المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌(الْمَظَالِم) اعْلَم أَن من أعظم الْمَقَاصِد الَّتِي قصدت ببعثة الْأَنْبِيَاء عليهم - حجة الله البالغة - جـ ٢

[ولي الله الدهلوي]

فهرس الكتاب

- ‌(الستْرَة)

- ‌(الْأُمُور الَّتِي لَا بُد مِنْهَا فِي الصَّلَاة)

- ‌(أذكار الصَّلَاة وهيأتها الْمَنْدُوب إِلَيْهَا)

- ‌‌‌(مَا لَا يجوز فِي الصَّلَاة

- ‌(مَا لَا يجوز فِي الصَّلَاة

- ‌(سُجُود السَّهْو)

- ‌(سُجُود التِّلَاوَة)

- ‌(النَّوَافِل)

- ‌(الاقتصاد فِي الْعَمَل)

- ‌(بَاب صَلَاة المعذورين)

- ‌(الْجَمَاعَة)

- ‌(الْجُمُعَة)

- ‌(العيدان)

- ‌(الْجَنَائِز)

- ‌(من أَبْوَاب الزَّكَاة)

- ‌(فضل الْإِنْفَاق وكراهية الْإِمْسَاك)

- ‌(مقادير الزَّكَاة)

- ‌(المصارف)

- ‌(أُمُور تتَعَلَّق بِالزَّكَاةِ)

- ‌(من أَبْوَاب الصَّوْم)

- ‌(فضل الصَّوْم)

- ‌(أَحْكَام الصَّوْم)

- ‌(أُمُور تتَعَلَّق بِالصَّوْمِ)

- ‌(من أَبْوَاب الْحَج)

- ‌(صفة الْمَنَاسِك)

- ‌(قصَّة حجَّة الْوَدَاع)

- ‌(أُمُور تتَعَلَّق بِالْحَجِّ)

- ‌(من أَبْوَاب الْإِحْسَان)

- ‌(الْأَذْكَار وَمَا يتَعَلَّق بهَا)

- ‌(بَقِيَّة مبَاحث الاحسان)

- ‌(المقامات وَالْأَحْوَال)

- ‌(من أَبْوَاب ابْتِغَاء الرزق)

- ‌(الْبيُوع الْمنْهِي عَنْهَا)

- ‌(أَحْكَام البيع)

- ‌(التَّبَرُّع والتعاون)

- ‌(الْفَرَائِض)

- ‌(من أَبْوَاب تَدْبِير الْمنزل)

- ‌(الْخطْبَة وَمَا يتَعَلَّق بهَا)

- ‌(ذكر العورات)

- ‌(صفة النِّكَاح)

- ‌(الْمُحرمَات)

- ‌(آدَاب الْمُبَاشرَة)

- ‌(حُقُوق الزَّوْجِيَّة)

- ‌(الطَّلَاق)

- ‌(الْخلْع. وَالظِّهَار. وَاللّعان. والايلآء)

- ‌(الْعدة)

- ‌(تربية الْأَوْلَاد والمماليك)

- ‌(الْعَقِيقَة)

- ‌(من أَبْوَاب سياسة المدن)

- ‌(الْخلَافَة)

- ‌(الْمَظَالِم)

- ‌(الْحُدُود)

- ‌(الْقَضَاء)

- ‌(الْجِهَاد)

- ‌(من أَبْوَاب الْمَعيشَة)

- ‌(الْأَطْعِمَة والأشربة)

- ‌(آدَاب الطَّعَام)

- ‌(المسكرات)

- ‌(اللبَاس. والزينة. والأواني وَنَحْوهَا)

- ‌(آدَاب الصُّحْبَة)

- ‌(وَمِمَّا يتَعَلَّق بِهَذَا المبحث أَحْكَام النذور والايمان)

- ‌(من أَبْوَاب شَتَّى)

- ‌(سير النَّبِي صلى الله عليه وسلم

- ‌(الْفِتَن)

- ‌(المناقب)

الفصل: ‌ ‌(الْمَظَالِم) اعْلَم أَن من أعظم الْمَقَاصِد الَّتِي قصدت ببعثة الْأَنْبِيَاء عليهم

(الْمَظَالِم)

اعْلَم أَن من أعظم الْمَقَاصِد الَّتِي قصدت ببعثة الْأَنْبِيَاء عليهم السلام دفع الْمَظَالِم من بَين للنَّاس، فان تظالمهم يفْسد حَالهم، ويضيق عَلَيْهِم، وَلَا حَاجَة إِلَى شرح ذَلِك،

والمظالم على ثَلَاثَة أَقسَام: تعد على النَّفس، وتعد على أَعْضَاء النَّاس، وتعد على أَمْوَال النَّاس، فاقتضت حِكْمَة من الله أَن يزْجر عَن كل نوع من هَذِه الْأَنْوَاع بزواجر قَوِيَّة تردع النَّاس عَن أَن يَفْعَلُوا ذَلِك مرّة أُخْرَى، وَلَا يَنْبَغِي أَن تجْعَل هَذِه الزواجر على مرتبَة وَاحِدَة فان الْقَتْل لَيْسَ كَقطع الطّرف؛ وَلَا قطع الطّرف كاستهلاك المَال.

