الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما أصل الثواب والعقاب: فهل يعلم بالعقل مع السمع، أو لا يُعْلم إلا بالسمع وحده؟ ففيه قولان لِنظَّار المسلمين من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم.
والصحيح أن العقل دلّ على المعاد والثواب والعقاب إجمالًا، وأما تفصيله فلا يُعْلَم إلا بالسمع، ودوام الثواب والعقاب مما لا يدلّ عليه العقل
(1)
بمجرده، وإنما عُلِم
(2)
بالسمع، وقد دلّ السمع دلالة قاطعة على دوام ثواب المطيعين، وأما عقاب العصاة فقد دلّ السمع أيضًا دلالة قاطعة على انقطاعه في حق الموحِّدين، وأما دوامه وانقطاعه في حق الكفار، فهذا مُعْتَرَك النِّزَال، فمن كان السمع من جانبه فهو أسعد بالصواب
(3)
. وباللَّه التوفيق.
فصل
ونحن نذكر الفرق بين دوام الجنة والنار شرعًا وعقلًا، وذلك يظهر من وجوه:
أحدها: أن اللَّه سبحانه وتعالى أخبر ببقاء نعيم أهل الجنة ودوامه، وأنه لا نفاد له ولا انقطاع، وأنه غير مجذوذ. وأما النار فلم يخبر عنها بأكثر من خلود أهلها فيها، وعدم خروجهم منها، وأنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، وأنها موصدة عليهم، وأنهم كلما أرادوا أن يخرجوا منها
(1)
ليس في "أ".
(2)
في نسخةٍ على حاشية "أ": "يُعْلَم".
(3)
في "ج": "بالجواب".
أعيدوا فيها، وأن عذابها لازم لهم، وأنه مقيم عليهم لا يفتر عنهم، والفرق بين الخبرين ظاهر.
الوجه الثاني: أن النار قد أخبر سبحانه وتعالى في ثلاث آيات عنها بما يدلّ على عدم أبديتها.
الأولى: قوله سبحانه وتعالى: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 128].
الثانية: قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107].
الثالثة: قوله: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)} [النبأ: 23].
ولولا الأدلة القَطْعِية الدالة على أبدِيَّة الجنة ودوامها لكان حكم الاستثناء في الموضعين واحدًا، كيف وفي الآيتين من السياق ما يفرق بين الاستثناءين، فإنَّه قال في أهل النار:{إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)} ، فعلمنا أنَّه سبحانه وتعالى يريد أن يفعل فعلاً لم يخبرنا به، وقال في أهل الجنة:{عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)} [هود: 108] فعلمنا أن هذا العطاء والنعيم غير مقطوع عنهم أبدًا. فالعذاب مؤقَّت مُعلَّق، والنعيم ليس بمؤقت ولا معلق.
الوجه الثالث: أنَّه قد ثبت أن الجنة يدخلها من لم يعمل خيرًا قط من المُعَذَّبين الذين يخرجهم اللَّه من النار، وأما النار فلا يدخلها من لم يعمل سوءًا قط، ولا يعذب بها إلا من عصاه.
الوجه الرابع: أنَّه قد ثبت أن اللَّه سبحانه ينشئ للجنة خلقًا آخر يوم
القيامة يسكنهم إياها، ولا يفعل ذلك بالنار، وأما الحديث الذي ورد في "صحيح البخاري"
(1)
في قوله: "وأما النار فينشئ اللَّه لها خلقًا آخرين" فغلط وقع من بعض الرواة
(2)
، انقلب عليه الحديث، وإنما هو
(1)
(7449 - فتح) كتاب التوحيد (25)، باب: ما جاء في قول اللَّه تعالى {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} ولفظه: ". . . وأنَّهُ ينشئ للنَّارِ من يشاء فيلقون فيها. . حتَّى يضع فيها قدمه فتمتلئ. . . ".
(2)
وبيان ذلك باختصار:
أنَّ الحديث يرويه يعقوب بن إبراهيم بن سعد الزهري عن أبيه عن صالح بن كيسان عن الأعرج عن أبي هريرة كما تقدم عند البخاري.
- ورواهُ شعيب بن أبي حمزة وورقاء وابن عيينة وابن أبي الزناد كلهم عن أبي الزناد عن الأعرج به.
وفيه " .. وأمَّا النَّار فلا تمتلئ، فيضع قدمه" لفظ شعيب وورقاء.
أخرجه مسلم (2846)، والنسائي في الكبرى (7740)، والحميدي (1136)، وأبو يعلى (6290) وغيرهم.
وقد رواهُ جماعة عن أبي هريرة: "أنَّ الجنَّة ينشئ اللَّه لها خلقًا، وأمَّا النار فيضع قدمه عليها".
- منهم "همام بن منبِّه، ومحمد بن سيرين، وعبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة، وزياد مولى بني مخزوم، وعمار بن أبي عمار، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف -لكنَّه مختصر-، وعون بن عبد اللَّه بن عتبة -إنْ كان محفوظًا-، وعبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة".
أخرجه البخاري (4849 و 4850)، ومسلم (2846)، وابن خزيمة في التوحيد رقم (121 - 123، 131، 132، 137)، وأحمد (2/ 450)، والآجري في الشريعة (920) وغيرهم. =
ما ساقه البخاري في الباب نفسه: "وأما الجنة فينشئ اللَّه لها خلقًا آخرين" وذكره البخاري رحمه الله مُبَيِّنًا أن الحديث انقلب لفظه على من رواه بخلاف هذا، فذكر هذا وهذا
(1)
، والمقصود أنَّه لا تقاس النار بالجنة في التأبيد مع هذه الفروق. يوضِّحه:
الوجه الخامس: أن الجنة من موجب رحمته ورضاه، والنار من غضبه وسخطه، ورحمته سبحانه تغلب غضبه وتسبقه، كما في الصحيح من حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "لما خلق
(2)
اللَّه الخلق كتب في كتاب فهو عنده موضوع على العرش إنَّ رحمتي تغلب غضبي"
(3)
، وإذا كان رضاه قد سبق غضبه، وهو
= وقد ورد عن غير واحدٍ من الصحابة، منهم:
1 -
أنس بن مالك عند البخاري (7384 - فتح".
2 -
وأبو سعيد الخدري عند أحمد (3/ 13)، وابن خزيمة (134) وغيرهما.
3 -
أُبي بن كعب عند الدَّارقطني في الصفات رقم (5) ولا يثبت.
وهذا يدلُّ على الغلط في تلك الرواية كما قال المؤلِّف.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: "وقد قال جماعة من الأئمة: إنَّ هذا الموضع مقلوب"، ثُمَّ نقل كلام ابن القيم والبلقيني.
(1)
لم يذكر البخاري في كتاب التوحيد مع الحديث المتقدم هذا الحديث "وأمَّا الجنَّة فينشئ اللَّه لها. . . "، وإنَّما ذكره البخاري في كتاب التفسير/ سورة "ق"، باب "وتقول هل من مزيد"(8/ 594 - 595 - الفتح)، فأسند حديث همام وابن سيرين عن أبي هريرة، وأسند حديث أنس فقط.
(2)
في "ب، ج، د، هـ" ونسخةٍ على حاشية "أ""قضى"، وكلاهما في البخاري ومسلم.
(3)
أخرجه البخاري (6969)، ومسلم (4751).
يغلبه، كان التسوية بين ما هو من موجب رضاه، وما هو من موجب غضبه = ممتنعًا. يوضحه:
الوجه السادس: أن ما كان بالرحمة وللرحمة، فهو مقصود لذاته قصد الغايات، وما كان من موجب الغضب والسخط، فهو مقصود لغيره قصد الوسائل، فهو مسبوق ومغلوب مراد لغيره، وما كان بالرحمة فغالب سابق مراد لنفسه. يوضحه:
الوجه السابع: وهو أنَّه سبحانه قال للجنة: "أنت رحمتي أرحم بكِ من أشاء" وقال للنار: "أنت عذابي أُعذِّبُ بك من أشاء"
(1)
، وعذابه مفعول منفصل، وهو ناشئٌ عن غضبه، ورحمته ها هنا: هي الجنة، وهي رحمة مخلوقة ناشئة عن الرحمة التي هي صفة الرحمن، فها هُنا أربعة أمور: رحمة هي وصْفُهُ سبحانه، وثواب منفصل هو ناشئٌ عن رحمته، وغضب يقوم به سبحانه، وعقاب منفصل ينشأ عنه. فإذا غلبت صفة الرحمة صفة الغضب، فلأنْ يغلب ما كان بالرحمة لما كان بالغضب أولى وأحرى، فلا تقاوِم النارُ التي نشأت عن الغضب الجنةَ التي نشأت عن الرحمة. يوضحه:
الوجه الثامن: أن النار خلقت تخويفًا للمؤمنين، وتطهيرًا للخطَّائين المجرمين
(2)
، فهي طُهْرة من الخبث الَّذي اكتسبته النفس في
(1)
تقدم من حديث أبي هريرة قريبًا.
(2)
قوله "للخطَّائين المجرمين" في "ب، ج" ونسخةٍ على حاشية "د""للخاطئين والمجرمين"، ووقع في "د""للخطَّائين والمجرمين".
هذا العالم، فإنْ تطهَّر ها هنا بالتوبة النصوح، والحسنات الماحية، والمصائب المكفِّرة لم تحتج إلى تطهير هناك، وقيل لها مع جملة الطَّيبين:{سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]. وإنْ لم تتطهر في هذه الدَّار، ووافقت الدَّار الأخرى بِدَرَنِهَا ونجاستها وخبثها أُدْخلت النَّار طُهْرة لها، ويكونُ مكثها في النَّار بحسب زوال ذلك الدَّرن والخبث والنجاسة التي لا يغسلها الماء، فإذا تطهَّرت الطُّهر التام أُخرجت من النَّارِ، واللَّهُ سبحانه خلق عباده حُنَفاء، وهي فطرة اللَّه التي فطر النَّاسَ عليها، فلو خُلُّوا وفِطَرهم لما نشؤوا إلَّا على التوحيد، ولكن عَرَض لأكثر الفِطَر ما غيَّرها، ولهذا كان نصيب النَّارِ أكثر من نصيب الجنَّة، وكان هذا التغيير مراتب لا يحصيها إلَّا اللَّه، فأرسل اللَّه رسوله، وأنزل كتبه يُذكِّر عباده بفطرته التي فطرهم عليها، فعرف الموفَّقون الَّذين سبقت لهم من اللَّهِ الحسنى صِحَّة ما جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب بالفطرة الأولى، فتوافق عندهم شرع اللَّهِ ودينه الَّذي أرسل به رسله وفطرته التي فطرهم عليها، فمنعتهم الشريعة المنزلة، والفطرة المكمِّلة، أنْ تكتسب نفوسهم خُبثًا ونجاسة ودرنًا يعلق بها ولا يفارقها، بل كلما ألمَّ بهم شيء من ذلك ومَسَّهم طائف من الشيطان غاروا عليه بالشِّرْعة
(1)
والفطرة، فأزالوا موجبه وأثره، وكمل لهم الرب تعالى ذلك بأقضية يقضيها لهم مما يحبون أو يكرهون، تمحص عنهم تلك الآثار التي شَوَّشت الفطرة، فجاء مقتضى الرحمة، فصادف مكانًا قابلًا مستعدًّا لها ليس فيه شيء يُدافعه، فقال: ها هنا أُمِرْت، وليس للَّه
(1)
في "ج، هـ"، ونسخةٍ على حاشية "أ":"بالشريعة".
