الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صاحبُ المال، فالربحُ لصاحب المال، ولهذا أجرةُ مثلِه، إلاّ أن يكونَ الرِّبْحُ يُحيط بأجرةِ مثلِه فيذهب، قال: وكنتُ أذهبُ إلى أن الربحَ لصاحب المالِ فاستحسنتُ. ف
هذا استحسان بفرقٍ رآه مؤثراً
، والقياسُ مُستنبط، والاستحسانُ مستنبط، وهو تخصيصٌ لعلَّةٍ مستنبطةٍ بفرقٍ مستنبطٍ. وأحمد لا يَرُد مثلَ هذا الاستحسانِ، لكن قد تكون العفَتانِ أو إحداهما فاسدةً، كما لا يَرُدُّ تخصيصَ العلَّةِ المنصوصةِ بفرقٍ منصوصٍ./
والفرق أن المضارب مأمور بالعمل بجُعْلٍ، بل هو شريكٌ في الربح، وعملُه له ولصاحبِ المالِ جميعاً، ولهذا كان للعلماءِ فيما يستحقه في المضاربة الفاسدةِ ونحوِ ذلك قولان: هل يستحقُّ قسطَ مثلِه في الربح، أو أجرة مقدَّرةً تكونُ أجرةَ مثلِه
(1)
؟ والقول الأول هو الصوابُ قطعاً، وهذا قياسُ مذهب أحمد، فإنّ من أصله أنّ هذه المعاملاتِ مشاركة، لا مؤاجرة بأجرةٍ مَعلومةٍ، والقياس عنده صحتها.
وإنّما يقول أجرة المثل من يجعلها من باب الإجارة. ويَقول: القياس يقتضي فسادَها، والمأجور فيها مأجورٌ للحاجة. وبكلِّ حالٍ
(1)
انظر: الأم 3/ 237 والمبسوط 22/ 40 والمغني 5/ 65 وحاشية ابن عابدين 4/ 486. وانظر آثار الصحابة والتابعين في: مصنف عبد الرزاق 8/ 253 والإشراف لابن المنذر 1/ 105 والسنن الكبرى للبيهقي 6/ 111. وقد تكلم المؤلف على هذه المسألة في مجموع الفتاوى 30/ 85 - 86، 91 و 28/ 84 - 85 بنحو هذا الكلام، وصحح ما صححه هنا.
فهو يعمل لنفسه لاستحقاق القسط أو الأجر، ويعمل لربِّ المال، فليس هو بمنزلةِ الغاصب الذي جُعِل عملُه لصاحبِ المالِ كالمتبرِّع، فإنّ هذا إنما قبضَ المالَ ليعملَ فيه بالعِوَضِ، وهو بالمخالفة لا يخرج عن كونِ المالِ بيده قبَضَه ليعمل فيه بالعوض، ولكن عَمِلَ غيرَ ما أُمِرَ به، فيكون ضامناً لتعدِّيْهِ، ولكن ليس إذا كان ضامناً يكون وجود عمله كعدمه، مع أنّه مأذونٌ له في التجارةِ به في الجملةِ، ليس هو كمن لم يؤذَن له في ذلك.
وهو أيضًا من أصل آخر، وهو أنه إذا تصرف بغير أمرِه كان فُضوليًّا
(1)
، فيكون المعقود موقوفاً. وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، وقول أكثر العلماء، وهي التي ذكرها الخِرَقِيُّ في مختصره: أنّ بيعَ الفضوليَ وشِرَاهُ ليس باطلاً بل موقوفاً
(2)
، فإن باعَ أو اشترى
(1)
الفضولي: من يتصرّف في حق الغير بغير إذن شرعي أي بلا ملك ولا ولاية ولا وكالة. وقد ذهب الحنفية والمالكية والشافعي في القديم، وهو أحد قوليه في الجديد، واْحمد في إحدى الروايتين عنه: إلى أن بيعه صحيح إلاّ أنه موقوف على إجازة المالك، وذهب الشافعي في القول الثاني من الجديد واْحمد في الرواية الأخرى عنه: إلى أن البيع باطل. انظر التفصيل: بدائع الصنائع 5/ 147 وفتح القدير لابن الهمام 5/ 309 وشرح الخرشي على مختصر خليل 5/ 18 وروضة الطالبين 3/ 353 والمجموع 9/ 259 والمغني 5/ 253، 254 والإنصاف للمردادي 4/ 283 وشرح منتهى الإرادات 2/ 143، 144 وكشاف القناع 3/ 157، 158 وتفسير القرطبي 7/ 156.
