الأبدال "، وسبعة هم "الأقطاب" على عدد الأقاليم السبعة، وأربعة هم "الأوتاد" كالأوتاد التي يذكرها المنجّمون، وواحدًا هو "الغوث"، وأنه مقيم بمكة، وأن أهل الأرض إذا نابتهم نائبة فزعوا إلى الثلاث مائة وبضعة عشر، وأولئك إلى السبعين، والسبعون إلى الأربعين، وهكذا يرفعها الأدنى إلى الأعلى حتى ينتهي الأمر إلى "الغوث"، فلا يرفع بصره حتى تنفرج تلك النازلة. وأن "الغوث" يطلع على أسرار قلوب العباد، علمه ينطبق على علم الله.

ويزعمون أنه على قدم كل نبيّ من الأنبياء وليَّان: وليّ ظاهر ووليٌّ

= الرسائل" (القاهرة 1323) ص 103 - 122؛ ثم في "مجموع الفتاوى" (27/ 96 - 105)، ولها طبعات أخرى غيرها. ونقلها- باختصار- مرعي بن يوسف الكرمي في "شفاء الصدور في زيارة المشاهد والقبور" ص 400 - 406.

انظر: "منهاج السنة النبوية"(1/ 91 - 96)؛ و"الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" ضمناً "مجموع الفتاوى"(11/ 167 - 168)؛ و"درء تعارض العقل والنقل"(5/ 315).

انظر: "مجموع الفتاوى"(27/ 57 - 58) = "مختصر الفتاوى المصرية" ص 599؛ و"مجموع الفتاوى"(11/ 294 و 364).

ص: 40

باطن. ويقولون: إن هؤلاء الأولياء يُستسقى بهم الغيث وتنزل الرحمة ويكشف العذاب، وإذا غضب الله على أحدٍ من أهل الأرض وأراد أن يُنزِل غضبَه نظر إلى قلوب هؤلاء، فإن وجدهم راضين بذلك أنزل عذابه، وإلاّ رفعَه. ويدَّعون أن مدد الخلائق في نصرهم ورزقهم يكون بواسطة الغوث، بل إن مدد الملائكة في السماء والطير في الهواء والحيتان في البحر أيضًا بواسطته، وهو يُعطي الملك والولاية لمن يشاء، ويَصرِف عمن يشاء.

ثم بدأ يناقشهم، فذكر أن هذه الدعوى على الوجه المذكور لا أصل لها في الكتاب والسنة، ولا قول أحد من الصحابة والتابعين ولا أئمة المسلمين وشيوخهم. وهذه الأعداد والمراتب والصفات والأسماء ذكرها بعض المتأخرين من الصوفية، وقد زادوا فيها ونقصوا، ولهم أقوال مختلفة في هذا الباب، وقد ادعى بعضهم أنه ينزل كلَّ عام على الكعبة ورقةٌ مكتوب فيها اسم غوث ذلك العام وخضرِه، وان لكل زمانٍ خضرًا، وأنه نقيب الأولياء، وأنه مرتبة محفوظة لا شخص معين، ونحو هذه الدعاوي التي يَعلمُ كل عاقلٍ بطلانَها وضلالَ معتقدها.

وهذه الأسماء ليست موجودة في كتاب الله، ولا هي مأثورة

عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح ولا ضعيف محتمل. وقد رُوِي في "الأبدال" حديثٌ عن علي بن أبي طالب مرفوعاً، ولكنه بإسناد منقطع، فهو من رواية بعض الشيوخ الشاميين عن علي، ولم يسمعه منه.

ص: 41

وقد بحث شيخ الإسلام عن معاني هذه الألفاظ والأسماء في اللغة والشرع، وذكر أن ما ورد منها على لسان بعض السلف ليس على الوجه الذي يتصوره الصوفية، بل بالمعنى المناسب الذي لا يعارض أصول الدين.

أما "الغوث" فلا أصل له في كلام أحدٍ من السلف، ولم يُعرف عن أحد منهم أنه قال: فلانٌ غوث هذه الأمة، أو أن للأمة غوثًا بمكة ونحوه، فهذا من محدثات الصوفية ومخترعاتهم. ولا يستحق هذا الوصف إلاّ الله سبحانه وتعالى.

ولفظ "النقباء" ذكر في الكتاب والسنة بالمعنى الذي ذكره الله تعالى في قوله: (* وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً). وجعل النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار اثني عشر نقيبًا على عدد نقباء موسى. وكذلك الخلفاء الراشدون كانوا يُعرِّفون العُرَفاء وينقّبون النُّقباء، ليُعرِّفوهم بأخبار الناس وينقّبوا عن أحوالهم. فهؤلاء هم النقباء المعروفون في الكتاب والسنة، وإطلاق هذا اللفظ على أولياء الله ليس له أصل في كلام السلف.

أما لفظ "الأبدال" فقد جاء ذكره في كلام كثير من السلف، فرُوِي عن الشافعي في بعضهم: كنّا نعدّه من الأبدال، وقال البخاري في رجل: كانوا لا يشكون أنه من الأبدال، وقال يزيد بن هارون: الأبدال 0 هم أهل العلم، وقال أحمد: إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم. وكذا وصف غير هؤلاء من النقاد والحفاظ والأئمة غير واحدٍ بانه من الأبدال. وكان المقصود

ص: 42

منه أنهم أبدالٌ عن الأنبياء وخلفاءُ لهم وورثتُهم، يخلفونهم في سننهم، ويحملون الأمة على طريقهم. وقد جاء في حديثٍ وصف الذين يحبّون السنّة ويعلّمونها الناس بأنهم خلفاء النبي، وفي حديث آخر أن "العلماء ورثة الأنبياء". والخلافة والوراثة قد تكون في بعض الأشياء دون بعض، فمن نال بعضَ ما بُعِثوا به من العلم فهو وارثٌ لذلك المقدار، ومن قام مقامهم في بعض الأمر كان بدلاً منهم في ذلك. ومعلوم أن من جملة أحوال الأنبياء دعاءَهم للخلق، وما يحصل بدعائهم وعبادتهم من الرزق والنصر، فمن قامَ مقامَهم في بعض ذلك كان بَدلاً منهم في ذلك البعض.

