المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فصل وأما أبديَّة النار ودوامها: فقال شيخ الإسلام: "فيها قولان معروفان - حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل: في المنقول عن الأئمة الأربعة، ونظرائهم وشيوخهم وأتباعهم على طريقتهم ومنهاجهم

- ‌ذكرُ قول إمام دار الهجرة مالك بن أنس:

- ‌ذكر قول ابن الماجشون:

- ‌ذكر قول الأوزاعي:

- ‌ذكر قول الليث بن سعد:

- ‌قول سفيان بن عيينة:

- ‌قول جرير بن عبد الحميد:

- ‌قول عبد اللَّه بن المبارك:

- ‌قول وكيع بن الجراح:

- ‌قول قتيبة بن سعيد:

- ‌قول أبي عبيد القاسم بن سلَّام:

- ‌قول أسود بن سالم شيخ الإمام أحمد:

- ‌قول محمد بن إدريس الشافعي:

- ‌قول إمام السنَّة أحمد بن حنبل:

- ‌قول إسحاق بن راهويه:

- ‌قول جميع أهل الإيمان:

- ‌قول المزني:

- ‌قول جميع أهل اللغة:

- ‌فصل: في وعيد منكر(2)الرؤية

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل في لسان أهل الجنَّة

- ‌فصل في احتجاج الجنَّة والنَّارِ

- ‌فصل: في أنَّ الجنَّة يبقى فيها فضل فينشئ اللَّه لها خلقًا دون النَّار

- ‌فصل: في امتناع النوم على أهل الجنَّة

- ‌فصل: في ارتقاء العبد وهو في الجنة من درجةٍ إلى درجةٍ أعلى منها

- ‌فصل: في إلحاق ذُرِّية المؤمن به في الدَّرجة وإنْ لم يعملوا عمله

- ‌فصل: في أن الجنة تتكلم

- ‌فصل: في أن الجنة تزداد حُسْنًا على الدوام

- ‌فصل: في أن الحور العين يطلبن أزواجَهن أكثر مما يطلبهنَّ أزواجُهنّ

- ‌فصل: في ذبح الموت بين الجنة والنار

- ‌فصل: في ارتفاع العبادات في الجنَّة إلا عبادة الذكر فهي دائمة

- ‌فصل: في تذاكر أهل الجنَّة ما كان بينهم في دار الدنيا

- ‌فصل: ونختم هذا الكتاب بما ابتدأناه به أوَّلا، وهو خاتمة دعوى أهل الجنَّة

- ‌فهرس المراجع والمصادر

الفصل: ‌ ‌فصل وأما أبديَّة النار ودوامها: فقال شيخ الإسلام: "فيها قولان معروفان

‌فصل

وأما أبديَّة النار ودوامها: فقال شيخ الإسلام: "فيها قولان معروفان عن السلف والخلف، والنزاع في ذلك معروف عن التابعين"

(1)

.

قلت: ها هنا أقوال سبعة:

أحدها: أن من دخلها لا يخرج منها أبدًا، بل كل من دخلها مخلد فيها أبد الآباد، وهذا قول الخوارج والمعتزلة.

والثاني: أن أهلها يعذبون فيها مُدَّةً، ثم تنقلب عليهم، وتبقى طبيعةٌ نارية لهم، يتلذَّذون بها لموافقتها لطبيعتهم. وهذا قول إمام الإتحادية ابن عربي الطائي.

قال في "فصوصه"

(2)

: "الثناء بصدق الوعد لا بصدق الوعيد، والحضرة الإلهية تطلب الثناء المحمود بالذات، فيثنى عليها بصدق الوعد، لا بصدق الوعيد، بل بالتجاوز {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} [إبراهيم: 47] لم يقل: وعيده، بل قال:{وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ} [الأحقاف: 16] مع أنه توعَّدَ على ذلك، وأثنى على إسماعيل بأنه كان صادق الوعد، وقد زال الإمكان في حق الحق، لما فيه من طلب المرجِّح:

(1)

انظر المصدر السابق ص (52)، وفيه زيادة "ومن بعدهم".

(2)

ص (93 - 94).

