الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لفظ الشرعِ على عمومِ المعنى فيه، ولكن رأى الرائي ذلك لمناسبةٍ أو لمشابهةٍ ظنها مناطَ الحكم، ثمَّ خصَّ من ذلك المعنى صوراً بنص يعارضه كان معذوراً فِي عمله بالنصّ. لكن مجيء النصِّ بخلاف تلك العلة في بعض الصور دليل على أنها ليستْ علّةً تامة قطعاً، فإنّ العلةَ التّامّةَ لا تَقبلُ الانتقاضَ. فإن لم يعلم أن مورد النص مختصّ بمعنًى يوجبُ الفرقَ لم يَطمئنَّ قلبُه إلى أنّ ذلك المعنى هو العلَّةُ، بل يجوز أن تكونَ العلةُ معنًى آخرَ، أو أن يكون ذلك المعنى بعضَ العلَّةِ، وحينئذٍ
(1)
فلا يفترقُ الحكم من جميعِ مواردِ ما ظنَّهُ علةً.
وإن كان مورد الاستحسان هو أيضًا معنًى ظنه مناسباً أو مشابهاً فإنّه يَحْتاجُ حينئذٍ إلى أن يثبت ذلك بالأدلَّةِ الدالةِ على تأثير ذلك الوصفِ، فلا يكون قد تركَ القياسَ إلاّ لقياسٍ أقوَى منه، لاختصاصِ صورة الاستحسان بما يوجب الفرقَ بينها وبين غيرها، فلا يكون حينئذٍ لنا استحسان يخرجُ عن نصٍّ أو قياسٍ.
وهذا هو الذي أنكره الشافعي وأحمد وغيرهما في الاستحسان، وما قال به فإنما هو عُدول عن أنه قياس، لاختصاص تلك الصورة بما يوجب الفرقَ. وحينئذٍ ف
لا يكون الاستحسان الصحيح عدولاً عن قياس صحيح، والقياس الصحيح لايجوز العدول عنه بحالٍ
.
وهذا هو الصواب، كما قد بسطناهُ في مصنَّفٍ مفردٍ، بمناسبة
(1)
تكررت هذه الكلمة في الأصل.
أنه ليس في الشرع شيء بخلاف القياس الصحيح أصلاً
(1)
. وعلى هذا فصُوَرُ الاستحسان المعدولِ بها عن سَنَنِ القياس يُقاسُ عليها عند أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم إذا عُرِف المعنى الذي لأجله ثبتَ الحكم فيها.
وذكروا عن أصحاب أبي حنيفةَ أنه لا يُقاس عليها
(2)
، وهو من جنس تخصيصِ العلَّة والاستحسان، فإنّ مَن جوَّز التخصيص والاستحسان من غير فارقٍ معنوي قال: المعدولُ به عن سَنَنِ القياس لا يجب أن يكون لفارقٍ معنوي، فلا يُقاسُ عليه، لأنَّ من شرطِ القياس وجودَ العلَّةِ وتفرِيْقَها. ومن قاسَ قال: بل لا يكون إلاّ لفارقٍ،/فإذا عَرفناهُ قِسْنَا.
قال القاضي
(3)
وغيره: مسألة: المخصوصُ من جملة القياسِ
(1)
يشير المؤلف هنا إلى "رسالة في معنى القياس"، وقد نشرت في مجموعة الرسائل الكبرى بالقاهرة 1323، ثم في مجموعة بعنوان "القياس في الشرع الإسلامي" بالقاهرة 1346، ثم في "مجموع الفتاوى"(الرياض) 20/ 504 - 584. وعنوانها كما في العقود الدرية (ص 45، ط. القاهرة 1356): "قاعدة في تقرير القياس في مسائل عدة، والرد على من يقول: هي على خلاف القياس". وقد نقل ابن القيم في إعلام الموقعين 1/ 383 - 401 ثم 2/ 3 - 38 معظم هذه الرسالة مع التعليق عليها في مواضع، وأفاد بأنه هو الذي سال شيخ الإسلام في هذا الموضوع، فأجاب عليه بهذه الرسالة.
(2)
انظر نحوه في مجموع الفتاوى 20/ 555، 556 حيث ذكر المذهبين، وبين وجهة نظر الجمهور.
