الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالأوّل
متى ثبتَ الحكم في بعض الصوَر دون بعضٍ عُلِم أن العلَّة باطلة
، وهذا مثلُ دعوى من يدَعي أن الموجبَ للنفقةِ نفسر الإيلادِ، أو نفسُ الرحم المحرم، أو مطلق الإرثِ بفرضٍ أو تعصيب، ويَقول: إذا اجتمع الجدُّ والجدةُ كانت النفقةُ عليهما. فإنه لمّا ثبت بالنص والإجماع أنه إذا اجتمعَ الأبوانِ كانت النفقةُ على الأب
(1)
، عُلِم أن العَصَبةَ في ذلك يُقدم على غيره، وإن كان وارثاً بفرض، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد. وعُلِم أن قوله (وعلى الوارث مثل ذلك)
(2)
هو الوارث المطلق، وهو العاصب إن كان موجوداً، لأن عُمَرَ جَبَرَ بَني عمَ مَنْفُوسٍ على نفقته
(3)
.
وهذه الآية صريحة في إيجاب نفقةِ الصغير على الوارثِ العاصب، وقال بها جمهور السلف
(4)
. وليس لمن خالفها حُجَّةٌ أصلاً. ولكن ادعَى
(5)
بعضهم أنها منسوخة، وقيل ذلك عن مالك
(6)
. وبعضهم
(1)
سبق الكلام عليه (ص 176).
(2)
سورة البقرة: 233.
(3)
انظر: تفسير القرطبي 18/ 171.
(4)
انظر: تفسير القرطبي 3/ 168، 169.
(5)
في الأصل: "ادعها"(= ادعاها).
(6)
رواه ابن القاسم عنه. قال ابن العري في أحكام القرآن 1/ 205: "هذا كلام تشمئز منه قلوب الغافلين وتَحار فيه ألباب الشادين، والأمر فيه قريب، وجهه أن علماء المتقدمين من الفقهاء والمفسرين كانوا يسمّون التخصيص نسخا، لأنه رفع لبعض ما يتناوله العموم ومسامحة". ونقله القرطبي 1/ 169.
قال: عَلَيْه أن لا يُضَار"
(1)
، فتركُها بدعوى نَسْني أو تأويلِ هو من نوعِ تحريفِ الكلمِ عن مواضعه لغير معارض لها أصلاً مما يَحلَمُ بطلانَه كل من تَدَبَّر ذلك.
وإذا كانت الأمِ أقربَ الناسِ إليه لا نفقةَ عليها مع الأب، وهي تَحُوْزُ الثلثَ معه، فأَنْ لا يَجِبَ على الجدةِ مع الجدّ وهي تَحُوْزُ السدسَ أولى وأقوى.
والقائلون بذلك يقولون: القياس يَقتضي وجوبَ ثلثِها على الأم، لكن تُرِك ذلك للنص.
فيُقَال: أيُّ قياس معكم؟ إنما يكون قياساً لو كان معهم نصّ يتناول هذه الصورة بلفظه أو معناه، وليس معهم ذلك، ولو كان ذلك لكان مجيء هذا النصّ بهذا يُوجبُ إلحاقَ نظائرِه به، فيُقَاسُ كل عاصب معه فرضن أوجبه من وُرَّاثَ الفرض على الأب مع الأمّ.
وكذلك إسلامُ النَّقْدَينِ في الموزونات يَقدحُ في كونِ العلةِ الوزنَ، ولم يثبُتْ ذلك بَيِّن، بل بعلّة مُسْتَنبطة قد عارضَها ما هو
(1)
أي أن الإشارة في قوله تعالى (وَعَلَى الوَارِث مِثلُ ذَلِك) لا ترجع إلى جميع ما تقدم، وإنما ترجع إلى تحريم الإضرار. قال ابن العربي:"هذا هو الأصل، فمن ادّعى أنه يرجع العطف فيه إلى جميع ما تقدم فعليه الدليل، وهو يدّعي على اللغة العربية ما ليس منها". قلت: هذا كلام لا طائل تحته، فسياق الآية يأبي ذلك، وعطف "على الوارث" على "على المولود له
…
" هو الوجه في العربية لا غير، ولذلك جعله المؤلف هنا من نوع تحريف الكلم ومن المعلوم بطلانه لكل من تدبر.