وَأَن الدَّوَاعِي الَّتِي تنبعث مِنْهَا هَذِه الْمَظَالِم لَهَا مَرَاتِب؛ فَمن البديهي أَن تعمد الْقَتْل لَيْسَ كالتساهل المنجر إِلَى الْخَطَأ: فأعظم الْمَظَالِم الْقَتْل، وَهُوَ أكبر الْكَبَائِر، أجمع عَلَيْهِ أهل الْملَل قاطبتهم، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ طَاعَة النَّفس فِي دَاعِيَة لغضب، وَهُوَ أعظم وُجُوه الْفساد فِيمَا بَين النَّاس، وَهُوَ تَغْيِير خلق الله وَهدم بُنيان الله ومناقضة مَا أَرَادَ الْحق فِي عباده من انتشار نوع الْإِنْسَان

وَالْقَتْل على ثَلَاثَة أَقسَام: عمد، وَخطأ، وَشبه عمد، فالعمد هُوَ الْقَتْل الَّذِي يقْصد فِيهِ إزهاق روحه بِمَا يقتل غَالِبا جارحا أَو مُثقلًا،

وَالْخَطَأ مَا لَا يقْصد فِيهِ إِصَابَته، فَيُصِيبهُ فيقتله كَمَا إِذا وَقع على إِنْسَان فَمَاتَ أَو رمى شَجَرَة، فَأَصَابَهُ، فَمَاتَ.

وَشبه الْعمد أَن يقْصد الشَّخْص بِمَا لَا يقتل غَالِبا، فيقتله كَمَا إِذا ضرب بِسَوْط أَو عَصا فَمَاتَ،

وَإِنَّمَا جعل على ثَلَاثَة أَقسَام لما أَشَرنَا من قبل أَن الزاجر يَنْبَغِي أَن يكون بِحَيْثُ يُقَاوم الداعية والمفسدة، وَلَهُمَا مَرَاتِب، فَلَمَّا كَانَ الْعمد أَكثر فَسَادًا وَأَشد دَاعِيَة وَجب أَن يغلظ فِيهِ بِمَا يحصل زِيَادَة الزّجر، وَلما كَانَ الْخَطَأ أقل فَسَادًا وأخف دَاعِيَة وَجب أَن يُخَفف من جَزَائِهِ، واستنبط النَّبِي صلى الله عليه وسلم بَين الْعمد وَالْخَطَأ نوعا آخر لمناسبة مِنْهُمَا وَكَونه برزخا بَينهمَا، فَلَا يَنْبَغِي أَن يدْخل فِي أَحدهمَا.

فالعمد فِيهِ قَوْله تَعَالَى:

ص: 234

{وَمن يقتل مُؤمنا مُتَعَمدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم خَالِدا فِيهَا وَغَضب الله عَلَيْهِ ولعنه وَأعد لَهُ عذَابا عَظِيما} .

ظَاهره أَنه لَا يغْفر لَهُ، وَإِلَيْهِ ذهب ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما، لَكِن الْجُمْهُور وَظَاهر السّنة على أَنه بِمَنْزِلَة سَائِر الذُّنُوب، وَأَن هَذِه التشديدات للزجر وَأَنَّهَا تَشْبِيه لطول مكثه بالخلود وَاخْتلفُوا فِي الْكَفَّارَة فان الله تَعَالَى لم ينص عَلَيْهَا فِي مَسْأَلَة الْعمد قَالَ الله تَعَالَى:

{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كتب عَلَيْكُم الْقصاص فِي الْقَتْلَى الْحر بِالْحرِّ وَالْعَبْد بِالْعَبدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} .

نزلت فِي حيين من أَحيَاء الْعَرَب: أَحدهمَا أشرف من الآخر، فَقتل الأوضع من الْأَشْرَف قَتْلَى فَقَالَ الْأَشْرَف لَنَقْتُلَنَّ الْحر بِالْعَبدِ وَالذكر بِالْأُنْثَى، ولنضاعفن الْجراح.

وَمعنى الْآيَة - وَالله أعلم أَن خُصُوص الصِّفَات لَا يعْتَبر فِي الْقَتْلَى كالعقل، وَالْجمال، والصغر، وَالْكبر وَكَونه شريفا أَو ذَا مَال وَنَحْو ذَلِك،

وَإِنَّمَا تعْتَبر الْأَسَامِي والمظان الْكُلية، فَكل امْرَأَة مكافئة لكل امْرَأَة، وَلذَلِك كَانَت ديات النِّسَاء وَاحِدَة وَإِن تفاوتت الْأَوْصَاف، وَكَذَلِكَ الْحر يُكَافِئ الْحر، وَالْعَبْد يُكَافِئ العَبْد، فَمَعْنَى الْقصاص التكافؤ وَأَن يَجْعَل اثْنَان فِي دَرَجَة وَاحِدَة من الحكم لَا يفضل أَحدهمَا على الآخر لَا الْقَتْل مَكَانَهُ أَلْبَتَّة، ثمَّ أَثْبَتَت السّنة أَن الْمُسلم لَا يقتل بالكافر، وَأَن الْحر لَا يقتل بِالْعَبدِ. وَالذكر يقتل بِالْأُنْثَى لِأَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قتل الْيَهُودِيّ بِجَارِيَة وَفِي كتاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى أقيال هَمدَان " وَيقتل الذّكر بِالْأُنْثَى " وسره أَن الْقيَاس فِيهِ مُخْتَلف، ففضل الذُّكُور على الْإِنَاث، وكونهم قوامين عَلَيْهِنَّ يَقْتَضِي أَلا يُقَاد بهَا وَأَن الْجِنْس وَاحِد، وَإِنَّمَا الْفرق بِمَنْزِلَة الْفرق الصَّغِير وَالْكَبِير وعظيم الجثة وحقيرها، ورعاية مثل ذَلِك عسيرة جدا، وَرب امْرَأَة هِيَ أتم من الرِّجَال فِي محَاسِن الْخِصَال تَقْتَضِي أَن يُقَاد، فَوَجَبَ أَن يعْمل على القياسين، وَصُورَة الْعَمَل بهما أَنه اعْتبر الْمُقَاصَّة فِي الْقود وَعدم الْمُقَاصَّة فِي الدِّيَة، وَإِنَّمَا فعل ذَلِك لِأَن صَاحب الْعمد قَصدهَا وَقصد التَّعَدِّي عَلَيْهَا، والمتعمد المتعدى يَنْبَغِي أَن يذب عَنْهَا أتم ذب، فَإِنَّهَا لَيست بِذَات شَوْكَة، وقتلها لَيْسَ فِيهِ حرج بِخِلَاف قتل