(3)
في العدّة 4/ 1397 - 1401. وانظر: التمهيد 3/ 444 - 449=
يُقاسُ عليه ويُقاسُ على غيره، أمّا القياس عليه فإن أحمد قال في رواية ابن منصور
(1)
: "إذا نَذَرَ أن يذبحَ نفسَه يَفْدِيْ نفسَه بذبحِ كَبْش"، فقَاسَ مَن نَذَر ذَبْحَ نفسِه على مَن نَذَرَ ذَبْحَ وَلَدِه، وإن كان ذلك مخصوصا من جملة القياس. وإنما ثبتَ بقولِ ابن عباس
(2)
.
وأما قياسُه على غيرِه فإن أحمدَ قال في رواية المزُوذي: يجوز شِرَى أرضِ السوادِ، ولا يجوز بيعُها، فقيل: كيفَ تُشتَرَى ممن لا يَمْلِكُ؟ فقال: القياس كما تقول، ولكن هذا استحسان. واحتج بأن الصحابةَ رخصوا في شِرَى المصاحفِ دونَ بَيْعِها. وهذا يُشْبِه ذاك.
قال: فقد قاسَ مخصوصا من جملة القياس على مخصوص من جملة القياس. وبهذا قال الشافعي.
وقال أصحابُ أبي حنيفة: لا يُقاسُ
(3)
على غيره ولا يُقاس [غيرُه]
(4)
عليه، إلاّ أن تكون عِلتُه منصوصة أو مُجْمَعاَ على جواز القياس عليه
(5)
.
= والواضح 1/ 145 أ.
(1)
هو إسحاق بن منصور الكَوْسَج.
(2)
أخرج عبد الرزاق في المصنف 8/ 460 والبيهقي في السنن الكبرى 15/ 73 عن ابن عباس أنه أمر من نذر ذبح ولده بذبح كبشٍ. وانظر: المحلى 8/ 354 والمغني 8/ 709 وتفسير القرطبي 15/ 107، 111.
(3)
أي المخصوص من جملة القياس، كما في العدّة.
(4)
الزيادة من العدّة ليستقيم السياق.
(5)
هذا رأي الكرخي منهم، وهناك آراء أخرى لهم مذكورة في كتب الأصول، انظر: أصول السرخسي 2/ 153 وكشف الأسرار 3/ 312=
فالمنصوصُ كقوله: "إنها من الطوافِينَ عليكم والطوافاتِ "
(1)
. والمجمعُ عليه كالتحالف في الإجارة قياساً على التحالف في البيع، لاتفاقِ مَن أوجبَ التحالفَ في البيع أن حكمهما سواء
(2)
. والممنوع مثل قياس الجنازةِ على الصلاةِ في الإسقاطِ بالقهقهة
(3)
، وإسقاط الكفارة في الاستقاءة لا يقاس عليه الأكل
(4)
، والوضوء بنبيذِ التَمرِ لا يُقاسُ عليه غيرُه من الأنبذةِ، وجواز البناء على صلاته إذا أحدث لا يقاس عليه من أَمْنَى بالاحتلام ونحوه
(5)
.
واحتجّ أصحاب الشافعي وأحمد بحُجَج، وهذا لفظ القاضي أبي يعلى، قال
(6)
: وأيضاً فإنَّا إذا قِسْنَا على المخصوص، أو
(7)
قِسْنَا
= وشرح مسلم الثبوت 2/ 251.
(1)
أخرجه مالك في الموطأ 1/ 23، ومن طريقه: أحمد 5/ 303 وأبو داود (75) والترمذي (92) والنسائي 1/ 55 وابن ماجه (367) من حديث أبي قتادة. قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه ابن خزيمة (154) وابن حبان (121 - موارد) والحاكم في المستدرك 1/ 159، 160.
(2)
انظر: أصول الجصاص 122 والتمهيد 3/ 555.
(3)
انظر: أصول السرخسي 2/ 153.
(4)
انظر: فتح القدير لابن الهمام 1/ 335 وحاشية ابن عابدين 2/ 414.
(5)
انظر: أصول الجصاص 120 وفتح القدير 1/ 377. وهذا كله كلام القاضي أبي يعلى في العدّة.