أقوى منها
(1)
، فإن لم يُبّين الفرقُ بين النقدينِ وغيرهما وإلاّ كان انتقاضُها مُبطِلاً لها.
فانتقاضُ العلّةِ يوجبُ بُطلانَها قطعاً إذا لم تَختصَّ صورةُ النقضِ بفرقٍ معنويّ قطعاً، فإن الشارعَ حكيم عادل لا يُفرّقُ بينَ المتماثلين، فلا تكون الصورتَان متماثِلتينِ، ثمَّ يُخالِفُ بين حُكْمَيْهما، بل اختلافُ الحكمينِ دليلٌ على اختلاف الصورتينِ في نفس الأمر. فإن عُلِم أنه فرَّقَ بينهما كان ذلك دليلاً على افتراقهما في نفس الأمر، وإن لم يُعلَم بمجيء الفرقِ. وإن عُلِمَ أنه سَوى بينهما كان ذلك دليلاً على استوائهما. وإن لم يُعلَم هذا ولا هذا لم يَجُز أن يُجمَع ويُسوَّى إلاّ بدليلٍ يقتضي ذلك
(2)
.
وهذا معنى قول إياس بن معاوية: "قِسْ للقَضَاءِ ما استقامَ
(1)
قال المؤلف في مجموع الفتاوى 29/ 471: الأظهر أن العلة في ذلك هو الثمنية لا الوزن كما قاله جمهور العلماء، ومما يدل على ذلك اتفاق العلماء على جواز إسلام النقدين في الموزونات، وهذا بيع موزون بموزون إلى أجل. فلو كانت العلة الوزن لم يجز هذا.
والمنازع يقولْ جواز هذا استحسان. وهو نقيض للعلة. ويقولْ إنه جوز هذا للحاجة مع أن القياس تحريمه. وتخصيص العلة الذي قد سمي استحساناً إن لم يبين دليل شرعي يوجب تعليق الحكم للعلة المذكورة، واختصاص صورة التخصيص بمعنًى يمنع ثبوت الحكم من جهة الشرع والأحاديث، وإلاّ كانت العلة فاسدة.
(2)
انظر كلام المؤلف في معنى القياس الصحيح والقياس الفاسد مع ذكر الأمثلة لهما في: مجموع الفتاوى 19/ 285 - 288.
القياسُ، فإذا فَسَدَ فَاسْتَحْسِنْ"
(1)
. فأمر بمخالفة القياس إذا تغير الأمرُ بحصولِ مفاسِدَ تَمنعُ القياس./
وأحمد قال بالاستحسان لأجْلِ الفارقِ بين صورة الاستحسان وغيرها، وهذا من باب تخصيصِ العلَّةِ للفارقِ المُؤثر، وهذا حق. وأنكرَ الاستحسان إذا خُصتِ العلةُ من غيرِ فارقٍ مؤثّرٍ، ولذا قال:"يَدَعُون القياسَ الذي هو حن عندهم للاستحسان "، وهذا أيضًا هو الاستحسان الذي أنكره الشافعي وغيره، وهو مُنكَرٌ كما أنكروه. فإن هذا الاستحسان وما عُدِل عنه من القياس المخالف له يقتضي فرقاً وجمعاً بين الصورتين بلا دليلٍ شرعي، بل بالرأي الذي لا يَستنِدُ إلى بيان الله ورسوله وأمرِ الله ورسوله، فهو ليس له وضعُ الشرع أبداً، وقد قال تعالى:(أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ)
(2)
.
وذلك أنه إذا كان القياس لم ينص الشارعُ على علّتِه، ولا دل
(1)
قول إياس هذا في أخبار القضاة لوكيع 1/ 341 والعدّة لأبي يعلى 5/ 1606 والتمهيد للكلوذاني 4/ 91. ونقحه في هذه المصادر: "قيسوا للقضاء ما صلح الناس، فإذا فسدوا فاستحسنوا". واياس يُضرب به المثل في الذكاء والفطنة، كان قاضيا على البصرة. توفى سنة 0122 انظر ترجمته في أنساب الأشراف للبلاذري 11/ 337 - 351. وهو الذي عناه أبو تمام عندما قال:
إقدامُ عمرٍ وفي سماحةِ حاتمٍ في حِلْمِ أَحْنَفَ في ذَكَاءِ اياسِ
(2)
سورة الشورى: 21.