سبحانه غرض في تعذيب عباده بغير موجب، كما قال تعالى:{مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)} [النساء: 147]، واستمر الأشقياء مع تغيير الفطرة، ونقلها مما خلقت عليه إلى ضِدِّه، حتى استحكم الفساد وتم التغيير، فاحتاجوا إلى إزالة ذلك إلى تغيير آخر، وتطهير ينقلهم إلى الصحة حيث لم تنقلهم آيات اللَّه المتلُوَّة والمخلوقة، وأقداره المحبوبة والمكروهة في هذه الدار، فأتاح لهم آيات أُخر وأقضيةً وعقوباتٍ فوق التي كانت في الدنيا تستخرج ذلك الخبث والنجاسة التي لا تزول بغير النار، فإذا زال موجب العذاب وسببه؛ زال العذاب، وبقي مقتضى الرحمة لا معارضَ له.
فإن قيل: هذا حق، ولكن سبب التعذيب لا يزول إلا إذا كان السبب عارِضًا: كمعاصي الموحِّدين، أمَّا إذا كان لازمًا: كالكفر والشرك، فإن أثره لا يزول كما لا يزول السبب، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى بعينه في مواضع من كتابه.
منها: قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28] فهذا إخبارٌ بأنَّ نفوسهم وطبائعهم لا تقتضي غير الكفر والشرك، وأنها غير قابلة للإيمان أصلًا.
ومنها: قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)} [الإسراء: 72] فأخبر سبحانه أنَّ ضلالهم وعماهم عن الهدى دائم لا يزول، حتى مع معاينة الحقائق التي أخبرت بها الرسل، وإذا كان العمى والضلال لا يفارقهم، فإن موجبه وأثره ومقتضاه لا
يفارقهم.
ومنها: قوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) } [الأنفال: 23] وهذا يدلك على أنَّه ليس فيهم خير يقتضي الرحمة، ولو كان فيهم خير لما ضيَّع عليهم أثره.
ويدل على أنَّه
(1)
لا خير فيهم هناك أيضًا قوله: "أَخْرِجُوا من النَّار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرَّةٍ من خير"
(2)
، ولو كان عند هؤلاء أدنى أدنى مثقال ذرة من خير لخرجوا بها مع الخارجين.
قيل: لعمر اللَّه إنَّ هذا لمن أقوى ما يتمسك به في المسألة، وإن الأمر لكما قلتم، وإن العذاب يدوم بدوام موجبه وسببه، ولا ريب أنهم في الآخرة في عمى وضلال كما كانوا في الدنيا، وبواطنهم خبيثة كما كانت في الدنيا، والعذاب مستمرٌّ عليهم دائم ما داموا كذلك، ولكن هل هذا الكفر والتكذيب والخبث أمر ذاتي لهم زواله مستحيل، أم هو أمرٌ عارض طارئٌ على الفطرة قابل للزوال؟ هذا حرف المسألة، وليس بأيديكم ما يدلّ على استحالة زواله وأنَّه أمر ذاتي، وقد أخبر اللَّه سبحانه أنَّه فطر عباده على الحنيفية، وأنَّ الشياطين اجتالتهم عنها، فلم يفطرهم سبحانه على الكفر والتكذيب كما فَطَر الحيوان البهيم على طبيعته، وإنما فطرهم على الإقرار بخالقهم ومحبته وتوحيده.
(1)
في "ب، ج، د، هـ" ونسخة على حاشية "أ": "أنَّهم".
(2)
البخاري رقم (6192)، ومسلم (184) من حديث أبي سعيد مطوَّلًا.
فإذا كان هذا الحق
(1)
الذي قد فُطِروا عليه، وخلقوا عليه، قد أمكن زواله بالكفر والشرك الباطل، فإمكان زوال الكفر والشرك الباطل بضده من الحق أولى وأحرى، لا ريب أنهم لو رُدُّوا على تلك الحال التي هم عليها لعادوا لِمَا نُهُوا عنه، ولكن مِنْ أين لكم أن تلك الحال لا تزول، ولا تتبدَّل بنشأةٍ أخرى ينشئهم فيها تبارك وتعالى إذا أخذت النَّار مأخذَهَا منهم، وحَصَلتِ الحكمة المطلوبة من عذابهم؟ فإنَّ العذاب لم يكن سُدًى، وإنَّما كان لحكمةٍ مطلوبةٍ، فإذا حصلت تلك الحكمة لم يبق في التعذيب أمرٌ يُطْلَب، ولا غرضٌ يُقصَد، واللَّه سبحانه ليس يَشْتفي بعذاب عباده كما يشتفي المظلوم من ظالمه، وهو لا يُعذِّب عبده لهذا الغرض، وإنَّما يعذبه طهرةً له ورحمةً به، فعذابه مصلحةٌ له، وإنْ تألَّمَ به غاية الألمِ، كما أنَّ عذابه بالحدود في الدنيا مصلحة لأربابها.
وقد سمَّى اللَّه سبحانه الحدَّ عذابًا
(2)
، وقد اقتضت حكمته سبحانه أن جعل لكل داءٍ دواء يناسبه، ودواء الداء العضال يكون من أشق الأدوية، والطبيب الشفيق يكوي المريض بالنار كيًّا بعد كيٍّ ليُخْرِج منه المادة الرديئة الطارئة على الطبيعة المستقيمة، وإن رأى قطع العضو أصلح للعليل قَطَعَه، وأذاقه أشد الألم. فهذا قضاء الرب وقدره في إزالة مادة غريبة طَرَتْ على الطبيعة المستقيمة بغير اختيار العبد، فكيف إذا طرأ على الفطرة السليمة مواد فاسدة باختيار العبد وإرادته؟
(1)
في "أ": "للحق".
(2)
فقال: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)} [النور: 2].
وإذا تأمل اللبيب شرع الرب تبارك وتعالى، وقدره في الدنيا، وثوابه وعقابه في الآخرة = وَجَدَ ذلك في غاية التناسب والتوافق، وارتباط ذلك بعضه ببعض، فإن مصدر الجميع عن علمٍ تامٍّ، وحكمة بالغة، ورحمة سابغة، وهو سبحانه الملك الحق المبين، وملكه ملك رحمة وإحسان وعدل.
الوجه التاسع: أن عقوبته للعبد ليست لحاجةٍ إلى عقوبته، ولا لمنفعة تعود إليه، ولا لدفع مضرة وألم يزول عنه بالعقوبة. بل يتعالى عن ذلك ويتنزه كما يتعالى عن سائر العيوب والنقائص، ولا هي عبث مَحْض خال عن الحكمة والغاية الحميدة، فإنَّه أيضًا يتنزه عن ذلك ويتعالى عنه، فإما أن يكون من تمام نعيم أوليائه وأحبائه، وإما أن يكون من مصلحة الأشقياء ومداواتهم، أو لهذا ولهذا.
وعلى التقادير الثلاث: فالتعذيب أمر مقصود لغيره قصد الوسائل، لا قصد الغايات، والمراد من الوسيلة إذا حصلت على الوجه المطلوب زال حكمها، ونعيم أوليائه ليس متوقِّفًا في أصله ولا في كماله على استمرار عذاب أعدائه ودوامه، ومصلحة الأشقياء ليست في الدوام والاستمرار، وإن كان في أصل التعذيب مصلحة لهم.
الوجه العاشر: أن رضا الرب تبارك وتعالى ورحمته صفتان ذاتِيَّتَان له، فلا منتهى لرضاه كما قال أعلم الخلق به:"سبحان اللَّه وبحمده، عدد خلْقه، ورضا نفسه، وزِنَة عرشه، ومداد كلماته"
(1)
.
(1)
أخرجه مسلم رقم (2726).
وإذا كانت رحمته غلبت غضبه، فإن رضا نفسه أعلى وأعظم، فإن رضوانه أكثر من الجنات ونعيمها وكل ما فيها، وقد أخبر أهل الجنة: أنَّه يُحِلُّ عليهم رضوانه، فلا يسخط عليهم أبدًا.
وأما غضبه تبارك وتعالى وسخطه فليس من صفاته الذاتية التي يستحيل انفكاكه عنها بحيث لم يزل ولا يزال غضبان، والناس لهم في صفة الغضب قولان:
أحدهما: أنَّه من صفاته الفِعْلِيَّة القائمة به كسائر أفعاله.
والثاني: أنَّه صِفَة فعل منفصل عنه غير قائم به.
وعلى القولين، فليس كالحياة والعلم والقدرة التي تستحيل مفارقتها له، والعذاب إنما نشأ من صفة غضبه، وما سُعِّرت النار إلا بغضبه، وقد جاء في أثر مرفوع:"إن اللَّه خلق خلقًا من غضبه، وأسكنهم بالمشرق ينتقم بهم ممن عصاه"
(1)
.
فمخلوقاته سبحانه نوعان: نوع مخلوق من الرحمة وبالرحمة.
(1)
لم أقف عليه بهذا اللفظ.
والأثرُ ذكره السخاوي في المقاصد الحسنة ص (287) نقلًا عن ابن القيم، ولم يعزه لأحد، وعن السخاوي نقله العجلوني في كشف الخفاء (2/ 65).
وقد وردت آثارٌ في معناه.
انظر: المقاصد الحسنة ص (286)، وكشف الخفا للعجلوني (2/ 64 - 65).
ونوع مخلوق من الغضب وبالغضب.
