الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29))
(1)
. ونظائر هذا كثير.
فمن عَدَل عن سبيل المرسلين، فلم يتُابِعْهم ويُطِعْ أمرَهم ونهيَهم قَطَعَ ما بينَه وبينَ الله، فصارَ مشركًا بالله يدعو غيرَ الله، إمّا الملائكة وإمّا الكواكب وإمّا الجنّ، وإمّا البشر كالأنبياء والصالحين، وإما صُوَرَ هؤلاء وتماثيلهم، وإمّا ما يظنُّه موجودًا من هؤلاء. ويتخيلُ في هؤلاء من صفات الإلهية ما لا حقيقةَ له، ويثبت الوسائطَ في خلق الله وربوبيته، ويَجعلُ له شُرَكاءَ وشُفَعاءَ بغير إذنه، وهو سبحانه كما قال:(ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ)
(2)
،/وقال تعالى:(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِير (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ
(3)
.
والناس في الشفاعة على طرفين ووسط
(4)
:
فالمشركون والنصارى ونحوهم أثبتوا شُفَعَاءَ لهم بدون إذنِه، وهذه الشفاعة التي نفاها الله في كتابه، فقال تعالى:(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ
(1)
سورة الفرقان: 27 - 29.
(2)
سورة البقرة: 255.
(3)
سورة سبا: 22 - 23.
(4)
انظر كلام المؤلف في "مجموع الفتاوى"(1/ 148 - 151، 116 - 120، 313 - 314).
الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا (44)
(1)
. وقال تعالى: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94))
(2)
.
وقال تعالى: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18))
(3)
. وقال تعالى: (مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ)
(4)
. وقال تعالى: (قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ)
(5)
. وقال تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ)
(6)
.
/وأما الخوارج والمعتزلة الذين أنكروا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته، فنَفَوا الشفاعةَ بإذنِ الله وبغير إذنه، وهؤلاء ضُلَاّل، وإن كان ضلالُ الأولين أعظم، إذ ذلك الضلالُ شِرك بالله، وهذا من البدع المحدثة في الإسلام. ومع هذا فقد صار كثير من المتأخرين المنتسبين إلى العمل والعبادة، يثبتُ نوعًا من هذه الشفاعة التي أثبتها المشركون والنصارى، فصاَروا أسوأَ حالاً من الخوارج والمعتزلة من هذه الجهة، كما أن هؤلاء ونحوهم
(1)
سورة الزمر: 43 - 44.
(2)
سورة الأنعام: 94.
(3)
سورة يونس: 18.
(4)
سورة السجدة: 4.
(5)
سورة البقرة: 254.
(6)
سورة البقرة: 48.
يثبِتون القدر الذي نفته المعتزلة ونحوُهم من القدرية، فتكون بذلك خيرًا منهم، لكنهم قد يحتجون به على الشرع، بل قد يلاحظونه، ويُعرِضون عن الأمر والنهي، ويجعلونه الحقيقةَ التي تَدفَع مقتضى الشريعة، وهي الحقيقة الكونية، فيصيرون بذلك مُضاهِين للمشركين الذين قالوا:(لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْء)
(1)
.
ومعلوم أن هؤلاء المشركين شرٌّ ممن جَحَد القدرَ من المعتزلة ونحوهم، فهؤلاء الذين يدفعون الأمر والنهي الشرعيَّيْنِ ناظرينَ إلى الحقيقة الكونية، ويثبتون الشفاعةَ التي أثبتها المشركون والنصارى، شر من الخوارج والمَعتزلة من هذا الوجه ومن هذا الوجه،/ فإنهم جمعوا بين الإشراك والبدع في العبادات وبين الاحتجاج بالقدر.
وهذا حال المشركين الذين ذمَّهم الله في كتابه، فإنهم كانوا تارةً يعبدون غيرَ الله، وتارةً يزعمون عبادةً لم يشرعها، ويُحرّمون ما أحلّه، وتارةً يحتجون بالقدر. وقد ذكر الله عنهم في سورة الأنعام والأعراف وغيرهما ما فيه عبرة للمعتبرين، فإنه سبحانه قرَّر في سورة الأنعام توحيدَه وعبادتَه وحدَه لا شريكَ له، وأنه هو الذي يُدعَى عند الشدائد، وهو الذي يَكشف الضرّ ويُنزِل الرحمة، كقوله تعالى:(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)
(2)
. وقوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ
(1)
سورة الأنعام: 148.
(2)
سورة الأنعام: 40 - 41.
(وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46))
(1)
. وقوله تعالى: (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52))
(2)
.
وهذه الآية عامَّةٌ في كل من أرادَ الله بعمله. ودعاؤهم بالغداة والعشي يتناول من صلّى صلاةَ الفجر وصلاةَ الظهر والعصر، وليست هذه الآية مختصة بأهل الصفة ولا نزلت فيهم، فإن هذه الآية نزلت بمكة
(3)
.