(2)
كذا في الأصل بالنصب على تقدير "يكون".
بعينِ المالِ فهو موقوف، وإن اشترى فى الذمَّة فهو موقوف. فإن أجازه المشترى له وإلاّ لَزِمَ المشتري
(1)
.
وأما القاضي وأتباعُه فاختاروا أن تصرفه مُردد
(2)
إلاّ إذا اشترى في الذمَّة. والذي ذكره الخِرَقي أصحُّ، لكنه قَرَنَ هذه المسألةَ في مواضعَ من مختصرِه بالعاملِ إذا خالفَ كان متصرِّفاً له بغيرِ إذْنِه، فإذا أجازَه وطلبَ نَصِيْبَه من الربْح صارَ مجيزاً له، وصارَ العاملُ مأذوناً له. والعامل إنما عَمِلَ لأجْلِ نَصِيبِه من الربح، فيستحقُّ نَصِيْبَه من الربح.
وقول أحمد: "كنتُ أذهبُ إلى أن الربحَ لصاحبِ المال، ثم استحسنتُ" رجوع منه إلى هذا، وجَعْلُه الربحَ في جميع الصُّوَرِ للمالك يَقتضي أنه يُصَحح تصرف الفضولي إذا أجيْزَ، وإلاّ كان البيعُ باطلاً.
وكذلك الشرَى بعين المال، كما يقوله الشافعيّ ومن نَصَر الرواية الأخرى"، ويكون عليه ضمان ما فوّته من مالِه فقط، ليس للمالك غيرُ هذا، ولا يكون للعامل أيضًا رِبْح، لأنّه لم يعمل شيئا. والآثار المأثورةُ عن الصحابة والتابعين في باب البيع والنكاحِ والطلاقِ وغيرِ ذلك تدلُّ على أنهم كانوا يقولون بوقف المعقود،
(1)
انظر كلام المؤلف بنحو ما هنا في: مجموع الفتاوى 20/ 577.
(2)
كذا في الأصل، وهو بمعنى "مردود"، فقد ورد الفعل "رَدّد" بمعنى "رَدَّ"
لاسيما حيثُ تعذَّرَ استئذانُ المالك
(1)
.
ولهذا أحمد يقولُ بوقْفِها هنا كما في مسألة المعقود، اتباعاً للصحابة في ذلك. وإنما ادَّعَى أنها خلافُ القياسِ من لم يَتَفطَنْ لما فيها من وقف المعقود، كما في اللُّقطةِ
(2)
. وتكلُّمُ السَّلفِ فيمن يتجر بمال غيره في الربح دليلٌ على صحة التصُّرفِ عندهم إذا أجازه المالك.
وبهذا ظهر ما استحسنَه أحمد ورجعَ إليه أخيراً، لأنَه إذا صارَ بالإجازة كالمأذون له، وهو لم يعمل إلاّ بجُعْلٍ برضا المالك، فلا يجوز منعُه حَقَّه. وهذا بناء على أنَّه إذا تصرَّف ابتداءً فالرِّبْحُ كلُّه للمالك، وهو أحد الأقوالِ في المسألة، وقيل: يتصدَّقانِ به، وهو رواية عن أحمد. وقيل: هو للعامل، كقول الشافعي. وقيل: هما شريكانِ فيه، وهو أصح الأقوالِ، وهو المأثور عن عمر
(3)
في
(1)
قال المؤلف في مجموع الفتاوى 25/ 579، 580:"القول بوقف العقود عند الحاجة متفق عليه بين الصحابة، ثبت ذلك عنهم في قضايا متعددة" ثم ذكر بعضاً منها. وانظر 29/ 249 ففيه نحو من هذا الكلام.
(2)
قال المؤلف في مجموع الفتاوى 25/ 588: جاءت السنة في اللقطة أن الملتقط يأخذها بعد التعريف، ويتصرف فيها، ثم إن جاء صاحبها كان مخيرا بين إمضاء تصرفه وبين المطالبة بها، فهو تصرف موقوف.