ومن زعم من الصوفية أنَّ البدل إذا غابَ عن مكانه أبدل بصورة على مثالِه، ولذا سُمُّوا أبدالاً، فهذا باطل، ولم يكن السلف يعنون به هذا المعنى.

أما اسم "القُطْب" فهو مأخوذ من قطب الرحى، وهو ما يدور عليه الرحى، فالشخص الذي يدور عليه أمر من الأمور فهو قطب ذلك الأمر، وأفضل الخلق هم الرسل، وعليهم تدور رسالة الله إلى خلقه، وإمام الصلاة يدور عليه أمر الإمامة، فهو قطب الإمامة، ومؤذن المسجد قطب الأذان، وحاكم البلد قطب الحكم، وأمير الحرب قطب هذه الإمارة، وكان الخلفاء الراشدون أقطاب الأمة، دار عليهم من مصالح الأمة في دينها ودنياها ما لم يَدُر على أحدٍ مثلُه.

وقد يكون في عصرٍ رجل هو أفضل أهل الأرض، كما قد

ص: 43

يكون رجلان أو ثلاثة أو أربعة أو أكثر، ويحصل بدعائهم وعبادتهم من الخير ويندفع من الشرّ ما لا يحصل بدون ذلك، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم:"هل تنصَرون وتُرْزَقون إلاّ بضعفائكم، بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم"

(1)

. وقد قال تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33))، وقال:(وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (25)). فهذا ونحوه مما يوافق أصول الدين.

وأما ما يدعيه الصوفية في القطب والمرتبة التي يسمونها القطبية فمن الغلو الذي يُشبه غُلوَّ النصارى والرافضة، حيث قالوا: إن مدد أهل الأرض يكون من جهته، وإن الله إذا أنزل إلى الأرض خيرًا من هُدىً ورزقٍ ونصرِ فإنه يُنزِله عليه، ثمّ منه يَفيض إلى سائر الخلق. لم يكن السلف يفهمون من القطب هذا المعنى، ولا خطر ببالهم إلاّ معناه اللغوي الذي سبق ذكره. ولا يُعرَف أنهم تكلموا بهذا الاسم في الرجال، ولا جعلوا اسم "القطب" مما يُعبَّر ول عن أحوال أولياء الله المتقين، بخلاف اسم "الأبدال" في نُقِل عنهم التكلم بذلك في مواضع.

أما "الأوتاد" فقد ورد على لسان بعض المتأخرين، والوتد هو المُثبِت لغيره، كما أن الجبال أوتاد الأرض، فمَن ثبَّت الله به

(1)

أخرجه البخاري (2896) والنسائي 6/ 45 وغيرهما.

ص: 44

الإيمان والتقوى في قلوب بعض عباده، أو ثبت بدعائه وعبادته نصرُهم ورزقُهم، كان له من هذا المعنى نصيب بحسب ذلك.

أما "النجباء" فلم يرد إطلاقه عند السلف على أولياء الله، ولم يثبت شيء من الآثار التي رويت في ذلك.

بهذا التفصيل نعرف أن السلف عند استخدامهم لبعض هذه الألفاظ لم يفهموا منها تلك المعاني والخصائص التي استقرت في أذهان الصوفية، ولذا فاستناد هؤلاء إلى الآثار التي وردت فيها تلك الألفاظ على لسان بعض السلف لا يُجدِيهم شيئا، فهي -على فرض ثبوتها عنهم- ليست على الوجه الذي يتصوره الصوفية، بل بالمعنى المناسب الذي لا يعارض أصول الدين.

وعندنا أصلان ثابتان بالكتاب والسنة والإجماع، الأول: أن أولياء الله هم المؤمنون المتقون، كما قال تعالى:(إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34)) وقال: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)) (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)).

والثاني: أن الله يجلب للناس المنافعَ ويدفع عنهم المضارّ بدعاء عبادِه المؤمنين وصلاتهم وعبادتهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "وهل تُنصَرون وتُرْزَقون إلاّ بضعفائكم بدعائهم وإخلاصهم".

إذا عرفنا هذين الأصلين تبيَّن لنا أنه ليس لأولياء الله عددٌ محصور تتساوى فيه الأزمنة، ولا لهم مكانٌ مُعيَّن من الأمكنة، بل هم يزدادون وينقصون بحسب زيادة أهل الإيمان والتقوى

ص: 45

ونقصانهم. وقد بعث الله رسوله بالحق، وآمن معه بمكة نفرٌ قليل كانوا أقل من سبعة، ثم أقلّ من أربعين، ثم أقلّ من سبعين، ثم أقلّ من ثلاث مائة، فأين كان أولئك الأبدال وغيرهم ممن يذكرهم الصوفية بالعدد والترتيب والطبقات؟ هل كانوا في الكفّار؟

ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، وبها انعقدت بيعة الخلفاء الراشدين، ومن الممتنع أنه قد كان بمكة في زمنهم من يكون أفضل منهم، فمن كان هو الغوث الذي يدّعي الصوفية وجوده بمكة بعد الهجرة؟

ثم إن الإسلام انتشر في مشارق الأرض ومغاربها، وكان في المؤمنين في كل وقت من أولياء الله المتقين عدد لا يُحصَى، ولا يحصرون بثلاث مائة ولا بثلاثة آلاف، فكل من جعل لهم عددًا محصورًا فهو من المبطلين عمدًا أو خطأً.