/وِكذلك الآية الأخرى التي في سورة الكهف: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28))
(4)
. فإن سورة الكهف مكية أيضًا باتفاق العلماء، والصُّفَّةُ إنما كانت بالمدينة، لم تكن بمكة، ولكن طلبَ
(1)
سورة الأنعام: 46.
(2)
سورة الأنعام: 51 - 52.
(3)
أخرج أحمد في "مسنده"(1/ 420) عن ابن مسعود قال: مرَّ الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده خباب وصهيب وبلال وعمّار، فقالوا: يا محمد! أرضيتَ بهؤلاء؟ فنزل فيهم القرآن
…
، وقد ذكر ابن كثير (3/ 260) أنها مكية لا يمكن نزولها في أهل الصفة. وراجع تفسير الطبري (11/ 376) بتحقيق الشيخ محمود شاكر.
(4)
سورة الكهف: 28.
قومٌ من رؤساءِ المشركين من النبي صلى الله عليه وسلم أن يَطْرُد المؤمنين الضعفاءَ والفقراءَ عنه، فأنزل الله هذه الآية
(1)
، يأمره فيها بأن لا يَطْرُدَ أحدَا لأجل ضعفِه أو فقرِه إذا كان مؤمنًا يُرِيد وجهَ الله، فإنّ الناسَ إنما يُقَرَبُهم إلى الله الإيمانُ والتقوى، لا عِبْرةَ بالغنى ولا بالفَقر.
وقد ذكرَ سبحانَه ما يُناسِبُ هذه الآيات في سورةِ الأنعام إلى قوله: (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64))
(2)
.
ثمَّ إنه سبحانَه قرَّر في السورة بعد التوحيدِ الرسالةَ والكتابَ المنزل، وذَكَرَ ما ذَكَره من رُسُلِه صلواتُ الله عليهم، وذَكَرَ المعادَ والثوابَ والعقابَ، ثمَّ إنه خَتَمَ السورةَ بذمِّ حالِ المشركين وما حرَّموه وما شَرَعُوه من الدين الذي لم يأذن به الله، فقال:(أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ)
(3)
إلى قوله تعالى: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ
(1)
أخرجه مسلم (2413) من حديث سعد بن أبي وقاص. والَاية مكية لا يمكن نزولها في أهل الصفة.
(2)
سورة الأنعام: 63 - 64.
(3)
هذا جزء من الآية 21 من سورة الشورى، ولعل المؤلف يَقصد هنا الآية 138 من سورة الأنعام:(وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)). فإن الآية التي ذكرها فيما بعد من سورة الأنعام، وهذه السورة هي التي يدور الكلام عليها هنا.
كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُون (148))
(1)
.
فأخبر عن المشركين أنهم احتجوا فيما شرعوه من الدين
وحرموه من الأشياء بالقدر، فقالوا:(لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ). قال تعالى: (كذلك كذب الذين من قبلهم) أي كذبوا بأمرِ الله ونهيه وخَبَره الذي بعثَ به رُسُلَه، فإن هذا تكذيبٌ منهم للشرع محتجينَ عليه بَالقدر.
ثم قال: (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148))، فبيَّن أن الاحتجاجَ بالقدر ليس بدليل على صحة قول المحتج، فإنَ القدرَ مُتناولٌ لكل كائن، فالمحتجُ به لا علْمَ عَنده، إن يَظن إلاّ ظنا، وهو في ذلك من الخَارصين الحازِرين الَكاذبين
(2)
.
وفي صحيح مسلم
(3)
عن عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به عن الله أنه قال: "خَلقْتُ عباديَ حُنفاءَ، فاجْتَالتْهم الشياطينُ، وحَرمَت عليهم ما أحللتُ لهم، وأمَرتْهم أن يُشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا. وإنَ رَبي قال لي: قُمْ في قُرَيش فأنَذرهم، فقلتُ: أيْ رَب إذَا يَثْلغُوا رأسي حتى يَجعلوه خُبْزَةً. فقالَ: إني
(1)
سورة الأنعام: 148 - 149.
(2)
بعده في الأصل: "وقال في سورة" ولعل المؤلف كان يريد أن يكتب هنا آية، فعدل عنها، وذكر الحديث الآتي.
(3)
برقم (2865). وأخرجه أيضًا أحمد 4/ 162، 266 وابن ماجه (4179).
مُبْتَلِيكَ ومُبْتَلٍ بك، ومُنزِلٌ عليك كتابًا لا يَغسِلُه الماءُ، تَقرأُه نائمًا ويَقظانَ. فابْعَثْ جُندًا أَبعَثْ مثلَهم، وأَنْفِقْ أُنْفِقْ عليك، وقَاتِلْ بمن أطاعَك من عَصَاك".