وانظر نحوه في 29/ 250.
(3)
تكرر في بداية الصفحة القادمة "وهو المأثور عن عمر".
المضاربة
(1)
،/لأنَّ المالك لمَّا أَذِنَ فيه صار كالمضارب، وهو لم يعمل ليكون الربحُ للمالك كالمُبْضِع
(2)
، فإنه لو فعل ذلك لكان الربح للمالك، وإنما اتَّجَر ليكون الربحَُ له أو بينهما، والمالكُ قد أجازَ بيعَه، ولم يُجزْه ليكون الربحُ كلُّه له، فيكون النماءُ حاصلاً بمالِ هذا وبيع هذا، وَالتصرُّفُ صحيحاً مأذوناً فيه، فيكون الربحُ بينهما. ومن قال:"يتصدَّقانِ به" جَعَلَه كغير المأذونِ فيه، فيكون خَبيثاً، وهو مُتَعَدٍّ، لأنّ الحقّ لهما لا يَعْدُوهما، فإذا أجاز التصرُّفَ جازَ.
وكذلك في جميع تصرُّف الغاصب، لاسِيَّما مَن لم يُعلَم أنَّه غاصبٌ، إذا تصرَّفَ في المغصوب بما أزال اسمَه، كطَحْنِ الحَبِّ ونَسْجِ الثوبِ ونحو ذلك، ففيه ثلاثةَ أقوالٍ في مذهب أحمد وغيره:
قيل: كلُّ ذلك للمالكِ دون الغاصب، وعليه ضمانُ النقص، كقول الشافعي.
وقيل: يملكه الغاصب، وعليه بَدَلُه، كقول أبي حنيفة.
وقيل: يُخير المالك بينهما، كقولِ مالك. وهذا أصحُّ
(3)
، بناءً
(1)
انظر أثر عمر والأقوال المذكورة هنا في مجموع الفتاوى 30/ 87، 323، 329.
(2)
كذا في الأصل. والمُبْضِع في اللغة: المُزَوِّج، من أبضَعَ المرأةَ أي زوَجَها. ولم يظهر لي وجه الشبه هنا.
(3)
ذكر المؤلف هذه الأقوال وصحح ما صححه هنا في: مجموع الفتاوى 25/ 562 - 563. وانظر لهذه المسألة: الأم 3/ 227 والمدونة 4/ 190 والمبسوط 11/ 100، 101.
على وقفِ التصرُّفاتِ، فإن شاءَ المالك أجازَ تصرُّفَه، وطَالبَه بالنقصِ، كما في العاملِ المخالف، وإن شاءَ طالَبَه بالبَدَلِ لإفسادِه عليه، وبأخْذِه ذلك لأدائه عِوَضَه، فيُخَيَّر على المعاوضة لحقّ المالك.
وإذا رَضِيَ المالكُ به فهل يكون الغاصبُ شريكاً لما في عمله؟ فيه وجهان، والأظهر في الجميع أنَّ أثر عمله له، وكونه ظالماً يَظْهر في تَضمينه له، لا في أن يؤخذَ أثرُ عملِه، فيُعْطَى لغيره بلا عِوَضٍ، فإنَ هذا ظلمٌ له، والواجبُ إزالةُ الظلم بالعدل، لا بظلمٍ آخر، "وَجَزاؤاْ سَيّئَةٍ سَيئةٌ مثلُهَا"
(1)
لا زيادة عليها.
وأما قوله فيمن غَصَبَ أرضاً فزرعَها: "الزرعُ لرب الأرض، وعليه النفقةُ، وليس هذا شيئا يوافق القياس، أستحسن أن يدفع إليه نفقته"
(2)
، فهذا قاله بالنصّ كما تقدم، لحديث رافع بن خَدِيْج. فيجب أن يكون القياس المخالف لهذا النصّ فاسداً إن لم يَدُلَّ نصّ على صحتِه، ويظهر الفارقُ المؤثِّر، وإلَاّ فالقياس إذا خالف النص كان فاسداً. أمّا فسادُ الحكمِ المخالفِ للنص فبالاتّفاق، وفسادُ العلَّة على قولِ الجمهور الذين لا يرون
(3)
تخصيصَ العلَّة إلاّ بفارقٍ مؤثِّر،
(1)
سورة الشورى: 40.