ص: 730

فلم يبق إلا صادق الوعد وحده

وما لوعيد الحقِ عينٌ تُعَاين

وإن دخلوا دار الشقاء فإنهم

على لذة فيها نعيم مباين

نعيم جنان الخلد والأمر واحد

وبينهما عند التجلِّي تباين

يُسَمَّى عذابًا من عذوبة طعمه

وذاك له كالقشر والقشرُ صاين"

وهذا في طرف، والمعتزلة الذين يقولون: لا يجوز على اللَّه أن يُخْلِفَ وعيده، بل يجب عليه تعذيب من توعده بالعذاب= في طرف، فأولئك عندهم لا ينجو من النار من دخلها أصلًا، وهذا عنده لا يعذب بها أحد أصلًا. والفريقان مخالفان لما عُلِمَ بالاضطرار أن الرسول جاء به، وأخبر به عن اللَّه عز وجل.

الثالث: قول من يقول: إن أهلها يعذبون فيها إلى وقت محدود، ثم يخرجون منها، ويخلفهم فيها قوم آخرون. وهذا القول حكاه اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم فأكذبهم فيه

(1)

، وقد أكذبهم اللَّه تعالى في القرآن فيه:

فقال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا

(1)

أخرجه الطبري في تفسيره (1/ 382)، وابن أبي حاتم في تفسيره (1/ 155) رقم (813)، والحاكم في المستدرك (2/ 654) رقم (4171)، والواحدي في أسباب النزول ص (26 - 27) وغيرهم.

وفيه محمد بن أبي محمد الأنصاري مولى زيد بن ثابت، تفرَّد بالرواية عنه ابن إسحاق. قال الذهبي: وقد ورد معناهُ عن غير واحدٍ من التابعين.

ص: 731

خَالِدُونَ (81) } [البقرة: 80، 81].

وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [آل عمران: 23 - 24].

فهذا القول إنما هو قول أعداء اللَّه اليهود، فهم شيوخ أربابه والقائلين به.

وقد دل القرآن والسنة وإجماع الصحابة والتابعين، وأئمة الإسلام على فساده، قال تعالى:{وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 167]، وقال:{وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48]، وقال:{كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} [الحج: 22]، وقال:{كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة: 20] وقال تعالى: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36]، وقال تعالى:{وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40].

وهذا أبلغ ما يكون في الإخبار عن استحالة دخولهم الجنة.

الرابع: قول من يقول: يخرجون منها وتبقى نارًا على حالها ليس فيها أحدٌ يُعَذَّبُ، حكاه شيخ الإسلام

(1)

.

والقرآن والسنة أيضًا يردان هذا القول كما تقدم.

(1)

في رسالة الرد على من قال بفناء الجنَّة والنَّار ص (53).

ص: 732

الخامس: قول من يقول: بل

(1)

تفنى بنفسها؛ لأنها حادثة بعد أن لم تكن، وما ثبت حدوثه استحال بقاؤه وأبديته.

وهذا قول جهم بن صفوان وشيعته، ولا فرق عنده في ذلك بين الجنة والنار.

السادس: قول من يقول: تفنى حياتهم وحركاتهم ويصيرون جمادًا، لا يتحركون ولا يحسُّون بألم.

وهذا قول أبي الهُذَيل العلَّاف إمام المعتزلة، طَرْدًا لامتناع حوادث لا نهاية لها. والجنة والنار عنده سواء في هذا الحكم.

السابع: قول من يقول: بل يفنيها ربها وخالقها تبارك وتعالى، فإنه جعل لها أمَدًا تنتهي إليه ثم تفنى ويزول عذابها.

قال شيخ الإسلام: "وقد نُقِلَ هذا القول عن عمر، وابن مسعود، وأبي هريرة، وأبي سعيد وغيرهم.

وقد روى عَبْد بن حُمَيد -وهو من أجل علماء الحديث- في "تفسيره" المشهور: حدثنا سليمان

(2)

بن حرب، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن الحسن قال: قال عمر: "لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج

(3)

، لكان لهم على

(1)

من "ب، هـ"، ونسخةٍ على حاشية "أ".

(2)

إلى هنا انتهى السقط من "ج".

(3)

هو مَثَلٌ يُضرب للمبالغة في الكَثْرة، وعالِج: رمال بين فيد والقريات ينزلها بُحْتر من طيء، وهي متصلة بالثعلبية على طريق مكة، لا ماء بها. . . . =

ص: 733

ذلك

(1)

يوم يخرجون فيه"

(2)

.

وقال: حدثنا حجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لو لبث أهل النار في النار عدد رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه"

(3)

.

ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) } [النبأ: 23]، فقد رواه عَبْدٌ -وهو من الأئمة الحفاظ وعلماء السنة- عن هذين الجليلين: سليمان بن حرب، وحجاج بن منهال كلاهما، عن حماد بن سلمة -وحَسْبُك به- وحماد يرويه عن ثابت وحميد، وكلاهما يرويه عن الحسن. وحسبك بهذا الإسناد جلالة.

والحسن وإن لم يسمع من عمر، فإنما رواه عن بعض التابعين، ولو لم يصح عنده ذلك عن عمر لَمَا جزم به وقال: قال عمر بن الخطاب، ولو قُدِّرَ أنه لم يُحْفَظ عن عمر، فتداول هؤلاء الأئمة له غير مقابلين له بالإنكار والرد، مع أنهم ينكرون على من خالف السنة بدون هذا، فلو كان هذا القول عند هؤلاء الأئمة من البدع المخالفة لكتاب اللَّه وسنة رسوله وإجماع الأئمة، لكانوا أول منكر له.

= وقيل: رمل عالج يحيط بأكثر أرض العربِ. انظر: المعجم للبكري (2/ 913)، ومعجم البلدان (4/ 78).

(1)

قوله "على ذلك" ليس في "أ".

(2)

قال ابن القيم: "ورواةُ هذا الأثرِ أئمة ثقات كلهم. . . . " شفاء العليل (2/ 707).

(3)

سقط هذا الأثر كاملًا من "ج".

ص: 734

قال: ولا ريب أنَّ مَنْ قال هذا القول عن عمر، ونقله عنه إنما أراد بذلك جنس أهل النار الذين هم أهلها، فأما قوم أصيبوا بذنوبهم، فقد علم هؤلاء وغيرهم أنهم يخرجون منها، وأنهم لا يلبثون قدر رمل عالج، ولا قريبًا منه.

ولفظ "أهل النار" لا يختص بالموحِّدين، بل هو مختص بمن عداهم، كما قال صلى الله عليه وسلم:"أما أهل النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون"

(1)

، ولا يناقض هذا قوله تعالى:{خَالِدِينَ فِيهَا} ، وقوله:{وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48] بل ما أخبر اللَّه به هو الحق والصدق الذي لا يقع خلافه، لكن إذا انقضى أجلها وفنيت كما تفنى الدنيا لم يبق نارًا ولم يبق فيها عذاب.

قال أرباب هذا القول: في "تفسير علي بن أبي

(2)

طلحة الوالبي": عن ابن عباس في قوله تعالى: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) } [الأنعام: 128]. قال: "لا ينبغي لأحد أن يحكم على اللَّه في خلقه، ولا ينزلهم جنة ولا نارًا"

(3)

.

قالوا: وهذا الوعيد في هذه الآية ليس مختصًّا بأهل القبلة، فإنه سبحانه قال: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ

(1)

أخرجه مسلم رقم (185) مطوَّلًا من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(2)

سقط من "أ، هـ".

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (4/ 1388) رقم (7897)، والطبري (8/ 34). وسنده حسن.

ص: 735

وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)} [الأنعام: 128 - 129].

وأولياء الجن من الإنس يدخل فيه الكفار قطعًا، فإنهم أحق بموالاتهم من عصاة المسلمين، كما قال تعالى:{إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)} [الأعراف: 27].

وقال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)} [النحل: 99، 100].

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)} [الأعراف: 201 - 202].

وقال تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} [الكهف: 50].

وقال تعالى: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ} [النساء: 76].

وقال تعالى: {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)} [المجادلة: 19].

وقال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)} [الأنعام: 121].

ص: 736

فالاستثناء وقع في الآية التي أخبرت عن دخول أولياء الشيطان

(1)

النار. فَمِنْ ها هنا قال ابن عباس: "إنه لا ينبغي لأحد أن يحكم على اللَّه في خلقه".

قالوا: وقول من قال إن "إلا" بمعنى "سوى"، أي: سوى ما شاء اللَّه أن يزيدهم من أنواع العذاب وزمنه = لا تخفى منافرته للمستثنى والمستثنى منه، وإن الذي يفهمه المخاطب: مخالفة ما بعد "إلا" لما قبلها.