ص: 235

الرِّجَال فَإِن الرجل يُقَاتل الرجل، فَكَانَت هَذِه الصُّورَة أَحَق بِإِيجَاب الْقود؛ ليَكُون ردعا وزجرا عَن مثله.

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:

" لَا يقتل مُسلم لكَافِر ". أَقُول: والسر فِي ذَلِك أَن الْمَقْصُود الْأَعْظَم فِي الشَّرْع تنويه الْملَّة الحنيفية، وَلَا يحصل إِلَّا بِأَن يفضل الْمُسلم على الْكَافِر، وَلَا يُسَوِّي بَينهمَا.

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:

" لَا يُقَاد الْوَالِد بِالْوَلَدِ " أَقُول: السَّبَب فِي

ذَلِك أَن الْوَالِد شفقته وافرة، وحبه عَظِيم، فاقدامه على الْقَتْل مَظَنَّة أَنه لم يتعمده. وَإِن ظَهرت مخايل الْعمد أَو كَانَ لِمَعْنى أَبَاحَ قَتله، وَلَيْسَت دلَالَة هَذِه اقل من دلَالَة اسْتِعْمَال مَا لَا يقتل غَالِبا على أَنه لم يقْصد إزهاق الرّوح.

وَأما الْقَتْل شبه الْعمد، فَقَالَ فِيهِ صلى الله عليه وسلم:

" من قتل فِي عمية فِي رمي يكون فيهم بِالْحِجَارَةِ أَو جلد بالسياط أَو ضرب بعصا فَهُوَ خطأ وعقله عقل الْخَطَأ ".

أَقُول: مَعْنَاهُ أَنه يشبه الْخَطَأ وَأَنه لَيْسَ من الْعمد وَأَن عقله مثل عقله فِي الأَصْل، وَإِنَّمَا يتمايزا فِي الصّفة، أَو أَنه لَا فرق بَينه وَبَينه فِي الذَّهَب وَالْفِضَّة وَاخْتلفت الرِّوَايَة فِي الدِّيَة الْمُغَلَّظَة. فَقَوْل ابْن مَسْعُود رضي الله عنه: إِنَّهَا تكون أَربَاعًا خمْسا وَعشْرين جَذَعَة. وخمسا وَعشْرين حقة، وخمسا وَعشْرين بنت لبون، وخمسا وَعشْرين بنت مَخَاض، وَعنهُ صلى الله عليه وسلم " أَلا إِن فِي قتل الْعمد الْخَطَأ بِالسَّوْطِ أَو الْعَصَا مائَة من الْإِبِل مِنْهَا أَرْبَعُونَ خلفة فِي بطونها الأولادها، وَفِي رِوَايَة " ثَلَاثُونَ حقة وَثَلَاثُونَ جَذَعَة وَأَرْبَعُونَ خَلفه " وَمَا صولحوا عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُم ".

وَأما الْقَتْل الْخَطَأ فَفِيهِ الدِّيَة المخففة المخمسة عشرُون بن مَخَاض. وَعِشْرُونَ ابْن مَخَاض. وَعِشْرُونَ بنت لبون. وَعِشْرُونَ حقة وَعِشْرُونَ جَذَعَة، وَفِي هذَيْن الْقسمَيْنِ إِنَّمَا تجب الدِّيَة على الْعَاقِلَة فِي ثَلَاث سِنِين.

وَلما كَانَت هَذِه الْأَنْوَاع مُخْتَلفَة الْمَرَاتِب روعي فِي ذَلِك التَّخْفِيف والتغليظ من وُجُوه:

مِنْهَا أَن سفك دم الْقَاتِل لم يحكم بِهِ إِلَّا فِي الْعمد. وَلم يَجْعَل فِي الباقيين إِلَّا الدِّيَة، وَكَانَ فِي شَرِيعَة الْيَهُود الْقصاص لَا غير: فَخفف الله على هَذِه الْأمة،

فَجعل جَزَاء الْقَتْل

ص: 236

الْعمد عَلَيْهَا أحد الْأَمريْنِ الْقَتْل. وَالْمَال، فلربما كَانَ المَال أَنْفَع للأولياء من الثأر، وَفِيه إبْقَاء نسمَة مسلمة.

وَمِنْهَا أَن كَانَت الدِّيَة فِي الْعمد وَاجِبَة على نفس الْقَاتِل وَفِي غَيره تُؤْخَذ من عَاقِلَته؛ لتَكون مزجرة شَدِيدَة وابتلاء عَظِيما للْقَاتِل ينهك مَاله أَشد إنهاك، وَإِنَّمَا تُؤْخَذ فِي غير الْعمد من الْعَاقِلَة لِأَن هدر الدَّم مفْسدَة عَظِيمَة، وجبر قُلُوب المصابين مَقْصُود، والتساهل من الْقَاتِل فِي مثل هَذَا الْأَمر الْعَظِيم ذَنْب يسْتَحق التَّضْيِيق عَلَيْهِ، ثمَّ لما كَانَت الصِّلَة وَاجِبَة على ذَوي الْأَرْحَام اقْتَضَت الْحِكْمَة الإلهية أَن يُوجب شَيْء من ذَلِك عَلَيْهِم أشاءوا أم أَبَوا، وَإِنَّمَا تعين هَذَا لمعنيين.