(2)
انظر: ص 174. قال في المغني 5/ 236: "أحمد إنما ذهب إلى هذا الحكم استحساناً على خلاف القياس، فإن القياس أن الزرع لصاحب البذر، لأنه نماء عين ماله، وقد صرح به أحمد". ثم نقل هذه الرواية.
(3)
المكتوب في السطر: "من لا يرى"، وكتب فوقه:"الجمهور الذين لا يرون".
وهذا نصٌّ قد خالف القياس.
وقولهم: "القياس أن الزرعَ لزارعِه" ليس معهم بذلك نص ولا نظير، بل القياسُ
(1)
أنَّ الزَّرعَ إمّا أن يكون بينهما كالمزارعة، أو يكون لرب الأرضِ، لأنَّ الزرعَ في الأرضِ كالحَمْلِ في البطنِ، وإلقاءُ البِذْرِ كإلقاءِ المنيِّ، ولو وَطِيءَ ذكرٌ أنثَى كان الحملُ لمالكِ الأنثى دون مالك الذكَرِ، وهذا اختيار ابنِ عقيل وغيرِه. لكن المنيَّ لا يقوم، بخلافِ الزَّرع، فلهذا جعل له نفقته، فإنّ الزرعَ عامّته في الأرضِ، في ترابها وَمائها وهوائها وشمسها، كما أن الحمل في البطن عامّته في الأمّ، وماء الأب قليل، كما أنّ الحَبَّ قليل./
وكذلك الشجرُ إذا لُقِّحَ أُنْثاه بذكرَ فإنَّ الثمرَ لصاحبِ الأنثى، لا لصاحب اللقاح، والحَبُّ كاللِّقاح.
وقول أحمد: "عليه نفقتُه" يَقتضِي مثلَ البذْر، ويَقتضِي أجرةَ عملِه وعمل فَدَّانِه
(2)
. فقوله: "ليس هذا شيئاً يوَافق القياسَ" كقوله في العامل المخالف: "ثمَّ استحسنتُ أن يُعْطِيَه الأجرةَ"، فكان قياسُه على ما يراه في الغاصب أن لا يكون له أجرة عمله وعمل فدّانِه، فهو
(1)
قال المؤلف في مجموع الفتاوى 29/ 124: "بعض من أخذ به يرى أنه خلاف القياس، وأنه من صور الاستحسان، وهذا لما انعقد في نفسه من القياس المتقدم، وهو أن الزرع تبع للبذر، والشجر تبع للنوى. وما جاءت به السنة هو القياس الصحيح الذي تدل عليه الفطرة". ثم ذكر نحو ما ذكر هنا.
(2)
الفَدَّان هنا بمعنى المحراث.
مخالف للقياس في هذه الحجة
(1)
، لأنه إنما عَمِلَ ليأخذَ العوضَ، لم يعمل مجاناً كالعاملِ في المضاربة، ولأنّ البذرَ له، فليس غاصباً محضاً.
وقد اختلفت الرواية عن أحمد: هل يُعطَى ما أنفقَ أو أجرةَ مثلِه؟ والنص ورد بالأول بقوله: "فليس له في الزرع شيء، وله نفقته"، والقياس يقتضي الثاني. فقد يكون قولُه على خلاف القياس من هذا الوجه، وما وردَ به النصُّ قد يكون ما أنفق وأجرة مثله فيه سواء.
وأما شِرَى المصاحف والسواد
(2)
فإنما فرّق فيهما بين الشَرَى والبيع، لأن العلَّة موجودة في البيع دون الشِّرَى، فإن المشترِيَ راغبٌ في المصحف، معظمٌ له، باذلٌ فيه مالَه، والبائع معتاضٌ عنه بالمال، والشرعُ يُفرقُ بين هذا وهذاَ
(3)
، كما فَرقَ في إعطاءِ المؤلفةِ
(1)
كذا في الأصل، ولعل الصواب "من هذه الجهة".
(2)
انظر: ص 173 - 174.