قالوا: وقول من قال: إنه لإخراج ما قبل دخولهم إليها من الزمان؛ كزمان البرزخ والموقف، ومدَّة الدنيا أيضًا = لا يساعد عليه وجه الكلام، فإنَّه استثناء من جملة خبريَّة مضمونها: أنَّهم إذا دخلوا النَّارَ لبثوا فيها مدَّة دوام السماوات والأرضِ إلَّا ما شاء اللَّهُ

(2)

، وليس المراد الاستثناء قبل الدخول، هذا ما لا يفهمه المخاطب، ألَا ترى أنَّه سبحانه يخاطبهم بهذا في النَّار حين يقولون:{رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} [الأنعام: 128]، فيقول لهم حينئذٍ:{النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 128]، وفي قولهم:{رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} نوعُ اعترافٍ واستسلام وتحسُّر، أي: استمتع الجن بنا، واستمتعنا بهم، فاشتركنا

(1)

في "ب": "الشياطين".

(2)

انظر: رسالة الرد على من قال بفناء الجنَّة والنَّار لابن تيمية ص (53 - 60) بتصرف مع زيادة أحيانًا.

ص: 737

في الشرك ودواعيه وأسبابه، وآثرنا الاستمتاع على طاعتك وطاعة رسلك، وانقضت آجالنا، وذهبت أعمارنا في ذلك، ولم نكتسب فيها رضاك، وإنَّما كان غاية أمرنا في مُدَّة آجالنا استمتاع بعضنا ببعض.

فتأمل ما في هذا من الاعتراف بحقيقة ما هم عليه، وكيف بدت لهم تلك الحقيقة ذلك اليوم، وعلموا أن الذي كانوا فيه في مدة آجالهم، هو حظهم من استمتاع بعضهم ببعض، ولم يستمتعوا بعبادة ربهم، ومعرفته وتوحيده، ومحبته وإيثار مرضاته.

وهذا من نمط قولهم: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)} .

وقوله تعالى: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ} [الملك: 10، 11].

وقوله: {فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ} [القصص: 75]، ونظائره.

والمقصود أنَّ قوله {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} عائد إلى هؤلاء المذكورين مختصًّا بهم، أو شاملًا لهم ولعصاة الموحِّدين، وأما اختصاصه بعصاة المسلمين دون هؤلاء فلا وجه له.

ولمَّا رأت طائفة ضعف هذا القول، قالوا: الاستثناء يرجع إلى مُدَّة البرزخ والموقف. وقد تبيَّن ضعف هذا القول.

ورأت طائفة أخرى: أنَّ الاستثناء يرجع إلى نوع آخر من العذاب غير النار.

قالوا: والمعنى: أنكم في النار أبدًا إلا ما شاء اللَّه أن يعذبكم

ص: 738

بغيرها، وهو الزمهرير.

وقد قال تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) } [النبأ: 21 - 23].

قالوا: والأبد: لا يُقدَّر بالأحقاب.

وقد قال ابن مسعود في هذه الآية: "لَيأتينَّ على جهنم زمان ليس فيها أحد، وذلك بعدما يلبثون فيها أحقابًا"

(1)

. وعن أبي هريرة مثله

(2)

، حكاه البغوي عنهما. ثم قال:"ومعناه عند أهل السنة إن ثبت: أنه لا يبقى فيها أحد من أهل الإيمان"

(3)

.

قالوا: قد ثبت ذلك عن أبي هريرة وابن مسعود وعبد اللَّه بن عمرو، وقد سأل حربٌ إسحاق بن راهويه عن هذه الآية

(4)

، فقال: سألت إسحاق، قلت: قول اللَّه تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107] فقال: أتت هذه الآية على كل وعيد في القرآن.

حدثنا عبيد اللَّه بن معاذ، حدثنا معتمر بن سليمان، قال: قال أبي:

(1)

أخرجه الطبري في تفسيره (12/ 118) قال حُدِّثت عن المسيب عمَّن ذكره عن ابن عباس، وذكر كلامًا له، ثمَّ قال وقال: ابن مسعود فذكره.

وسنده ضعيف لإبهام من حدَّثه عن المسيب، ومن ذكره عن ابن عباس.

وأخرجه ابن المنذر وأبو الشيخ كما في الدر المنثور (3/ 635) من طريق إبراهيم النخعي قال: قال ابن مسعود: "ليأتين عليها زمان تخفق أبوابها".

(2)

سيأتي ص (741).

