الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
وإذا تبيَّن أن الكتاب والميزان مُنْزَلَان، فلا يجوز أن يناقض الكتاب بتناقض الميزان
(1)
، ولا يتناقض الكتابُ والميزانُ، فلا تَتناقَضُ دلالةُ النصوص الصحيحة لا دلالةُ الأقيسة الصحيحة، ولا دلالةُ النص الصحيح والقياس الصحيح، وإنما يكون التناقضُ بين الحق الصحيح واالباطلِ الذي ليس بصحيح، فأما الصحيح الذي كلُه حقّ فلا يتناقض، بل يُصَدِّقُ بعضُه بعضًا. وقد بسطنا هذا المعنى في مواضع
(2)
.
والمقصود هنا أن نقول:
النصوصُ محيطةٌ بجميع أحكام العبادِ
، فقد بيَّن الله تعالى بكتابه وسنة رسوله جميعَ ما أمر الله به وجميعَ ما نهَى عنه، وجميعَ ما أحلَّه وجميعَ ما حرَّمَه، وبهذا أكملَ الدينَ، حيث قال:(اليوم أكملت لكم دينكم)
(3)
. ولكن
قد يَقْصُر فَهْمُ كثيرٍ من الناس عن فَهْمِ ما دلَّت عليه النصوصُ
، والناسُ
(1)
كذا في النسختين. وفي "إعلام الموقعين"(1/ 331): "وكما لا يتناقض الكتاب في نفسه، فالميزان الصحيح لا يتناقض في نفسه". وهو أوضح في الدلالة على المقصود.
(2)
أشرتُ إليها في المقدمة ص 239.
(3)
سورة المائدة: 3.
متفاوتون في الأفهام، ولذلك قال تعالى:(فَفَهَّمنَاها سليمان)
(1)
، ولو كان الفهم متماثلاً لما خصَّ به. وكذلك في كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه في القضاء إلى أبي موسى الأشعري:"الفَهْمَ الفَهْمَ فيما أُدْلِيَ إليك"
(2)
.
وفي الحديث الصحيح
(3)
عن علي رضي الله عنه: "إلاّ فهمًا يُؤتيْهِ اللهُ عبدًا في كتابه". وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه:
(4)
وكان أبو بكر رضي الله عنه أعلَمَنا برسولِ الله صلى الله عليه وسلم. وفي الصحيح
(5)
(1)
سورة الأنبياء: 78.
(2)
كذا في س، ع. وفي عامة المصادر:"فافهم إذا أدلي إليك". أخرجه وكيع في" أخبار القضاة"(1/ 70، 283) والدارقطني في "السنن"(4/ 207) والبيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 65، 10/ 115، 119، 135، 253) وابن حزم في "المحلى"(9/ 393) و"الإحكام في أصول الأحكام"(7/ 146) والخطيب في "الفقيه والمتفقه"(2/ 200) وابن عبد البر في "الاستذكار"(22/ 30) من طرق عن سفيان بن عيينة عن إدريس الأودي قال: أخرج إلينا. سعيد بن أبي بردة كتابًا، فقال:"هذا كتاب عمر إلى أبي موسى. قال الألباني في "الإرواء" (8/ 241): قوله "هذا كتاب عمر" وجادة، وهي وجادة صحيحة من أصح الوجادات، وهي حجة. وصححه أحمد شاكر في تعليقه على "المحلّى" (1/ 60)، وقواه شيخ الإسلام في "منهاج السنة" (6/ 71). وله طرق أخرى ذكرها الألباني وتكلم عليها. وشرحه ابن القيم في "إعلام الموقعين" (1/ 86 إلى 2/ 165).
(3)
أخرجه البخاري (111، 6903، 6915 ومواضع أخرى). ورواه أيضًا أحمد (1/ 79) والدارمي (2361) والنسائي (8/ 23) والترمذي (1412) وابن ماجه (2658).
(4)
أخرجه البخاري (466، 3654، 3904) ومسلم (2382).
(5)
أخرجه بهذا اللفظ أحمد في "مسنده"(1/ 266، 314، 328، 335) عن=
أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لابن عباسٍ رضي الله عنه فقال: "اللهم فَقَهْه في الدين وعَلمْه التأويلَ".
لكن الناس صاروا هنا ثلاثةَ أقسام
(1)
:
(1)
قوم من مُثبِتَةِ القياس قالوا: إن النصوص لا تُحيط بأحكام الحوادث، وغَلَا منهم من قال: ولا بعُشُرِ مِعْشارِ الحوادث
(2)
، وقال بعضهم: إن النصوصَ متناهية، وحَوادث العبادِ غير متناهية، وإحاطة/ [163 أ] المتناهي
(3)
بغير المتناهي ممتنع
(4)
.
