الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:
" إِذا اجْتمع داعيان فأجب أقربهما بَابا، وَإِن سبق أَحدهمَا فأجب الَّذِي سبق ". أَقُول: لما تَعَارضا طلب التَّرْجِيح وَذَلِكَ بِالسَّبقِ أَو بِقُرْبِهِ.
(الْمُحرمَات)
الأَصْل فِيهَا قَوْله تَعَالَى:
{وَلَا تنْكِحُوا مَا نكح آبائكم}
إِلَى قَوْله:
وَقَوله صلى الله عليه وسلم:
" أمسك أَرْبعا وَفَارق سائرهن " وَقَوله صلى الله عليه وسلم:
" لَا تنْكح الْمَرْأَة على عَمَّتهَا " الحَدِيث، وَقَوله تَعَالَى:
{الزَّانِي لَا ينْكح إِلَّا زَانِيَة} . الْآيَة
اعْلَم أَن تَحْرِيم الْمُحرمَات الْمَذْكُورَة فِي هَذِه الْآيَات كَانَ أمرا شَائِعا فِي أهل الْجَاهِلِيَّة مُسلما عِنْدهم، لَا يكادون يتركونه، اللَّهُمَّ إِلَّا أَشْيَاء يسيرَة كَانُوا ابتدعوها من عِنْد أنفسهم بغيا وعدوانا كَنِكَاح مَا نكح آباؤهم وَالْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ، وَكَانُوا توارثوا تَحْرِيمهَا طبقَة عَن طبقَة حَتَّى صَار لَا يخرج من قُلُوبهم إِلَّا أَن تمزع وَكَانَ فِي تَحْرِيمهَا مصَالح جليلة، فأبقى الله تَعَالَى عز وجل أَمر الْمُحرمَات على مَا كَانَ، وسجل عَلَيْهِم فِيمَا كَانُوا تهاونوا فِيهِ.
وَالْأَصْل فِي التَّحْرِيم أُمُور:
مِنْهَا جَرَيَان الْعَادة بالاصطحاب والارتباط وَعدم إِمْكَان لُزُوم السّتْر فِيمَا بَينهم وارتباط الْحَاجَات من الْجَانِبَيْنِ على الْوَجْه الطبيعي دون الصناعي فَإِنَّهُ لَو لم تجر السّنة بِقطع الطمع عَنْهُن والإعراض عَن الرَّغْبَة فِيهِنَّ لهاحت مفاسد لَا تحصى وَأَنت ترى الرجل يَقع بَصَره على محَاسِن امْرَأَة أَجْنَبِيَّة، فيتوله بهَا، ويقتحم فِي المهالك لأَجلهَا، فَمَا ظَنك فِيمَن يَخْلُو مَعهَا، وَينظر إِلَى محاسنها لَيْلًا وَنَهَارًا؟ وَأَيْضًا لَو فتح بَاب الرَّغْبَة فِيهِنَّ وَلم يسد، وَلم
تقم اللائمة عَلَيْهِم فِيهِ أفْضى ذَلِك إِلَى ضَرَر عَظِيم عَلَيْهِنَّ، فَإِنَّهُ سَبَب عضهن إياهن
عَمَّن يرغبن فِيهِ لأَنْفُسِهِمْ، فَإِنَّهُ بيدهم أمرهن، وإليهم إنكاحهن أَولا يكون لَهُنَّ أَن نكحوهن من يطالبهم عَنْهُن حُقُوق الزَّوْجِيَّة مَعَ شدَّة احتياجهن إِلَى من يُخَاصم عَنْهُن.
وَنَظِيره مَا وَقع فِي الْيَتَامَى كَانَ الْأَوْلِيَاء يرغبون فِي مالهن وجمالهن وَلَا يُوفونَ حُقُوق الزَّوْجِيَّة فَنزل:
{وَإِن خِفْتُمْ أَلا تقسطوا فِي الْيَتَامَى فانكحوا مَا طَابَ لكم من النِّسَاء} . الْآيَة
بيّنت ذَلِك عَائِشَة رضي الله عنها وَهَذَا الارتباط على الْوَجْه الطبيعي وَاقع بَين الرِّجَال، والأمهات، وَالْبَنَات، وَالْأَخَوَات، والعمات، والخالات، وَبَنَات الْأَخ، وَبَنَات الْأُخْت.