ونسألهم مَن كان القطب والأبدال وغيرهم من زمن آدم ونوح وإبراهيم وقبل محمد عليهم الصلاة والسلام في الفترة حين كان عامة الناس كفرة؟ وإن زعموا أنهم كانوا بعد رسولنا ففي أيّ زمانٍ كانوا؟ ومَن أوَّلُ هؤلاء؟ وبأيّ آية وبأيّ حديث مشهورٍ وبأيّ إجماع متواتر من القرون الثلاثة ثبتَ وجودُ هؤلاء بهذه الأعداد حتى نعتقده؟ لأن العقائد لا تعتقد إلاّ من هذه الأدلة الثلاثة ومن البرهان العقلي، (قُل هَاتُوا بُرهانكم إن كنتم صادقين (111))، فإن لم يأتوا به فهم الكاذبون بلا ريب، فلا نعتقد أكاذيبهم.

وقولهم "إنّ النجباء بمصر والأبدال بالشام والنقباء بالعراق"

ص: 46

ونحو هذا على الإطلاق باطل قطعًا، فإن هذه البلاد كانت في أول الإسلام ديارَ كفر، لم يكن بها أحدٌ من أولياء الله، ولمّا صارت دار إسلام صار فيها من أولياء الله بحسب ما في أهلها من الإيمان والتقوى. ولا يختص إقليم من هذه الأقاليم بالأبدال، ومن قال إن الأبدال لا يكونون إلاّ بالشام فقد أخطأ، فإن خيار هذه الأمة من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار كانوا بالمدينة، ولما فتحت الأمصار كان في كل مصرِ من خيار المسلمين مَن لا يُحصيه إلاّ الله.

وإذا كان الأبدال أفضل الأمة فمن الممتنع أن يكونوا في زمن علي بالشام، فإن طائفته كانت أولى بالحق من طائفة معاوية بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يكون الأبدال خارجين عن جماعة علي ويكونون بالشام؟

ومما يبين أنهم ليسوا مخصوصين بالشام أن الذين نطقوا بلفظ "الأبدال" من السلف كانوا يجعلون منهم من ليس بالشام، وهذا كثير في كلامهم، فما يدعيه الصوفية غلط.

وقولهم "إن الشدة إذا نزلت بأهل الأرض يرفعها الأدنى إلى الأعلى، حتى ينتهي الأمر إلى الغوث، فلا يرفع بَصَرَه حتى تنفرج تلك النازلة" من أعظم الكذب والبهتان، فإن هذا "الغوث" المدَّعَى ليس بأعظم من الرسل، وهم قد يُمنَعون ما يسألون، وقد كان الأنبياء يجتهدون في الدعاء، فكيف يكون غيرُهم لا يرفع بصرَه حتى تُدفَع النوازل؟ وقد نزل بهذه الأمة من الشدائد ما لا يحصيه

ص: 47

إلاّ الله، واتصل بعضها مدةً، فأين كان هذا الغوث؟ وكان المسلمون لا يرفعون أمر هذه الشدائد إلى غير الله ولا يتركونها لشخص معين، فمَن هذا الأدنى الذي يرفعها إلى الأعلى؟ وإذا كان الله يجيب الكفار إذا دعوه مضطرين، فكيف يُحوِجُ عبادَه المؤمنين إلى وسائط في رفع حوائجهم إليه؟ وأين الحاجة إلى الوسائط والله يسمع ويجيب دعوة الداعي إذا دعاه؟

ومن أباطيل الصوفية ادعاؤهم أنه "على قدم كل نبيّ وليَّان: ولىٌّ ظاهر ووليٌّ باطن"، فقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى الأنبياء، النبي يجيء وحدَه، والنبي يجيء معه رجلٌ، والنبي يجيء معه رجلان، فإذا كان النبي قد لا يتبعه أحدٌ، أو لا يتبعه إلاّ رجل واحد، فكيف يجب أن يكون له في كل عصرٍ اثنانِ على قدمِه من أمة غيرِه؟

وأيضًا فقول القائل إن الوليّ على قدم النبي لا يجوز أن يريد به اتباعَ شريعته، فإنه بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم لا يقبل الله من أحدٍ إلاّ شريعته. ثم إن غالب الأنبياء لم يُقَصُّوا على نبينا صلى الله عليه وسلم، ولم تعرفهم أمته، فكيف يكون من أمته من هو على قدم نبيٍّ لا يعرفه ولا يعرف قدمَه؟

وخلاصة القول أن هذا الكلام لا دليل عليه، ولو كان حقًا لكان معروفًا عند أهل العلم والإيمان، فإذا لم يكن له أصل عندهم عُلِم بطلانه.

ومن أشنع ما يزعمه الصوفية قولهم في "الغوث القطب": إنه

ص: 48

يطلع على أسرار قلوب العباد، وينطبق علمه على علم الله، ويعرف جميع الأولياء، وتنتهي إليه حوائج الخلق، وبواسطته يكون مدد الخلائق في نصرهم ورزقهم. وقد ناقشهم شيخ الإسلام وبيَّن أن هذه الدعاوي كلها باطلة، وهي نظير ما يدعيه النصارى في "المسيح" والرافضة في "المنتظر" والنصيرية في "الباب" والفلاسفة في "العقل الفعال"، وأظهر في الشرك والضلال والكفر والفساد من أن نعرض لها. وقد أطال شيخ الإسلام في الردّ عليها، وذكر نصوصًا من الكتاب والسنة تدل على أنها من الشرك في الربوبية، ولا يجوز نسبة الأمور المذكورة إلى الأنبياء والرسل، فكيف تصح لهذا "الغوث" المزعوم الذي لا وجود له إلاّ في أذهان الصوفية؟ ومن أراد التوسع في ذلك فليرجع إلى المواضع التي أشرنا إليها في أول هذا الفصل، وليقرأ هذه الفتوى التي فصّل الكلام فيها حول هذا الموضوع.

