الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإذا كانت الطيور تسعى لتحصيل رزقها، ولا تبقى في أوكارها تنتظر الرزق، بل تذهب وهي جائعة في الصباح تلتمس أسباب الرزق، ثم تعود في المساء وقد امتلأت حواصلها وحصَّلت رزقها، وهكذا المسلم يجب عليه أن يبذل السبب ويجتهد في ذلك، وإن غُلِّقت الأبواب أمامه من جهات معينة طرق غيرها، وإن ضاقت عليه الأسباب في بلد سافر إلى غيره، وإن لم تكفه حرفته أو وظيفته تعلم حرفة أخرى، وقام بعمل آخر إلى جوار وظيفته، وهو في ذلك كله يتوكل على ربه ويعتمد عليه.
ويعلم أن رزقه معلوم ومقدر، ولكنه لا يعلم الغيب، ومأمور أن يبذل السبب ليأتيه رزقه، والسبب والمسبَّبُ مخلوقان لله تعالى، ومرتب أحدهما على الآخر، وترك الأخذ بالأسباب تواكل وتكاسل، وهناك فرق بين التوكل والتواكل.
فالإسلام إذن لا يعرف التواكل، وتحصيل المعاش لا بد له من الأخذ بالأسباب، والتوكل قوة دافعة إلى ذلك.
ولا تعارض بين طلب المعاش، والعمل للمعاد، فكلاهما مطلوب بمقدار.
9 - القناعة بالرزق الحلال:
والاكتفاء بالحلال يعني أن يقنع المسلم بما رزقه الله تعالى من الطرق المشروعة، فيعف نفسه به، ولا يطلب ما سواه من الحرام.
(1) ابن رجب الحنبلي- جامع العلوم والحكم- ص 384.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة وعفة في طعمة» (1).
ومعنى عفة في طعمة: أي أن يقنع المسلم ويكتفي ويعف نفسه بالحلال عن طلب الحرام.
ومن وصايا لقمان لابنه: «يا بني استغن بالكسب الحلال، فإنه ما افتقر أحد إلا أصابه ثلاث خصال: رقة في دينه، وضعف في عقله، وذهاب مروءته، وأعظم من هذا الخصال استخفاف الناس به» (2).
والعمل الصالح سبب للحياة الطيبة وهناء العيش والقناعة بالقليل.
قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97].
جاء في تفسير المراد بالحياة الطيبة: أنها القناعة (3).
والقناعة في الجانب المالي تعني الرضا والتسليم بما رزقه الله تعالى وقسمه للإنسان ولو كان قليلاً، وتعني اليأس عما في أيدي الناس، وعدم
(1) رواه الطبراني وإسناده حسن، راجع المنذري: الترغيب والترهيب ج 4 ص 19 رقم 2518. والهيثمي، مجمع الزوائد ج 10 ص 295. وقال العلامة الألباني: وهذا سند صحيح، انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة، المجلد الثاني ص 370، 371 رقم 773.
(2)
الإمام الغزالي: إحياء علوم الدين ج 2 ص 62، وابن قدامة المقدسي، مختصر منهاج القاصدين ص 78.
(3)
انظر الشيخ محمد السفاريني الحنبلي، غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب، دار الاتحاد العربي للطباعة بالقاهرة 1971 ج 2 ص 225. والإمام القشيري: أبا القاسم عبد الكريم بن هوازن، الرسالة القشيرية، دار الكتاب العربي ببيروت، لبنان، بدون تاريخ، ص 74.
التطلع إلى الحرام في قليل أو كثير. فإن من لم يرض بما قسمه الله تعالى له، وتطلع إلى الكثير فاته عز القناعة وتدنس لا محالة بالطمع، وجره هذا إلى مساوئ الخلاق وارتكاب المنكرات.
وإن الاكتفاء بالحلال بعد طلبه والقناعة به أحد أسباب ثلاثة هي مصدر السعادة والاستقرار في الدنيا.
عن عبد الله بن محصن رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها» (1).
وهي أيضًا سبب لتحقيق الفلاح في الدار الآخرة.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه» (2).
وعن فضالة بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «طوبى لمن هُدِيَ للإسلام وكان عيشه كفافًا وقنع» (3).
(1) أخرجه الترمذي، ابن الأثير، جامع الأصول ج 10 ص 135 رقم 7612، انظر تخريج الأرناؤوط فيه. وقد حسنه الترمذي كما قال عبد العزيز بن رباح وأحمد يوسف الدقاق في تحقيق وتخريج أحاديث رياض الصالحين للنووي. دار المأمون للتراث دمشق الطبعة الثانية 1396 هـ ص 243 رقم 509.
(2)
أخرجه مسلم والترمذي، ابن الأثير، جامع الأصول ج 10 ص 38 رقم 7615.
(3)
أخرجه الترمذي وابن الأثير، المرجع السابق ج 10 ص 139 رقم 7616. وقال الشيخ إسماعيل العجلوني في كشف الخفاء مزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس: رواه الترمذي والحاكم، وقال الحاكم: على شرط مسلم، ج 2 ص 62 رقم 1681.