وَمِنْهَا الرضَاعَة فَإِن الَّتِي أرضعت تشبه الْأُم من حَيْثُ إِنَّهَا سَبَب اجْتِمَاع أمشاج بنيته وَقيام هيكله، غير أَن الْأُم جمعت خلقته فِي بَطنهَا، وَهَذِه درت عَلَيْهِ سد رمقه فِي أول نشأته، فَهِيَ أم بعد الْأُم وَأَوْلَادهَا أخوة بعد الْأُخوة. وَقد قاست فِي حضانته مَا قاست، وَقد ثَبت فِي ذمَّته من حُقُوقهَا مَا ثَبت، وَقد رَأَتْ فِي صغره مَا رَأَتْ، فَيكون تَملكهَا والوثوب عَلَيْهَا مَا تمجه الْفطْرَة السليمة، وَكم من بَهِيمَة عجماء لَا تلْتَفت إِلَى أمهَا أَو مرضعتها هَذِه اللفتة فَمَا ظَنك بِالرِّجَالِ؟ وَأَيْضًا فَإِن الْعَرَب كَانُوا يسترضعون أَوْلَادهم فِي حَيّ من الْأَحْيَاء، فيشب فيهم الْوَلِيد، ويخالطهم كمخالطة الْمَحَارِم، وَيكون عِنْدهم للرضاعة لحْمَة كلحمة النّسَب، فَوَجَبَ أَن يحمل على النّسَب، وَهُوَ قَوْله صلى الله عليه وسلم:
" يحرم من الرضَاعَة مَا يحرم من الْولادَة ".
وَلما كَانَ الرَّضَاع إِنَّمَا صَار سَببا للتَّحْرِيم لِمَعْنى المشابهة بِالْأُمِّ فِي كَونهَا سَببا لقِيَام بنية الْمَوْلُود وتركيب هيكله وَجب أَن يعْتَبر فِي الأرضاع شيآن:
أَحدهمَا الْقدر الَّذِي يتَحَقَّق بِهِ هَذَا الْمَعْنى، فَكَانَ فِيمَا أنزل من الْقُرْآن عشر رَضعَات مَعْلُومَات (يحر - من -، ثمَّ نسخن بِخمْس مَعْلُومَات، فتوفى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَهن مِمَّا يقْرَأ فِي الْقُرْآن. أما التَّقْدِير فَلِأَنَّهُ لما كَانَ الْمَعْنى مَوْجُودا فِي الْكثير دون الْقَلِيل وَجب عِنْد التشريع أَن يضْرب بَينهمَا حد يرجع إِلَيْهِ عِنْد الِاشْتِبَاه، وَأما التَّقْدِير بِعشر فَلِأَن الْعشْر أول حد مُجَاوزَة الْعدَد من الْآحَاد وتدربه فِي العشرات، وَأول حد يسْتَعْمل فِيهِ جمع الْكَثْرَة وَلَا يسْتَعْمل فِيهِ جمع الْقلَّة، فَكَانَ نِصَابا صَالحا لضبط الْكَثْرَة المعتد بهَا المؤثرة فِي بدن
الْإِنْسَان أما النّسخ بِخمْس فللاحتياط لِأَن الطِّفْل إِذا أرضع خمس رَضعَات غزيرات يظْهر الرونق والنضارة على وَجهه وبدنه، وَإِذا أَصَابَهُ عوز اللَّبن فِي هَذِه الرضعات وَكَانَت الْمُرْضع غير ذَات در ظهر على بدنه القحول والهزال وَهَذِه آيَة أَنَّهَا سَبَب التنمية وَقيام الهيكل وَمَا دون ذَلِك لَا يظْهر أَثَره.