هذا عرض موجز لآراء شيخ الإسلام في هذا الباب، وبه يظهر أنه بحث دعاوي الصوفية في القطب والأبدال من نواح متعددة، وناقشهم مناقشة طويلة بالعقل والنقل، وهَدَم أساس نظريتهم، وأبطل كلَّ شبهة تعلقوا بها. وهذه الفتوى التي تُنشَر الآن لأول مرة هي أطول فتوى له فيها.

• وصف النسخة الخطية

توجد نسخة فريدة من هذه الفتوى بخط المؤلف ضمن مجاميع المدرسة العمرية بدار الكتب الظاهرية بدمشق برقم 3845 عام [مجاميع 109](الورقة 235 - 257) باستثناء الورقة 256 أ- ب،

ص: 49

فهي من "سنن أبي داود"، وفيها الأحاديث ذات الأرقام (1302 - 1308). ويلاحظ أن الورقة مقلوبة، فصفحة ب سابقة في الترتيب على أ. ويبدو أنها ورقة ضائعة من نسخة قديمة من "السنن" عليها آثار التصحيح والمقابلة.

تبتدئ هذه النسخة بنصّ السؤال الذي قُدِّم إلى شيخ الإسلام، وبَعدَه بَدَأ الشيخ كتابة الجواب في أسفل الصفحة بقوله "الحمد لله "، وانتهى منها في الورقة (255 أ)، حيث قال في آخرها:"والله سبحانه أعلم. كتبه أحمد بن تيمية". ثم رأى الزيادة على ما سبق، فشطب على العبارة المذكورة، وكتب صفحتين، وقال في الأخير:"والله سبحانه أعلم. كتبه أحمد بن تيمية".

وقد كانت هذه الفتوى بلا عنوان، فكتب في أولها أحدُ المفهرسين "فتوى الأقطاب والأبدال" بخط حديث. وبجانبه في أعلى الصفحة بخط قديم:"نقله محمد بن المحب"، مما يفيد أن هذه الفتوى نُسِختْ منها نسخة بخط محمد بن المحب، ناسخ بعض مؤلفات شيخ الإسلام التي وصلت إلينا. وهو الحافظ شمس الدين أبو بكر محمد بن عبد الله بن أحمد بن المحب عبد الله المقدسي ثم الصالحي الحنبلي، المشهور بالصامت لكثرة سكوته (713 - 789)، ترجم له الحافظ في "الدرر الكامنة"(3/ 465)، وقال:"تفقه إلى أن فاق الأقران، وأفتى ودرّس، وكان كثير المروءة حسن الهيئة، من رؤساء أهل دمشق".

وله أخ اسمه أبو الفتح أحمد (719 - 749)، ترجمته في

ص: 50

"الدرر الكامنة"(1/ 179)، وهو أيضًا ناسخ كثير من مؤلفات شيخ الإسلام التي وصلت إلينا. وخطّ هذين الأخوين متقن، ومتشابه إلى حدّ كبير، وأكثر منسوخاتهما بالاعتماد على الأصول والمسودات التي بخط الشيخ. وقد شرَّقتْ هذه النسخ وغرَّبتْ، وتفرقتْ في بلدان عديدة، وضاع كثير منها وبقي بعضها في المكتبات. وتعتبر هذه النسخ أهمّ ما وصلَ إلينا من مؤلفات شيخ الإسلام بعد الأصول التي بخطه. وإذا عثرتَ على شيء منها بخط أحدهما فلا تلتفتْ إلى نسخ أخرى متأخرة، ولا تتعبْ في جمعها وتحصيلها، فهي لا تفيدك إلاّ زيادة التصحيف والتحريف والسقط، كما هو مجرَّب لديّ بعد فحص مثل هذه النسخ.

ونظرًا لأهمية النسخة التي نقلها ابن المحب بحثتُ عنها في فهارس المكتبات، فلم أعثر عليها مع الأسف، ولذا عكفتُ على أصل المؤلف، وبذلت جهدي في قراءته، واستطعت أن أقدمه بالشكل الذي يراه الناظرون.

وقد سبق لي وصف خط المؤلف في مقدمتي على "قاعدة في الاستحسان"(ص 14، 42)، وكلّ ما ذكرتُه هناك ينطبق على هذا الكتاب، فأحيل القراء إليها.

وفي الختام أحمد الله تعالى على أن وفقني لإخراج أثر مهم من آثار شيخ الإسلام بخطه، وأشكر الإخوة الذين جلبوا لي المصوَّرات الفلمية والمكبرة عن الأصل، حتى تمكنتُ من قراءة الكلمات والأسطر التي كانت ساقطة أو مطموسة في مصوَّرتي،

ص: 51

وأخصّ بالذكر منهم الأخوين الكريمين والمحققين الفاضلين علي ابن محمد العمران وأحمد حاج محمد، فقد سعيا في ذلك كثيرًا، جزاهما الله أحسن الجزاء عن العلم وأهله، ووفقنا جميعًا لما يحبه ويرضاه، إنه سميع مجيب.

محمد عزير شمس

ص: 52

نماذج من الأصل

ص: 53

نصّ الفتوى

ص: 55

بسم الله الرحمن الرحيم

ما تقول السادةُ العلماءُ أئمةُ الهدى ومصابيحُ الدُّجَى فيمن يَزعمُ أنه على قَدمِ كُل نبي من الأنبياء وليَّانِ: وليٌّ ظاهرٌ وولىٌّ باطن، وهما أقطابُ الغوثِ

(1)

الذي ينتهي إليه حوائجُ الخلقِ، وأنّ له أربعةَ أوتاد وسبعةَ نُجَبَاءَ واثنا عشرَ

(2)

نقيبًا وأربعين بَدَلاً، وأنّ كلَّما ماتَ من الاثنا عشر واحدا

(3)

أُخِذَ من الأربعين، ومن السبعة أُخِذَ من الاثنا عشر

(4)

، وكل ينزل من أكثر العدد إلى أقلِّ العدد بحسب مراتب الأوضاع، وأنّ الغوث بمكة، والقطبين أحدهما بالمشرق والآخر بالمغرب، والأربعة بأركان الأرض، والنجباء بمصر، والأبدال بالشام، والنّقباء بالعراق، وأنّ الشدّةَ إذا نزلتْ بأهل الأرض رِفعَها الأدنَى إلى الأعلى، حتى ينتهي الأمر إلى الغوث، فلا يَرفعُ بصرَه حتى تنفرجَ تلك النازلة. ويَدَّعون أنَّ لكل قطب علم

(5)

لا يعرفه الآخر، ويسمُّون أنواعًا من العلوم الظاهرة والباطنة.

(1)

كذا في الأصل، والأولى "قطبا الغوث".

(2)

كذا في الأصل، والصواب "اثني عشر".

(3)

كذا في الأصل، والصواب:"من الاثني عشر واحدٌ".

(4)

كذا في الأصل بالألف.

(5)

كذا في الأصل بالرفع، وحقه النصب.

ص: 57

والمسئول معرفةُ الحق المشروع، هل هذه الأشياء المسمَّاةُ لها دليلٌ من كتاب أو سنةٍ؟ أو لها وجود أو لها تأثير؟ أو لها حقيقة تَرجعُ إلى تَمثُّلها في الأكوانِ أو الأذهان؟ وهل الحديث المروي عن النبَي صلى الله عليه وسلم:"لاّ تَسُبُّوا أهلَ الشام، فإنَّ فيهم الأبدالَ"، هل هو صحيح أم ضعيف؟ وإن كان صحيحًا ما حكمه؟

أفتونا مُثَابِين مأجورين إن شاء الله تعالى.

ص: 58

الحمد لله. هذه الدعوى على الوجه المذكور لا أصلَ لها من كتاب ولا سنَّةٍ، ولا قولِ أحدٍ من الصحابة ولا التابعين، ولا أئمة المسلمين وشيوخهم، الذين لهم في الأمة لسانُ صِدقٍ، وإنما يُذكَر بعضُ هذا الكلام عن بعض الشيوخِ المتأخرين، مع أنه لا أصلَ له، وزَادَ في ذلك مَن بعدهم ونقصوا، وغَيروا في الأعداد والمراتب والصفات،/ وقالوا أشياءَ نعلم مخالفتَها لدين المسلمين، بل ولعقلِ عقلاءِ العالمين. وقد يَروون في ذلك أحاديثَ موضوعة، مثل روايتهم أنه كان للمغيرة بن شعبة غلام اسمُه هلال، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنه من السبعة"

(1)

.

وقد روى هذا الحديثَ بعضُ المصنِّفين في الرقائق، كما روى غيرَه من الموضوعات، وأما الشهادة لمعيَّن بالجنَّةِ فهذا صحيح، فقد شهدَ النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة لغير واحدٍ من الصحابة، كالعشرة وثابت بن قيس وغيرهم.

(1)

أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(2/ 24) من طريق عطاء الخراساني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليدخلن من هذا الباب رجلٌ ينظر الله إليه"، قال: فدخل هلال

، إلى آخر الحديث، وسنده ضعيف ومقطع.

وأخرج الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"(الأصل الخامس والعشرين بعد المائة) من طريق يحيى بن أبي طلحة عن أبي الدرداء قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فقال: "يدخل من هذا الباب رجلٌ من أهل الجنة

" الحديث مطولاً. وانظر "الإصابة" (3/ 608).

ص: 59

وهؤلاء الذين تكلموا في هذا من المُتأخرين يجعلون الأقطابَ سبعةً على عددِ الأقاليم، ويجعلونَ الأوتادَ أربعةً كالأوتادِ التي يذكرها المنجّمون، ويجعلون الغوثَ واحدًا مقيمًا بمكةَ، ويجعلون مددَ أهلِ الأرضِ منه، ويقولون: إنه منه يَفِيضُ على أهلِ الأرضِ ما يَنزِلُ عليهم من الهدى والرزق ونحو ذلك، ويقولون: إنه لابُدَّ لكل زمانٍ من ذلك، كما يَقول الرافضة: إنه لابُدَّ لكل زمان من إمام معصوم، وكما يقولُ النصارى: إنه لابُدَّ من الباب الذي به يُحفَظ أهلُ الأرض

(1)

.

فقيل لبعضِ هؤلاء: فإذا كان لابُدَّ كذلك فمَنِ الغَوثُ الذي كان بمكةَ بعد الهجرةِ على عهد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وخلفائِه الراشدين، الذي كان هو المُمِدّ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ وعمرَ وهو أفضلُ منهم؟ فبُهِتَ مدَّعِيْ ذلك.

وقد يقولون مع ذلك بأنّ لكلّ زمانٍ خَضِرًا، ويجعلونَ الخَضِرَ مرتبةً محفوظةً لا شخصا معيَّنا، ويَدَّعونَ أنه يَنزِلُ كلَّ عامٍ على البيت ورقة مكتوبٌ فيها اسمُ غوثِ ذلك العام وخضرِه. ونحو هذه الدعاوي التي يَعلَمُ كلُّ عاقلٍ بطلانَها، وضَلالَ معتقدِها، وكَذِبَ المُخبِرِ بها عمدًا أو خطأ.

ومن هؤلاء من يُعيِّن لكل قريةٍ من القرى واحدًا من هذا العدد

(1)

ذكر المؤلف نحوه في "مجموع الفتاوى"(11/ 364، 439، 442؛ 27/ 96) و"منهاج السنة"(1/ 91 - 92)

ص: 60

أو أقل أو أكثر، ويتكلمون في ذلك نظمًا ونثرًا بكلامٍ يُناقِضُ العقلَ ويخالف دينَ الإسلام.

