الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(أُمُور تتَعَلَّق بِالصَّوْمِ)
اعْلَم أَن كَمَال الصَّوْم إِنَّمَا هُوَ تنزيهه عَن الْأَفْعَال والأقوال الشهوية والسبعية والشيطانية، فَإِنَّهَا تذكر النَّفس فِي الْأَخْلَاق الخسيسة، وتهيجها لهيآت فَاسِدَة، والاحتراز عَمَّا يُفْضِي إِلَى الْفطر، ويدعوا إِلَيْهِ، فَمن الأول قَوْله صلى الله عليه وسلم " فَلَا يرْفث وَلَا يصخب فَإِن سابه أحد أَو قَاتله فَلْيقل إِنِّي صَائِم " وَقَوله صلى الله عليه وسلم " من لم يدع قَول الزُّور وَالْعَمَل بِهِ فَلَيْسَ لله حَاجَة فِي أَن يدع طَعَامه وَشَرَابه " وَالْمرَاد بِالنَّفْيِ نفي الْكَمَال، وَمن الثَّانِي:" أفطر الحاجم والمحجوم " فَإِن المحجوم تعرض للأفطار من الضعْف، والحاجم لِأَنَّهُ لَا يَأْمَن من أَن يصل شَيْء إِلَى جَوْفه بمص الملازم، والتقبيل والمباشرة، وَكَانَ النَّاس قد أفرطوا، وتعمقوا، وكادوا أَن يَجْعَلُوهُ من مرتبَة الرُّكْن، فَبين النَّبِي صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا أَنه لَيْسَ مُفطرا وَلَا منقصا للصَّوْم. وأشعر بِأَنَّهُ ترك الأولى فِي حق غَيره بِلَفْظ الرُّخْصَة، وَأما هُوَ كَانَ مَأْمُورا بِبَيَان الشَّرِيعَة، فَكَانَ هُوَ الأولى فِي حَقه، وَكَذَا سَائِر مَا تنزل فِيهِ عَن دَرَجَة الْمُحْسِنِينَ إِلَى دَرَجَة عَامَّة الْمُؤمنِينَ، وَالله أعلم.
وَاخْتلفت سنَن الْأَنْبِيَاء عليهم السلام فِي الصَّوْم، فَكَانَ نوح عليه السلام يَصُوم الدَّهْر، وَكَانَ دَاوُد عليه السلام يَصُوم يَوْمًا، وَيفْطر يَوْمًا، وَكَانَ عِيسَى عليه السلام يَصُوم يَوْمًا، وَيفْطر يَوْمَيْنِ أَو أَيَّامًا، وَكَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي خَاصَّة نَفسه يَصُوم حَتَّى يُقَال لَا يفْطر، وَيفْطر حَتَّى يُقَال لَا يَصُوم، وَلم يكن يستكمل صِيَام شهر إِلَّا رَمَضَان، وَذَلِكَ أَن الصّيام ترياق، والترياق لَا يسْتَعْمل إِلَّا بِقدر الْمَرَض.
وَكَانَ قوم نوح عليه السلام شديدي الأمزجة حَتَّى روى عَنْهُم مَا روى، وَكَانَ دَاوُد عليه السلام ذَا قُوَّة ورزانة، وَهُوَ قَوْله صلى الله عليه وسلم:
وَكَانَ لَا يفر إِذا لَاقَى " وَكَانَ عِيسَى عليه السلام ضَعِيفا فِي بدنه فَارغًا لَا أهلك لَهُ وَلَا مَال، فَاخْتَارَ كل وَاحِد مَا يُنَاسب الْأَحْوَال، وَكَانَ نَبينَا صلى الله عليه وسلم عَارِفًا بفوائد الصَّوْم والإفطار مطلعا على مزاجه وَمَا يُنَاسِبه، فَاخْتَارَ بِحَسب مصلحَة الْوَقْت مَا شَاءَ، وَاخْتَارَ لأمته صياما.
مِنْهَا يَوْم عَاشُورَاء وسر مشروعيته أَنه وَقت نصر الله تَعَالَى مُوسَى عليه السلام على فِرْعَوْن وَقَومه، وشكر مُوسَى بِصَوْم ذَلِك الْيَوْم، وَصَارَ سنة بَين أهل الْكتاب وَالْعرب، فأقره رَسُول الله صلى الله عليه وسلم.
وَمِنْهَا صَوْم عَرَفَة، السِّرّ فِيهِ أَنه تشبه بالحاج وَتَشَوُّقِ إِلَيْهِم وَتعرض للرحمة الَّتِي تنزل عَلَيْهِم، وسر فَضله على صَوْم يَوْم عَاشُورَاء أَنه خوض فِي لجة الرَّحْمَة النَّازِلَة ذَلِك الْيَوْم، وَالثَّانِي تعرض للرحمة الَّتِي مَضَت، وَانْقَضَت، فَعمد النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِلَى ثَمَرَة الْخَوْض فِي لجة
الرَّحْمَة وَهِي كَفَّارَة الذُّنُوب السَّابِقَة والنبو عَن الذُّنُوب اللاحقة بألا يقبلهَا صميم قلبه، فَجَعلهَا لصوم عَرَفَة، وَلم يصمه رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي حجَّته لما ذكرنَا فِي التَّضْحِيَة وَصَلَاة الْعِيد من أَن مبناها كلهَا على التَّشَبُّه بالحاج وَإِنَّمَا المتشبهون غَيرهم.
