الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل: في إلحاق ذُرِّية المؤمن به في الدَّرجة وإنْ لم يعملوا عمله
قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ
(1)
بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ
(2)
وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21].
وروى قيس عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللَّه ليرفعُ ذُرِّية المؤمن
= وابن ماجه (3660)، والطبراني في الأوسط (5108) وابن عبد البر في التمهيد (23/ 142). وغيرهم.
- ورواهُ حماد بن زيد "فرفعه"، وأبو بكر بن عياش "فوقفه"، والثوري "وقال: أكبر ظني أنَّه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم" كلهم عن عاصم بن أبي النجود به.
أخرجه البيهقي في الكبرى (7/ 78 - 79)، والبخاري في الأدب المفرد رقم (36)، وابن عبد البر (23/ 143).
والحديث تفرَّد به عاصم بن أبي النجود عن أبي صالح. وعاصم في حفظه مقال، وهو صدوق في الأصل.
- وقد ثبت عن سعيد بن المسيب قوله عند مالك في الموطأ رقم (578). فلعلَّه تلقَّاه عن أبي هريرة.
والحديث جوَّد إسناده ابن عبد البر، وصحَّح إسناده الحافظ ابن كثير في تفسيره (4/ 259)، والبوصيري.
(1)
قوله {وَاتْبَعْنَاهُم ذُرِّياتهم} قَرأها أبو عمرو بن العلاء، وقرأها الجمهور بالإفراد. انظر النشر لابن الجزري (2/ 282).
(2)
هكذا قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب وهي من القراءات العشر المتواترة. انظر: النشر (2/ 205).
إليه في درجته، وإنْ كانوا دونه في العمل، لتقرَّ بِهِمْ عينه، ثمَّ قرأ {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} قال: ما نقصنا الآبَاءَ مِمَّا أَعطينا البنين"
(1)
.
وذكر ابن مردويه في "تفسيره" من حديث شريك عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال شريك: أظُنُّه حكاهُ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل الرجل الجنَّة سأل عن أبويه وزوجته وولده، فيقال: إنَّهم لم يبلغوا درجتك أو عملك فيقول: يا رب قد عملت لي ولهم، فيؤمر بالإلحاق بهم
(2)
ثمَّ تَلَا ابن عباس {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ} [الطور: 21] إلى آخر آية"
(3)
.
(1)
أخرجه البزار رقم (2262 - كشف الأستار)، وابن مردويه (6/ 147 - كما في الدر)، والواحدي في الوسيط (4/ 186 - 187)، وابن عدي في الكامل (6/ 42)، والبغوي في معالم التنزيل (7/ 389) وغيرهم.
من طريق قيس بن الرَّبيع عن عمرو به نحوه.
- ورواهُ شعبة بن الحجاج وسفيان الثوري وسماعة "على الرواية الرَّاجحة عنه" كلهم عن عمرو عن سعيد عن ابن عباس موقوفًا عليه.
أخرجه عبد الرَّزَّاق في تفسيره (2/ 200) رقم (3009)، وهناد في الزهد (179)، والطبري (27/ 24، 25)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (3/ 107) وغيرهم.
وهذا هو الصواب موقوف، وحديث قيس وهمٌ، أخطأ في رفعه، وقد اضطرب فيه فرواهُ مرفوعًا كما تقدم، وموقوفًا كما عند الطحاوي في المشكل.
(2)
قوله "بالإلحاق بهم" وقع عند الطبراني "بإلحاقهم به".
(3)
أخرجه الطبراني في الكبير (11/ 440 - 441) رقم (12248)، وفي الصغير =
وقد اختلف المفسرون في الذرية في هذه الآية، هل المراد بها الصغار أو الكبار أو النوعان؟ على ثلاثة أقوالٍ
(1)
.
واختلافهم مبنيٌّ على أنَّ قوله {بِإِيمَانٍ} حالٌ من الذرية التابعين، أو المؤمنين المتبوعين.
* فقالت طائفة: المعنى والَّذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم
(2)
في إيمانهم، فأتوا من الإيمان بمثل ما أتوا به، ألحقناهم بهم في الدرجات.