(3)

معالم التنزيل (4/ 202).

(4)

انظر: مسائر حرب الكرماني ص (429).

ص: 739

حدثنا أبو نضرة، عن جابر أو أبي سعيد أو بعض أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتت هذه الآية على القرآن كله

(1)

: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 107]". قال المعتمر: قال أبي: كل وعيد في القرآن"

(2)

.

حدثنا عبيد اللَّه بن معاذ، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن أبي بَلْج

(3)

سمع عمرو بن ميمون يحدث عن عبد اللَّه بن عمرو، قال:"ليأتين على جهنَّم يوم تصطفق فيه أبوابها، ليس فيها أحد، وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابًا"

(4)

.

(1)

في "د""هذه الآية تأتي على القرآن كله"، وهو موافق لما ذكره المؤلِّف في شفاء العليل (2/ 705)، وليس في مسائل حرب المطبوعة كلمة "أتت".

(2)

أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (1/ 273) رقم (1251)، والطبري (12/ 118)، والبيهقي في الأسماء والصفات رقم (337).

وسنده صحيح.

- ورواهُ جعفر بن سليمان عن الجُريري عن أبي نضرة قوله.

أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات رقم (336)، وابن أبي حاتم في تفسيره رقم (11239) معلَّقًا.

والجريري اختلط، ولا يُدرى هل سمع منه جعفر الضبعي قبل اختلاطه أم بعده؟

انظر: الكواكب النيِّرات ص (185).

(3)

في "ب": "صالح" وهو خطأ.

(4)

أخرجه الفسوي في المعرفة والتاريخ (2/ 103).

من طريق الطيالسي عن شعبة به مثله إلى قوله "أحد".

قال الطيالسي: وحدثنا حماد بن سلمة عن ثابت قال: سألت الحسن عن هذا الحديث فأنكره".

وهذا الحديث جعله الذهبي من بلايا أبي بَلْج فذكره وقال: "هذا منكر" =

ص: 740

حدثنا عبيد اللَّه، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن يحيى بن أيوب، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ما أنا بالذي لا أقول: إنه سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد، وقرأ:" {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) } [هود: 106] "

(1)

.

قال عبيد اللَّه: كان أصحابنا يقولون: يعني به الموحِّدين.

حدثنا أبو مَعْنٍ، حدثنا وهب بن جرير، حدثنا شعبة، عن سليمان التيمي، عن أبي نضرة، عن جابر بن عبد اللَّه، أو بعض أصحابه في قوله تعالى:{خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107]. قال: "هذه الآية أتت

(2)

على القرآن كله"

(3)

.

= الميزان (7/ 189).

قلتُ: إنكار الحسن البصري يحتمل عدَّة احتمالات، لكنْ تقدم قريبًا ص (734 - 735) رواية ثابت البناني وحميد الطويل عن الحسن أنَّ عمر بن الخطاب قال: لو لبثت أهل النَّار. . . ".

وأبو بلج الفزاري واسمه يحيى بن سُليم، وقيل غير ذلك، وثَّقه جماعة، وله حديث منكر. انظر: تهذيب الكمال (33/ 162).

فإنْ كان حفظه فالإسناد لا بأس به.

(1)

سنده لا بأس به، ويحيى بن أيوب هو البجلي الكوفي مختلفٌ فيه.

تهذيب الكمال (31/ 232).

وأخرجه إسحاق بن راهويه، كما في الدر المنثور (3/ 635) بلفظ "سيأتي على جهنَّم يومٌ لا يبقى فيها أحد، وقرأ {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا. .} الآية.

(2)

من "أ، هـ" فقط، وليست في باقي النسخ، ولا في مسائل حرب المطبوعة.

(3)

انظر في مسائل حرب ص (430)، وتقدم الكلام عليه.

ص: 741

وقد حكى ابن جرير هذا القول في "تفسيره"

(1)

عن جماعة من السلف، فقال: وقال آخرون: عنى بذلك أهل النار، وكل من دخلها. ذكر من قال ذلك -ثم ذكر الآثار التي نذكرها-:

وقال عبد الرزاق: حدثنا ابن التيمي، عن أبيه، عن أبي نضرة، عن جابر أو أبي سعيد، أو عن رجل من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في قوله:{إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) } قال: "هذه الآية تأتي على القرآن كله"، يقول: حيث كان في القرآن "خالدين فيها" تأتي عليه"،. قال: "وسمعت أبا مجلز يقول: جزاؤه جهنم

(2)

، فإن شاء اللَّه عز وجل تجاوز عن عذابه"

(3)

.

وقال ابن جرير: "حدثنا الحسن بن يحيى، أخبرنا عبد الرازق، فذكره. قال: وحُدِّثت عن المسيب عمن ذكره عن ابن عباس: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} قال: "لا يموتون وما هم منها بمخرجين ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك. قال: استثنى اللَّه، قال: أمر النار أن تأكلهم".

قال: وقال ابن مسعود: "ليأتين على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد بعدما يلبثون فيها أحقابًا".

(1)

(12/ 118).

(2)

من "أ"، وليس في باقي النسخ، ولا عند عبد الرزاق ولا الطبري.

(3)

أثر أبي مجلز موصول بالسند المتقدم، وهو عند عبد الرزاق والطبري كما تقدم.

تنبيه: وقع في "هـ""مخلد" بدل "مجلز" وهو تصحيف.

ص: 742

حدثنا ابن حُمَيد، حدثنا جرير، عن بيان، عن الشعبي، قال:"جهنم أسرع الدارين عمرانًا، وأسرعهما خرابًا"

(1)

.

وحكى ابن جرير في ذلك قولًا آخر، فقال: "وقال آخرون: أخبرنا اللَّه سبحانه بمشيئته لأهل الجنة، فعرفنا معنى ثنياه بقوله:{عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) } أنَّها في الزيادة على مقدار مدة السماوات والأرض، قالوا: ولم يخبرنا بمشيئته في أهل النار، وجائز أن تكون مشيئته في الزيادة، وجائز أن تكون في النقصان.

حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} حتَّى بلغ {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) } فقال: أخبرنا بالذي يشاء لأهل الجنة فقال: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) } ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار"

(2)

.

وقال

(3)

ابن مردويه في "تفسيره": حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا خير بن عرفة، حدثنا يزيد بن مروان الخلال، حدثنا أبو خليد، حدثنا سفيان -يعني: الثوري- عن عمرو بن دينار، عن جابر رضي الله عنه قال: قرأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106)

(1)

تفسير الطبري (12/ 118).

وأثرا ابن عباس وابن مسعود: ضعيفا الإسناد كما تقدَّم.

وأثر الشعبي أيضًا ضعيف جدًّا: شيخ الطبري هو محمد بن حُميد وهو ضعيف جدًّا.

(2)

تفسير الطبري (12/ 118 - 119). وأثر ابن زيد صحيح.

(3)

من هنا سقط من "ج" إلى ص (747).

ص: 743

خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 106 - 107]. قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن شاء اللَّه أن يخرج ناسًا من الذين شقوا من النار فيدخلهم الجنة فَعَل"

(1)

.

وهذا الحديث يدل على أن الاستثناء إنما هو للخروج من النار بعد دخولهم خلافًا لمن زعم: أنه لما قبل الدخول؛ ولكن إنما يدل على إخراج بعضهم من النار، وهذا حق بلا ريب، وهو لا ينفي انقطاعها وفناء عذابها، وأكلها لمن فيها، وأنهم يُعَذَّبون فيها دائمًا ما دامت كذلك، وما هم منها بمخْرَجين، فالحديث دل على أمرين:

أحدهما: أنَّ بعض الأشقياء إن شاءَ اللَّهُ يخرجهم من النار -وهي نار- فَعَلَ، وأن الاستثناء أنما هو فيما بعد دخولها، لا فيما قبله.

وعلى هذا، فيكون معنى الاستثناء: إلا ما شاء ربك من الأشقياء، فإنهم لا يخلدون فيها، ويكون الأشقياء نوعين: نوعًا يخرجون منها، ونوعًا يخلدون فيها، فيكونون من الذين شقوا أوّلًا، ثم يصيرون من الذين سُعِدوا، فتجتمع لهم الشقاوة والسعادة في وقتين.

قالوا: وقد قال تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً

(1)

سنده ضعيف جدًّا.

فيه يزيد بن مروان الخلال: قال ابن معين "كذَّاب" الجرح (9/ 291)، وضعفه الدارمي وأبو داود وقال الدارقطني:"ضعيف جدًّا".

انظر: اللسان (6/ 380).

ص: 744