وَمِنْهَا سِتَّة الشوال، قَالَ صلى الله عليه وسلم " من صَامَ رَمَضَان فَأتبعهُ سِتا من شَوَّال كَانَ كصيام الدَّهْر كُله "، والسر فِي مشروعيتها أَنَّهَا بِمَنْزِلَة السّنَن الرَّوَاتِب فِي الصَّلَاة تكمل فائدتها بِالنِّسْبَةِ إِلَى أمزجة لم تتام فائدتها بهم، وَإِنَّمَا خص فِي بَيَان فَضِيلَة التَّشَبُّه بِصَوْم الدَّهْر لِأَن من الْقَوَاعِد المقررة أَن الْحَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا، وبهذه السِّتَّة يتم الْحساب.
وَمِنْهَا ثَلَاث من كل شهر لِأَنَّهَا بِحِسَاب كل حَسَنَة بِعشْرَة أَمْثَالهَا تضاهي
صِيَام الدَّهْر، وَلِأَن الثَّلَاثَة اقل حد الْكَثْرَة، وَقد اخْتلفت الرِّوَايَة فِي اخْتِيَار تِلْكَ الْأَيَّام، فورد " يَا أَبَا ذَر إِذا صمت من الشَّهْر الثَّلَاثَة فَصم ثَلَاث عشرَة وَأَرْبع عشرَة وَخمْس عشرَة " وَورد كَانَ يَصُوم من الشَّهْر السبت والأحد والاثنين، وَمن الشَّهْر الآخر الثُّلَاثَاء والآربعاء وَالْخَمِيس، وَورد من غرَّة كل شهر ثَلَاثَة أَيَّام، وَورد أَنه أَمر أم سَلمَة بِثَلَاثَة أَولهَا الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيس، وَلكُل وَجه، وَاعْلَم أَن لَيْلَة الْقدر ليلتان: إِحْدَاهمَا لَيْلَة
{فِيهَا يفرق كل أَمر حَكِيم} .
وفيهَا نزل الْقُرْآن جملَة وَاحِدَة ثمَّ نزل بعد ذَلِك نجما نجما، وَهِي لَيْلَة فِي السّنة، وَلَا يجب أَن تكون فِي رَمَضَان، نعم رَمَضَان مَظَنَّة غالبة لَهَا، وَاتفقَ أَنَّهَا كَانَت فِي رَمَضَان عِنْد نزُول الْقُرْآن، وَالثَّانيَِة يكون فِيهَا نوع من انتشار الروحانية ومجيء الْمَلَائِكَة إِلَى الأَرْض، فيتفق الْمُسلمُونَ فِيهَا على الطَّاعَات، فتتعاكس أنوارهم فِيمَا بَينهم، ويتقرب مِنْهُم الْمَلَائِكَة، ويتباعد مِنْهُم الشَّيَاطِين ويستجاب مِنْهُم أدعيتهم وطاعاتهم، وَهِي لَيْلَة فِي كل رَمَضَان فِي أوتار الْعشْر الْأَوَاخِر تتقدم، وتتأخر فِيهَا، وَلَا تخرج مِنْهَا، فَمن قصد الأولى قَالَ: هِيَ فِي كل السّنة، وَمن قصد الثَّانِيَة قَالَ: هِيَ فِي الْعشْر الْأَوَاخِر من رَمَضَان، وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم " أرى رؤياكم قد تواطأت فِي السَّبع الْأَوَاخِر فَمن كَانَ متحريها فليتحرها فِي السَّبع الْأَوَاخِر، وَقَالَ: أَرَأَيْت هَذِه اللَّيْلَة ثمَّ أنسيتها وَقد رَأَيْتنِي أَسجد فِي مَاء وطين " فَكَانَ ذَلِك فِي لَيْلَة إِحْدَى وَعشْرين "، وَاخْتِلَاف
الصَّحَابَة فِيهَا مَبْنِيّ
على اخْتلَافهمْ فِي وجدانها، وَمن أدعية من وجدهَا. اللَّهُمَّ أَنَّك عَفْو تحب الْعَفو فَاعْفُ عني.
وَلما كَانَ الِاعْتِكَاف فِي الْمَسْجِد سَببا لجمع الخاطر وصفاء الْقلب والتفرغ للطاعة والتشبه بِالْمَلَائِكَةِ والتعرض لوجدان لَيْلَة الْقدر اخْتَارَهُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي الْعشْر الْأَوَاخِر وسنه للمحسنين من أمته، قَالَت عَائِشَة رضي الله عنها: السّنة على الْمُعْتَكف أَلا يعود مَرِيضا، وَلَا يشْهد جَنَازَة وَلَا يمس الْمَرْأَة، وَلَا يُبَاشِرهَا، وَلَا يخرج إِلَّا لحَاجَة إِلَّا مَا لَا بُد مِنْهُ، وَلَا اعْتِكَاف إِلَّا بِصَوْم وَلَا اعْتِكَاف إِلَّا فِي مَسْجِد جَامع أَقُول وَذَلِكَ تَحْقِيقا لِمَعْنى الِاعْتِكَاف، وليكون الطَّاعَة لَهَا بَال ومشقة على النَّفس وَمُخَالفَة للْعَادَة، وَالله أعلم.