قَالَ صلى الله عليه وسلم: " لَا تحرم الرضعة والرضعتان، وَلَا تحرم المصة والمصتان، لَا تحرم الإملاجة وَلَا الإملاجتان " وَأما على قَول من قَالَ يحرم الْكثير والقليل فالسبب تَعْظِيم أَمر الرَّضَاع وَجعله كالمؤثر بالخاصية كَسنة الله تَعَالَى فِي سَائِر مَا لَا يدْرك منَاط حكمه.
وَالثَّانِي أَن يكون الرَّضَاع فِي أول قيام الهيكل وتشبح صُورَة الْوَلَد، وَإِلَّا فَهُوَ غذَاء بِمَنْزِلَة سَائِر الأغذية الكائنة بعد التشبح وَقيام الهيكل كالشاب يَأْكُل الْخبز، قَالَ صلى الله عليه وسلم:
" إِن الرضَاعَة من المجاعة " وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:
" لَا يحرم من الرَّضَاع إِلَّا مَا فتق الأمعاء فِي الثدي، وَكَانَ قبل الْفِطَام ".
وَمِنْهَا الِاحْتِرَاز عَن قطع الرَّحِم بَين الْأَقَارِب؛ فَإِن الضرتين تتحاسدان، وينجر الْبَعْض إِلَى أقرب النَّاس مِنْهُمَا، والحسد بَين الْأَقَارِب أخنع وأشنع، وَقد كره جماعان من السّلف ابْنَتي عَم لذَلِك، فَمَا ظَنك بامرأتين أَيهمَا فرض ذكرا حرمت عَلَيْهِ الْأُخْرَى كالأختين، وَالْمَرْأَة، وعمتها، وَالْمَرْأَة، وخالتها، وَقد اعْتبر النَّبِي صلى الله عليه وسلم هَذَا الأَصْل فِي تَحْرِيم الْجمع بَين بنت النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَبنت غَيره؛ فَإِن الْحَسَد من الضره واستئثارها من الزَّوْج كثيرا مَا ينجران إِلَى بغضها وبغض أَهلهَا، وبغض النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَلَو بِحَسب الْأُمُور المعاشية يُفْضِي إِلَى الْكفْر، وَالْأَصْل فِي هَذَا الْأخْتَان، وَنبهَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم بقولة:" لَا يجمع بَين الْمَرْأَة وعمتها " الحَدِيث على وَجه الْمَسْأَلَة.
وَمِنْهَا الْمُصَاهَرَة فَإِنَّهُ لَو جرت السّنة رَغْبَة بَين النَّاس أَن يكون للْأُم رَغْبَة فِي زوج بنتهَا وللرجال فِي حلائل الْأَبْنَاء وَبَنَات نِسَائِهِم لأفضى إِلَى السَّعْي فِي فك ذَلِك الرَّبْط أَو قتل من يشح بِهِ، وَإِن أَنْت تسمعت إِلَى قصَص قدماء الفارسيين واستقرأت حَال أهل زَمَانك من الَّذين لم يتقيدوا بِهَذِهِ السّنة الراشدة وجدت أمروا عظاما ومهالك ومظالم لَا تحصى،
وَأَيْضًا فَإِن الاصطحاب فِي هَذِه الْقَرَابَة لَازم، والستر مُتَعَذر، والتحاسد شنيع، والحاجات من الْجَانِبَيْنِ متنازعة، فَكَانَ أمرهَا بِمَنْزِلَة الْأُمَّهَات وَالْبَنَات أَو بِمَنْزِلَة الْأُخْتَيْنِ.