وهذا خطأ
(5)
، لأن ما يتناهَى لا يَمتنعُ أن يُجْعَلَ أنواعًا،
= سعيد بن جبير عن ابن عباس. والحديث بنحوه مختصرًا عند البخاري (143 ومواضع أخرى) ومسلم (2477) عن عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس.
(1)
انظر "إعلام الموقعين"(1/ 333).
(2)
قال الجويني في "البرهان"(2/ 768): "إن تسعة أعشار الفتاوى والأقضية صادرة عن الرأى المحض والاستنباط، ولا تعلق لها بالنصوص والظواهر". وانظر ما قاله في (2/ 764، 1166).
(3)
س: "المتناهية".
(4)
قال الشهرستاني في "الملل والنحل"(1/ 199): "تعلم قطعاً ويقينا أن الحوادث والوقائع في العبادات والتصرفات مما لا يقبل الحصر والعدد، ونعلم قطعَا أيضًا أنه لم يرد في كل حادثة نصٌ، ولا يتصور ذلك أيضًا.
والنصوص إذا كانت متناهية، وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى، عُلِم قطعًا أن الاجتهاد والقياس واجب الاعتبار، حتى يكون في كل حادثة اجتهاد".
(5)
انظر "المسودة": 374، و"إعلام الموقعين"(1/ 333)، و"مختصر" ابن اللحام: 151، و"شرح الكوكب المنير"(4/ 224).
فيُحْكَمَ
(1)
لكل نوع منه بحكيم، والأفرادُ التي لا تَتناهى تدخلُ تحت
(2)
تلك الأنواع. هذا إن قُذَر وجودُ ذلك، مع أن أنواعَ الأفعالِ بل والأعراض كلها متناهية، ولو قُذَر أنها لا تتناهى فأفعالُ العباد الموجودة إلى يوم القيامة متناهية. وهذا كما يُجْعَلُ الأقاربُ نوعينِ: نوعَا مباحًا، وهن بناتُ العمَ والعمَّةِ وبنات الخالِ والخالة، وما سوى ذلك حرامٌ. وكذلك يُجعَل ما يَنقُض الوضوءَ محصورًا
(3)
، وما سوى ذلك لا يَنقُض الوضوءَ. وكذلك ما يُفسِد الصومَ محصورًا
(4)
، وما سوى ذلك لا يُفسِدُه، وأمثال ذلك.
وإذا كان
(5)
أهلُ المذاهب جعلوا لهم قواعدَ
(6)
يضبِطون بها ما يَحِلُّ ويَحْرُمُ، فاللهُ ورسولُه أقدرُ على ذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"بُعِثتُ بجوامع الكلمِ"
(7)
، فهو يأتي بالكلمة الجامعة، وهي قاعدة عامةٌ وقضيةَ كلّيةٌ تَجمع أنواعَا وأشخاصَا
(8)
، كقوله لما سُئِل عن أنواع الأشربة كالبِتع والمِزْرِ، وكان قد أُوتيَ جوامعَ
(1)
س: "أنواعه محيطة"، والتصويب من ع.
(2)
س: "تحته"، وهو خطأ.
(3)
في النسختين: "محظورا"، والتصويب من إعلام الموقعين.
(4)
في النسختين: "محظورا" كالسابق.
(5)
س: "ولذلك كانوا"، ع:"ولذلك كان". والتصويب من إعلام الموقعين.
(6)
ع: "لأهل المذاهب جداول لهم وقواعد".
(7)
أخرجه البخاري (2977، 7013، 7273) ومسلم (523) عن أبي هريرة.
(8)
انظر "مجموع الفتاوى"(19/ 280 وما بعدها).
الكلم، فقال:"كل مُسكرِ حرام "
(1)
.
والكتاب والسنة مَلَانُ
(2)
من هذا
(3)
، كقوله تعالى:(إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ)
(4)
، وقوله تعالى:(قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ)
(5)
، وقوله تعالى:(وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا)
(6)
، إلى غير ذلك من النصوص.
(2)
وقومٌ من نُفاةِ القياس نَفَوا القياسَ الجليَّ الظاهر، حتّى فَرَّقوا بين المتماثلين، وزعموا أنّ الشارعَ لم يَشرع شيئَا لحكمةِ أصلَا، ونَفَوا تعليلَ خلقِه وأمرِه، فقالوا: إنه لا يَخلُق ولا يأمُر لحكمة ولا لنفعِ عبادِه.