وحقيقةُ الأمر في ذلك أنَّ أولياء الله هم المؤمنون المتقون

(1)

، كما قال تعالى: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ)

(2)

/وفي صحيح البخاري

(3)

عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى: من عادى لي وليّا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرَّبَ إليَّ عبدي بمثلِ أداء ما افترضتُ عليه، ولا يَزالُ عبدي يَتقرَّبُ إليَّ بالنوافلِ حتى أُحبّه، فإذا أحببتُه كنتُ سَمْعَه الذي يَسْمَع به، وبَصرَه الذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ التي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَه التي يَمشِي بها. فبيْ يَسْمَع، وبِي يُبْصِر، وبي يَبْطِشُ، وبي يمشي، (وإن سألني لأعطِينَّه، ولئن استعاذني لأعِيْذَنَّه)

(4)

، وما تردَّدتُ عن شئ أنا فاعلُه تردُّدي عن قَبْضِ نفسِ عبدي المؤمنِ يَكرهُ الموتَ وأَكْرهُ مَسَاءتَه، ولابدَّ له منه".

وأيضًا فإنّ الله بعباداتِ عبادِه المؤمنين ودُعائِهم يَجلِبُ للناسِ

(1)

بيّن المؤلف ذلك في "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" وغيره من مؤلفاته ورسائله.

(2)

سورة يونس: 62 - 64.

(3)

برقم (6502).

(4)

ما بين القوسين مستدرك في الهامش، ولم يظهر منه إلاّ قليل.

ص: 61

المنافعَ ويَدْفَعُ عنهم المضارَّ، كما في السنن

(1)

أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وهل تنصَرون وتُرْزقون إلاّ بضُعفائِكم، بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم". وانتفاعُ الخَلْقِ بدعاء المؤمنين وصلاتهم كانتفاع الحيّ والميّتِ بدعاء المؤمنين واستغفارِهم، ونزولِ الغيثِ بدعاءِ المؤمنين واستغفارِهم، والنَّصْر على الأعداءِ بدعاء المؤمنين واستغفارهم، وأمثال ذلك مما اتفق عليه المؤمنون.

فهذانِ الأصلانِ هما أصلانِ ثابتان بالكتاب والسنة والإجماع. وليس لأولياء الله عددٌ محصور تتساوى فيه الأزمنة، ولا لهم مكانٌ معيّنٌ من الأمكنة، بل هم يزدادون ويَنقُصون بحسبِ زيادةِ أهلِ الإيمان والتقوى ونقصانهم. فَبَعَثَ الله محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى الناس، وكان الأمر كما أخبر في الحديث الصحيح

(2)

: "إن الله نَظَرَ إلى أهلِ 236 ب الأرض فمَقَتَهم، عَرَبَهم وعَجَمَهم،/ إلاّ بقايا من أهل الكتاب".

وقد ثبتَ في الصحيح

(3)

أن إبراهيم الخليل قال لسارةَ: "إنه ليس على وجهِ الأرض مؤمنٌ غيري وغيرُك". وقد أخبر الله عن نوحٍ

(1)

أخرج البخاري (2896) عن مصعب بن سعد قال: رأى سعدٌ أن له فضلاً على من دونه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"هل تنصرون وتُرْزقون إلاّ بضعفائكم". ورواه النسائي (6/ 45) عن مصعب عن أبيه سعد نحوه، وفيه:"إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم". وأخرجه أحمد في "مسنده"(1/ 173) من طريق مكحول عن سعد نحوه.

(2)

أخرجه مسلم (2865) عن عياض بن حمار المجاشعي.

(3)

البخاري (2217، 3358) عن أبي هريرة.

ص: 62

أنه (ما ءامن معه إلا قليل (40))

(1)

، وأنَّ الله أغرقَ أهلَ الأرضِ إلاّ من كان معه في السفينةِ.

وقد كانت الشام قبلَ أن يخرج إليها موسى وبنو إسرائيلَ يَغلِبُ على أهلِها الكفرُ، فأورثها الله لبني إسرائيلَ، فصارَ فيها من الأنبياء والصالحين ما لم يكن فيها نَظِيرُه قبلَ ذلكَ.

ولمَّا بعث اللهُ محمدًا صلى الله عليه وسلم آمن به طائفة قليلة، فكان أولَ من آمن به أبو بكرٍ وعليٌّ وزيدٌ وخديجةُ، وآمنَ على يَدَيْ أبي بكرٍ عثمانُ وطلحةُ والزبيرُ وسعد وعبد الرحمن، ثمَّ تَزايدَ أهلُ الإيمانِ حتًى بلغوا أربعين، فلم يكنْ بمكةَ قبلَ ذلك أربعونَ مؤمنًا، بل ولا عَشَرة مؤمنونَ، بل ولا أربعةٌ. ثم إنّ الإيمانَ زادَ، وهاجرَ النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكَثُر السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، الذين اتبعوهم بإحسان، الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وكل هؤلاء من سادات أولياء الله المتقين، فبايَعهُ تحتَ الشجرة أكثرُ من ألفٍ وأربع مائة قد رضي الله عنهم، وكلهم من أهل الجنة، قال الله فيهم:(لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى)

(2)

.

وفي الصحيح

(3)

أنه قال لخالد بن الوليد لمَّا

(4)

سَابَّ

(1)

سورة هود: 40.

(2)

سورة الحديد: 10.

(3)

البخاري (3673) ومسلم (2541).

(4)

"لما" مشطوب عليها في الأصل سهوًا.