وهذا الأصل مُبيَنٌ في الكتاب والسنة، فمن شَرَعَ دِينًا لم يَأذنْ به الله، أو احتج بالقدر، وجَعَلَ الحقيقة الكونية معارضةً للأمر والنهي الشرعيين فقد ضَاهَى/ هؤلاء المشركين.
ولهذا كان المتكلمون في علوم الحقائق على ثلاثة
(1)
درجات: إحداها: أهل الحقيقة الدينية الشرعية، الذين يتكلمون في حقائق الإيمان، كالحبّ لله، والتوكل عليه، وإخلاص الدين له، والخوف منه، والرجاء له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمِه، ونحو ذلك من حقائق الدين بما يوافق الكتاب والسنة. فهذا أهل طريق أولياء الله المتقين وحِزْبه المصلحين وعباده الصالحين.
والثانية: من خاضَ في حقائق الدين بمجرد ذَوقه ووَجْدِه ورَأْيِه، سواءً وافَقَت الكتابَ والسنةَ أو خالفتْ. فهذا
(2)
يصيبون تارةً ويُخطِئون تارةً، ويكونون من أهل السنة تارةً ومن أهل البدعة أخرى.
الثالثة: من وقف عند الحقيقة الكونية القدرية، ولم يُميِّزْ بين أولياء الله وأعدائه، ولا بين طاعته ومعصيته، ولا بين ما يُحِبه
(1)
كذا في الأصل "ثلاثة" بإثبات الهاء.
(2)
كذا في الأصل بالإفراد، والأولى "فهؤلاء" ليناسب الآتي.
ويرضاه وبين سائرِ ما قدَّره وقضاه. فهؤلاء أهلُ ضلالٍ وتعطيلٍ، قد حقَّقُوا التوحيد الذي أقرَّ به المشركون، ولم يدخلوا في توحيد الله ودينه الذي كان عليه الأنبياء والمرسلون. فإن انتقلوا من ذلك إلى الحلول ووحدةِ الوجود والإلحاد فقد صاروا من أعظم أهلِ الكفر والإلحاد. وهؤلاء فيهم من الإشراك بالله والمخالفة لدينه ما لا يعلمه إلاّ الله، كما قد بَسطنا الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع
(1)
.
والمقصود هنا الكلام على اسم "القطب" ومسماه،/ وما علمتُ أنَ السلف تكلموا بهذا الاسم في الرجال.
(2)
، ولا جعلوا اسم القطب مما يُعَثر به عن أحوالِ أولياء الله المتقين. بخلاف اسم "الأبدال"، فإنه نُقِلَ عنهم التكلُّم بذلك في مواضع.
وقد تكلم بعض المتأخرين بلفظ "الوتد"، والوتدُ: المُثبتُ لغيره، كما أن الجبال أوتاد الأرض، فمن ثبتَ اللهُ به الإيمَانَ والتقوى في قلوب بعض عباده، أو ثَبَتَ بدعائِه وعبادتِه نصرُهم ورزقُهم، كان له من هذا المعنى نصيب بحسب ذلك.
وأما قول القائل: "إن على قَدَم كل نبي من الأنبياء وليَّان
(3)
: ولي ظاهر وولي باطن"، فهذا كذب بلا ريب، فإنّ الأنبياء مائة ألفٍ
(1)
انظر "مجموع الفتاوى".
(2)
هنا كلمة مطموسة في الأصل، ولعلها "الصالحين" وما في معناها.
(3)
كذا في الأصل بالرفع.
وأربعة وعشرون ألفَ نبي
(1)
، وأصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الذين صحبوه أفضلُ الخلق، وما بلغوا هذا العدد، بل مكث النبي صلى الله عليه وسلم إلى حين الفتح أكثر من عشرين سنة، وما آمن معه إلاّ بضعة عشر ألفًا.
ومعلوم أن هؤلاء الأولياء لا يكونون بعد مبعثه في غير أمته، فإذا كانت أمتُه في سنين كثيرة لا تَبلُغ هذا العدد عُلِم قطعًا بطلانُ ذلك.
وأيضًا فقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى الأنبياء، النبي يجيء وحده، والنبي يجيء معه الرجل، والنبي يجيء معه الرجلان
(2)
.
فإذا كان النبي قد لا يَتَبعُه أحدٌ، أو لا يتبعه إلاّ رجلٌ واحد، فكيف يجب أن يكون له في كَل عصرٍ اثنان على قَدَمِه من أمةِ غيره؟
(1)
كما في الحديث الذي أخرجه ابن حبان في "صحيحه"(361) من طريق إبراهيم بن هشام بن يحيى بن يحيى الغساني قال حدثنا أبي عن جدي عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر. قال الهيثمي في "موارد الظمآن"(94): فيه إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني، قال أبو حاتم وغيره: كذاب.