أَحدهمَا أَن الْخَطَأ وَإِن كَانَ مأخوذا بِهِ لِمَعْنى التساهل فَلَا يَنْبَغِي أَن يبلغ بِهِ أقْصَى المبالغ، فَكَانَ أَحَق مَا يُوجب عَلَيْهِم عَن ذَوي رَحِمهم مَا يكون الْوَاجِب فِي التَّخْفِيف عَلَيْهِ.

وَالثَّانِي أَن الْعَرَب كَانُوا يقومُونَ بنصرة صَاحبهمْ بِالنَّفسِ وَالْمَال عِنْدَمَا يضيق عَلَيْهِ الْحَال، ويرون ذَلِك صلَة وَاجِبَة وَحقا مؤكدا، ويرون تَركه عقوقا وَقطع رحم، فاستوجبت عاداتهم تِلْكَ أَن يغين لَهُم ذَلِك.

وَمِنْهَا أَن جعل دِيَة الْعمد مُعجلَة فِي سنة وَاحِدَة، ودية غَيره مُؤَجّلَة فِي ثَلَاث سِنِين لما ذكرنَا من معنى التَّخْفِيف.

وَالْأَصْل فِي الدِّيَة أَنَّهَا يجب أَن تكون مَالا عَظِيما يَغْلِبهُمْ، وَينْقص من مَالهم، ويجدون لَهُ بَالا عِنْدهم وَيكون بِحَيْثُ يؤدونه بعد مقلساة الضّيق؛ ليحصل الزّجر وَهَذَا الْقدر يخْتَلف باخْتلَاف الْأَشْخَاص، وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة قدروها بِعشْرَة من الْإِبِل، فَلَمَّا رأى عبد الْمطلب أَنهم لَا ينزجرون بهَا بلغَهَا إِلَى مائَة، وأبقاها النَّبِي صلى الله عليه وسلم على ذَلِك لِأَن الْعَرَب يَوْمئِذٍ كَانُوا أهل إبل، غير أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم عرف أَن شَرعه

لَازم للْعَرَب والعجم وَسَائِر النَّاس، وَلَيْسوا كلهم أهل إبل، فَقدر من الذَّهَب ألف دِينَار، وَمن الْفضة اثْنَي عشر ألف دِرْهَم، وَمن الْبَقر مِائَتي بقرة، وَمن الشَّاء ألفي شَاة.

وَالسَّبَب فِي هَذَا إِذا مائَة رجل إِن وزع عَلَيْهِم ألف دِينَار فِي ثَلَاث سِنِين أصَاب كل وَاحِد مِنْهُم فِي سنة ثَلَاثَة دَنَانِير وَشَيْء، وَمن الدَّرَاهِم ثَلَاثُونَ درهما وَشَيْء، وَهَذَا شَيْء لَا يَجدونَ لأَقل مِنْهُ بَالا، والقبائل تَتَفَاوَت فِيمَا بَينهَا، يكون مِنْهَا الْكَبِيرَة، وَمِنْهَا الصَّغِيرَة، وَضبط الصَّغِيرَة بِخَمْسِينَ، فَإِنَّهُم أدنى مَا تتقرى بهم الْقرْيَة، وَلذَلِك جعل الْقسَامَة خمسين يَمِينا متوزعة على خمسين رجلا، والكبيرة ضعف الْخمسين فَجعلت الدِّيَة مائَة ليصيب كل وَاحِد بَعِيرًا أَو بعيران أَو بعير وَشَيْء فِي أَكثر الْقَبَائِل عِنْد اسْتِوَاء حَالهم.

ص: 237

وَالْأَحَادِيث الَّتِي تدل على أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذا رخصت الْإِبِل خفض من الدِّيَة، وَإِذا غلت رفع مِنْهَا، فمعناها عِنْدِي أَنه كَانَ يقْضِي بذلك على أهل الْإِبِل خَاصَّة، وَأَنت إِن فتشت عَامَّة الْبِلَاد وَجَدتهمْ ينقسمون إِلَى أهل تِجَارَات وأموال وهم أهل الْحَضَر، وَأهل رعي، وهم أهل البدو لَا يجاوزهم حَال الْأَكْثَرين.

قَالَ الله تَعَالَى:

{وَمن قتل مُؤمنا خطأ فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة} . الْآيَة

أَقُول. إِنَّمَا وَجب فِي الْكَفَّارَة تَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة أَو إطْعَام سِتِّينَ مِسْكينا ليَكُون طَاعَة مكفرة لَهُ فِيمَا بَينه وَبَين الله فَإِن الدِّيَة مزجرة تورث فِيهِ النَّدَم بِحَسب تضييق النَّاس عَلَيْهِ، وَالْكَفَّارَة فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى.

قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم.

" لَا يحل دم امْرِئ مُسلم يشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنِّي رَسُول الله إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث. النَّفس بِالنَّفسِ.

وَالثَّيِّب الزَّانِي. والمفارق لدينِهِ التارك للْجَمَاعَة. " أَقُول. الأَصْل الْمجمع عَلَيْهِ فِي جَمِيع الْأَدْيَان أَنه إِنَّمَا يجوز الْقَتْل لمصْلحَة كُلية لَا تتأتى بِدُونِهِ، وَيكون تَركهَا اشد إفسادا مِنْهُ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى.

