الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَمِنْهَا الِاحْتِرَاز عَن هيآت يتَحَقَّق فِيهَا التأذي بِحكم التجربة كالنوم على سطح غير محجوز وَترك المصابيح عِنْد النّوم، وَهُوَ قَوْله صلى الله عليه وسلم:
" فَإِن الفويسقة تضرم على أَهلهَا ".
وَمِنْهَا مُخَالفَة الْأَعَاجِم فِيمَا اعتادوه من الترفه الْبَالِغ والتعمق فِي الاطمئنان بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا فأنساهم ذكر الله وَأوجب الْإِكْثَار من طلب الدُّنْيَا وتشبح اللَّذَّات فِي نُفُوسهم فَيجب أَن يخص رُءُوس تعمقاتهم بِالتَّحْرِيمِ كالحرير. والقسى. والمياثر. والأرجوان. وَالثيَاب المصنوعة فِيهَا الصُّور. وأواني الذَّهَب. وَالْفِضَّة. والمعصفر. والخلوق وَنَحْو ذَلِك، وَأَن يعم سَائِر عاداتهم بالكراهية، وَيسْتَحب ترك كثير من الإرفاه.
وَمِنْهَا الِاحْتِرَاز عَن هيآت تنَافِي الْوَقار وتلحق الْإِنْسَان بِأَهْل الْبَادِيَة مِمَّن لم يتفرغوا لأحكام النَّوْع ليحصل التَّوَسُّط بَين الإفراط والتفريط.
(الْأَطْعِمَة والأشربة)
اعْلَم أَنه لما كَانَت سَعَادَة الْإِنْسَان فِي الْأَخْلَاق الْأَرْبَعَة الَّتِي ذَكرنَاهَا وشقاوته فِي أضدادها أوجب حفظ الصِّحَّة النفسانية وطرد الْمَرَض النفساني أَن يفحص عَن أَسبَاب تغير مزاجه إِلَى إِحْدَى الوجهتين.
فَمِنْهَا أَفعَال تتلبس بهَا النَّفس وَتدْخل فِي جذر جوهرها، وَقد بحثنا عَن جملَة صَالِحَة من هَذَا الْبَاب.
وَمِنْهَا أُمُور تولد فِي النَّفس هيآت دنية توجب مشابهة الشَّيَاطِين والتبعد من الْمَلَائِكَة وَتحقّق أضداد الْأَخْلَاق الصَّالِحَة من حَيْثُ يَشْعُرُونَ وَمن حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، فتلقت النُّفُوس اللاحقة بالملأ الْأَعْلَى التاركة للألواث البهيمية من حَظِيرَة الْقُدس بشاعة تِلْكَ الْأُمُور كَمَا تلقى الطبيعة كَرَاهِيَة المر والبشع، وَأوجب لطف الله وَرَحمته بِالنَّاسِ أَن يكلفهم برءوس تِلْكَ الْأُمُور، وَالَّذِي هُوَ منضبط مِنْهَا وأثرها جلي غير خَافَ فيهم.