وأخرجه أبو نعيم في "الحلية"(1/ 166 - 168) والطبراني قسماً منه في "المعجم الكبير"(1651) من طريق إبراهيم بن هشام به. وأخرجه أبو نعيم في "الحلية"(1/ 167) والبيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 9) من طريق آخر عن أبي ذر، وفيه يحيى بن سعيد السعيدي، قال العقيلي: لا يتابَع على حديثه، وقال ابن عدي: يعرف بهذا الحديث، وهو منكر من هذا الطريق.
وأخرج بعضه أحمد في "مسنده"(5/ 265) من حديث أبي أمامة، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/ 159): مداره على علي بن زيد، وهو ضعيف.
(2)
أخرجه البخاري (5705، 5752، 6541) ومسلم (220) من حديث ابن عباس.
وأيضًا فقوله: "وفيٌ باطن ووليٌّ ظاهر" إن أُرِيدَ به وليٌ يعرفه الناس ويظهر لهم ولايتُه، ووليٌ لا يَظهر لهم، فمن المعلوم أن الناس لا يظهر لهم ولايةُ مائة ألف ولا عشرة ألف
(1)
، ولا يُشهَد بالولاية إلاّ لمن ثبتَ أنه ولي، إما بنصّ أو بما يقوم مقامَه. وإن كان لا يُشْهَد بنَفْيِها، لكن نحن نعلم قطعًا أنه لا يظهر ولاية هذا العدد للناس.
وإن أريد بظهوره وجودُه بين الناس وعلمُهم به، فعامَّة الأولياء ظاهرون بهذا الاعتبار، بل ليس من الأولياء من لم يَرَهُ الناس، وإذا قُدر أن فيهم من يَختفِي عن الناس كثيرًا من أوقاته أو أكثرها، فلا بد أن يظهر لبعضهم في بعض الأوقات، ولو أنه ظهرَ/لأبويه ومَن ربَّاه إذا كان صغيرًا. ثم هؤلاء في غاية القلة، وهم من أضعف الأولياء ولاية، بل القرون الفاضلة كان وجود هؤلاء فيها نادرًا أو معدومًا، فإن سكنى البوادي والجبال والغِيْران واعتزال المسلمين من جُمَعِهم وجماعتهم إما أن يكون منهما عنه، وإما أن يكون صاحبُه إذا عُذِر عاجزًا منقوصًا.
وأيضا فقول القائل "إنّ الوليّ على قدم النبي" لا يجوز أن يريد به اتباعَ شريعته، فإن بعد مبعث محمد لا يتقبل الله من أحد إلاّ شريعته، ولو كان موسى حيًّا ثم اتبعه متبعٌ وترك شريعةَ محمد كان ضالاً
(2)
، فلم يبق إلاّ موافقته في بعض أخلاقه وأحواله، كما شبه
(1)
كذا في الأصل "ألف" بدل "آلاف".
(2)
كما في الحديث الذي أخرجه أحمد في "مسنده"(3/ 338، 387) =
النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر بإبراهيم وعيسى، وشبَّه عمرَ بنوح وموسى
(1)
، وحينئذ فيحتاج أن تكون أخلاقُ الأنبياء متفاوتةً هذا التفاوت، وهذا غير معلوم.
وأيضا فإنّ غالب الأنبياء لم يُقَصُّوْا على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولم تعرفهم أمتُه، فكيف يكون من أمته مَن هو على قدمِ نبي لا يَعرِفه ولا يعرف قدمَه؟
وأيضًا فهذا كلامٌ لا دليلَ عليه، ولم يَقُلْه من له قولٌ في الأمة، ولو كان مثلُ هذا حقًّا لكان معروفا عند أهل [العلم]
(2)
والإيمان.
فإن مثل هذا لو كان حفًا مما لا يخفى على أهل العلم والإيمان من هذه الأمة، فإذا لم يكن له أصلٌ عندهم عُلِمَ بطلانُه.
= والدارمي (441) عن جابر مرفوعًا: (والذي نفس محمد بيده لو بدا لكم موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم عن سواء السبيل، ولو كان حثا أدرك نبوتي لاتبعني". وأخرج أحمد (3/ 470، 4/ 265) نحوه عن عبد الله بن ثابت.
(1)
أخرجه أحمد في "مسنده"(1/ 383) والحاكم في المستدرك (3/ 21) من حديث عبد الله بن مسعود. وراجع كتب التفسير في تفسير سورة الأنفال: الآيتين 67 - 68.
(2)
زيادة يقتضيها السياق، وانظر السطر الذي يليه لتعرف أن الزيادة من أسلوب المؤلف.