(6)
العدة 4/ 1402.
(7)
كذا في الأصل بزيادة "أو"، ولا توجد في العدة.
المخصوصَ على غيرِه، وحملنا النبيذَ على غيرِه من المائعات، والقَهقهةَ على الكلام، فإن مخالفَنا يعترف بصحة القياس، وأنّه يجب حملُ النبيذِ على غيرِه من المائعاتِ والقهقهة على الكلام، ويدَعي أنه استَحسنَ تركَه لما هو أولى منه
(1)
.
قالوا: وهذا غير صحيح لوجهين:
أحدهما: أنه يلزمُه أن يُبين الأولى، وإلاّ حكمُ القياسِ متوجهٌ عليه. وهذا كما لو قال: القرآنُ يدكُ على كذا، ولكن تركتُه للسنةِ، فتكون حُجةُ القرآنِ لازمةَ له ما لم يُبين السنةَ التي هي أقوى من القرآن، ولا يكفي في ذلك مجردُ الدعوى.
والثاني: أنه يدَعي أنَ الاستحسانَ أقوى من القياسِ، فلهذا تركه. والقياسُ إذا عارضه دليل أقوى منه كان القياس باطلاً، ولم يكن له حكم. كما لو عارضَه نمنُ كتاب أو سنَّةِ أو إجماع. ولمّا حُكِم بصحة القياس هاهنا امتنع أن يكون مَا عارضَه أقوى منه ومانعاً من استعماله
(2)
.
قلت: مضمونُ هذا إبطالُ أن يكون هذا مخصوصاً من جملة القياس، وقياسه على سائر الصور، وهذا إبطال للاستحسان، وهذا يقتضي أن الاستحسانَ إذا خالفَ القياسَ لَزِمَ بُطلانُ الاستحسانِ إن كان القياس صحيحاً، أو بطلانُ القياس إن كان الاستحسان المعارِضُ
(1)
انظر: أصول الجصاص 120 وأصول السرخسي 2/ 153.
(2)
هنا ينتهي كلام أبي يعلى.
له صحيحاً. وهذا لا يتوجهُ فيمن يقول بالاستحسان، وجَعلَ معارضةَ الاستحسانِ للعفَةِ كمعارضتِه لحكمها، وهذا قولُ نُفاةِ الاستحسان مطلقاً.
والتحقيقُ في ذلك أنه إذا تعارضَ القياسُ والاستحسان فإن لم يكن بينهما فرقٌ، وإلاّ لَزِمَ بطلانُ أحدِهما، وهو مسألةُ تخصيصِ العلَّة بعَشها. فإن لم يكن بين الصورة المخصوصة وغيرِها فرقٌ لَزِمَ التسوية، وحينئذ فإمَّا أن تكون العلَّةُ باطلةً، وإمّا أن يكون تخصيصُ تلك الصورةِ باطلاً.
وهذا هو الصواب في هذا كُفَه، وهو الذي يُنكرِه الشافعي وأحمد وغيرهما على القائلين بالقياس والاستحسان الذي يخالفه، فإنَّهم لا يأتون بفرقٍ مؤثّرٍ بينهما، كما لم يأتوا بفَرْقٍ مؤثّرٍ بين نبيذِ التَّمر وغيرِه من المائعاتِ، ولا بين القهقهة في الصلاة التي فيها ركوع وسجود وبين صلاة الجنازة وغيرهما مما يشترطون فيه الطهارة./
وذكروا أدلةً أخرى جيّدة، كقولهم- واللفظ للقاضي
(1)
-:
وأيضاً فإن ما وردَ به الأثَرُ قد صارَ أصلًا بنفسِه، فوجبَ القياسُ عليه كسائر الأصول
(2)
. وليس ردِّ هذا الأصلِ لمخالفةِ تلك الأصولِ له بأولَى من رَذَ تلك الأصول لمخالفةِ هذا الأصل، فوجبَ إعمالُ كلِّ
(1)
في العدة 4/ 1403.
(2)
انظر إعلام الموقعين 2/ 311 حيث قرره ابن القيم ونقل فيه عن شيخ الإسلام. وحاول الحنفية الجواب عنه. انظر: أصول الجصاص 123.