(3)
عند الشافعية بيع المصحف وشراره مكروه، وقول آخر لهم وهو رواية عن أحمد: أنه يكره البيع بلا حاجة دون الشراء، قال ابن قدامة في المغني 4/ 263 بعدما ذكر الخلاف:"لنا قول الصحابة رضوان الله عليهم، ولم نعلم لهم مخالفاً في عصرهم، ولأنه يشتمل على كلام الله تعالى، فتجب صيانته عن البيع والابتذال. وأما الشراء فهو أسهل، لأنه استنقاذ للمصحف وبذل لماله فيه، فجاز كما جاز شراء رباع مكة واستئجار دورها ممن لا يرى بيعها ولا أخذ أجرتها، وكذلك أرض السواد ونحوها". وانظر أيضًا: الإنصاف 4/ 279 والشرح الكبير بذيل المغني 4/ 12 وكشاف القناع 3/ 155.
قلوبُهم بين المعطي والآخذ، وكذلك في افتداءِ الأسيرِ وغيرِ ذلك. ومعلومٌ أنه لو أعطاه المصحفَ والأرضَ الخراجيةَ بلا عِوَضٍ جازَ، وقام فيه مقامه، بخلاف ما لا يجوز تملكُه كالخمر وغيرِها، فإذا بَذَلَ له هذا فيه العوضَ لم تكن مضرتُه إلاّ على البائع.
فإن قيل: فإذا لم يحصل للإنسان كلب مُعلَّمٌ إلاّ بثمنٍ فينبغي أن يجوز بذلُه، وإن لم يَجُزْ أخذُه.
قيل: إن لم يكن بينهما فرق مُؤثِّرٌ في الشرع فهكذا
(1)
هو، وإن قيل هناك: يجبُ عليه إعطاءُ الكلب بلا عوضٍ ، بخلاف الأرض والمصحف، فهذا فرق. مع أن الثابت عن الصحابةِ كراهةُ بيع المصحف، وابن عباسٍ كان يكرهُه
(2)
، وكان أيضًا يُجوِّزُه ويقول: إنّما هو مصوّر، وله أجرة تصويره
(3)
. فدلَّ على أنَّها كراهة تنزيه. ورُوِيَ عن غيرِه: وَدِدْتُ أنّ الأيديَ تُقطَعُ في بيع المصاحف
(4)
، وهذا تغليظُ تحريم. ولهذا اختلفتِ الروايةُ عن أحمد: هل هو نهيُ تنزيهٍ أو تحريمٍ.
وأما شِرَاه ومبادلتُه فهل هو مباحٌ أو مكروه على روايتين، وعن ابن عباسٍ يجوز أن يبيعَه ويشتريَ بثمنِه مصحفاً آخر، وليس
(1)
في الأصل: "مهاكدى".
(2)
أخرجه عبد الرزاق 8/ 112 والبيهقي في السنن الكبرى 6/ 16.
(3)
لم أجده في المصدرين السابقين.
(4)
روي ذلك عن ابن عمر، أخرجه عبد الرزاق 8/ 112، 113 والبيهقي في السنن الكبرى 6/ 16.
في المبادلة والشِّرَى استبدال به عَرَضاً من الدنيا، فالأظهرُ جوازُ ذلك بلا كراهة
(1)
، وأنَ البيعَ أيضًا لا يحرم، بل يُكْرَه تعظيماً لكتاب الله، إذْ ليس على التحريم دليل شرعي.
وكذلك الأرض الخراجية ليس في مَنْع بيعها دليل شرعيّ أصلاً
(2)
، فإنّ الذين منعوها من الفقهاء قالوا: إنهَا وقفٌ، وبيعُ الوقف لا يجوز. وهذا إنما هو في الوقف الذي يَبطُلُ حق أهل الوقف ببيعهِ، وهو الذي لا يُورثُ ولا يُوهَبُ، والأرضُ الخراجيةُ تُورَثُ وتُوهَبُ، والوقف الذي لا يُباع لا يُورَث ولا يُوهَبُ، وذلك أن المشتري لها يقوم مقامَ البائع، لا يُبطِلُ حَق أهلِ الوقفِ./
(1)
قال المؤلف في مجموع الفتاوى 31/ 212، 213:"أما إبداله فيجوز عنده في إحدى الروايتين عنه من غير كراهة، ولكن ظاهر مذهبه أنه إذا بيع واشتُرِيَ بثمنه فإن هذا من جنس الإبدال، إذ فيه مقصوده، فإن هذا فيه صرف نفعه إلى نظير المستحق إذا تعذر صرفه إلى عينه ".
