الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(من أَبْوَاب الزَّكَاة)
اعْلَم أَن عُمْدَة مَا روعي فِي الزَّكَاة مصلحتان: مصلحَة ترجع إِلَى تَهْذِيب النَّفس، وَهِي أَنَّهَا أحضرت الشُّح، وَالشح أقبح الْأَخْلَاق ضار بهَا فِي الْمعَاد، وَمن كَانَ شحيحا فَإِنَّهُ إِذا مَاتَ بقى قلبه مُتَعَلقا بِالْمَالِ، وعذب بذلك، وَمن تمرن بِالزَّكَاةِ، وأزال الشُّح من نَفسه كَانَ ذَلِك نَافِعًا لَهُ، أَنْفَع الْأَخْلَاق فِي الْمعَاد بعد الإخبات لله تَعَالَى هُوَ سخاوة النَّفس، فَكَمَا أَن الإخبات يعد للنَّفس هَيْئَة التطلع إِلَى الجبروت، فَكَذَلِك السخاوة تعد لَهَا الْبَرَاءَة عَن الهيآت الخسيسة الدُّنْيَوِيَّة، وَذَلِكَ لِأَن أصل السخاوة قهر الملكية البهيمية، وَأَن تكون الملكية هِيَ الْغَالِبَة وَتَكون البهيمية منصبغة بصبغها آخذة حكمهَا، وَمن المنبهات عَلَيْهَا بذل المَال مَعَ الْحَاجة إِلَيْهِ وَالْعَفو عَمَّن ظلم وَالصَّبْر على الشدائد فِي الكريهات بِأَن يهون عَلَيْهِ ألم الدُّنْيَا لَا يقانه بِالآخِرَة، فَأمر النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِكُل ذَلِك، وَضبط أعظمها وَهُوَ بذل المَال بحدود، وقرنت بِالصَّلَاةِ وَالْإِيمَان فِي مَوَاضِع كَثِيرَة من الْقُرْآن وَقَالَ تَعَالَى عَن أهل النَّار:
{لم نك من الْمُصَلِّين وَلم نك نطعم الْمِسْكِين وَكُنَّا نَخُوض مَعَ الخائضين} .
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إِذا عنت للمسكين حَاجَة شَدِيدَة، وَاقْتضى تَدْبِير الله أَن يسد خلته بِأَن يلهم الْإِنْفَاق عَلَيْهِ فِي قلب رجل، فَكَانَ هُوَ بذلك انبسط قلبه اللألهام، وَتحقّق لَهُ بذلك انْشِرَاح روحاني، وَصَارَ معدا لرحمة الله تَعَالَى
نَافِعًا جدا فِي تَهْذِيب نَفسه، والإلهام الجملى المتوجه إِلَى النَّاس فِي الشَّرَائِع تلو الإلهام التفصيلي فِي فَوَائده، وَأَيْضًا فالمزاج السَّلِيم مجبول على رقة الجنسية، وَهَذِه خصْلَة عَلَيْهَا يتَوَقَّف أَكثر الْأَخْلَاق الراجعة إِلَى حسن الْمُعَامَلَة مَعَ النَّاس، فَمن فقدها فَفِيهِ ثلمة يجب عَلَيْهِ سدها، وَأَيْضًا فَإِن الصَّدقَات تكفر الخطيئات، وتزيد فِي البركات على مَا بَينا فِيمَا سبق.
ومصلحة ترجع إِلَى الْمَدِينَة وَهِي أَنَّهَا تجمع لَا محَالة الضُّعَفَاء وَذَوي الْحَاجة وَتلك الْحَوَادِث تَغْدُو على قوم وَتَروح على آخَرين، فَلَو لم تكن السّنة بَينهم مواساة الْفُقَرَاء وَأهل الْحَاجَات لهلكوا، وماتوا جوعا، وَأَيْضًا فنظام الْمَدِينَة يتَوَقَّف على مَال يكون بِهِ قوام معيشة الْحفظَة الذابين عَنْهَا والمدبرين السائسين لَهَا، وَلما كَانُوا عاملين للمدينة عملا نَافِعًا - مشغولين بِهِ عَن اكْتِسَاب كفافهم - وَجب أَن تكون قوام معيشتهم عَلَيْهَا والانفاقات الْمُشْتَركَة لَا تسهل على الْبَعْض أَو لَا يقدر عَلَيْهَا الْبَعْض، فَوَجَبَ أَن تكون جباية الْأَمْوَال من الرّعية سنة.
وَلما لم يكن أسهل وَلَا أوفق بِالْمَصْلَحَةِ من أَن تجْعَل إِحْدَى المصلحتين مَضْمُومَة بِالْأُخْرَى أَدخل الشَّرْع إِحْدَاهمَا فِي الْأُخْرَى.
ثمَّ مست الْحَاجة إِلَى تعْيين مقادير الزَّكَاة، إِذا لَوْلَا التَّقْدِير لفرط المفرط، ولاعتدى المعتدي، وَيجب أَن تكون غير يسيره لَا يَجدونَ بهَا بَالا، وَلَا تنجع من بخلهم، وَلَا ثَقيلَة يعسر عَلَيْهِم أَدَاؤُهَا، وَإِلَى تعْيين الْمدَّة الَّتِي نجنى فِيهَا الزكوات، وَيجب أَلا تكون قَصِيرَة يسْرع دورانها، فتعسر إِقَامَتهَا فِيهَا، وَألا تكون طَوِيلَة لَا تنجع من بخلهم، وَلَا تدر على المحتاجين والحفظة إِلَّا بعد انْتِظَار شَدِيد، وَلَا أوفق بِالْمَصْلَحَةِ من أَن يَجْعَل القانون فِي الجباية مَا اعتاده النَّاس فِي جباية الْمُلُوك العادلة فِي رعاياهم، لِأَن
التَّكْلِيف بِمَا اعتاده الْعَرَب والعجم، وَصَارَ كالضروري الَّذِي لَا يَجدونَ فِي صُدُورهمْ حرجا مِنْهُ، وَالْمُسلم الَّذِي أذهبت الألفة عَنهُ الكلفة أقرب من إِجَابَة الْقَوْم وأوفق للرحمة بهم.
والأبواب الَّتِي اعتادها طوائف الْمُلُوك الصَّالِحين من أهل الأقاليم الصَّالِحَة وَهُوَ غير ثقيل عَلَيْهِم، وَقد تلقتها الْعُقُول بِالْقبُولِ - أَرْبَعَة:
الأول أَن تُؤْخَذ من حَوَاشِي الْأَمْوَال النامية، فَإِنَّهَا أحْوج الْأَمْوَال إِلَى الذب عَنْهَا لِأَن النمو لَا يتم إِلَّا بالتردد خَارج الْبِلَاد، وَلَإِنْ إِخْرَاج الزَّكَاة أخف عَلَيْهِم لما يرَوْنَ من التزايد كل حِين، فَيكون الْغرم بالغنم والاموال النامية ثَلَاثَة أَصْنَاف: الْمَاشِيَة المتناسلة السَّائِمَة. والزروع. وَالتِّجَارَة.
وَالثَّانِي: أَن تُؤْخَذ من أهل الدُّثُور والكنوز لأَنهم أحْوج النَّاس إِلَى حفظ المَال من السراق وقطاع الطَّرِيق، وَعَلَيْهِم انفاقات لَا يعسر عَلَيْهِم أَن تدخل الزَّكَاة فِي تضاعيفها.