فإنَّه سبحانه له الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي يتنزه عن تقدير خلافه، ومنه أنَّه يرضى ويغضب، ويثيب ويعاقب، ويعطي ويمنع، ويعز ويذل، وينتقم ويعفو، بل هذا موجب ملكه الحق، وهو حقيقة الملك المقرون بالحكمة والرحمة والحمد، فإذا زال غضبه سبحانه، وتَبَدَّلَ برضاه؛ زالت عقوبته، وتبدلت برحمته وانقلبت العقوبة رحمة، بل لم تزل رحمة وإن تنوعت صفتها وصورتها، كما كان عقوبة العصاة رحمة، وإخراجهم من النار رحمة، فتقلبوا في رحمته في الدنيا، وتقلبوا فيها في الآخرة، لكن تلك رحمة يحبونها وتوافق طبائعهم، وهذه رحمة يكرهونها وتشق عليهم؛ كرحمة الطبيب الذي يبضع لحم المريض، ويلقي عليه المكاوي ليستخرج منه المواد الرديئة
(1)
الفاسدة.
فإن قيل: هذا اعتبار غير صحيح، فإن الطبيب يفعل ذلك بالعليل، وهو يحبه وهو راض عنه، ولم ينشأ فعله به عن غضبه عليه، ولهذا لا يسمى عقوبة، وأما عذاب هؤلاء فإنَّه إنما حصل بغضبه سبحانه عليهم، وهو عقوبة محضة.
قيل: هذا حق، ولكن لا ينافي كونه رحمة بهم، وإن كان عقوبة لهم، وهذا كإقامة الحدود عليهم في الدنيا، فإنَّه عقوبة ورحمة وتخفيف وطُهْرة، فالحدود طهرة لأهلها وعقوبة، وهم لما أغضبوا
(1)
في نسخةٍ على حاشية "أ""المؤذية"، وفي "هـ":"الردِيَّة".
الرب تعالى وقابلوه بما لا يليق أن يقابل به، وعاملوه أقبح معاملة، وكذبوه وكذبوا رسله، وجعلوا أقل خلقه وأخبثهم وأمقتهم له نِدًّا له، وآلهة
(1)
معه، آثروا رضاهم على رضاه، وطاعتهم على طاعته، وهو وليُّ الإنعام عليهم، وهو خالقهم ورازقهم ومولاهم الحق اشتد مقْتُهُ لهم، وغضبه عليهم، وذلك يوجب كمال أسمائه وصفاته التي يستحيل عليه تقدير خلافها، ويستحيل تخلف آثارها ومقتضاها عنها، بل ذلك تعطيل لأحكامها، كما أن نفيها عنه تعطيل لحقائقها، وكلا التعطيلين محال عليه سبحانه.
فالمعطِّلون نوعان: أحدهما: عطَّل صفاته.
والثاني: عطَّل أحكامها وموجباتها.
وكان هذا العذاب عقوبة لهم من هذا الوجه، ودواء لهم من جهة الرحمة السابقة للغضب، فاجتمع فيه الأمران، فإذا زال الغضب بزوال سببه، وزالت المادة الفاسدة بتغير الطبيعة المقتضية لها في الجحيم بمرور الأحقاب عليها، وحصلت الحكمة التي أوجبت العقوبة = عملت الرحمة عملها، وطلبت أثرها من غير معارض. يوضحه:
الوجه الحادي عشر: وهو أن العفو أحب إليه سبحانه من الانتقام، والرحمة أحب إليه من العقوبة، والرضا أحب إليه من الغضب، والفضل أحب إليه من العذل، ولهذا ظهرت آثار هذه المحبة في شرعه
(1)
في "ج": "وألهمه" وهو خطأ.
وقدره، وتظهر كل الظهور لعباده في ثوابه وعقابه، وإذا كان ذلك أحب الأمرين إليه، وله خَلَقَ الخَلْق، وأنزل الكتب وشرع الشرائع، وقدرته سبحانه صالحة لكل شيء، لا قصور فيها بوجهٍ ما، وتلك المواد الرديئة الفاسدة مرض من الأمراض، وبيده سبحانه الشفاء التام، والأدوية الموافقة لكل داء، وله القدرة التامة، والرحمة السَّابِغة
(1)
والغنى المطلق، وبالعبد أعظم حاجة إلى من يداوي علته التي بلغت به غاية الضرر والمشقة، وقد عرف العبد أنَّه عليل، وأن دوائه بيد الغني الحميد، فتضرع إليه ودخل به عليه، واستكان له وانكسر قلبه بين يديه، وذل لعزته، وعرف أن الحمد كله له
(2)
، وأن الحق كله له، وأنه هو الظلوم الجهول، وأنَّ ربه تبارك وتعالى عامله ببعض عدله لا بكلِّ عدله، وأنَّ له غاية الحمد فيما فَعَلَ به، وأنَّ حمْده هو الذي أقامه في هذا المقام، وأوصله إليه، وأنه لا خير عنده من نفسه بوجهٍ من الوجوه، بل ذلك محض فضل اللَّه وصدقته عليه، وأنه لا نجاة له مما هو فيه إلا بمجرد العفو والتجاوز عن حقه، فنفسه أولى بكل ذم وعيب ونقص، وربه تعالى أولى بكل حمد وكمال ومدح.
فلو أن أهل الجحيم شهدوا نعمته سبحانه ورحمته وكماله وحمده الذي أوجب لهم ذلك، فطلبوا مرضاته؛ ولو بدوامهم في تلك الحال، وقالوا: إن كان ما نحن فيه رضاك فرضاك الذي نريد، وما أوصلنا إلى هذه الحال إلا طلب ما لا يرضيك، فأما إذا أرضاك هذا منا فرضاك غاية
(1)
في "أ": "السابقة"، وفي "د":"الشاملة".
(2)
في "د": "للَّه".
ما نقصده.
* وما لجرح
(1)
إذا أرضاك من ألم
(2)
*
وأنت أرحم بنا من أنفسنا، وأعلم بمصالحنا، ولك الحمد كله، عاقبت أو عفوت = لانقلبت النار عليهم بردًا وسلامًا.
وقد روى الإمام أحمد في "مسنده"
(3)
من حديث الأسود بن سَرِيع
(4)
رضي الله عنه أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "أربعة يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئًا، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة، فأما الأصمُّ فيقول: رب لقد جاء الإِسلام وما أسمع شيئًا، وأما الأحمق فيقول: رب لقد جاء الإِسلام والصبيان يحذفوني بالبعر، وأما الهرم فيقول: ربي لقد جاء الإِسلام وما أعقل شيئًا، وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب ما أتاني لك من رسول. فيأخذ مواثيقهم ليُطِيْعُنَّهُ فيرسل إليهم: أنِ ادخلوا النار، قال: فوالذي نفس محمَّد بيده لو
(1)
في "أ، ج": "تخرج".
(2)
هذا شطر بيت لأسامة بن منقذ كما في خريدة القصر للأصفهاني ص (2390). أوله:
وما سخطتُ بعادي إذ رضِيتَ به
…
وما لجرحٍ إذا أرضاكُمُ ألمُ
ونُسبَ لابن النحاس، وأوله:
إن كان يرضيك تطويح النوائب بي
انظر: البديع في نقد الشعر لابن منقذ ص (472).
(3)
(4/ 24).
(4)
في "د": "زريع" وهو خطأ.
دخلوها لكانت عليهم بردًا وسلامًا"
(1)
.
وفي "المسند" أيضًا: من حديث قتادة، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة مثله وقال:"فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا، ومن لم يدخلها يسحبُ إليها".
فهؤلاء لمَّا رَضُوا بتعذيبهم، وبادروا إليه لَمَّا علموا أنَّ فيه رضى
(1)
وأخرجه إسحاق في مسنده رقم (41)، والطبراني في الكبير (1/ 287) رقم (841)، وابن حبَّان في صحيحه رقم (7357)، والبيهقي في الاعتقاد ص (202) وغيرهم.
من طريق علي بن المديني وإسحاق بن راهويه عن معاذ بن هشام الدستوائي عن أبيه عن قتادة عن الأحنف بن قيس عن الأسود بن سريع فذكره.
- ورواهُ محمَّد بن المثنى عن معاذ عن أبيه عن قتادة عن الحسن عن الأسود بن سريع فذكره.
أخرجه البزار (2174) كما في كشف الأستار.
- ورواهُ علي بن المديني ومحمد بن المثنى عن معاذ عن أبيه عن قتادة عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة فذكره.
أخرجه أحمد (4/ 24)، وإسحاق في مسنده (42)، والبيهقي في القضاء والقدر (645) وغيرهم.
- ورواهُ حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن أبي رافع عن أبي هريرة فذكره.
أخرجه أسد في الزهد (97)، وابن أبي عاصم في السنة رقم (404).
ولعلَّ حديث أبي هريرة أصح الطرق، وقد صحح إسناده البيهقي.
- ورواهُ معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة موقوفًا.
أخرجه الطبري (15/ 54).
ربهم وموافقة أمره ومحبته؛ انقلب في حقِّهم نعيمًا.
ومثل هذا: ما رواهُ عبد اللَّه بن المبارك: حدثني رشدين، قال: حدَّثني ابن أنْعُمٍ عن أبي عثمان أنَّه حدَّثه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ رجلين ممَّن دخلا النَّار يشتدُّ صياحُهما، فقال الربُّ جل جلاله: أخرجوهما فأخرجا، فقال لهما: لأي شيء اشتد صياحكما؟ قالا: فعلنا ذلك لترحمنا، قال: رحمتي لكما أنْ تنطلقا فتلقيا أنفسكما حيث كنتما من النَّار، قال فينطلقان، فيلقي أحدهما نفسه فيجعلها اللَّه سبحانه عليه بردًا وسلامًا، ويقوم الآخر فلا يلقي، فيقول له الرب: ما منعك أنْ تلقي نفسك كما ألقى صاحبك؟ فيقول: ربِّ أرجوك أنْ لا تعيدني فيها بعدما أخرجتني منها، فيقول الربُّ تعالى: لك رجاؤك، فيدخلان جميعًا الجنَّة برحمة اللَّه"
(1)
.
وذكر الأوزاعي عن بلال بن سعد قال: "يؤمر بإخراج رجلين من النَّارِ، فإذا خرجا ووقفا، قال اللَّهُ لهما: كيف وجدتما مقيلكما وسوءَ مصيركما؟ فيقولان: شرُّ مقيل، وأسوأ مصير صار إليه العبادُ، فيقول لهما: ذلك بما قدمت أيديكما وما أنا بظلَّامٍ للعبيد، قال: فيؤمر
(1)
أخرجه ابن المبارك في الزهد -رواية نعيم- رقم (410)، والترمذي (2599).
قال الترمذي: "إسناد هذا الحديث ضعيف؛ لأنَّه عن رشدين بن سعد -ورشدين بن سعد هو ضعيف عند أهل الحديث- عن ابن أنعم: وهو الأفريقي، والأفريقي ضعيف عند أهل الحديث".
بصرفهما إلى النار، فأما أحدهما فيغدو في أغلاله وسلاسله حتى يقتحمها. وأما الآخر فيتلكأ فيأمر بردهما، فيقول للذي غدا في أغلاله وسلاسله حتى اقتحمها: ما حملك على ما صنعت وقد جربتها؟ فيقول: إني خبرت
(1)
من وبال معصيتك ما لم أكن أتعرض لسخطك ثانيًا، ويقول للذي تلكأ: ما حملك على ما صنعت؟ فيقول: حسن ظني بك حين أخرجتني منها أن لا تردني إليها، فيرحمهما جميعًا، ويأمر بهما إلى الجنة"
(2)
.
الوجه الثاني عشر: أن النعيم والثواب من مقتضى رحمته ومغفرته وبره وكرمه، ولذلك يضيف ذلك إلى نفسه، وأما العذاب والعقوبة، فإنما هو من مخلوقاته، ولذلك لا يُسمَّى
(3)
بالمُعاقِبُ والمعذِّب، بل يفرق بينهما، فيجعل ذلك من أوصافه وهذا من مفعولاته حتى في الآية الواحدة، كقوله تعالى:{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) } [الحجر: 49 - 50]. وقال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) } [المائدة: 98] وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) } [الأعراف: 167]، ومثلها في آخر الأنعام
(4)
، فما كان من مقتضى أسمائه وصفاته، فإنَّه يدوم بدوامها [225/ ب]، ولا سيما إذا كان محبوبًا له،
(1)
في "أ": "خيِّرت"، وفي "د":"جبرت"، وفي الحلية "قد ذقت".
(2)
أخرجه أبو نعيم في الحلية (5/ 266)، وسنده ضعيف.
(3)
في "ب، هـ": "يتسمَّى".
(4)
(آية: 128).
وهو غاية مطلوبة في نفسها، وأما الشر الذي هو العذاب، فلا يدخل في أسمائه وصفاته، وإن دخل في مفعولاته لحكمة إذا حصلت زال وفني، بخلاف الخير، فإنَّه سبحانه دائم المعروف، لا ينقطع معروفه أبدًا، وهو قديم الإحسان أبديُّ الإحسان، فلم يزل ولا يزال محسنًا على الدوام، وليس من موجب أسمائه وصفاته أنَّه لا يزال معاقبًا على الدوام، غضبان على الدوام، منتقمًا على الدوام.
فتأمل هذا الوجه تأمُّلَ فقيهٍ في باب أسماء اللَّه وصفاته = يفتح لك بابًا من أبواب معرفته ومحبته. يوضحه:
الثالث عشر: وهو قول أعلم خلقه به، وأعرفهم بأسمائه وصفاته:"والشر ليس إليك"
(1)
، ولم يقف على المعنى المقصود مَنْ قال: الشر لا يتقرب به إليك
(2)
. بل الشر لا يضاف إليه سبحانه بوجهٍ، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ولا في أسمائه، فإن ذاته لها الكمال المطلق من جميع الوجوه، وصفاته كلها صفات كمال يُحْمَد عليها ويُثْنَى عليه بها، وأفعاله كلها خير ورحمة وعدل وحكمه، لا شَرَّ فيها بوجه ما، وأسماؤه كلها حسنى، فكيف يضاف الشر إليه؟ بل الشر في مفعولاته ومخلوقاته، وهو منفصل عنه، إذ فِعْله غير مفعوله، ففعله خير كله، وأما المخلوق المفعول، ففيه الخير والشر.
وإذا كان الشر مخلوقًا منفصلًا غير قائم بالرب سبحانه، فهو لا
(1)
أخرجه مسلم رقم (771).
(2)
أخرجه البيهقي في القضاء والقدر رقم (400) بسندٍ صحيح عن النضر بن شُمَيْل.
يضاف إليه، وهو صلى الله عليه وسلم لم يقل: أنت لا تخلق الشر، حتى يطلب تأويل قوله، وإنما نفى إضافته إليه وصْفًا وفعْلًا واسمًا.
وإذا عُرِف هذا؛ فالشر ليس إلا الذنوب وموجباتها، وأما الخير فهو الإيمان والطاعات وموجباته، والإيمان والطاعات متعلقة به سبحانه، ولأجلها خلق خلْقَه وأرسل رسلَه وأنزل كتبه، وهي ثناء على الرب
(1)
وإجلاله وتعظيمه وعبوديته، وهذه لها آثار يطلبها ويقتضيها، فتدوم آثارها بدوام متعلقها.
وأما الشرور فليست مقصودة لذاتها، ولا هي الغاية التي خلق لها الخلق، فهي مفعولات قُدِّرت لأمرٍ محبوب، وجُعِلت وسيلة إليه، فإذا حصل ما قُدِّرت له اضمحلت وتلاشت، وعاد الأمر إلى الخير المحض.
الوجه الرابع عشر: أنَّه سبحانه قد أخبر أن رحمته وسعت كل شيء
(2)
. فليس شيء من الأشياء إلا وفيه رحمته، ولا ينافي هذا أن يرحم العبد بما يشق عليه ويؤلمه، وتشتد كراهته له، فإن ذلك من رحمته أيضًا كما تقدم.
وقد ذكرنا حديث أبي هريرة آنفًا
(3)
وقوله تعالى لذينك الرجلين: "رحمتي لكما أن تنطلقا فتلقيا أنفسكما حيث كنتما في النار".
(1)
وقع في "د": "على الرب وتحيته".
(2)
كما قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156].
(3)
ص (768) وهو لا يصح.
وقد جاء في بعض الآثار: "أن العبد إذا دعا لمبتلىً قد اشتد بلاؤه، وقال: اللهم ارحمه، يقول الرب تبارك وتعالى: كيف أرحمه من شيء به أرحمه"
(1)
.
فالابتلاء رحمة منه لعباده.
وفي أثر إلهي يقول اللَّه عز وجل: "أهل ذكري أهل مجالستي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل شكري أهل زيادتي، وأهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب"
(2)
.
فالبلاء والعقوبة أدوية قدرت لإزالة أدواء لا تزول إلا بها، والنار هي الدواء الأكبر، فمن تداوى في الدنيا أغناه ذلك عن الدواء في الآخرة، وإلَّا فلا بد له من الدواء بحسب دائه، ومن عرف الرب تبارك وتعالى بصفات جلاله ونعوت كماله، من حكمته ورحمته وبره وإحسانه وغناه وجوده ومحبته إلى عباده، وإرادة الإنعام، وسبق رحمته لهم = لم يبادر إلى إنكار ذلك إن لم يبادر إلى قبوله
(3)
. يوضحه:
الوجه الخامس عشر: أن أفعاله سبحانه لا تخرج عن الحكمة والرحمة والمصلحة والعدل، فلا يفعل عبثًا ولا جورًا ولا باطلًا، بل
(1)
لم أقف عليه.
(2)
لم أقف عليه.
(3)
في "ج": "قوله".
هو المُنَزَّه عن ذلك كما تنزه عن سائر العيوب والنقائص.
وإذا ثبت ذلك، فتعذيبهم إن كان رحمة بهم حتى يزول ذلك الخبث، وتكمل الطهارة = فظاهر، وإن كان لحكمة؛ فإذا حصلت تلك الحكمة المطلوبة زال العذاب، وليس في الحكمة دوام العذاب أَبَدَ الآباد بحيث يكون دائمًا بدوام الرب تبارك وتعالى، وإن كان لمصلحة فإن كان يرجع إليهم، فليست مصلحتهم في بقائهم في العذاب كذلك، وإن كانت المصلحة تعود إلى أوليائه؛ فإن ذلك أكمل في نعيمهم، فهذا لا يقتضي تأبيد العذاب، وليس نعيم أوليائه وكماله موقوفًا على بقاء آبائهم وأبنائهم وأزواجهم في العذاب السَّرْمَد.
فإن قلتم: إن ذلك هو موجب الرحمة والحكمة
(1)
والخلد
(2)
والمصلحة. قلتم: ما لا يُعْقَل
(3)
. وإن قلتم: إن ذلك عائد إلى محض المشيئة ولا يطلب له حكمة ولا غاية، فجوابه من وجهين:
أحدهما: أن ذلك محال على أحكم الحاكمين، وأعلم العالمين، أن تكون أفعاله معطلة عن الحِكَمِ
(4)
، والمصالح، والغايات المحمودة، والقرآن والسنة وأدلة المعقول
(5)
والفطر والآيات المشهودة منه
(6)
(1)
من "ب، د، هـ".
(2)
من "أ، ج".
(3)
في نسخةٍ على حاشية "د": "يُفعَل".
(4)
في "د": "الحكمة".
(5)
في "د، هـ": "العقول".
(6)
من "أ".
شاهد ببطلان ذلك.
والثاني: أنَّه لو كان الأمر كذلك لكان إبقاؤهم في العذاب، وانقطاعه عنهم بالنسبة إلى مشيئته سواء، ولم يكن في انقضائه ما ينافي كماله، وهو سبحانه لم يخبر بأبدية العذاب، وأنه لا نهاية له.
وغاية الأمر على هذا التقدير: أن يكون من الجائزات المُمْكِنَات الموقوف حكمها على خبر الصادق.
فإن سلكت طريق التعليل بالحكمة والرحمة والمصلحة لم يقتض الدوام، وإن سلكت طريق المشيئة المحضة التي لا تعلل لم تقتضه أيضًا، وإن وقف الأمر على مجرد السمع فليس فيه ما يقتضيه.
الوجه السادس عشر: أن رحمته سبحانه سبقت غضبه في المعذبين، فإنَّه أنشأهم برحمته، وغذاهم برحمته، ورباهم برحمته ورزقهم وعافاهم برحمته، وأرسل إليهم الرسل برحمته، وأسباب النقمة والعذاب متأخرة عن أسباب الرحمة طارئة عليها، فرحمته سبقت غضبه فيهم
(1)
، وخَلَقَهم على خِلْقَةٍ تكون رحمته إليهم أقرب من غضبه وعقوبته.
ولهذا ترى أطفال الكفار قد ألقى عليهم رحمته، فمن رآهم رحمهم، ولهذا نُهِيَ عن قتلهم
(2)
، فرحمته سبقت غضبه
(1)
في "ب، هـ": "فهم".
(2)
أخرجه البخاري رقم (2851 و 2852)، ومسلم رقم (1744) عن ابن عمر قال: "وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فنهى رسول =
فيهم، فكانت هي السابقة إليهم، ففي كل حال هم في رحمته في حال معافاتهم وابتلائهم.
وإذا كانت الرحمة هي السابقة فيهم لم يبطل أثرها بالكلية، وإن عارضها أثر الغضب والسخط فذلك لسبب منهم، وأما أثر الرحمة فسببه منه سبحانه، فما منه يقتضي رحمتهم، وما منهم يقتضي عقوبتهم، والذي منه سابق وغالب، وإذا كانت رحمته تغلب غضبه، فلأن يغلب أثر الرحمة أثر الغضب أولى وأحرى.
الوجه السابع عشر: أنَّه سبحانه يخبر عن العذاب أنَّه عذاب يوم عقيم، وعذاب يوم عظيم، وعذاب يوم أليم، ولا يخبر عن النعيم أنَّه نعيم يوم، ولا في موضع واحد.
وقد ثبت في "الصحيح" تقدير يوم القيامة بخمسين ألف سنة
(1)
، والمعذبون متفاوتون في مدة لبثهم في العذاب بحسب جرائمهم، واللَّه سبحانه جعل العذاب على ما كان من الدنيا وأسبابها، وما أريد به الدنيا ولم يرد به
(2)
اللَّه فالعذاب على ذلك. وأما ما كان للآخرة وأريد به وجه اللَّه فلا عذاب عليه، والدنيا قد جعل لها أجلًا تنتهي إليه، فما انتقل منها إلى تلك الدار مما ليس للَّه، فهو المعذب به.
وأما ما أُريد به وجه اللَّه والدار الآخرة، فقد أُريد به ما لا يفنى ولا
= اللَّه صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان".
(1)
أخرجه مسلم برقم (987) من حديث أبي هريرة الطويل في مانع الزكاة.
(2)
بياض في "د" فقط بمقدار كلمة، ووقع في المطبوع مكانه "وجه".
يزول، فيدوم بدوام المراد به، فإن الغاية المطلوبة إذا كانت دائمة لا تزول لم يَزُلْ ما تعلَّق بها، بخلاف الغاية المُضْمَحِلَّة الفانية، فما أُريد به غير اللَّه يضمحل ويزول بزوال مراده ومطلوبه، وما أُريد به وجه اللَّه يبقى ببقاء المطلوب المراد، فإذا اضمحلت الدنيا وانقطعت أسبابها، وانتقل ما كان فيها لغير اللَّه من الأعمال والذوات، وانقلب عذابًا وآلامًا = لم يكن له متعلق يدوم بدوامه؛ بخلاف النعيم.
الوجه الثامن عشر: أنَّه ليس في حُكْمِ
(1)
أحكم الحاكمين أن يخلق خلقًا يعذبهم أبد الآباد، عذابًا سرمدًا لا نهاية له، ولا انقطاع أبدًا، وقد دلت الأدلة السمعية والعقلية والفطرية على أنَّه سبحانه حكيم، وأنه أحكم الحاكمين، فإذا عذب
(2)
خلقه عذبهم بحكمة، كما يوجد التعذيب والعقوبة في الدنيا في شرعه وقدره، فإن فيه من الحِكَم والمصالح وتطهير العبد ومداواته، وإخراج المواد الردية عنه بتلك الآلام مما تشهده العقول الصحيحة، وفي ذلك من تزكية النفوس وصلاحها وزجرها وردع نظائرها، وتوقيفها على فقرها، وضرورتها إلى ربها، وغير ذلك من الحكم والغايات الحميدة، ما لا يعلمه إلا اللَّه.
ولا ريب أن الجنة طيبة، لا يدخلها إلا طيب، ولهذا يُحْبَسون
(3)
إذا قطعوا الصراط على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من مظالم
(1)
في "ب، د، هـ" ونسخةٍ على حاشية "أ""حِكْمَة".
(2)
سقط من "ج".
(3)
وقع في "ج": "يحسبون" وهو خطأ.
كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذِّبوا ونُفُّوا أذن لهم في دخول الجنة
(1)
.
ومعلوم أن النفوس الشريرة الخبيثة المظلمة التي لو ردت إلى الدنيا قبل العذاب لعادت لما نهيت عنه، لا تصلح أن تسكن دار السلام في جوار رب العالمين، فإذا عذبوا بالنار عذابًا يخلص نفوسهم من ذلك الخبث والوسخ والدرن، كان ذلك من حكمة أحكم الحاكمين ورحمته، ولا ينافي الحكمة خلقَ نفوسٍ فيها شر يزول بالبلاء الطويل والنار، كما يزول بها خبث الذهب والفضة والحديد، فهذا معقول في الحكمة، وهو من لوازم العالم المخلوق على هذه الصفة، أما خلق نفوس لا يزول شرها أبدًا، وعذابها لا انتهاء له، فلا يظهر في الحكمة والرحمة، وفي وجود مثل هذا النوع نزاع بين العقلاء، أعني: ذواتًا وهي شرٌّ من كل وجه، ليس فيها شيء من خير أصلًا.
وعلى تقدير دخوله في الوجود، فالرب تبارك وتعالى قادر على قلب الأعيان، وإحالتها، وإحالة صفاتها.
فإذا وجدت الحكمة المطلوبة من خلق هذه النفوس، والحكمة المطلوبة من تعذيبها، فإنَّه
(2)
سبحانه قادر أن ينشئها نشأة أُخرى غير تلك النشأة، ويرحمها في النشأة الثانية نوعًا آخر من الرحمة.
(1)
كما في حديث أبي سعيد الخدري عند البخاري رقم (2308) و (6170). وقد تقدَّم في آخر الباب (37).
(2)
في "ب، د، هـ" ونسخةٍ على حاشية "أ""فاللَّه".
يوضحه:
الوجه التاسع عشر: وهو أنَّه قد ثبت أن اللَّه سبحانه يُنْشئ للجنة خلقًا آخر، يسكنهم إياها، ولم يعملوا خيرًا تكون الجنة جزاء
(1)
لهم عليه، فإذا أخذ العذاب من هذه النفوس مأخذه، وبلغت العقوبة مبلغها، فانكسرت تلك النفوس، وخضعت وذلت
(2)
، واعترفت لربها وفاطرها بالحمد، وأنه عدل فيها كل العدل، وأنها في هذه الحال كانت في تخفيف منه، ولو شاء أن يكون عذابها أشد من ذلك لَفَعَل، وشاء كتب العقوبة طلبًا لموافقة رضاه ومحبته، وعلمت أن العذاب أولى بها، وأنه لا يليق بها سواه، ولا تصلح إلا له، فذابت منها تلك الخبائث كلها، وتلاشت وتبدلت بذلٍّ وانكسارٍ، وحَمْدٍ وثناء على الرب تبارك وتعالى، ولم يكن في حكمته أن يستمر بها في العذاب بعد ذلك، إذ قد تبدل شرها بخيرها، وشركها بتوحيدها، وكبرها بخضوعها وذلها.
ولا ينتقض هذا بقوله عز وجل: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28] فإن هذا قبل مباشرة العذاب الذي يزيل تلك الخبائث، وإنما هو عند المعاينة قبل الدخول، فإنَّه سبحانه وتعالى قال:{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 27، 28].
(1)
ليس في "أ، ج"، ووقع في نسخة على حاشية "أ""خيرًا".
(2)
في "ج" ونسخةٍ على حاشية "أ""وذُلِّلت".
فهذا إنما قالوه قبل أن يستخرج العذابُ منهم تلك الخبائث، فأما إذا لبثوا في العذاب أحقابًا، والحقب: كما رواه الطبراني في "معجمه"
(1)
من حديث أبي أمامة رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "الحقب خمسون ألف سنة"
(2)
؛ فإنَّه من الممتنع أن يبقى ذلك الكبر والشرك والخبث بعد هذه المُدَد
(3)
المتطاولة في العذاب.
الوجه العشرون: أنَّه قد ثبت في "الصحيحين"
(4)
من حديث أبي سعيد الخدري -في حديث الشفاعة- فيقول اللَّه عز وجل: "شفعت الملائكة، وشفع النَّبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم
(1)
الكبير (8/ 292) رقم (7957).
من طريق جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أُمامة.
(2)
وأخرجه ابن أبي عمر العدني في مسنده (3775 - المطالب)، وابن أبي حاتم في تفسيره (4/ 494 - ابن كثير)، وابن مردويه (6/ 502 - الدر).
قال ابن كثير في تفسيره: "وهذا حديث منكرٌ جدًّا، والقاسم هو والراوي عنه وهو جعفر بن الزبير كلاهما متروك".
ولا يصح في الباب حديثٌ مرفوع "مسند"، وإنَّما الصحيح أنَّ الحقب: ثمانون سنة، كما جاء ذلك عن ابن مسعود وأبي هريرة وابن عباس وعبد اللَّه ابن عمرو وغيرهم.
انظر: تفسير عبد الرزاق (2/ 276)، والطبري (30/ 11)، والزهد لهناد رقم (219 و 220)، والمستدرك للحاكم (2/ 556)(3890)، والدر المنثور (5/ 502 - 503).
(3)
في "ب، هـ": "المُدَّة".
(4)
البخاري رقم (773، 700)، ومسلم رقم (182).
الراحمين، فيقبض قبضة من النار، فيخرج منها قومًا لم يعملوا خيرًا قط، قد عادوا حممًا، فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة، يقال له:"نهر الحياة" فيخرجون كما تخرج الحِبَّة في حميل السيل، فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء اللَّه الذين أدخلهم اللَّه الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه".
فهؤلاء أحرقتهم النار جميعهم، فلم يبق في بدن أحدهم موضع لم تمسه النار، بحيث صاروا حممًا: وهو الفحم المحترق بالنار. فظاهر السياق أنَّه لم يكن في قلوبهم مثقال ذرة من خير، فإن لفظ الحديث هكذا:"فيقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه ذرة من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقًا كثيرًا ثمَّ يقولون: ربنا لم نذر فيها خيرًا، فيقول اللَّه عز وجل: "شفعت الملائكة، وشفع النَّبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار، فيخرج منها قومًا لم يعملوا خيرًا قط".
فهذا السياق يدلّ على أن هؤلاء لم يكن في قلوبهم مثقال ذرة من خير، ومع هذا فأخرجتهم الرحمة.
ومن هذا رحمته سبحانه للذي أوصى أهله أن يحرقوه بالنار، ويذروه في البر والبحر زَعْمًا منه بأنَّه يفوت اللَّه سبحانه، فهذا قد شك في المعاد والقدرة، ولم يعمل خيرًا قط، ومع هذا فقال له:"ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك وأنت أعلم"
(1)
، فما تلافاه أنْ رَحِمَهُ
(1)
أخرجه البخاري رقم (3291)، ومسلم رقم (2757) من حديث أبي سعيد =
اللَّه، فلله سبحانه في خلقه حُكْمٌ لا تبلغه عقول البشر.
وقد ثبت في حديث أنس رضي الله عنه أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "يقول اللَّه عز وجل: أخرجوا من النار من ذكرني يومًا أو خافني في مقام"
(1)
.
قالوا: ومن ذا الذي في مدة عمره كلها من أولها إلى آخرها لم يذكر ربه يومًا واحدًا، ولا خافه ساعةً واحدةً، ولا ريب أن رحمته سبحانه إذا أخرجت من النار من ذكره وقتًا ما، وخافه في مقام ما، فغير بِدْعٍ أن تفنى النار، ولكن هؤلاء خرجوا منها وهي نار.
الوجه الحادي والعشرون: أنَّ اعتراف العبد بذنبه حقيقة
= الخدري.
(1)
أخرجه الترمذي برقم (2594)، وعبد اللَّه في زوائد الزهد (2162)[وليس فيه "عن أنس"]، وابن أبي عاصم في السنة (883)، وابن خزيمة في التوحيد (451 و 452 - 453) مطولًا، والحاكم في المستدرك (1/ 141) رقم (234 و 235) مطولًا وغيرهم.
من طريق مبارك بن فضالة عن عبيد اللَّه بن أبي بكر بن أنس عن أنس فذكره.
قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب".
وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجا قوله: "من ذكرني أو خافني في مقام. . . ".
قلتُ: هذا اللفظ غريبٌ، وفي ثبوته نظر؛ لأنَّهُ قطعة من حديث أنس الطويل في الشفاعة، ولم يذكر هذا اللفظ أحدًا من أصحاب أنس وغيرهم من الذين رووه عنه: كثابت البناني وقتادة وحميد الطويل والنضر بن أنس وعمرو ابن أبي عمرو والحسن البصري ومعبد الطويل وغيرهم.
الاعتراف المتضمن لنسبة السوء والظلم واللوم إليه من كل وجه، ونسبة العدل والحمد والرحمة والكمال المطلق إلى ربه من كل وجه = يستعطف ربه تبارك وتعالى عليه، ويستدعي رحمته له.
وإذا أراد أن يرحم عبده ألقى ذلك في قلبه، ولا سيما إذا اقترن بذلك جزم العبد على ترك المعاودة لما يسخط ربه عليه، وعلم اللَّه ذلك داخل قلبه وسويدائه، فإنَّه لا تتخلَّف عنه الرحمة مع ذلك.
وفي "معجم الطبراني"
(1)
من حديث يزيد بن سنان الرهاوي، عن سليمان
(2)
بن عامر، عن أبي أُمامة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن آخر رجل يدخل الجنة رجل يتقلب على الصراط ظهرًا لبطن، كالغلام يضربه أبوه، وهو يَفِرُّ منه، يعجز عنه عمله أن
(1)
الكبير (8/ 185 - 186) رقم (7669).
والحديث سنده ضعيف: فيه يزيد بن سنان أبو فروة الرهاوي: ضعيف، وابنه محمَّد بن يزيد بن سنان أضعف منه، يروي عن أبيه مناكير، قاله البخاري.
لكنَّه توبع؛ تابعه عبد اللَّه بن عقيل الثقفي عند ابن أبي شيبة في مسنده كما سيأتي عند المصنف ص (795)، وفي البدور السافرة للسيوطي رقم (1652).
فالحديث مدارهُ على يزيد بن سنان، وهو ضعيف، وقال فيه ابن عدي:"وعامَّة حديثه غير محفوظة".
انظر: تهذيب الكال (32/ 156 - 159)، والكامل لابن عدي (7/ 272).
(2)
كذا في جميع النسخ، وعلَّق عليه ناسخ "أ، د" بقولهما: "كذا، ولعله: سُلَيم الخبائري".
قلتُ: وهو الصواب سُلَيم بن عامر الخبائري أبو يحيى الحمصي.
يسعى فيقول: يا رب بلِّغْ بي الجنة، ونجني من النار، فيوحي اللَّه تبارك وتعالى إليه: عبدي، إن أنا نجيتك من النار وأدخلتك الجنة، أتعترف لي بذنوبك وخطاياك؟ فيقول العبد: نعم يا رب، وعزتك وجلالك إن نجيتني من النار لأعترفن لك بذنوبي وخطاياي، فيجوز الجسر، فيقول العبد فيما بينه وبين نفسه: لئن اعترفت له بذنوبي وخطاياي ليردني إلى النار، فيوحي اللَّه إليه: عبدي، اعترف لي بذنوبك وخطاياك أغفرها لك، وأدخلك الجنة، فيقول العبد: لا وعزتك وجلالك، ما أذنبت ذنبًا قط، ولا أخطأت خطيئة قط، فيوحي اللَّه إليه: عبدي إنَّ لي عليك بَيِّنة، فيلتفت العبد يمينًا وشمالًا، فلا يرى أحدًا، فيقول: يا رب أرني بينتك، فيستنطق اللَّه تعالى جِلْدهُ بالمحقرات، فإذا رأى ذلك العبد يقول: يا رب عندي وعزتك العظائم، فيوحي اللَّه إليه، عبدي أنا أعرف بها منك، اعترف لي بها أغفرها لك وأدخلك الجنة، فيعترف العبد بذنوبه، فيدخل الجنة"، ثمَّ ضحك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، يقول: "هذا أدنى أهل الجنة منزلة، فكيف بالذي فوقه؟ ".
فالرب تعالى يريد من عبده الاعتراف والانكسار بين يديه والخضوع والذل له، والعزم على مرضاته، فما دام أهل النار فاقدين لهذا الروح، فهم فاقدون لروح الرحمة، فإذا أراد عز وجل أن يرحمهم أو من شاء منهم؛ جعل في قلبه ذلك فتدركه الرحمة، وقدرة الرب تبارك وتعالى غير قاصرة عن ذلك، وليس فيه ما يناقض موجب أسمائه وصفاته، وقد أخبر أنَّه فعال لما يريد.
الوجه الثاني والعشرون: أنَّه سبحانه قد أوجب الخلود على معاصي
من الكبائر، وقيده بالتأبيد، ولم يناف ذلك انقطاعه وانتهاءه.
فمنها: قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93].
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يتوجَّأ بها في نار جهنم خالدًا مخلَّدًا فيها أبدًا"
(1)
وهو حديث صحيح.
وكذلك قوله في الحديث الآخر في قاتل نفسه: "فيقول اللَّه تبارك وتعالى: بادرني عبدي بنفسه حَرَّمتُ عليه الجنة"
(2)
.
وأبلغ من هذا قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) } [الجن: 23].
فهذا وعيد مقيد بالخلود والتأبيد، مع انقطاعه قطعًا بسبب من العبد، وهو التوحيد، فكذلك الوعيد العام لأهل النار لا يمتنع انقطاعه، بسبَبٍ ممن كتب على نفسه الرحمة، وغلبت رحمته غضبه، فلو يعلم الكافر بكل ما عنده من الرحمة لما يئس من رحمته، كما في "صحيح البخاري"
(3)
عنه صلى الله عليه وسلم: "خلق اللَّه الرحمة يوم خلقها مئة رحمة" وقال في آخره: "فلو يعلم الكافر بكل الذي عند اللَّه من الرحمة لم
(1)
أخرجه البخاري (5442)، ومسلم (109) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري رقم (1298)، ومسلم رقم (113) من حديث جندب رضي الله عنه.
(3)
رقم (6104).
ييأس من الجنة، ولو يعلم المسلم بكل الذي عند اللَّه من العذاب لم يأمن من النار".
الوجه الثالث والعشرون: أنَّه لو جاء الخبر منه سبحانه صريحًا بأن عذاب النار لا انتهاء له، وأنه أبدي لا ينقطع، لكان ذلك وعيدًا منه سبحانه، واللَّه تعالى لا يخلف وعده، وأما الوعيد: فمذهب أهل السنة كلهم: أن إخلافه عفو وكرم وتجاوز يُمْدَحُ الرب تبارك وتعالى به، ويُثنى عليه به، فإنَّه حق له إن شاء تركه، وإن شاء استوفاه، والكريم لا يستوفي حقه، فكيف بأكرم الأكرمين؟.
وقد صرح سبحانه في كتابه في غير موضع بأنه لا يخلف وعده، ولم يقل في موضع واحد: لا يخلف وعيده.
وقد روى أبو يعلى الموصلي: حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا سهيل ابن أبي حزم، حدثنا ثابت البناني، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"من وعده اللَّه على عمل ثوابًا فهو منجزه، ومن أوعده على عمل عقابًا فهو فيه بالخيار"
(1)
.
(1)
أخرجه أبو يعلى في مسنده (6/ 66) رقم (3316)، وابن أبي عاصم في السنة رقم (960)، والخرائطي في مكارم الأخلاق رقم (189)، وابن عدي في الكامل في الضعفاء (3/ 450)، والبزار (3010 - المطالب) والبيهقي في البعث (48) وغيرهم.
والحديث من منكرات سهيل بن أبي حزم، قال البخاري:"لا يتابع في حديثه"، وقال البزار:"سهيل لا يتابع على حديثه"، وقال الإمام أحمد:"روى عن ثابت أحاديث منكرة"، وقال البيهقي: "تفرَّد به سُهيل وليس =
وقال أبو الشيخ الأصبهاني: حدثنا محمَّد بن حمزة، حدثنا أحمد ابن الخليل، حدثنا الأصمعي قال: جاء عمرو بن عبيد إلى أبي عمرو ابن العلاء فقال: يا أبا عمرو، أيخلف اللَّه ما وعد؟ قال: أفرأيت من أوعده اللَّه على عمله عقابًا، أيخلف اللَّه وعده فيه؟ فقال أبو عمرو بن العلاء: من العُجْمَة أُتِيْتَ يا أبا عثمان، إن الوعد غير الوعيد، إن العرب لا تعدّ عارًا ولا خُلْفًا أنْ تَعِدَ شرًّا ثمَّ لا تفعله، ترى ذلك كرمًا وفضلًا، وإنما الخُلْف أن تَعِدَ خيرًا ثمَّ لا تفعله، قال: فأوْجِدْني هذا في كلام العرب، قال: نعم، أما سمعت إلى قول الأول:
ولا يرهبُ ابنُ العم ما عشتُ سطوتي
…
ولا أختشى من صولة
(1)
المتهدِّد
وإنِّي وإنْ أوعدته أووعدته
…
لمخلفُ إيعادي ومنجزُ مَوْعِدي"
(2)
قال أبو الشيخ: وقال يحيى بن معاذ: "الوعد والوعيد حق، فالوعد: حق العباد على اللَّه، ضَمِنَ لهم إذا فعلوا كذا أن يعطيهم كذا،
= بالقوي". انظر: تهذيب الكمال (12/ 218 - 219).
قلت: ومعنى الحديث ثابتٌ في الكتاب والسنة.
(1)
في "هـ"، والخرائطي "سطوة" وهما بمعنى واحد. والبيتان لعامر بن الطُّفيل في ديوانه ص (58) مع اختلافٍ قليل في بعض الألفاظ.
(2)
أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق رقم (188)، وابن عدي في الكامل (5/ 99)، والبيهقي في البعث والنشور رقم (47)، والخطيب في تاريخه (12/ 172 - 173).
من طريق سوَّار بن عبد اللَّه القاضي عن الأصمعي به.
وهي قصة صحيحة ثابتة.
ومن أولى بالوفاء من اللَّه. والوعيد: حقه على العباد، قال: لا تفعلوا كذا فأعذبكم، ففعلوا، فإن شاء عفا، وإن شاء أخذ، لأنه حقه، وأولاهما بربنا تبارك وتعالى، العفو والكرم، إنه غفور رحيم"
(1)
.
ومما يدل على ذلك ويؤيده خبر كعب بن زهير حين أوعده رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال:
نُبِّئْتُ أنَّ رسول اللَّه أوعدني
…
والعفو عند رسول اللَّه مأْمُولُ
(2)
فإذا كان هذا في وعيد مطلق، فكيف بوعيدٍ مقرون باستثناء مُعَقَّب بقوله:{إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) } [هود: 107] وهذا إخبار منه أنَّه يفعل ما يريد عقيب قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} ، فهو عائد إليه ولا بد،
(1)
لم أقف عليه بهذا اللفظ، وفي الحلية (10/ 52) معناه مختصرًا.
(2)
أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (5/ 168 - 169) رقم (2706)، وأبو نُعيم في المعرفة (5/ 2378 - 2379) رقم (5833).
من طريق الحجاج بن ذي الرقيبة بن عبد الرحمن بن عقبة بن كعب بن زهير عن أبيه عن جدِّه قال: خرج كعب وبجير. . . فذكره مطوَّلًا.
قلت: مِن الحجاج بن ذي الرقيبة إلى كعب: شعراء في نَسَق، انظر الجمهرة لابن حزم ص (201 - 202).
والحجاج وأبوه وجده غير معروفين بالرواية، فينظر في حالهم، فإنِّي لم أقف على حالهم.
وله شاهد مرسل لعاصم بن عمر بن قتادة: عند الطبراني (19/ 176 - 178) رقم (403) بمعناهُ.
وشاهد آخر مرسل لسعيد بن المسيب.
عند ابن قانع في معجمه (1657) بمعناه.
ولا يجوز أن يرجع إلى المستثنى منه وحده، بل إما أن يختص بالمستثنى، أو يعود إليهما، وغير خاف ان تعلُّقه بقوله:{إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} أولى من تعلُّقه بقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا} ، وذلك ظاهر للمتأمل، وهو الذي فهمه الصحابه، فقالوا:"أتت هذه الآية على كل وعيد في القرآن"
(1)
، ولم يريدوا بذلك الاستثناء وحده، فإن الاستثناء مذكور في الأنعام أيضًا، وإنما أرادوا أنَّه عقب
(2)
الاستثناء بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) } .
وهذا التعقيب نظير قوله تعالى في الأنعام {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) } [الأنعام: 128]. فأخبر أن عذابهم في جميع الأوقات، ورَفْعَه عنهم في وقتٍ يشاؤه = صادر عن كمال علمه وحكمته لا عن مشيئة مجردة عن الحكمة والمصلحة والرحمة والعدل، إذ يستحيل تجرد مشيئته عن ذلك.
الوجه الرابع والعشرون: أن جانب الرحمة أغلب في هذه الدار الباطلة الفانية الزائلة عن قرب من جانب العقوبة والغضب، ولولا ذلك لما عُمِرَت، ولا قام لها وجود، كما قال تعالى:{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} [النحل: 61]، وقال {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: 45]، فلولا سعة رحمته ومغفرته وعفوه لما قام العالم، ومع هذا فالذي أظهره - من الرحمة في هذه الدار، وأنزله بين الخلائق - جزء من مئة جزء
(1)
تقدم ص (740).
(2)
في نسخةٍ على حاشية "أ": "عقيب".
من الرحمة، فإذا كان جانب الرحمة قد غلب في هذه الدار، ونالت البَرَّ والفاجر والمؤمن والكافر، مع قيام مقتضى العقوبة به ومباشرته له، وتمكنه من إغضاب ربه، والسعي في مسَاخِطِه، فكيف لا يغلب جانب الرحمة في دار تكون الرحمة فيها مضاعفة على ما في هذه الدار تسعة وتسعين ضعفًا
(1)
، وقد أخذ العذاب من الكفار مأخذه، وانكسرت تلك النفوس ونهكها العذاب، وأذاب منها خبثًا
(2)
وشرًّا، لم يكن يحول بينها وبين رحمته لها في الدنيا، بل كان يرحمها مع قيام مقتضى العقوبة والغضب بها فكيف إذا زال مقتضى الغضب والعقوبة، وقوي جانب الرحمة أضعاف أضعاف الرحمة في هذه الدار، واضمحل الشر والخبث الذي فيها فأذابته النار وأكلته.
وسِرُّ الأمر أن أسماء الرحمة والإحسان أغلب وأكثر وأظهر من أسماء الانتقام، وفعل الرحمة أكثر من فعل الانتقام، وظهور آثار الرحمة أعظم من ظهور آثار الانتقام، والرحمةُ أحب إليه من الانتقام، وبالرحمة خَلَقَ خلْقه ولها خلقهم، وهي التي سبقت غضبه وغلبته، وكتبها على نفسه، ووسعت كل شيء، وما خلق بها فمطلوب لذاته، وما خلق بالغضب فمراد لغيره، كما تقدم تقرير ذلك
(3)
. والعقوبة تأديب وتطهير، والرحمة إحسان وكرم وجود،
(1)
يشير إلى ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2752) - (19) من حديث أبي هريرة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ للَّه مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام. . . وأخَّر تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة".
(2)
في "هـ": "خبثها".
(3)
في ص (756).
والعقوبة مداواة، والرحمة عطاء وبذل.
الوجه الخامس والعشرون: أنَّه سبحانه لا بُدَّ أن يظهر لخلقه جميعهم يوم القيامة صدقه وصدق رسله، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين المفترين، ويظهر لهم حكمه الذي هو أعدل حكم في أعدائه، وأنه حكم فيهم حكمًا يحمدونَهُ هم عليه؛ فضلًا عن أوليائه وملائكته ورسله، بحيث ينطق الكون كله بالحمد للَّه رب العالمين، ولذلك قال تعالى:{وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75) } [الزمر: 75]، فحذف فاعل القول إرادة الإطلاق
(1)
، وأن ذلك جار على لسان كل ناطق وقلبه، قال الحسن:"لقد دخلوا النار، وإن قلوبهم لممتلئة من حمده ما وجدوا عليه سبيلًا"
(2)
، وهذا هو الذي حَسَّنَ حذف الفاعل من قوله:{قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} [الزمر: 72] حتى كأنَّ الكون كله قائل ذلك لهم، إذ هو حُكْمُهُ العدل فيهم، ومقتضى حكمته وحمده.
وأما أهل الجنة فقال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) } [الزمر: 73]، فهم لم يستحقوها بأعمالهم، وإنما استحقوها بعفوه ورحمته وفضله، فإذا أشهد سبحانه ملائكته وخلقه كلهم حُكْمه العدل، وحكمته الباهرة، ووَضْعه العقوبة حيث تشهد العقول والفِطَر
(3)
والخليقة أنَّه أولى المواضع وأحقها بها، وأن ذلك
(1)
في "ج": "لإطلاق"، وفي "د":"للإطلاق".
(2)
لم أقف عليه.
(3)
قوله "تشهد العقول والفطر" وقع في "هـ": "يشهد العقل والفطرة".
من كمال حمده الذي هو مقتضى أسمائه وصفاته، وأن هذه النفوس الخبيثة الظالمة الفاجرة، لا يليق بها غير ذلك، ولا يحسن بها سواه، بحيث تعترف هي من ذواتها بأنها أهل ذلك، وأنها أولى به = حصلت الحكمة التي لأجلها وُجِدَ الشر وموجباته في هذه الدار وتلك الدار.
وليس في الحكمة الإلهية أن الشرور تبقى دائمًا لا نهاية لها، ولا انقطاع أبدًا، فتكون هي والخيرات في ذلك على حدٍّ سواء.
فهذا نهاية أقدام الفريقين في هذه المسألة، ولعلَّك لا تظفر به في غير هذا الكتاب.
فإن قيل: إلى أين انتهى قدمكم في هذه المسألة العظيمة الشأن، التي هي أكبر من الدنيا بأضعاف مضاعفة؟
قيل: إلى قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) } [هود: 107] وإلى ها هنا انتهى قدم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيها، حيث ذكر دخول أهل الجنةِ الجنةَ، وأهل النارِ النارَ، وما يلقاه هؤلاء وهؤلاء، وقال:"ثمَّ يفعل اللَّه بعد ذلك ما يشاء"
(1)
.
بل وإلى ها هنا انتهت أقدام الخلائق، وما ذكرنا في هذه المسألة، بل في الكتاب من صواب فمن اللَّه سبحانه، وهو المَانُّ به، وما كان من
(1)
لم أقف عليه.
خطإٍ فمِنِّي، ومن الشيطان، واللَّه ورسوله بريء منه، وهو عند لسان كل قائل وقلبه وقصده، واللَّه أعلم.
الباب الثامن والستون: في ذكر آخر أهل الجنَّة دخولًا إليها
في "الصحيحين"
(1)
من حديث منصور، عن إبراهيم عن عَبِيْدة عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنِّي لأعلم آخر أهل النَّارِ خروجًا منها، وآخر أهل الجنَّة دخولًا الجنَّة، رجلٌ يخرج من النَّار حَبْوًا، فيقول اللَّهُ له: اذهب فادخل الجنَّة، فيأتيها فيخيل إليه
(2)
أنَّها ملأى فيرجع فيقول: يا ربِّ وجدتها ملأى، فيقول اللَّهُ له: اذهبْ فادخل الجنَّة، فإنَّ لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها، أو إنَّ لك عشرة أمثال الدنيا، قال: فيقول: أتسخرُ بي أو تضحك بي وأنت الملك؟ قال: لقد رأيتُ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضحك حتَّى بدت نواجذه، قال: فكان يقال: ذلك أدنى أهل الجنَّة منزلةً".