(2)
تكلم المؤلف في موضوع بيع الأرض الخراجية ورذَ على من منع منه لأنها وقف، وفصّل القول فيه بنحو ما هنا في: مجموع الفتاوى 29/ 206 - 209، 28/ 288، 589 و 31/ 230، 231 و 17/ 488، 489. وهو يقصد به أبا يعلى الذي نقل في الأحكام السلطانية 189 - 190 منع بيعها عن أحمد على أنها وقف. أما التفريق بين بيعها وشرائها فقد قال ابن قدامة في المغني 1/ 720:"وإنما رخص في الشراء - والله أعلم- لأن بعض الصحابة اشترى، ولم يسمع عنهم البيع، ولأن الشراء استخلاص للأرض، فيقوم فيها مقام من كانت في يده، والبيع اْخذ عوضٍ عما لا يملكه ولا يستحقه، فلا يجوز". وانظر: الأموال لأبي عبيد 110 وما بعدها، والخراج لأبي يوسف 28 وما بعدها.
وأحمد في ظاهر مذهبه يُجوزُ بيعَ المكاتَب لهذا المعنى
(1)
، لان ذلك لا يُبطِل حقَّه من الكتابة، بل يكونُ عند المشتري كما كان عند البائع، وهو يُورَثُ بالاتفاق. ولكن لمّا انعقد فيه سببُ الحريةِ تخيلَ مَن مَنَعَ بيعَه أنه يُباعُ حر، كما تخيل أولئك أنه يباعُ وقف، وليس الأمرُ كما تخيلُوه، بل بيعُ الحز هو أن يُسْتَعْبَدَ فيصير بخلاف ما كان حرا، وبيعُ الوقف هو أن يُجعلَ طَلْقا ويُصْرَفَ فعلُه إلى غيرِ مستحقَيْه.
والأرضُ الخراجيةُ فعلُها هو فعلُها لم يتغيرْ، وهو الخراجٍ المضروب عليها، سواءً كان ضريبةً كخراجِ عمر، أو صَارَ مقاسمة كما فعلَه متأخرو الخلفاء بأرضِ السوادِ وغيرِها، كما فعلَه المنصورُ. فعلى التقديرين حق المسلمين باقٍ، كما يَبْقَى مع الموتِ والهبةِ.
والصحابة الذين كرهوا شِرَاها إنما كرهوه لدخول المسلمِ في خراج أهل الذمةِ، أو إبطالِ حقّ المسلمين به، فإن المشتريَ إنْ أدّى الخراجَ - وهو جزيةِّ- فقد التزمَ الصغار، وإن لم يؤدِّه أبطلَ حق المسلمين، فلذا كرهَ ذلك عمر وغيرهُ من الصحابة، وهم نَهَوا عن الشرَى.
وأما البيعُ فإنما كان يبيعُها أهلُ الذمّةِ، لأنّ الأرضَ الخراجية
(1)
انظر: المغني 9/ 490. وانظر هذه المسألة في: مصنف عبد الرزاق 8/ 424 والأمّ 7/ 394 والمحلى 9/ 232 وتفسير القرطبي 12/ 250 والسنن الكبرى 10/ 336 - 340 والإشراف لابن المنذر 1/ 339 ومختصر اختلاف العلماء للجصاص 4/ 428 وفتح الباري 5/ 194 - 196.
إنما كانت بأيدي أهل الذمة، وكان ذلك أيضًا لئلا يَشتغلَ المسلمون بالفلاحة والصغار عن الجهاد. فلمّا كثر المسلمون، وصارَ أكثرُهم غيرَ مجاهدين، وصار أداؤُهم الخراجَ أنفعَ لعمومِ المسلمين من كونها بأيدي الذمة، لم يَصِرْ في ذلك من الصغار ما كان يكونُ في أول الإسلام إلاّ لمن يشتغل بعمارة الأرضِ عن الجهاد. وهذا لا يختص بالخراجية، بل قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم سِكَة فقال:"ما دَخَلَتْ هذه دارَ قويم إلاّ دَخلَها الذُّلُّ ". رواه البخاري
(1)
. مع أن الأنصار كانوا هم الفلأحين لأرضهم، فهذا على الاشتغال بعمارة الدنيا عن الجهاد، وهذا لا يختصُّ بالخراجية.