وَلما كَانَ أقوى أَسبَاب تغير الْبدن والأخلاق الْمَأْكُول وَجب أَن يكون رؤوسها من هَذَا الْبَاب، فَمن أَشد ذَلِك أثرا تنَاول الْحَيَوَان الَّذِي مسخ قوم بصورته، وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى إِذا لعن الْإِنْسَان وَغَضب عَلَيْهِ أورث غَضَبه ولعنه فِيهِ وجود مزاج هُوَ من سَلامَة الْإِنْسَان على طرف شاسع وصقيع بعيد حَتَّى يخرج من الصُّورَة النوعية بِالْكُلِّيَّةِ فَذَلِك أحد وُجُوه
التعذيب فِي بدن الْإِنْسَان وَيكون خُرُوج مزاجه عِنْد ذَلِك إِلَى مشابهة حَيَوَان خَبِيث يتنفر مِنْهُ الطَّبْع السَّلِيم فَيُقَال فِي مثل ذَلِك مسخ الله قردة وَخَنَازِير فَكَانَ فِي حَظِيرَة الْقُدس علم متمثل أَن بَين هَذَا النَّوْع من الْحَيَوَان وَبَين كَون الْإِنْسَان مغضوبا عَلَيْهِ بَعيدا من الرَّحْمَة مُنَاسبَة خُفْيَة وَأَن بَينه وَبَين الطَّبْع السَّلِيم الْبَاقِي على فطرته بونا بَائِنا فَلَا جرم أَن تنَاول هَذَا الْحَيَوَان وَجعله جُزْء بدنه أَشد من مخامرة النَّجَاسَات وَالْأَفْعَال المهيجة للغضب وَلذَلِك لم يزل تراجمة حَظِيرَة الْقُدس نوح فَمن بعده من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام يحرمُونَ الْخِنْزِير ويأمرون بالتبعد مِنْهُ إِلَى أَن يتنزل عِيسَى عليه السلام فيقتله، وَيُشبه أَن الْخِنْزِير كَانَ يَأْكُلهُ قوم فنطقت الشَّرَائِع بِالنَّهْي عَنهُ وهجر أمره أَشد مَا يكون، والقردة. والفأرة لم تكن تُؤْكَل قطّ فَكفى ذَلِك عَن التَّأْكِيد الشَّديد، وَهُوَ قَوْله صلى الله عليه وسلم فِي الضَّب. " إِن الله غضب على سبط من
بني إِسْرَائِيل فمسخهم دَوَاب يدبون فِي الأَرْض فَلَا أَدْرِي لَعَلَّ هَذَا مِنْهَا "، وَقَالَ الله تَعَالَى:{جعل مِنْهُم القردة والخنازير وَعبد الطاغوت} .
وَنَظِيره مَا ورد من كَرَاهِيَة الْمكْث بِأَرْض وَقع فِيهَا الْخَسْف أَو الْعَذَاب، وكراهية هيآت المغضوب عَلَيْهِم فَإِن مخامرة هَذِه الْأَشْيَاء لَيست أدنى من مخامرة النَّجَاسَات، والتلبس بهَا لَيْسَ أقل تَأْثِيرا من التَّلَبُّس بالهيآت الَّتِي يقتضيها مزاج الشَّيْطَان.
ويتلوه تنَاول حَيَوَان جبل على الْأَخْلَاق المضادة للأخلاق الْمَطْلُوبَة من الْإِنْسَان حَتَّى صَار كالمندفع إِلَيْهَا بضرورة، وَصَارَ يضْرب بِهِ الْمثل، وَصَارَت الطبائع السليمة تستخبثه وتأبى تنَاوله اللَّهُمَّ إِلَّا قوم لَا يعبأ بهم، وَالَّذِي تَكَامل فِيهِ هَذَا الْمَعْنى وَظهر ظهورا بَينا وانقاد لَهُ الْعَرَب والعجم جَمِيعًا أَشْيَاء:
مِنْهَا السبَاع المخلوقة على الخدش. وَالْجرْح. والصولة. وقسوة الْقلب، وَلذَلِك قَالَ عليه السلام فِي الذِّئْب:" أَو يَأْكُلهُ أحد "؟
وَمِنْهَا الْحَيَوَانَات المجبولة على إِيذَاء النَّاس والاختطاف مِنْهُم وانتهاز الفرص للإغارة عَلَيْهِم وَقبُول إلهام الشَّيَاطِين فِي ذَلِك كالغراب. والحديات. والوزغ. والذباب. والحية وَالْعَقْرَب وَنَحْو ذَلِك.
وَمِنْهَا حيوانات جبلت على الصغار والهوان والتستر فِي الاخدود كالفأرة وخشاش الأَرْض.
وَمِنْهَا حيوانات تتعيش بالنجاسات أَو الجيفة ومخامرتها وتناولها حَتَّى امْتَلَأت أبدانها بالنتن.
وَمِنْهَا الْحمار فَإِنَّهُ يضْرب بِهِ الْمثل فِي الْحمق والهوان وَكَانَ كثير من أهل
الطبائع السليمة من الْعَرَب يحرمونه وَيُشبه الشَّيَاطِين، وَهُوَ قَوْله صلى الله عليه وسلم:
" إِذا سَمِعْتُمْ نهيق الْحمار فتعوذوا بِاللَّه من الشَّيْطَان فَإِنَّهُ رأى شَيْطَانا "
وَأَيْضًا قد اتّفق الْأَطِبَّاء أَن هَذِه الْحَيَوَانَات كلهَا مُخَالفَة لمزاج نوع الْإِنْسَان لَا يسوغ تنَاولهَا طِبًّا.