قالوا: ويدلُّ على هذا قراءة من قرأ: {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ}
(3)
فجعل الفعل في الاتباع لهم.
قالوا: وقد أطلق اللَّهُ سبحانه الذرية على الكبار، كما قال:{وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنعام: 84]، وقال:{ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [الإسراء: 3]. وقال: {وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ
= (1/ 382) رقم (640).
قال الطبراني: "لم يروه عن سالم إلَّا شريك، تفرَّد به ابن غزوان".
وفيه محمد بن عبد الرحمن بن غزوان: وهو متهم بوضع الحديث.
انظر الكامل (6/ 290)، واللسان (5/ 254).
(1)
انظرها في تفسير الطبري (27/ 24 - 26)، والقرطبي (17/ 66 - 67)، والماوردي (5/ 381)، وابن الجوزي (8/ 50 - 51)، والبغوي (7/ 388)، والسمعاني (5/ 272)، والشوكاني (5/ 118 - 119).
(2)
في "د": "ذُرِّيَّاتهم".
(3)
وهي قراءة القرَّاء العشرة المتواترة عدا أبي عمرو وابن عامر ويعقوب.
الْمُبْطِلُونَ (173) } [الأعراف: 173] وهذا قول الكبار العقلاء.
قالوا: ويدلُّ على ذلك ما رواهُ سعيد بن جبير عن ابن عباس يرفعه: "إنَّ اللَّهَ يرفعُ ذُرِّيَة المؤمن إلى درجته، وإنْ كانوا دونَهُ في العملِ لتقرَّ بهم عينُه"
(1)
.
فهذا يدلُّ على أنَّهم دخلوا بأعمالهم، ولكن لم يكن لهم أعمالٌ يبلغوا بها درجة آبائهم فبلَّغهم إياها، وإن تقاصر عملهم عنها.
قالوا: وأيضًا فالإيمان: هو القول والعمل والنية، وهذا إنما يمكن من الكبار.
وعلى هذا، فيكون المعنى: أنَّ اللَّه سبحانه يجمع ذرية المؤمن إليه إذا أتوا من الإيمان بمثل إيمانه، إذ هذا حقيقة التَّبَعِيَّة، وإن كانوا دونه في الإيمان رفعهم اللَّه إلى درجته إقرارًا لعينه، وتكميلًا لنعيمه، وهذا كما أن زوجات النَّبي صلى الله عليه وسلم معه في الدرجة تَبَعًا، وإن لم يبلغنَ
(2)
تلك الدرجة بأعمالهن.
* وقالت طائفة أخرى: الذرية ها هنا الصغار.
والمعنى: والذين آمنوا وأتبعناهم ذرياتهم في إيمان الآباء، والذرية تتبع الآباء -وإنْ كانوا صغارًا- في الإيمان وأحكامه، من الميراث والدية والصلاة عليهم، والدفن في قبور المسلمين، وغير
(1)
تقدَّم ص (803 - 804).
(2)
وقع في جميع النسخ "يبلغوا"، وعلَّق ناسخ "أ" بقوله:"صوابه: يبلغْنَ".
ذلك؛ إلا فيما كان من أحكام البالغين، ويكون قوله {بِإِيمَانٍ} على هذا في موضع نصب على الحال من المَفْعُولَيْن، أي: وأتبعناهم ذرياتهم بإيمان الآباء.
قالوا: ويدل على صحة هذا القول: أنَّ البالغين
(1)
لهم حكم أنفسهم في الثواب والعقاب، فإنَّهم مستقِلُّون بأنفسهم ليسوا تابعين الآباء في شيء من أحكام الدنيا، ولا أحكام الثواب والعقاب، لاستقلالهم بأنفسهم، ولو كان المراد بالذرية: البالغين؛ لكان أولاد الصحابة البالغون كلهم في درجة آبائهم، ويكون أولاد التابعين البالغين كلهم في درجة آبائهم، وهلم جرًّا إلى يوم القيامة، فيكون الآخرون في درجة السابقين.