وأما ما ذكره القاضي من قبولِ شهادة أهل الذمة في الوصية في السفر
(2)
، فلا ريبَ أن الفرقَ هنا ظاهر، وهذا من الاستحسان
(1)
برقم (2321) من حديث أبي أمامة الباهلي. ولفظه: "لا يَدخلُ هذا بيتَ قومِ إلاّ أدخله الذل". والسكّة هي الحديدة التي تُحرَث بها الأرض.
(2)
انظر ما مضى ص 175. والمسألة في المغني 9/ 182 - 184 وفيه: "ثبت هذا الحكم بكتاب الله وقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضاء الصحابة وعملهم بما ثبت في الكتاب والسنة، فتعين المصير إليه والعمل به سواء وافق القياس أو خالفه". والآية في سورة المائدة: 106، واختلفوا فيها على ثلاثة أقوال: فجل العلماء يتأولونها في أهل الذمة، ويرونها محكمة، وقال مالك وأهل الحجاز: هي منسوخة، وناسخها قوله تعالى:(وأشهدوا ذوى عدل منكم)[الطلاق: 2] وقوله تعالى: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ)[البقرة: 282]، قالوا: ولا يكون أهل الشرك عدولاً=
وتخصيص العلَّة التي ظهر فيها الفرقُ، والمنعُ من شهادتهم على المسلمين ثبتَ بالنصِّ، والإذنُ فيها هنا ثبتَ بالنصِّ أيضًا للحاجة. وهل يُعدَّى هذا إلى جميع مواضع الحاجة؟ فيه عن أحمد روايتان
(1)
، بناءً على أنّ العلَّة معلومةٌ، وهي موجودة/في غير هذا الموضع. هذا وجهُ القولِ بالجواز.
وأمَّا وجهُ المنع فإمّا أن نقولَ: لم نَعلم العلةَ وإنّها مشتركة، أو علمنا اختصاصَها بهذه الصورة للضرورة العامَّة فيها. هذا إذا ثبتَ عمومُ المنع في غير هذه الصورة، إمّا لفظاً وإمّا معنًى. وألفاظ القرآن لا عمومَ فيها بالمنع، وكذلك السنّةُ ليس فيها لفظ عامّ بالمنع. لم يَبْقَ إلاّ القياس، وتلك المواضع أُمِرَ فيها بإشهاد المسلمين، ومعلومٌ أن ذلك إنما هو عند القدرة على إشهادهما، وهذا واجب في الوصية في السفر. وأمّا إذا تعذَّر إشهادُهما على الذَين في السفر أو على الرجعة فليس في القرآن ما يدل على المنع من ذلك. وإذا لم يكن في الكتاب والسنّة منعٌ من إشهاد أهل الذمّة عند تعذُّرِ إشهاد المسلمين، لم يكن هنا قياسٌ يخالف هذه الآية، وقد عمل بها
= أبداً ولا ممن تُرضَى شهادته. وقال الشافعي وأصحابه: الآية محكمة ولكنها في أهل الإسلام جميعا، ولاحظّ لأهل الذمة فيها. انظر تفصيل القول في ذلك في: الناسخ والمنسوخ لأبي عبيد 155 وما بعدها، والأمّ 6/ 127، 128 وأحكام القرآن للشافعي 2/ 145، 146 والناسخ والمنسوخ للنحاس 133 وتفسير القرطبي 6/ 346 وفتح الباري 5/ 412. وانظر كلام المؤلف في مجموع الفتاوى 15/ 299.
(1)
انظر: المغني 9/ 183، 184.
الصحابةُ وجمهورُ التابعين. والذين لم يعملوا بها ليس معهم في خلافِها لا نصٌّ ولا إجماعٌ ولا قياسٌ، وقد تأوّلوها ناجزين
(1)
من غير أصل يُسَلَّم، وقال بعضهم: هي منسوخة، وقال بعضهم: الشهادة اليمين. والأقوال الثلاثة باطلة من وجوهِ كثيرة.