ص: 63

عبد الرحمن بن عوفٍ: "يا خالدُ، لا تَسُبُّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفقَ أحدُكُم مثلَ أُحُدٍ ذهبًا ما بلغَ مُذَ أحدِهم ولا نَصِيْفَه ". وخالدٌ هو ممن أنفق من بعد الفتح وقاتل، فإنه أسلم بعد/ الحديبية

(1)

، فجعلَ النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء التابعينَ من الصحابةِ بالنسبة إلى السابقين منهم بهذه المنزلة.

وانتشرَ الإسلامُ بعد هذا في أرضِ اليمن والشام والعراق وخراسان ومصر ومغرب

(2)

، حتى بقي في العصر الواحدِ من هذه البلادِ من أولياء الله أُلوفٌ مؤلَّفةٌ. فمن قَصَرَهم حينئذ على الأربعين أو ثلاث مائة كان جاهلاً، كما أنَ من بلغ بهم في أولِ الإسلام هذا العددَ كان جاهلاً.

وأما الأسماء المذكورة فتسميةُ "الغوثِ" لا أصل لها في كلامِ أحدٍ من السلف بالمعنى الذي يَدعِيْه هؤلاء

(3)

، ولا يُعرَفُ عن أحدٍ من السلف أنه قال: فلانٌ هو غوثُ هذه الأمة، أو إنّ للأمة غوثًا بمكة أو يجيء مكة.

وأما لفظ "النُّقَباء" فإنما ذُكِر في الكتاب والسنة بالمعنى الذي ذكره الله في قوله: (* وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا

(1)

انظر "أسد الغابة"(2/ 109) و"الإصابة"(1/ 413). وقد اختلف في تاريخ إسلامه على أقوال، ولا يصخُ له مشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل فتح مكة.

(2)

كذا بدون الألف واللام.

(3)

انظر كلام المؤلف على "الغوث" في "مجموع الفتاوى"(27/ 96؛ 11/ 437)

ص: 64

مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا)

(1)

. وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم جَعَلَ للأنصار اثني عشرَ نقيبًا على عددِ نُقَباءِ مُوسى

(2)

. وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه عامَ حُنَين لما أطلقَ لهوازنَ السبيَ فقال: "لِيَرْفَعْ لنا عُرَفَاؤكم مَنْ طَيَّبَ ممن لم يُطَيِّب"

(3)

. وكان العسكرُ اثني عشرَ ألفًا.

وكذلك الخلفاء الراشدون كانوا يُعَرِّفُون العُرَفاءَ ويُنَقِّبُون الئقَباءَ، ليُعزَفُوهم بأخبار الناس، ويُنَقبُوا عن أحوالهم. فهؤلاء هم النقباء المعروفون في الكتاب والسنة وكلام السلف.

وأما من جَعَلَ لأولياء اللهِ نُقَباء َهم، اثنا عشرَ، أو جَعَلَ الخَضِرَ نقيبَ الأولياء، فهذا باطل، فإنَ أولياء الله لا يَعْرِفُ أعيانَهم على التفصيلِ أحدٌ من البشر، لا نبيّ ولا غيرُ نبيّ. وقد كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بمدينته مؤمنون

(4)

ومنافقون، وقد قال الله له:(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ)

(5)

.

وإذا لم يَقعِ التمييزُ بين هؤلاء وهؤلاء لخير الخلق، فغيرُه

(1)

سورة المائدة: 12.

(2)

أخرجه أحمد في "المسند"(3/ 460) من حديث كعب بن مالك. وذكر ابن هشام في "السيرة"(1/ 443، 444) أسماءهم، فراجعه.

(3)

أخرجه البخاري (2308، 2540، 2608، 3132، 4319، 7177) من حديث عروة عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة.

(4)

تكررت "مو" في الأصل.

(5)

سورة التوبة: 101.

ص: 65

أولى، ومن لم يعَرِفْ أعيانَ المنافِقين جَوَّزَ على مَن ظاهرُه الإسلام أن يكون مؤمنًا، وإذا لم يُعْلَم فُجورُه جاز أن يكون تقيًّا، وكلُّ مؤمنٍ تقيٍّ وليٌّ لله.

وقالوا لعمر بن الخطاب: من يُعطَى المغازي؟ قيل: فلان وفلان وآخرون لا يعرفهم أميرُ المؤمنين، فقال: إن لا يكن عمر يعرِفهم فإن الله يعرفُهم، وقد قال تعالى:(وما يعلم جنود ربك إلا هو)

(1)

.

وقد ثبت في الصحيح

(2)

أن النبي صلى الله عليه وسلم يَعرِف أمته يومَ القيامةِ بسِيماهُم، فإنّهم يكونون غُرًّا مُحَجَّلِيْنَ من آثارِ الوَضوءِ.

وأيضًا فأولياء الله إذا كان لهم نُقَباءُ كان النُقَباءُ أخبرَ بهم ممن يَرفعونَ أخبارَهم إليه، ومعلومٌ أن الذين يَرفَعونَ أخبارَهم إليه سواء كان نبيًّا أو غير نبيّ، هو أعلى مرتبةً من النُّقَباء، فيكون المفضولُ أعلمَ بأولياءِ اللهِ من الفاضل، وهذا ممتنعٌ. بخلاف النُّقَباء الذين جاء بهم الكتاب والسنة، فإنهم يرفعون أخبارَهم الظاهرة التي يَشهَدُ بها الشُّهودُ ويَحكُم بها الحُكَّام، وإن كان قد يكون في ذلك ما يُستدَلُّ به على الإيمان والتقوى، لكنّ الدليل لا ينعكس، فلا يلزم من عدمِ الدليلِ المعيَّنِ عدمُ المدلول عليه، فلا يُشْهَد على شخصٍ معين أنه ليس من أولياء الله إلاّ بعليم يقتضي ذلك. والنقباء لا

(1)

سورة المدثر: 31.