وَمِنْهَا الْعدَد الَّذِي لَا يُمكن الْإِحْسَان إِلَيْهِ من الْعشْرَة الزَّوْجِيَّة فَإِن النَّاس كثيرا مَا يرغبون فِي جمال النِّسَاء، ويتزوجون مِنْهُنَّ ذَوَات عدد، ويستأثرون مِنْهَا حظية، ويتركون الْأُخَر كالمعلقة، فَلَا هِيَ مُزَوّجَة حظية تقر عينهَا، وَلَا هِيَ أيم يكون أمرهَا بِيَدِهَا، وَلَا يُمكن أَن يضيق فِي ذَلِك كل تضييق، فَإِن من النَّاس من لَا يحصنه فرج وَاحِد، وَأعظم الْمَقَاصِد التناسل، وَالرجل
يَكْفِي لتلقيح عدد كثير من النِّسَاء، وَأَيْضًا فالاكثار من النِّسَاء شِيمَة الرِّجَال وَرُبمَا يحصل بِهِ المباهاة، فَقدر الشَّارِع بِأَرْبَع، وَذَلِكَ أَن الْأَرْبَع عدد يُمكن لصاحبة أَن يرجع إِلَى كل وَاحِدَة بعد ثَلَاثَة لَيَال، وَمَا دون لَيْلَة لَا يُفِيد فَائِدَة الْقسم، وَلَا يُقَال فِي ذَلِك: بَات عِنْدهَا، وَثَلَاث أول حد كَثْرَة وَمَا فَوْقهَا زِيَادَة الْكَثْرَة، وَكَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَن ينْكح مَا شَاءَ وَذَلِكَ لِأَن ضرب هَذَا الْحَد إِنَّمَا هُوَ لدفع مفْسدَة غالبية دَائِرَة على مَظَنَّة لَا لدفع مفْسدَة عَيْنِيَّة حقيقيه، وَالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قد عرف المئة فَلَا حَاجَة لَهُ فِي المظنة وَهُوَ مامون فِي طَاعَة الله وامتثال أمره دون سَائِر النَّاس.
وَمِنْهَا اخْتِلَاف الدّين؛ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{وَلَا تنْكِحُوا الْمُشْركين حَتَّى يُؤمنُوا} . الْآيَة
وَقد بَين فِي هَذِه الْآيَة أَن الْمصلحَة المرعية فِي هَذَا الحكم هُوَ أَن صُحْبَة الْمُسلمين مَعَ الْكفَّار وجريان الْمُوَاسَاة فِيمَا بَين الْمُسلمين وَبينهمْ لَا سِيمَا على وَجه الازدواج مفْسدَة للدّين سَبَب لآن يدب فِي قلبه الْكفْر من حَيْثُ يشْعر وَمن حَيْثُ لَا يشْعر، وَأَن الْيَهُود. وَالنَّصَارَى يتقيدون بشريعة سَمَاوِيَّة قَائِلُونَ بأصول قوانين التشريع وكلياته دون الْمَجُوس وَالْمُشْرِكين فمفسدة صحبتهم خَفِيفَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيرهم، فَإِن الزَّوْج قاهر على الزَّوْجَة قيم عَلَيْهَا وَإِنَّمَا الزَّوْجَات عوان بِأَيْدِيهِم، فَإِذا تزوج الْمُسلم الْكِتَابِيَّة خف الْفساد، فَمن حق هَذَا أَن يرخص فِيهِ، وَلَا يشدد كتشديد سَائِر أَخَوَات الْمَسْأَلَة.
وَمِنْهَا كَون الْمَرْأَة أمة لآخر، فَإِنَّهُ لَا يُمكن تحصين فرجهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَيِّدهَا، وَلَا اخْتِصَاصه بهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ إِلَّا من جِهَة التَّفْوِيض إِلَى دينه
وأمانته، وَلَا جَائِز أَن يسد سَيِّدهَا عَن استخدامها والتخلي بهَا فَإِن ذَلِك تَرْجِيح أَضْعَف الْملكَيْنِ على أقواهما فَإِن هُنَالك ملكَيْنِ: ملك الرَّقَبَة. وَملك الْبضْع، وَالْأول هُوَ الْأَقْوَى الْمُشْتَمل على الآخر المستتبع لَهُ، وَالثَّانِي هُوَ الضَّعِيف المندرج، وَفِي اقتضاب الْأَدْنَى للأعلى قلب الْمَوْضُوع وَعدم الِاخْتِصَاص بهَا، وَعدم إِمْكَان ذب الطامع فِيهَا هُوَ أصل الزِّنَا، وَقد اعْتبر انبي صلى الله عليه وسلم هَذَا