{والفتنة أَشد من الْقَتْل} .

وعندما تصدى النَّبِي صلى الله عليه وسلم للتشريع وَضرب الْحُدُود وَجب أَن يضْبط الْمصلحَة الْكُلية المسوغة للْقَتْل وَلَو لم يضْبط، وَترك سدى لقتل مِنْهُم قَاتل من لَيْسَ قَتله من الْمصلحَة الْكُلية ظنا أَنه مِنْهَا فضبط بِثَلَاث:

الْقصاص فَإِنَّهُ مزجرة، وَفِيه مصَالح كَثِيرَة قد أَشَارَ الله تَعَالَى إِلَيْهَا بقوله.

{وَلكم فِي الْقصاص حَيَاة يَا أولي الْأَلْبَاب} .

وَالثَّيِّب الزَّانِي لِأَن الزِّنَا من أكبر الْكَبَائِر فِي جَمِيع الْأَدْيَان، وَهُوَ من أصل مَا تَقْتَضِيه الجبلة الإنسانية، فَإِن الْإِنْسَان عِنْد سَلامَة مزاجه يخلق على الْغيرَة أَن يزاحمه أحد على موطوأته كَسَائِر الْبَهَائِم، إِلَّا أَن الْإِنْسَان اسْتوْجبَ أَن يعلم مَا بِهِ إصْلَاح النظام فِيمَا بَينهم، فَوَجَبَ عَلَيْهِم ذَلِك.

وَالْمُرْتَدّ اجترأ على الله وَدينه، وناقض الْمصلحَة المرعية فِي نصب الدّين وَبعث الرُّسُل.

وَأما مَا سوى هَؤُلَاءِ الثَّلَاث مِمَّا ذهبت إِلَيْهِ الْأمة مثل الصَّائِل. وَمثل الْمُحَارب من غير أَن يقتل أحدا عِنْد من يَقُول بالتخيير بَين أجزية الْمُحَارب فَيمكن إرجاعه إِلَى أحد هَذِه الْأُصُول.

ص: 238

وَاعْلَم أَنه كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يحكمون بالقسامة وَكَانَ أول من قضى بهَا أَبُو طَالب كَمَا بَين ذَلِك ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما وَكَانَ فِيهَا مصلحَة عَظِيمَة، فَإِن الْقَتْل رُبمَا يكون فِي الْمَوَاضِع الْخفية والليالي الْمظْلمَة حَيْثُ لَا تكون الْبَيِّنَة

فَلَو جعل مثل هَذَا الْقَتْل هدرا لاجترأ النَّاس عَلَيْهِ ولعم الْفساد، وَلَو أَخذ بِدَعْوَى أَوْلِيَاء الْمَقْتُول بِلَا حجَّة لادعى النَّاس على كل من يعادونه، فَوَجَبَ أَن يُؤْخَذ بأيمان جمَاعَة عَظِيم تتقرى بهَا قَرْيَة، وهم خَمْسُونَ رجلا، فَقضى بهَا النَّبِي صلى الله عليه وسلم، وأثبتها.

وَاخْتلف الْفُقَهَاء فِي الْعلَّة الَّتِي تدار عَلَيْهَا، فَقيل. وجود قَتِيل بِهِ أثر جِرَاحَة من ضرب أَو خنق فِي مَوضِع هُوَ فِي حفظ قوم كمحلة، وَمَسْجِد، وَدَار، وَهَذَا مَأْخُوذ من قصَّة عبد الله بن سهل وجد قَتِيلا بِخَيْبَر يتشحب فِي دَمه، وَقيل. وجود قَتِيل وَقيام لوث على أحد أَنه الْقَاتِل باخبار الْمَقْتُول أَو شَهَادَة دون النّصاب وَنَحْوه، وَهَذَا مَأْخُوذ من قصَّة الْقسَامَة الَّتِي قضى بهَا أَبُو طَالب.

قَالَ صلى الله عليه وسلم.

" دِيَة الْكَافِر نصف دِيَة الْمُسلم " أَقُول. السَّبَب فِي ذَلِك مَا ذكرنَا قبل أَنه يجب أَن يُنَوّه بالملة الإسلامية، وَأَن يفضل الْمُسلم على الْكَافِر، وَلِأَن قتل الْكَافِر أقل إفسادا بَين الْمُسلمين؛ وَأَقل مَعْصِيّة؛ فَإِنَّهُ كَافِر مُبَاح الأَصْل ينْدَفع بقتْله شُعْبَة من الْكفْر، وَهُوَ مَعَ ذَلِك ذَنْب وخطيئة وإفساد فِي الأَرْض، فَنَاسَبَ أَن تخفف دِيَته.

وَقضى صلى الله عليه وسلم فِي الاملاص بغرة عبد أَو أمة اعْلَم أَن الْجَنِين فِيهِ وَجْهَان: كَونه نفسا من النُّفُوس البشرية، وَمُقْتَضَاهُ أَن يَقع فِي عوضه النَّفس، وَكَونه طرفا وعضوا من أمة لَا يسْتَقلّ بِدُونِهَا وَمُقْتَضَاهُ أَن يَجْعَل بِمَنْزِلَة سَائِر الجروح فِي الحكم بِالْمَالِ، فروعي الْوَجْهَانِ فَجعل دِيَته مَالا هُوَ أدمي وَذَلِكَ غَايَة الْعدْل.