وفي "صحيح مسلم"
(3)
من حديث الأعمش عن المعرور بن سُويد عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنِّي لأعلمُ آخر أهل الجنَّة دخولًا الجنَّة، وآخر أهل النَّارِ خروجًا منها، رجلٌ يؤتى به يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغارَ ذنوبه وارفعوا كِبَارَهَا
(4)
، فتُعْرَض عليه صغار ذنوبه فيقال: عملتَ يوم كذا وكذا؛ كذا وكذا، وعملت يوم كذا وكذا؛ كذا وكذا، فيقولُ: نعم، لا يستطيع أن ينكر
(1)
البخاري رقم (6202)، ومسلم رقم (186).
(2)
في "ج، د": "له".
(3)
رقم (190).
(4)
في "ب، د، هـ": ونسخةٍ على حاشية "أ""عنه كبارها".
وهو مشفقٌ من كبار ذنوبه أنْ تُعْرَض عليه، فيقال له: فإنَّ لكَ مكان كلُّ سيئةٍ حسنة، فيقول: ربِّ قد عملت أشياءَ لا أراها ها هنا، فلقد رأيتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ حتَّى بدت نواجذه".
وقال الطبراني: حدثنا عبد اللَّه بن سعد
(1)
بن يحيى الرقي، حدثنا أبو فروة يزيد بن محمَّد بن سِنَان الرهاوي قال: حدثني أبي عن أبيه قال: حدثني أبو يحيى الكلاعي، عن أبي أُمامة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنَّ آخر رجلٍ يدخلُ الجنَّة رجل يتقلَّب على الصراط ظَهْرًا لبطن، كالغلام يضربه أبوه وهو يفرُّ منه، يعجز عنه عمله أنْ يسعى، فيقول: يا رب بلِّغ بي الجنَّة، ونجِّني من النَّارِ، فيوحي اللَّه تبارك وتعالى إليه: عبدي إنْ أنا نجَّيتك من النَّارِ وأدخلتك الجنَّة؛ أتعترفُ لي بذنوبك وخطاياك؟ فيقول العبد: نعم يا ربِّ وعزتك وجلالك لئن نجيتني من النَّارِ لأعترفنَّ بذنوبي وخطاياي فيجُوْز الجِسْرَ، ويقول العبد فيما بينه وبين نفسه: لئن اعترفت له بذنوبي وخطاياي ليردني إلى النَّارِ، فيوحي اللَّه إليه: عبدي اعْترِفْ لي بذنوبك وخطاياك اغفرها لك وأدخلك الجنة، فيقول العبد لا وعزَّتك وجلالك ما أذنبتُ ذنبًا قطُّ ولا أخطأتُ خطيئةً قطُّ، فيوحي اللَّه إليه: عبدي إنَّ لي عليك بَيِّنة فيلتفت العبد يمينًا وشمالًا فلا يرى أحدًا، فيقول: يا ربِّ أرني بيِّنتك فيستنطق اللَّه جلده بالمُحقَّرات، فإذا رأى ذلك العبد يقول: يا رب عندي وعزَّتك العظائم فيوحي اللَّه إليه: عبدي أنا أعرف بها منك اعترف لي بها أغفرها لك، وأدخلك الجنَّة، فيعترف العبد بذنوبه
(1)
في "ب، د"، ونسخة على حاشية "أ":"سعيد".
فيدخل الجنَّة، ثمَّ ضحك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتَّى بدت نواجذه يقول:"هو أدنى أهل الجنَّة منزلة فكيف بالَّذي فوقه؟ "
(1)
.
ورواهُ ابن أبي شيبة عن هاشم بن القاسم حدثنا أبو عقيلٍ عبد اللَّه بن عقيل الثقفي، عن يزيد بن سنان به.
وفي "صحيح مسلم"
(2)
عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "آخر من يدخل الجنَّة رجلٌ فهو يمشي مرَّة، ويكبو مرَّة، وتسفعهُ النَّارُ مرَّة، فإذا جاوزها التفت إليها، فقال: تبارك الَّذي نجَّاني منك، لقد أعطاني اللَّه شيئًا ما أعطاهُ أحدًا من الأوَّلين والآخرين، فتُرفع له شجرة فيقول: أي ربِّ أدْنِني من هذه الشجرة أستظلُّ بظِلِّها وأشرب من مائها، فيقول اللَّهُ تبارك وتعالى: يا ابن آدم لَعلِّي إنْ أعطيتكها سألتني غيرها؟ فيقول: لا يا ربِّ، ويعاهده أنْ لا يسأله غيرها وربه يعذره؛ لأنَّه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها فيستظل بظلها، ويشرب من مائها، ثمَّ يُرفع له شجرة هي أحسن من الأولى، فيقول: يا ربِّ أدنني من هذه لأشرب من مائها، وأستظل بظلِّها، لا أسألك غيرها، فيقول: يابن آدم ألم تعاهدني أنْ لا تسألني غيرها؟ وربُّه يعذره؛ لأنَّه يرى ما لا صبر له عليه فيدنيه منها، فيستظل بظلها، ويشرب من مائها، ثمَّ ترفع له شجرة عند باب الجنَّة هي أحسن من الأوليين، فيقول: أي ربِّ أدنني من هذه الشجرة لأستظل بظلها وأشرب من مائها، لا أسألك غيرها، فيقول: يا ابن آدم ألم
(1)
تقدم ص (782).
(2)
رقم (187).
تعاهدني أنْ لا تسألني غيرها؟ قال: بلى يا ربِّ، هذه لا أسألك غيرها، وربه يعذره؛ لأنَّهُ يرى ما لا صبر له عليه فيدنيه منها، فإذا أدناهُ منها سمع أصوات أهل الجنَّة فيقول: يا ربِّ أدخلنيها فيقول: يا ابن آدم ما يصريني
(1)
منك، أيرضيك أنْ أعطيك الدنيا ومثلها معها؟ قال: يا ربِّ أتستهزئ مِنِّي
(2)
وأنت ربُّ العالمين؟ فضحك ابن مسعود فقال: ألا تسألوني مِمَّ أضحك؟ قالوا: مِمَّ تضحك؟ قال: هكذا ضحك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقالوا: مِمَّ تضحك يا رسول اللَّه؟ قال: "من ضحك ربِّ العالمين حين قال: أتستهزئ بي وأنت رب العالمين، فيقول: لا أستهزئ بك ولكنِّي على ما أشاء قادر".
وفي "صحيح البرقاني" من حديث أبي سعيد الخدري نحو هذه القصة ونحن نسوقه بتمامه من عنده، وهو بإسناد مسلم سواء.
قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أدنى أهل النَّار عذابًا منتعل بنعلين من نارٍ يغلي دماغه من حرارة نعليه
(3)
، وإنَّ أدنى أهل الجنَّة منزلةً رجلٌ صَرَفَ اللَّه وجهه عن النَّارِ قِبَلَ الجنَّة، ومثَّلَ له شجرة ذات ظلٍّ، فقال: أي ربِّ قدِّمني إلى هذه الشجرة لأكون في ظلها، فقال اللَّه عز وجل: هل عسيت إنْ فعلت أنْ تسألني غيره، قال: لا وعزَّتك فقدَّمه اللَّه إليها،
(1)
قال ناسخ "أ": "أي: يقطعني، والصِرى: القطع. قال الحربيُّ: إنَّما هو تصرك عني، أي: يقطعك عنِّي من مسألتي".
(2)
في نسخةٍ على حاشية "أ": "بي".
(3)
إلى هنا انتهى لفظ مسلم في صحيحه رقم (211)، وآخره عند مسلم برقم (188).
ومثَّل له شجرة ذات ظلٍّ وثمرٍ أخرى، فقال: أي: ربِّ قدمني إلى هذه الشجرة أستظل بظلها، وآكل من ثمرها، قال: فقال "هل عسيت إنْ أعطيتك ذلك أنْ تسألني غيره، قال: لا وعزَّتك فيقدمه إليها فيمثل له شجرة أخرى ذات ظلٍّ وثمرٍ وماءٍ، فيقول: أي ربِّ قدِّمني إلى هذه الشجرة، فأكون في ظلها، وآكل من ثمرها وأشرب من مائها، فيقول: هل عسيت إن فعلت ذلك أنْ تسألني غيره؟ فيقول: لا وعزَّتك لا أسألك غيره، فيقدمه اللَّه إليها فتبرز له الجنَّة، فيقول: أي رب قدمني إلى باب الجنَّة فأكون نِجَاف الجنة -وفي رواية: تحت نجاف الجنَّة- أنظر إلى أهلها، فيقدمه اللَّه إليها فيرى أهل الجنَّة وما فيها، فيقول: أي ربِّ أدخلني الجنَّة فيدخله الجنَّة، فإذا دخل الجنَّة، قال: هذا لي، فيقول اللَّه له: تمنَّ، قال: فيتمنَّى ويُذَكِّره اللَّه سل كذا وكذا، فإذا انقطعت به الأماني، قال اللَّهُ: هو لك وعشرةُ أمثاله، قال: ثمَّ يدخل بيته فتدخل عليه زوجتاهُ من الحور العين، فيقولان: الحمدُ للَّه الَّذي أحياك لنا وأحيانا لك، فيقول: ما أُعطي أحدٌ مثل ما أُعطيت".
وفي "صحيح مسلم"
(1)
من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "سأل موسى ربه: من أدنى أهل الجنَّة منزلة؟ فقال: هو رجلٌ يجيء بعدما دخل أهل الجنَّة الجنَّة، فيقال
(2)
له: أُدخل الجنَّة، فيقول: أي ربك كيف؟ وقد نزل النَّاس منازلهم وأخذوا أخذاتهم، فيقال له: أترضى أنْ يكون لك مثل ملك من ملوك
(1)
رقم (189).
(2)
في نسخةٍ على حاشية "أ": "فقال".
الدنيا، فيقول رضيت ربِّ، فيقال له: لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله، فيقول في الخامسة: رضيتُ رب، فيقول: لك هذا وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك ولذَّت عينك، فيقول: رضيت ربِّ، قال: فأعلاهم منزلةً؟ قال: ذلك الَّذي أردت غرست كرامتهم بيدي، وختمتُ عليها، فلم تَرَ عينٌ، ولا تسمع أذنٌ، ولم يخطر على قلب بشر، ومصداقه في كتاب اللَّهِ:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] ".