وهذا الأصل وإن كان قد قاله طائفةٌ من أهل الكلام المنتسبين إلى السنة في إثبات القدر، وخالفوا القدريةَ في إثبات القدر، فهم وإن أصابوا في إثبات القدر، وبَينُوا تناقضَ المعتزلة النفاةِ للقدر، فقد رَدُّوا أيضًا من الحق المعلوم بالشرع والعقل ما
(7)
صاروا به
(1)
أخرجه البخاري (4343، 4344 ومواضع أخرى) ومسلم (1733 وبعد رقم 2001) عن أبي موسى الأشعري.
(2)
كذا في س، ع. ولعله "مليئان".
(3)
انظر أمثلة من هذا في "مجموع الفتاوى"(19/ 281 - 285، 34/ 207 - 209) و"إعلام الموقعين"(1/ 333 - 335).
(4)
سورة المائدة: 90.
(5)
سورة التحريم: 2.
(6)
سورة الشورى: 2.
(7)
س: "مما".
ممن رَدَّ بدعةً ببدعةٍ، وقابلوا الفاسدَ بالفاسدِ، فإنهم أنكروا حكمةَ الله تعالى في خلقه وأمره، وأنكروا رحمتَه في خلقه وأمره.
وأصلُ قَولهم هو قولُ جهم بن صفوان ومن وافقه على قوله في القدر، كما قد بُسِط الكلام عليهم في غير هذا الموضع
(1)
، فإنّ القدريةَ من المعتزلة ونحوهم والجهمية الجبرية تناقضوا في هذا الباب تناقضًا بيِّنًا، والسنّة وَسَط، ليست مع هؤلاء ولا مع هؤلاء.
وهؤلاء صاروا في القياس نوعين:
قوم
(2)
اقروا به، كالأشعري وأتباعه ومن وافقهم من الفقهاء، وقالوا: إن عِلَلَ الشرع إنما هي مجرد
(3)
أماراتٍ محضة وعلاماتٍ، كما قالوا ذلك في سائَر الأسباب، فقالوا: إنّ الدعاء إنما هو علامة محضة، والأعمال الصالحة إنما هي علامات، وكذلك سائر ما وجدوه من
(4)
الخلق والأمر مقترنًا بعضُه ببعضٍ، قالوا: أحدهما دليل على الآخر لمجرد الاقترانِ والعادةِ الموجودةِ في خَلْقِه وأمرِه، لا
(5)
لأنّ أحدهما سبب للآخر، ولا علة له ولا حكمة، ولا له فيه تأثير بوجهٍ من الوجوه
(6)
.
(1)
انظر "مجموع الفتاوى"(8/ 466 وما بعدها، 16/ 130 - 133).
(2)
س: "قوما".
(3)
س: "مجردات".
(4)
في النسختين: "في"، والتصويب من إعلام الموقعين (1/ 336).
(5)
"لا" ساقطة من س.
(6)
انظر "مجموع الفتاوى"(8/ 485 - 486).
وأما الفقهاء المعتبرون وسلفُ الأمة وأئمتُها وجمهورُها وجمهورُ متكلميها فعلى خلاف [هذا]
(1)
القولِ، وإثباتِ الحكمة والرحمة في خلقِه وأمرِه، وإثباتِ لامِ كَيْ في خلقِه وأمرِه، كما دَلَّ على ذلك الكتابُ والسنةُ مع المعقول الصريح، فاتفق على ذلك الكتابُ والميزانُ والسلفُ والفقهاءُ. وجمهورُ الأئمة وأكثرُ طوائفِ الكلام يُنكِرون
(2)
قولَ المعتزلة المكذبين بالقدر، وقولَ هؤلاء الجهمية المكذبين بالحكمة والرحمة، فلا يقولون بقول القدرية ولا قول الجهمية.
وعامةُ البدع الحادثة بالمعقول الفاسد
(3)
في أصول الدين هي من قول هاتين الطائفتين: الجهمية والقدرية، فالجهمية هم رءوس الجبرية الذين أنكروا حكمتَه ورحمتَه، والقدرية أنكروا قدرتَه ومشيئتَه، فأولئك أثبتوا له نوعَا من الملك بلا حَمْدِ، وهؤلاء أثبتوا له [نوعًا]
(4)
من الحمد بلا ملك. والصوابُ ما عليه سلفُ الأمة وأئمتها وأهلُ السنة والجماعة: أنه سبحانه/ [163 ب] له الملك وله الحمد، بل له كمالُ الملك وله كمالُ الحمد.
وكلتا
(5)
الطائفتين ناظرتِ الفلاسفةَ الدهريةَ في خَلْقِ الرب
(1)
زيادة على النسختين ليستقيم السياق.
(2)
س، ع:"منكرون".
(3)
ع: "بالعقول الفاسدة".
(4)
الزيادة من "إعلام الموقعين"(1/ 336).
(5)
س: "كلا".