وَأما التَّعَدِّي على أَطْرَاف الْإِنْسَان فَحكمه مَبْنِيّ على أصُول: أَحدهَا أَن مَا كَانَ مِنْهَا عمدا فَفِيهِ الْقصاص إِلَّا أَن يكون الْقصاص فِيهِ مفضيا إِلَى الْهَلَاك فَذَلِك مَانع من الْقصاص، وَفِيه قَوْله تعال ى:

ص: 239

{النَّفس بِالنَّفسِ وَالْعين بِالْعينِ وَالْأنف بالأنف وَالْأُذن بالأذن وَالسّن بِالسِّنِّ والجروح قصاص} .

فالعين بِمِرْآة محماة وَالسّن بالمبرد وَلَا تقلع لِأَن فِي الْقلع خوف زِيَادَة الأدى. وَفِي الجروح إِذا كَانَ كالموضحة الْقصاص يقبض على السكين بِقدر عمق الْمُوَضّحَة فان كَانَ كسر الْعظم فَلَا قصاص لِأَنَّهُ يخَاف مِنْهُ الْهَلَاك.

وَجَاء عَن بعض التَّابِعين لطمة بلطمة. وقرصة بقرصة.

وَالثَّانِي أَن مَا كَانَ إِزَالَة لقُوَّة نافعة فِي الْإِنْسَان كالبطش. وَالْمَشْي وَالْبَصَر. والسمع. وَالْعقل. والباءة، وَيكون بِحَيْثُ يصير الْإِنْسَان بِهِ كلا على النَّاس، وَلَا يقدر على الِاسْتِقْلَال بِأَمْر معيشته، وَيلْحق بِهِ عَار فِيمَا بَين النَّاس، وَيكون مثله يتَغَيَّر بهَا خلق الله، وَيبقى أَثَرهَا فِي بدنه طول الدَّهْر فانه يجب فِيهَا الدِّيَة كَامِلَة، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ظلم عَظِيم وتغيير لخلقه وَمثله بِهِ وإلحاق عَار بِهِ وَكَانَ النَّاس لَا يقومُونَ بنصرة الْمَظْلُوم بأمثال ذَلِك كَمَا يقومُونَ فِي بَاب الْقَتْل، ويحقر أَمرهم الظَّالِم وَالْحَاكِم. وعصبة الظَّالِم وعصبة الْمَظْلُوم فاستوجب ذَلِك أَن يُؤَكد الْأَمر فِيهِ ويبلغ مزجرته أقْصَى المبالغ.

وَالْأَصْل فِي قَوْله صلى الله عليه وسلم فِي كِتَابه إِلَى أهل الْيمن: " فِي الْأنف إِذا أوعب جدعة الدِّيَة، وَفِي الاسنان الدِّيَة، وَفِي الشفتين الدِّيَة، وَفِي البيضتين الدِّيَة، وَفِي الذّكر الدِّيَة، وَفِي الصلب الدِّيَة، وَفِي الْعَينَيْنِ الدِّيَة " وَقَالَ عليه السلام.

" فِي الْعقل الدِّيَة ".

ثمَّ مَا كَانَ إتلافا لنصف هَذِه الْمَنْفَعَة فَفِيهِ نصف الدِّيَة، فِي الرجل الواحده نصف الدِّيَة، وَفِي الْيَد الْوَاحِدَة نصف الدِّيَة، وَمَا كَانَ إتلافا لعشرها كأصبع

من أَصَابِع الْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ فَفِيهِ عشر الدِّيَة، وَفِي كل سنّ نصف عشر الدِّيَة، وَذَلِكَ لِأَن الْأَسْنَان تكون ثَمَانِيَة وَعشْرين. وَسِتَّة وَعشْرين، وَالْكَسْر الَّذِي يكون بِإِزَاءِ نِسْبَة الْوَاحِد إِلَى ذَلِك الْعدَد خَفِي مُحْتَاج إِلَى التعمق فِي الْحساب، فأخذنا الْعشْرين، وأوجبنا نصف عشر الدِّيَة.

وَالثَّالِث أَن الجروح الَّتِي لَا تكون إبطالا لقُوَّة مُسْتَقلَّة وَلَا لنصفها، وَلَا تكون مثله، وَإِنَّمَا هِيَ تَبرأ، وتندمل لَا يَنْبَغِي أَن تجْعَل بِمَنْزِلَة النَّفس وَلَا بِمَنْزِلَة الْيَد وَالرجل، فَيحكم بِنصْف الدِّيَة، وَلَا يَنْبَغِي أَن يهدر وَلَا يَجْعَل بإزائه شَيْء، فأقلها الْمُوَضّحَة إِذْ مَا كَانَ دونهَا يُقَال لَهُ خدش وخمش لَا جرح، والموضحة مَا يُوضح الْعظم فَفِيهِ نصف الْعشْر لآن نصف الْعشْر أقل حِصَّة يعرف من غير إمعان فِي الْحساب، وَإِنَّمَا يبْنى الْأَمر فِي

ص: 240

الشَّرَائِع على السِّهَام الْمَعْلُوم مقدارها عِنْد الحاسب وَغَيره، والمنقلة فِيهَا خَمْسَة عشر بَعِيرًا لِأَنَّهَا إِيضَاح وَكسر وَنقل فَصَارَ بِمَنْزِلَة ثَلَاثَة إيضاحات والجائفة والآمة أعظما الْجِرَاحَات فَمن حَقّهمَا أَن يَجْعَل فِي كل وَاحِدَة مِنْهُمَا ثلث الدِّيَة لِأَن الثُّلُث يقدر بِهِ مَا دون النّصْف.

قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم:

" هَذِه وَهَذِه سَوَاء " يَعْنِي الحنصر والابهام، وَقَالَ " الثَّنية والضرس سَوَاء ".