وَاعْلَم أَن هَهُنَا أمورا مُبْهمَة تحْتَاج إِلَى ضبط الْحُدُود وتمييز الْمُشكل.
مِنْهَا أَن الْمُشْركين كَانُوا يذبحون لطواغيتهم يَتَقَرَّبُون بِهِ إِلَيْهَا وَهَذَا نوع من الْإِشْرَاك فاقتضت الْحِكْمَة الالهية أَن ينْهَى عَن هَذَا الْإِشْرَاك، ثمَّ يُؤَكد التَّحْرِيم بِالنَّهْي عَن تنَاول مَا ذبح لَهَا ليَكُون كابحا عَن ذَلِك الْفِعْل، وَأَيْضًا فَإِن قبح الذّبْح يسري فِي الْمَذْبُوح لما ذكرنَا فِي الصَّدَقَة ثمَّ الْمَذْبُوح للطواغيت أَمر مُبْهَم ضبط بِمَا أهل لغير الله بِهِ، وَبِمَا ذبح على النصب، وَبِمَا ذبحه غير المتدين بِتَحْرِيم الذّبْح بِغَيْر اسْم الله وهم الْمُسلمُونَ وَأهل الْكتاب، وجر ذَلِك أَن يُوجب ذكر اسْم الله عِنْد الذّبْح لِأَنَّهُ لَا يتَحَقَّق الْفرْقَان بَين الْحَلَال وَالْحرَام بَادِي الرَّأْي إِلَّا عِنْد ذَلِك، وَأَيْضًا فَإِن الْحِكْمَة الالهية لما أَبَاحَتْ لَهُم الْحَيَوَانَات الَّتِي هِيَ مثلهم فِي الْحَيَاة وَجعل لَهُم الطول عَلَيْهِم أوجبت أَلا يغفلوا عَن هَذِه النِّعْمَة عِنْد إزهاق أرواحها، وَذَلِكَ أَن يذكرُوا اسْم الله عَلَيْهَا، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى. {لِيذكرُوا اسْم الله على مَا رزقهم من بَهِيمَة الْأَنْعَام} .
وَمِنْهَا أَن الْميتَة حرَام فِي جَمِيع الْملَل والنحل، أما الْملَل فاتفقت عَلَيْهَا لما تلقى من حَظِيرَة الْقُدس أَنَّهَا من الْخَبَائِث، وَأما النَّحْل فَلَمَّا أدركوا أَن كثيرا مِنْهَا يكون بِمَنْزِلَة السم من أجل انتشار أخلاط سميَّة تنَافِي المزاج الإنساني عِنْد النزع، ثمَّ لَا بُد من تَمْيِيز الْميتَة من غَيرهَا فضبط بِمَا قصد إزهاق روحه للْأَكْل فجر ذَلِك إِلَى تَحْرِيم المتردية والنطيحة وَمَا أكل السَّبع فَإِنَّهَا كلهَا خبائث مؤذية.
وَمِنْهَا أَن الْعَرَب وَالْيَهُود كَانُوا يذبحون وينحرون وَكَانَ الْمَجُوس يخنقون ويبعجون وَالذّبْح والنحر سنة الْأَنْبِيَاء عليهم السلام توارثوهما، وَفِيهِمَا مصَالح.
مِنْهَا إراحة الذَّبِيحَة فَإِنَّهُ أقرب طَرِيق لازهاق الرّوح، وَهُوَ قَوْله صلى الله عليه وسلم:
" فليرح ذَبِيحَته " وَهُوَ سر النَّهْي عَن شريطة الشَّيْطَان.
وَمِنْهَا أَن الدَّم أحد النَّجَاسَات الَّتِي يغسلون الثِّيَاب إِذا أَصَابَهَا ويتحفظون مِنْهَا وَالذّبْح تَطْهِير للذبيحة مِنْهَا، والخنق والبعج تنجيس لَهَا بِهِ.