واحدٍ منهما في مقتضاه، وإجراؤُه على عمومِه. وأيضا فإنّ القياسَ يَجرِي مَجْرَى خبرِ الواحدِ، بدليلِ أن كلَّ واحدٍ منهما يثبُتُ بغالب الظن. ثمَ ثبتَ أنه يَصِحُّ أن يَرِدَ مخالفاً لقياسِ الأصولِ، كذلك اَلقياسُ مثلُه
(1)
.
قلتُ: ومن هذا الباب جمعُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الصلاةَ بعرفةَ ومزدلفةَ
(2)
، لو لم يَرِدْ به نصّ في أسفارٍ أُخَر. وأمّا قَصْرُه الصلاةَ بعرفَةَ بأهلِ مكَّةَ وغيرِهم فليسَ مخالفاً لعادتِه، فإنّه مازالَ يَقْصُر في السفَر، بل هو بيان استواء السَّفَر الطويل والقصير في ذلك
(3)
. فأمَّا منعُ قَصْرِ المكّيّين فهو مخالفٌ للسنة الثابتةِ بلا ريب
(4)
. وإنما خالفَ ذلك مَن
(1)
هنا انتهى كلام أبي يعلى.
(2)
ورد ذكر الجمع بهما في حديث جابر الطويل الذي أخرجه مسلم (1218) وغيره، وورد ذكر الجمع بعرفة في حديث ابن عمر عند البخاري (1662)، والجمع بمزدلفة في حديث أبي أيوب الأنصاري عند البخاري (1674) ومسلم (1287) وحديث أسامة بن زيد عند البخاري (1672) ومسلم (1280) وحديث ابن عمر عند البخاري (1673).
(3)
هذا ما قرّره المؤلف في مواضع أخرى من كتبه وفتاواه (انظر: مجموع الفتاوى 24/ 34 - 35، 12 - 13، 15)، وذكره العلماء من اختياراته. (العقود الدرية 212 وذيل طبقات الحنابلة 2/ 405).
(4)
قال المؤلف في منسكه (مجموع الفتاوى 26/ 130): "ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤُه أحداً من أهل مكة أن يتموا الصلاة، ولا قالوا لهم بعرفة ومزدلفة ومنى: أتمّوا صلاتكم فإنا قوم سفر. ومن حكى ذلك عنهم فقد أخطأ". ونحوه في مجموع الفتاوى 24/ 10، 11 و 20/ 361، 362.
غَفَل عن هذه السنة. وأمّا قَصْر غير المكيين فلأنَ القصرَ ليسَ من خصائص الحج ولا متعلقاً به. وإنما هو متعلق بالسفَر طَرداً وعَكْساً.
وكلامهم في هذه المسألة تقتضيْ أن ما قيل فيه إنَه خالفَ القياسَ في صور الاستحسان فلا بد أن يكون قياسُه فاسداً، أو أن يكون تخصيصُه بالاستحسانِ فاسداً، إذا لم يكن هناك فَرْق مُؤثر. وهذا هو الصواب في هذا الباب.
قالوا
(1)
: واحتجَّ المخالفُ بأن إثباتَ الشيء لا يَصحُّ مع وجودِ ما يُنافِيْه، فلما كان القياسُ مانعاً مما وردَ به الأثرُ لم يَجُزْ لنا استعمالُ القياسِ فيه، لأنه لو جازَ ذلك لم يكن فرق بينه وبين سائر الأصولِ التي يُمنَع قياسُها منه. فكانَ يَخرجُ حينئذٍ من كوبه مخصوصاً من جملةِ القياسِ.
قالوا: والجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أنّا لا نُسلمُ أن هاهنا ما يُنافِيْه، لأنّ المنافاةَ تكون بدليلٍ خاص، وما يذكرونه في هذه المسائل ليس بدليل خاص لما نذكره من التأويل.
والثاني: أن المنافاةَ إنّما تَحصُلُ بقياسِه على غيرِه في إسقاطِ حكم النص، فأمّا قياسُ غيرِه عليه فلا يُنَافيْه، لأنه لا يُسْقِطُ حُكْمَ النصِّ عندهم، فيصح القياسُ عليه
(2)
.
(1)
الكلام لأبي يعلى في العدّة 4/ 1408.
(2)
انتهى كلام أبي يعلى.