أَقُول وَالسَّبَب أَن الْمَنَافِع الْخَاصَّة بِكُل عُضْو عُضْو لما صَعب ضَبطهَا وَجب أَن يدار الحكم على الْأَسَامِي وَالنَّوْع.

وَاعْلَم أَن من الْقَتْل وَالْجرْح مَا يكون هدرا وَذَلِكَ لأحد وَجْهَيْن: إِمَّا أَن يكون دفعا لشر يلْحق بِهِ، وَالْأَصْل فِيهِ قَوْله صلى الله عليه وسلم فِي جَوَاب من قَالَ:

" يَا رَسُول الله أَرَأَيْت إِن جَاءَ رجل يُرِيد أَخذ مَالِي؟ قَالَ: فَلَا تعطه مَالك، قَالَ: أَرَأَيْت إِن قاتلني؟ قَالَ: قَاتله، قَالَ: أَرَأَيْت إِن قتلني؟ قَالَ: فَأَنت شَهِيد، قَالَ: أَرَأَيْت إِن قتلته؟ قَالَ: هُوَ فِي النَّار ".

وعض إِنْسَان إنْسَانا، فَانْتزع المعضوض يَده من فَمه، فأندر ثنيته، فأهدرها رَسُول الله صلى الله عليه وسلم.

فَالْحَاصِل أَن الصَّائِل على نفس الْإِنْسَان أَو طرفه أَو مَاله يجوز ذبه بِمَا أمكن، فان انجر الْأَمر إِلَى الْقَتْل لَا إِثْم فِيهِ، فان الْأَنْفس السبعية كثيرا مَا يتغلبون فِي الأَرْض، فَلَو لم يدفعوا لضاق الْحَال وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:

" لَو اطلع فِي بَيْتك أحد، وَلم تَأذن لَهُ، فحذفته بحصاة، ففقأت عينه مَا كَانَ عَلَيْك من جنَاح ".

وَأما أَن يكون بِسَبَب لَيْسَ فِيهِ تعد لأحد، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَة الْآفَات السماوية، وَالْأَصْل فِيهِ قَوْله صلى الله عليه وسلم:

" العجماء جَبَّار، والمعدن جَبَّار، والبئر جَبَّار ".

أَقُول: وَذَلِكَ لِأَن الْبَهَائِم تسرح للمرعى، فاذا أَصَابَت أحدا لم يكن ذَلِك من صنع مَالِكهَا، وَكَذَلِكَ إِذا وَقع فِي الْبِئْر أَو انطبق عَلَيْهِ الْمَعْدن، ثمَّ إِن النَّبِي صلى الله عليه وسلم سجل عَلَيْهِم أَن يحتاطوا لِئَلَّا يصاب أحد مِنْهُم بخطأ، فان من القرف والتلف.

ص: 241

وَمِنْه نَهْيه صلى الله عليه وسلم عَن الْحَذف قَالَ: " إِنَّه لَا يصاد بِهِ صيد، وَلَا ينْكَأ بِهِ عَدو، وَلكنه قد يكسر السن، ويفقأ الْعين ".

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " إِذا مر أحدكُم فِي مَسْجِدنَا أَو فِي سوقنا وَمَعَهُ نبل فليمسك على نصالها أَن تصيب أحدا من الْمُسلمين مِنْهَا شَيْء ".

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:

" لَا يُشِير أحدكُم إِلَى أَخِيه بِالسِّلَاحِ فَإِنَّهُ لَا يدْرِي لَعَلَّ الشَّيْطَان ينْزع من يَده، فَيَقَع فِي حُفْرَة من النَّار ".

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:

" من حمل علينا السِّلَاح فَلَيْسَ منا ".

وَنهى عليه السلام أَن يتعاطى السَّيْف مسلولا، وَنهى أَن يقدر السّير بَين أصبعين.

وَأما التَّعَدِّي على أَمْوَال النَّاس فأقسام: غصب. وَإِتْلَاف. وسرقة. وَنهب

أما السّرقَة. والنهب فستعرفهما، وَأما الْغَصْب فاغا هُوَ تسلط على مَال الْغَيْر مُعْتَمدًا على شُبْهَة واهية لَا يثبتها الشَّرْع، أَو اعْتِمَادًا على أَلا يظْهر على الْحُكَّام جلية الْحَال، وَنَحْو ذَلِك، فَكَانَ حريا أَن يعد من الْمُعَامَلَات، وَلَا يبتنى عَلَيْهِ الْحُدُود، وَلذَلِك كَانَ غصب ألف دِرْهَم لَا يُوجب الْقطع، وسرقة ثَلَاثَة دَرَاهِم توجبه.

وَأما الاتلاف فَيكون عمدا. وَشبه عمد. وَخطأ، لَكِن الْأَمْوَال لما كَانَت دون الْأَنْفس لم يَجْعَل لكل وَاحِد مِنْهَا حكما وَكفى الضَّمَان عَن جَمِيعهَا زاجرا.

قَالَ رسولى الله صلى الله عليه وسلم: " من أَخذ شبْرًا من الأَرْض ظلما طوقه يَوْم الْقِيَامَة من سبع أَرضين ".

أَقُول لقد علمت مرَارًا أَن الْفِعْل الَّذِي ينْقض الْمصلحَة المدنية، وَيحصل بِهِ الْإِيذَاء والتعدي يسْتَوْجب لعن الْمَلأ الْأَعْلَى، وَيتَصَوَّر الْعَذَاب بِصُورَة الْعَمَل أَو مجاروه.

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:

" على الْيَد مَا أخذت ".