(2)

البخاري (136) ومسلم (246) من حديث أبي هريرة.

ص: 66

يشهدون بذلك، ومن لم يشهد بذلك لم يكن عَالمًا بمن هو وليّ ممن ليس بولي.

وأما لفظ "الأبدال"

(1)

فقد جاء ذِكرُه في كلامِ كثير من السلف: فلانٌ كان يُعَدُّ من الأبدال. ولفظ "الأوتاد"

(2)

جاء في كلام بعضهم.

فأما لفظ "الأبدال " فقد فُسِّر بثلاثِ معاني:

قيل: سُمُّوا أبدالاً لأنهم أبدالٌ عن الأنبياء، وهذا المعنى صحيح.

فإن الأنبياء،/لهم خُلَفاء، كما كان الخلفاء الراشدون خلفاءَ للنبي صلى الله عليه وسلم وقد كان له في حياتِه ولغيرِه من الأنبياء خلفاءُ في أمرٍ دونَ أمرٍ، فإنه كان إذا خرجَ في غَزْوٍ أو حَجٍّ أو عُمرةٍ استخلفَ على المدينة بعضَ أصحابه، كما كان يَستخلف ابنَ أمّ مكتوم وغيره، واستخلف علي بن أبي طالب [في] غزوة تبوك، وكان قد خرج معه عامة أصحابه، ولم يبق بالمدينة من المؤمنين إلاّ معذور، غير الثلاثة الذين خُلِّفوا، فخرج إليه على، فقال: يا رسولَ الله، أتَدَعُنِي مع النساءِ والصبيان؟ فقال:"أما تَرضَى أن تكونَ منّي بمنزلة هارون من موسى؟ "

(3)

وقد قال تعالى: (وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142))

(4)

.

(1)

انظر كلام المؤلف على هذا اللفظ في "مجموع الفتاوى"(11/ 441).

(2)

انظر عن هذا اللفظ: "مجموع الفتاوى"(11/ 440).

(3)

أخرجه مسلم (2404) وأحمد في "المسند"(1/ 185) والترمذي (2999، 3724) من حديث سعد بن أبي وقاص.

(4)

سورة الأعراف: 142.

ص: 67

فاستخلف موسى هارون مدةَ ذهابِه للميقات إلى أن عاد.

وكذلك كان للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته وُلاةٌ على الأمْصَار كعتَاب بن أَسِيد وخالد بن سعيد وغيرهما، وسُعَاةٌ على الصدقات ونُواب في التعليم، كمعاذٍ وأبي موسى، وكلٌّ من هؤلاء خليفة له وبدل عنه في بعض الأمور دونَ بعضٍ.

وجاء في حديثٍ وصفُ الذين يُحيون السنَّةَ ويُعلِّمونها الناسَ بأنهم خلفاءُ النبي

(1)

، وللأنبياء أيضًا ورثة كما في الحديث المشهور في السنن:"العلماء ورثةُ الأنبياء"

(2)

. والخلافة والوراثة قد تكون في بعض الأشياء دون بعض، فمن نال بعضَ ما بُعِثوا به من العلم فهو وارث لذلك المقدار، ومن قام مقامَهم في بعض الأمر فقد خلفهم في ذلك على البدلية، ومن قام مقامهم في بعض الأمر كان بدلاً منهمِ في ذلك. وقد استسقى عمر بالعباس وقال:"اللهم إنّا كنّا إذا أجْدَبْنا نتوسل إليك بنبيّنا، وإنا نتوسل إليك بعمِّ نبيّنا"

(3)

.

ومعلوم أن من جملةِ أحوالِ الأنبياءِ دعاءَهم للخلق، وما يحصل

(1)

أخرجه الرامهرمزي في "المحدث الفاصل"(ص 5) وأبو نعيم في "ذكر أخبار أصبهان "(1/ 81) والخطيب في "شرف أصحاب الحديث"(ص 31) من حديث علي. وهو حديث موضوع، انظر الكلام عليه في الضعيفة (854).

(2)

أخرجه أحمد (5/ 196) وأبو داود (3641) والترمذي (2682) وابن ماجه (223) من حديث أبي الدرداء، وهو حديث حسن.

(3)

أخرجه البخاري (1010، 3710) من حديث أنس بن مالك.

ص: 68

بدعائهم وعبادتهم من الرزق والنصر، فمن قام مقامَهم في بعض ذلك كان بَدَلاً منهم في ذلك البعض.

وقيل: سُمُّوا أبدالاً لأنه كلَّما مات رجل أبدلَ الله مكانه رجلاً.

وهذا لا يَصحُّ، ولا مدحَ فيه/فإنّ كون الشخص إذا ماتَ قامَ مقامَه غيرُه قد يكون مع إيمانه، وقد يكون مع كفره، والله جعلَ بعضَ بني آدمَ خُلفاءَ بعض مع اختلاف أعمالِهم. قال تعالى:(هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ)

(1)

، وقال:(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14))

(2)

. فقد جعل أمة محمد خلائفَ عمن أهلك من القرون المكذبين الظالمين.

وقد قال نوح له (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27))

(3)

، فهذا الولد الفاجر الكَفارُ بَدَلٌ عن أبيه. فليس في إبدالِ شخصٍ مكان شخص مدح إلاّ أن يكون الأولُ ممدوحًا، فإن لم يُعتَبر في معنى البدل أن يكون بدلاً عن نبيٍّ أو مَن يقوم مقامَ نبيٍّ لم يكن في كونه بدلاً عمَّن كان قبلَه صِفةُ مدح.

وأيضًا فلو كان كلُّ من ماتَ قامَ مقامَه غيرُه لَلَزِمَ أن يقومَ مقامَ

(1)

سورة الأنعام: 165.

(2)

سورة يونس: 13 - 14.

(3)

سورة نوح: 27.

ص: 69