قالوا: ويدل عليه أيضًا، أنه سبحانه جعلهم معهم تبعًا في الدرجة، كما جعلهم تبعًا في الإيمان، ولو كانوا بالغين لم يكن إيمانهم تبعيًّا
(2)
، بل إيمان استقلال.
قالوا: ويدل عليه أيضًا، أن اللَّه سبحانه جعل المنازل في الجنة بحسب الأعمال في حق المستقلين، وأما الأتباع فإن اللَّه سبحانه يرفعهم إلى درجة أهليهم، وإن لم تكن لهم أعمالهم، كما تقدم.
وأيضًا فالحور العين والخدم في درجة أهاليهم وإن لم يكن لهم عمل بخلاف المكلفين البالغين، فإنهم يرفعون إلى حيث بَلَّغتهم
(1)
في "أ، ج، هـ": "التابعين"، والمثبت هو الصواب.
(2)
من قوله "في الدرجة" إلى هنا سقط من "ج".
أعمالهم.
* وقالت فرقة منهم الواحدي
(1)
: الوجْهُ أن تُحْمَلَ الذرية على الصغار والكبار؛ لأنَّ الكبير يتبع الأب بإيمان نفسه، والصغير يتبع الأب بإيمان الأب.
قالوا: والذرية تقع على الصغيرِ والكبير، والواحد والكثير، والابن والأب، كما قال تعالى:{وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس: 41] أي: آباءهم، والإيمان يقع على الإيمان التبعي، وعلى الاختياري الكسبي، فمن وقوعه على التَّبعِي قوله:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]. فلو أعتق صغيرًا جاز.
قالوا: وأقوال السلف تدل على هذا. قال سعيد بن جبير: عن ابن عباس: "إنَّ اللَّه يرفع ذُرِّية المؤمن في درجته وإنْ كانوا دونَهُ في العمل، لتقرَّ به عيونهم
(2)
ثمَّ قرأ هذه الآية"
(3)
.
وقال ابن مسعود في هذه الآية: "الرجلُ يكون له القدم، وتكون له الذرية فيدخل الجنَّة، فيُرْفَعون إليه لتقرَّ به عينه، وإنْ لم يبلغوا
(1)
في تفسيره الوسيط (4/ 186).
(2)
قوله "به عيونهم" كذا في جميع النسخ، وعلَّق عليه ناسخ "أ" بقوله "كذا" على الحرفين.
وجاء في مصادر التخريج "ليقرَّ اللَّه بهم عينه" هذا لفظ شعبة والثوري لكنَّه لم يذكر "اللَّه".
(3)
تقدَّم الكلام عليه ص (804).
ذلك"
(1)
.
وقال أبو مِجْلَزٍ: "يجمعهم اللَّه له كما كان يحب أن يجتمعوا في الدنيا"
(2)
.
وقال الشعبي: "أدخل اللَّه الذرية بعمل الآباء الجنَّة"
(3)
.
وقال الكلبي عن ابن عباس: "إنْ كان الآباء أرفع درجة من الأبناء رفع اللَّه الأبناء إلى الآباء، وإن كان الأبناء أرفع درجة من الآباء رفع اللَّهُ الآباء إلى الأبناء"
(4)
.
وقال إبراهيم: "أعطوا مثل أجور آبائهم ولم ينقص الآباء من أجورهم شيئًا"
(5)
.
قالوا: ويدلُّ على صِحَّة هذا القول أنَّ القراءتين كالآيتين، فمن قرأ:{وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ} [الطور: 21] فهذا في حقِّ البالغين الَّذين يصحُّ نِسْبَة الفعل إليهم كما قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة: 100]، ومن قرأ: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ
(1)
لم أقف عليه.
(2)
أخرجه ابن المنذر في تفسيره كما في الدر المنثور (6/ 148).
(3)
أخرجه الطبري في تفسيره (27/ 25 - 26). وسنده صحيح.
(4)
ذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (17/ 67)، وهو لا يثبت عن ابن عباس.
(5)
أخرجه هناد في الزهد رقم (180)، والطبري في تفسيره (27/ 26) والَّلفظ له. وسنده صحيح.