الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قاعدة في شمول النصوص للأحكام
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فإن مباحث القياس لم تُحرَّر على طريقة فقهاء أهل الحديث في كتب الأصول التي وصلتنا، وأكثرها على منهج المتكلمين وأهل الرأي الذين لم يُنصِفوا أهلَ الحديث في الغالب، ونسبوا إليهم ما لا يقولون به، وعدُّوهم مثل الظاهرية مخالفين للقياس. ونحن نعرف أن الظاهرية أنكروا القياس وحجيته والحاجة إليه، وسَدوا على أنفسهم باب التمثيل والتعليل واعتبار الحِكَم والمصالح، فاحتاجوا إلى توسعة الظاهر والاستصحاب، وحمَّلوهما فوق الحاجة، ووسَّعوهما أكثر مما يسعانِه، فحيث فهموا من النص حكمًا أثبتوه، وحيث لم يفهموه منه نفوه وحملوه على الاستصحاب. فهم وإن أحسنوا في اعتنائهم بالنصوص وعدم تقديم غيرها عليها من رأي أو قياس أو تقليد، وأحسنوا في رد الأقيسة الباطلة وبيانِهم تناقضَ أهلها واضطرابهم في القياس تأصيلاً وتفصيلا، وذِكْرِ أمثلةِ من تفريقهم بين المتماثلين وجمعِهم بين المختلفين- إلاّ أنهم أخطأوا من وجوه عديدة:
منها: رد القياس الصحيح، ولا سيما المنصوص على علته
التي يجري النصّ عليها مجرى التنصيص على التعميم باللفظ.
ومنها: تقصيرهم في فهم النصوص، فكم من حكيم دلَّ عليه النصُّ ولم يفهموا دلالتَه عليه، وسبب هذا الخطأ حَصْرهم الدلالةَ في مجرد ظاهر اللفظ دون إيمائه وتنبيهه وإشارته وعُرْفِه عند المخاطبين.
ومنها: تحميل الاستصحاب فوق ما يستحقّه، وجَزْمُهم بموجبه، لعدم علمهم بالناقل. وليس عدم العلم علمًا بالعدم.
أما أصحاب الرأي والقياس فلم يعتنوا بالنصوص كما ينبغي، ولم يعتقدوها وافيةً بالأحكام ولا شاملةً لها، حتى قال بعضهم: إن النصوص لا تَفي بعُشُر معشار أحكام العباد، فالحاجة إلى القياس فوق الحاجة إلى النصوص، وقالوا: إن النصوص متناهية وحوادث العباد غير متناهية، وإحاطة المتناهي بغير المتناهي ممتنع. فوسَّعوا طرق الرأي والقياس، وعلَّقوا الأحكام بأوصافٍ لا يُعلَم أن الشارع علَّقها بها، واستنبطوا عللاً لا يُعلَم أن الشارم شرع الأحكام لأجلها. ثمّ اضطرهم ذلك إلى أن عارضوا بين كثير من النصوص والقياس؟ ثمَّ اضطربوا فتارةً يقدمون القياس، وتارةً يقدمون النصّ، وتارةً يفرقون بين النصّ المشهور وغير المشهور، واضطرهم ذلك أيضًا إلى أن اعتقدوا في كثير من الأحكام أنها شرِعت على خلاف القياس. فكان خطؤهم من وجوه:
أحدها: ظنُّهم قصور النصوص عن بيان جميع الحوادث.
الثاني: معارضة كثير من النصوص بالرأي والقياس.
الثالث: اعتقادهم في كثير من أحكام الشريعة أنها على خلاف القياس، وادعوا فيها الاستحسان، فظنوا أن الاستحسان خلاف القياس.
الرابع: اعتبارهم عللاً وأوصافًا لم يعلم اعتبار الشارع لها، وإلغاؤهم عللاً وأوصافا اعتبرها الشارع.
الخامس: تناقضهم في نفس القياس، ففرقوا- كثيرًا- بين المتماثلين وجمعوا بين المختلفين.
والصواب الذي عليه أئمة السنة والحديث أن الله تعالى قد أنزل الكتاب والميزان، فكلاهما في الإنزال أخوان، وفي معرفة الأحكام شقيقان، فلا تتناقض دلالة النصوص الصحيحة، ولا دلالة الأقيسة الصحيحة، ولا دلالة النص الصريح والقياس الصحيح، بل كلها متعاضدة متناصرة يُصدِّق بعضها بعضا، ويشهد بعضُها لبعض.
والنصوص محيطة بأحكام الحوادث، ولم يُحِلْنا الله ورسوله على
الرأي، بل قد بيَّن الأحكام كلها، والنصوص كافية وافيةٌ بها، والقياس الصحيح حق مطابق للنصوص، فهما دليلان: الكتاب والميزان. وقد تخفى دلالةُ النصّ أو لا تبلغُ العالمَ فيعدِل إلى القياس، ثمّ قد يظهر موافقًا للنص فيكون قياسًا صحيحًا، وقد يظهر مخالفًا له فيكون فاسدًا.
هذا المذهب الثالث- الذي هو مذهب فقهاء أهل الحديث-
وسَط بين الظاهرية وأهل الرأي كما نرى، ولكنا لا نجد من الأصوليين مَن نَصَره عند كلامه على القياس، حتى جاء شيخ الإسلام ابن تيمية فتكلم عليه وقرره في مواضع من رسائله وكتاباته، وأهمُّها هذه القاعدة التي ننشرها الآن. وتبعه تلميذه العلامة ابن القيم في "إعلام الموقعين"(1/ 350 - 383)، فنقل معظم مباحث هذه القاعدة بلفظها أو بمعناها، مع زيادة التوضيح والشرح بأسلوبه المعروف.
وهو وإن لم يذكر شيخه في هذا الموضع، فقد أشار إليه عند الكلام على أنه ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس (1/ 383).
وهذه القاعدة أحد الفصول الثلاثة التي يقول ابن القيم فيها إنها "من أهم فصول الكتاب"(1/ 355)، فلا نستغرب أن يقتبسها من شيخه، على طريقته في الاستفادة من كتبه، كما يظهر ذلك لكلّ من يقرأ كلام الشيخين في موضوع واحد.
والكتاب مقسم إلى قسمين: في القسم الأول منهما تأصيل لقاعدة شمول النصوص للأحكام وموافقتها للقياس الصحيح. وفي الثاني تطبيق لها على أحكام الفرائض، فإنها من أشكل الأشياء، والنصوص الواردة فيها قليلة محصورة، ومع ذلك شملت جميع الأحكام التي نحتاج إليها، فهذا من أظهر الأدلة على صحة القاعدة المذكورة.
وقد أُفرِد القسم الثاني- لأهميته- في بعض النسخ، كما سيأتي ذكرُها فيما بعد، وذكره ابن رشيق
(1)
بعنوان "شمول النصوص في
(1)
"أسماء مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية": 247 (ضمن "الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية").