الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا} [النبأ: 21 - 28].
فهذا صريح في وعيد الكفار المكذبين بآياته، ولا يُقَدَّر الأبدي بمدة الأحقاب
(1)
ولا غيرها، كما لا يقدَّر به القديم، ولهذا قال عبد اللَّه ابن عمرو: فيما رواه
(2)
شعبة، عن أبي بلج، سمع عمرو بن ميمون يحدث عنه:"ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد، وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابًا"
(3)
.
فصل
والذين قطعوا بدوام النار لهم ست طرق:
أحدها: اعتقاد الإجماع، فكثير من الناس يعتقدون أنَّ هذا مجمع عليه بين الصحابة والتابعين لا يختلفون فيه، وأن الاختلاف فيه حادث، وهو من أقوال أهل البدع.
الطريق الثاني: أن القرآن دل على ذلك دلالة قطعية، فإنه سبحانه وتعالى أخبر: أنه عذاب مقيم، وأنه لا يُفَتَّر عنهم، وأنه لن يزيدهم إلا عذابًا، وأنهم خالدين فيها أبدًا، وما هم بخارجين من النار، وما هم منها بمخرجين، وأن اللَّه حرم الجنة على الكافرين، وأنهم لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سمِّ الخياط، وأنهم لا يقضى عليهم
(1)
في "د": "لا أحقاب".
(2)
قوله: "فيما رواهُ"، وقع في "أ":"فيها" بدل "فيما رواهُ".
(3)
تقدم الكلام عليه في ص (740).
فيموتوا، ولا يُخَفَّف عنهم من عذابها، وأن عذابها كان غرامًا، أي: مقيمًا لازمًا.
قالوا: وهذا يفيد القطع بدوامه واستمراره.
الطريق الثالث: أن السنة المستفيضة أخبرت بخروج مَنْ في قلبه مثقال ذرة مِنْ إيمانٍ دون الكفار، وأحاديث الشفاعة من أولها إلى آخرها صريحة بخروج عصاة الموحدين من النار، وأن هذا حكم مختص بهم، فلو خرج الكفار منها لكانوا بمنزلتهم، ولم يختص الخروج بأهل الإيمان.
الطريق الرابع: أنَّ الرسول وقَّفْنَا على ذلك وعَلِمْنَاهُ من دينه بالضرورة من غير حاجة بنا إلى نقلٍ معينٍ، كما عَلِمْنا من دينه دوام الجنة وعدم فنائها.
الطريق الخامس: أن عقائد السلف وأهل السنة مصرحة بأن الجنة والنار مخلوقتان، وأنهما لا تفنيان، بل هما دائمتان، وإنما يذكرون فناءهما عن أهل البدع.
الطريق السادس: أنَّ العقلَ يقضي بخلود الكفار في النَّارِ.
وهذا مبنيٌ على قاعدةٍ وهي: أنَّ المعاد
(1)
وثواب النفوس المطيعة، وعقوبة النفوس الفاجرة هل هو ممَّا يُعلم بالعقل، أو لا يُعْلَم إلَّا بالسمعِ؟
(1)
في "أ، هـ": "النار".
فيه طريقان لنظَّار المسلمين، وكثير منهم يذهب إلى أنَّ ذلك يُعلَم بالعقل مع السمع، كمَّا دلَّ عليه القرآن في غير موضع، كإنكارهِ سبحانه على من زعم أنَّه يُسَوِّي بين الأبرار والفجار في المحيا والممات، وعلى من زعم أنَّه خلق خلقه عبثًا، وأنَّهم إليه لا يُرجعون، وأنَّه يتركهم سُدى، أي: لا يثيبهم ولا يعاقبهم، وأنَّ ذلك يقدحُ في حكمته وكماله، وأنَّه نِسْبةُ له
(1)
إلى ما لا يليقُ به، وربما قرَّروهُ بأنَّ النفوس البشرية باقيةٌ، واعتقاداتها وإراداتها صفة لازمةٌ لها لا تفارقها وإن ندمت عليها، لمَّا رأت العذاب، فلم تندم عليها لقبحها وكراهة ربها لها، بل لو فارقها العذاب رجعت كما كانت أوَّلًا.
(2)
.
فهؤلاء قد ذاقوا العذابَ وباشروه، ولم يزل سببه ومُقْتضِيْهِ من نفوسهم، بل خبثها وكفرها قائم بها، لم يفارقها بحيث لو رُدُّوا لعادوا كفارًا كما كانوا، وهذا يدلّ على أن دوام تعذيبهم يقضي به العقل، كما جاء به السمع.
قال أصحاب الفناء: بالكلام على هذه الطرق: يَبِيْنُ الصوابُ في هذه المسألة.
(1)
ليس في "ب، د".
(2)
إلى هنا انتهى السقط من "ج".
فأما الطريق الأول: فالإجماع الذي ادعيتموه غير معلوم، وإنما يظن الإجماعَ في هذه المسألة من لم يعرف النزاع - وقد عُرِفَ النزاعُ فيها قديمًا وحديثًا - بل لو كلف مُدَّعِي الإجماع أن ينقل عن عشرة من الصحابة فما دونهم إلى الواحد أنَّه قال: إن النار لا تفنى أبدًا، لم يجد إلى ذلك سبيلًا.
ونحن قد نقلنا عنهم التصريح بخلاف ذلك فأوْجِدوا لنا
(1)
عن واحد منهم خلاف ذلك، بل التابعون حكي عنهم هذا وهذا.
قالوا: والإجماع المُعْتدُّ به نوعان متفق عليهما، ونوع ثالث مختلف فيه، ولم يوجد واحد منها
(2)
في هذه المسألة.
النوع الأول: يكون معلومًا من ضرورة الدين، كوجوب أركان الإِسلام، وتحريم المحرمات الظاهرة.
الثاني: ما ينقل عن أهل الاجتهاد التصريح بحكمه.
الثالث: أن يقول بعضهم القول، وينتشر في الأمة، ولا ينكره أحد.
فأين معكم واحد من هذه الأنواع؟! ولو أن قائلًا ادعى الإجماع من هذا الطَّرَفِ واحتج بأن الصحابة صح عنهم ذلك ولم ينكر أحد منهم عليه = لكان أسعد بالإجماع منكم.
(1)
قوله "فأوجدوا لنا" في "ب، د""فما وجدنا"، وفي نسخة على "د""فأوجدنا"، وفي "أ، هـ": "فأوجدونا".
(2)
قوله "يوجد واحد منها" وقع في "ب، د": "يوجد واحدا منهما"، وفي "هـ":"يوجد واحد منهما".
قالوا: وأما الطريق الثاني: وهو دلالة القرآن على بقاء النار وعدم فنائها، فأين في القرآن دليل واحد يدل على ذلك؟! نعم، الذي دلّ عليه القرآن أن الكفار خالدين في النار أبدًا، وأنهم غير خارجين منها، وأنهم لا يُفَتَّر عنهم عذابها، وأنهم لا يموتون فيها، وأن عذابهم فيها مقيم، وأنه غرام لازم لهم، وهذا كله مما لا نزاع فيه بين الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، وليس هذا مورد النزاع، وإنما النزاع في أمر آخر، وهو: أنَّه هل النار أبدية أو مما كُتِبَ عليها الفناء؟ وأما كون الكفار لا يخرجون منها، ولا يفتر عنهم من عذابها، ولا يُقْضَى عليهم فيموتوا، ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سمِّ الخياط = فلم يختلف في ذلك الصحابة ولا التابعون ولا أهل السنة، وإنما خالف في ذلك من قد حكينا أقوالهم من اليهود والإتحادية، وبعض أهل البدع. وهذه النصوص وأمثالها تقتضي خلودهم في دار العذاب ما دامت باقية، ولا يخرجون منها مع بقائها البتة، كما يخرج أهل التوحيد منها مع بقائها. فالفرق بين من يخرج من الحبس -وهو حبس على حاله- وبين من يبطل حبسه بخراب الحبس وانتقاضه.
قالوا: وأما الطريق الثالث: وهو مجيء السنة المستفيضة بخروج أهل الكبائر من النار دون أهل الشرك، فهي حق لا شك فيه، وهي إنما تدل على ما قلناه من خروج الموحِّدين منها، وهي دار عذاب لم تَفْنَ، ويبقى المشركون فيها ما دامت باقية، والنصوص دلت على هذا وعلى هذا.
قالوا: وأما الطريق الرابع: وهو أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقفنا على ذلك
ضرورة، فلا ريب أنَّه من المعلوم من دينه بالضرورة، أن الكفار باقون فيها ما دامت باقية، هذا معلوم من دينه بالضرورة، وأما كونها أبدية لا انتهاء لها ولا تفنى كالجنة، فأين في القرآن والسنة دليل واحد يدل على ذلك؟
قالوا: وأما الطريق الخامس: وهو أن في عقائد أهل السنة: أن الجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبدًا. فلا ريب أن القول بفنائهما قول أهل البدع من الجهيمية والمعتزلة، وهذا القول لم يقله أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا أحد من أئمة المسلمين، وأما فناء النار وحدها فقد أوجدناكم من قال به من الصحابة، وتفريقهم بين الجنة والنار، فكيف يكون القول به من أقوال أهل البدع، مع أنَّه لا يُعْرَف عن أحد من أهل البدع التفريق بين الدارين، فقولكم: إنه من أقوال أهل البدع كلامُ من لا خِبْرَة له بمقالات بني آدم، وآرائهم واختلافهم.
قالوا: والقول الذي يُعَدُّ من أقوال أهل البدع: ما خالف كتاب اللَّه، أو سنة رسوله، أو إجماع الأمة، إما الصحابة
(1)
أو من بعدهم، وأما قول يوافق الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، فلا يُعَدُّ من أقوال أهل البدع، وإن دانوا به واعتقدوه، فالحق يجب قبوله ممن قاله، والباطل يجب ردُّهُ على من قاله، وكان معاذ بن جبل يقول: "اللَّه حَكَم قسط، هلك المرتابون، إن من ورائكم فتنًا يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن حتى يقرؤه المؤمن والمنافق، والمرأة والصبي، والأسود والأحمر،
(1)
قوله "أو سنة رسوله أو إجماع الأمة، إمَّا الصحابة" وقع في "ج""والسنة أو إجماع الصحابة أو من بعدهم، ووقع في "أ" "و" بدل "أو".
فيوشك أحدهم أن يقول: قرأت القرآن، فما أظن أن يتبعوني حتى أبتُدِعَ لهم غيره، فإياكم وما ابتُدِعَ، فإن كل بدعة ضلالة، وإياكم وزيغة الحكيم؛ فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة، وإن المنافق قد يقول كلمة الحق، فتلقوا الحق عمن جاء به، فإن على الحق نورًا، قالوا: وكيف زيغة الحكيم؟ قال: هي الكلمة تروعكم وتنكرونها، وتقولون: ما هذه؟ فاحذروا زيغته، ولا يصدنكم عنه، فإنَّه يوشك أن يفيء، ويراجع الحق، وإن العلم والإيمان مكانهما إلى يوم القيامة"
(1)
.
فالذي أخبر به أهل السنة في عقائدهم، هو الذي دلّ عليه الكتاب والسنة، وأجمع عليه السلف: أن الجنة والنار مخلوقتان، وأن أهل النار لا يخرجون منها، ولا يُخَفَّف عنهم عذابها، ولا يُفَتَّر عنهم، وأنهم خالدون فيها، ومن ذكر منهم أن النار لا تفنى أبدًا؛ فإنما قاله لظنه أن بعض أهل البدع قال بفنائها، ولم تبلغه تلك الآثار التي تقدم ذكرها.
قالوا: وأما الطريق السادس: وهو حكم العقل
(2)
بتخليد أهل النار فيها، فإخبار عن العقل بما ليس عنده، فإن المسألة من المسائل التي لا تعلم إلا بخبر الصادق.
(1)
أخرجه أبو داود رقم (4611)، وعبد الرزاق رقم (20750)، والَّلالكائي في شرح أصول الاعتقاد رقم (116)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 232 و 333)، وغيرهم. وسنده صحيح.
(2)
جاء في "أ، ب، ج، د": "وأمَّا حكم العقل" بدل "وأمَّا الطريق السادس: وهو حكم العقل"، والمثبت من "هـ".