وقول من قال: "لا يجوز شهادة أهل الذمة على المسلمين بحالٍ " ليس معهم بذلك لا نصٌّ ولا قياسٌ، ولكنْ كثير من الناس يَغلَطُون لأنهم يجعلون الخاصَّ من الشارع عامًّا، والله أمرَ بإشهاد المسلمين على المسلمين إذا أمكن، فظَنَّ مَن ظَنَّ أن هذا يقتضي أنه لا يَشْهَدُ غيرُهم ولو لم يُوجَدْ مسلمٌ.
وبابُ الشهاداتِ مَبْنَاها على الفرق بين خالِ القدرة وحالِ العَجْزِ، ولهذا قُبلَتْ شهادةُ النساءِ فيما لا يَطلعُ عليه الرّجالُ. وقد نصنَ أحمدُ على شَهادتهنّ في الجراحِ وغيرِها إذا اجتمعنَ ولم يكن عندهنَّ رجالٌ، مثل اجتماعهنّ في الحمّامات والأعراسِ ونحوِ ذلك. وهذا هو الصواب
(2)
، فإنّه لا نصّ ولا إجماع ولا قياس يمنع شهادةَ النساءِ في مثل ذلك. وليس في الكتاب والسنّة ما يمنع شهادةَ النساء في العقوباتِ مطلقاً
(3)
.
(1)
قراءة ظنية، وفي الأصل رسمت الكلمة بلا نقاط.
(2)
انظر نحو هذا الكلام في مجموع الفتاوى 15/ 299. وراجع المسألة في: المغني 9/ 155، 148 وتفسير القرطبي 3/ 391. 395 وروضة الطالبين 11/ 254 والمدونة 8/ 13 والمحلى 9/ 399.
(3)
انظر الآثار الواردة في شهادة النساء في مصنف عبد الرزاق 8/ 329 وما بعدها.
وأما إذا نَذَرَ ذَبْحَ ولدِه أو نفسِه فأحمد اتبعَ ما ثبتَ عن ابن عباس
(1)
، وهو مقتضى القياس والنص، فإن. كان قادراً كان عليه كَبْش، وإن سلف فيه بمالٍ فعليه كفارة يمين. وهذا أصحُ الروايات عن أحمد
(2)
، وهو الذي يصرح به في مواضع. وقيل: عليه كفارةُ يمينٍ في الجميع. وقيل: كبْش في الجميع
(3)
. وقيل: لاشيء عليه
(4)
. وذلك لأنّ مَن نَذَر نَذْراً فعليه المنذورُ أو بَدَلُه في الشرع، وهنا لما تعذرَ المنذورُ انتقلَ إلى البَدَلِ الشرعي، وهو الكَبْش، كما في نظائرِه، فليس هنا ما يخالف القياس الصحيح
(5)
.
(1)
انظر فيما مضى ص 199، وهناك تخريج الأثر.
(2)
انظر: المغني 8/ 709 وفيه: "هذا قياس المذهب، لأن هذا نذر معصية أو نذر لجاج، وكلاهما يوجب الكفارة، وهو قول ابن عباس ". وقد أخرج عبد الرزاق 8/ 459 والبيهقي في السنن الكبرى 10/ 72 أن امرأة سألته عن إنسان نذر أن ينحر ابنه عند الكعبة، فقال: لا ينحر ابنه وليكفر عن يمينه. وانظر المسألة في تفسير القرطبي 15/ 111، 112.
(3)
هو قول أبي حنيفة، ويروى ذلك عن ابن عباس أيضًا. (المغني 8/ 709).
(4)
هو قول الشافعي، قال: لأنه نذر معصية لا يجب الوفاء به ولا يجوز، ولا تجب به الكفارة. (المغني 8/ 709).
(5)
تكلم المؤلف على هذه المسألة في مجموع الفتاوى 35/ 343 - 345 وذكر اختلاف الفقهاء وحججهم، ورجح ما رجحه هنا أن عليه ذبحَ كبشِ، وقال: هذا هو الذي يناسب الشريعة، وجعل الافتداء بالكبش اتباعا لقصة إبراهيم، وهو الأنسب.
وهذا الباب- بابُ تدبر العموم والخصوص من ألفاظِ الشرع ومعانيه التي هي عِلَلُ الأحكام- هو الأصل الذي تُعْرَف منه شرائع الإسلام. والله أعلم، والحمد لله، وصلى الله على محمد وآله.