أَقُول: هَذَا هُوَ الأَصْل فِي بَاب الْغَصْب وَالْعَارِية يجب رد عينه، فان تعذر فَرد مثله.

وَدفع عليه السلام صَحْفَة فِي مَوضِع صَحْفَة كسرت، وَأمْسك الْمَكْسُورَة

أَقُول: هَذَا هُوَ الأَصْل فِي بَاب الاتلاف، وَالظَّاهِر من السّنة أَنه يجوز أَن يغرم فِي المتقومات بِمَا يحكم بِهِ الْعَامَّة والخاصة أَنه مثلهَا كالصحفة مَكَان الصحفة، وَقضى عُثْمَان

ص: 242

رَضِي الله عَنهُ بِمحضر من الصحابه رضي الله عنهم على الْمَغْرُور أَن يفدى بِمثل أَوْلَاده.

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:

" من وجد عين مَاله عِنْد رجل فَهُوَ أَحَق بِهِ، وَيتبع البيع من بَاعه " أَقُول السَّبَب الْمُقْتَضِي لهَذَا الحكم أَنه إِذا وَقعت هَذِه الصُّورَة فَيحْتَمل أَن يكون فِي كل جَانب الضَّرَر والجور، فَإِذا وجد مَتَاعه عِنْد رجل. فان كَانَت السّنة أَن يهمله حَتَّى يجد بَائِعه فَفِيهِ ضَرَر عَظِيم لصَاحب الْمَتَاع، فان الْغَاصِب أَو السَّارِق إِذا عثر على خيانته رُبمَا يحْتَج بِأَنَّهُ اشْترِي من إِنْسَان يذب بذلك عَن نَفسه، وَرُبمَا يكون السَّارِق وَالْغَاصِب وكل بعض النَّاس بِالْبيعِ لِئَلَّا يُؤَاخذ هُوَ وَلَا البَائِع، وَفِي ذَلِك فتح بَاب ضيَاع حُقُوق النَّاس، وَرُبمَا لَا يجد البَائِع إِلَّا عِنْد غيبَة هَذَا المُشْتَرِي فيؤاخذه فَلَا يجد عِنْده شَيْء فيسكت على خيبة، وَإِن كَانَت السّنة أَن يقبضهُ فِي الْحَال فَفِيهِ ضَرَر للْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ رُبمَا يبْتَاع من السُّوق لَا يدْرِي من البَائِع وَأَيْنَ مَحَله ثمَّ يسْتَحق مَاله وَلَا يجد البَائِع فيسكت على خيبة وَرُبمَا يكون لَهُ حَاجَة إِلَى الْمَتَاع وَيكون فِي قبض

الْمُسْتَحق إِيَّاه حوالته على البَائِع فَوت حَاجته فَلَمَّا دَار الْأَمر بَين ضررين وَلم يكن بُد من وجود أَحدهمَا وَجب أَن يرجع إِلَى الْأَمر الظَّاهِر الَّذِي تقبله أفهام النَّاس من غير رِيبَة وَهُوَ هُنَا أَن الْحق تعلق بِهَذِهِ الْعين وَالْعين تحبس فِي الْعين الْمُتَعَلّق بِهِ إِذا قَامَت الْبَيِّنَة وارتفع الأشكال، وعَلى هَذَا الْقيَاس يَنْبَغِي أَن تعْتَبر القضايا.

وَقضى صلى الله عليه وسلم أَن على أهل الحوائط حفظهَا بِالنَّهَارِ وَأَن مَا أفسدت الْمَوَاشِي فَهُوَ ضَامِن على أَهلهَا أَقُول: السَّبَب الْمُقْتَضِي لهَذَا الْقَضَاء أَنه إِذا أفسدت الْمَوَاشِي حَوَائِط النَّاس كَانَ الْجور والعذر مَعَ كل وَاحِد، فَصَاحب الْمَاشِيَة يحْتَج بِأَنَّهُ لَا بُد أَن يسرح مَاشِيَته فِي المرعى وَإِلَّا هَلَكت جوعا، وَاتِّبَاع كل بَهِيمَة وحفظها يفْسد عَلَيْهِم الارتفاقات الْمَقْصُودَة، وَأَنه لَيْسَ لَهُ اخْتِيَار فِيمَا أتلفته بهيمته، وَأَن صَاحب الْحَائِط هُوَ الَّذِي قصر فِي حفظ مَاله وَتَركه فِي بمضيعة، وَصَاحب الْحَائِط يحْتَج بِأَن الْحَائِط لَا تكون إِلَّا خَارج الْبِلَاد فحفظها والذب عَنْهَا والاقامة عَلَيْهَا يفْسد حَاله، وَأَن صَاحب الْمَاشِيَة هُوَ الَّذِي سرحها فِي الْحَائِط أَو قصر فِي حفظهَا، فَلَمَّا دَار الْأَمر بَينهمَا وَكَانَ لكل وَاحِد جور وَعذر، وَجب أَن يرجع إِلَى الْعَادة المألوفة الفاشية بَينهم فيبنى، الْجور على مجاوزتها، وَالْعَادَة أَن يكون فِي كل حَائِط فِي النَّهَار من يعْمل فِيهِ، وَيصْلح أمره، ويحفظه. وَأما فِي اللَّيْل فيتركونه، ويبيتون فِي الْقرى والبلاد، وَأَن أهل الْمَاشِيَة يجمعُونَ ماشيتهم بِاللَّيْلِ فِي بُيُوتهم، ثمَّ يسرحونها فِي النَّهَار للرعي، فَاعْتبر الْجور أَن يُجَاوز الْعَادة الفاشية بَينهم.

ص: 243