وَمِنْهَا أَنه صَار ذَلِك أحد شَعَائِر الْملَّة الحنيفة يعرف بِهِ الحنيفي من غَيره فَكَانَ بِمَنْزِلَة الْخِتَان وخصال الْفطْرَة، فَلَمَّا بعث النَّبِي صلى الله عليه وسلم مُقيما للملة الحنيفية وَجب الْحِفْظ عَلَيْهِ، ثمَّ لَا بُد من تَمْيِيز الخنق والبعج من غَيرهمَا، وَلَا يتَحَقَّق إِلَّا بِأَن يُوجب المحدد وَأَن يُوجب الْحلق واللبة فَهَذَا مَا نهى عَنهُ لأجل حفظ الصِّحَّة النفسانية والمصلحة الملية، وَأما الَّذِي ينْهَى عَنهُ لأجل الصِّحَّة الْبَدَنِيَّة كالسموم والمفترات فحالها ظَاهر.
وَإِذا تمهدت هَذِه الْأُصُول حَان أَن نشتغل بالتفصيل، فَنَقُول: مَا نهى الله عَنهُ من الْمَأْكُول صنفان: صنف نهى عَنهُ لِمَعْنى فِي نوع الْحَيَوَان. وصنف نهى عَنهُ لفقد شَرط الذّبْح، فالحيوان على أَقسَام: أَهلِي يُبَاح مِنْهُ الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم. وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {أحلّت لكم بَهِيمَة الْأَنْعَام} .
وَذَلِكَ لِأَنَّهَا طيبَة معتدلة المزاج مُوَافقَة لنَوْع الْإِنْسَان، وَأذن يَوْم خَيْبَر فِي الْخَيل وَنهى عَن الْحمر، وَذَلِكَ لِأَن الْخَيل يستطيبه الْعَرَب والعجم وَهُوَ
أفضل الدَّوَابّ عِنْدهم وَيُشبه الْإِنْسَان، وَالْحمار يضْرب بِهِ الْمثل فِي الْحمق والهوان وَهُوَ يرى الشَّيْطَان فينهق وَقد حرمه من الْعَرَب أذكاهم فطْرَة وأطيبهم نفسا، واكل صلى الله عليه وسلم لحم الدَّجَاج، وَفِي مَعْنَاهَا الأوز والبط لِأَنَّهَا من الطَّيِّبَات والديك يرى الْملك فيصقع، وَيحرم الْكَلْب والسنور لِأَنَّهُمَا من السبَاع ويأكلان الْجِيَف، وَالْكَلب شَيْطَان.
وَوَحْشِي يحل مِنْهُ مَا يشبه بَهِيمَة الْأَنْعَام فِي اسْمهَا ووصفها كالظباء وَالْبَقر الوحشي والنعامة، وأهدي لَهُ صلى الله عليه وسلم لحم الْحمار الوحشي فَأَكله والأرنب فَقبله، وَأكل الضَّب على مائدته لِأَن الْعَرَب يستطيبون هَذِه الْأَشْيَاء، وَاعْتذر فِي الضَّب تَارَة بِأَنَّهُ " لم يكن بِأَرْض قومِي فأجدني أعافه " وَتارَة بِاحْتِمَال المسخ وَالنَّهْي عَنهُ تَارَة وَلَيْسَ فِيهَا عِنْدِي تنَاقض لِأَنَّهُ كَانَ فِيهَا وَجْهَان جَمِيعًا كل وَاحِد كَاف فِي الْعذر لَكِن ترك مَا فِيهِ الِاحْتِمَال ورع من غير تَحْرِيم، وَأَرَادَ بِالنَّهْي الْكَرَاهَة التنزيهية،
وَنهى عَن كل ذِي نَاب من السبَاع لخُرُوج طبيعتها من الِاعْتِدَال ولشكاسة أخلاقها وقسوة قلوبها.
وطير يُبَاح مِنْهُ الْحمام والعصفور لِأَنَّهُمَا من المستطاب، وَنهى عَن كل ذِي مخلب وسمى بَعْضهَا فَاسِقًا فَلَا يجوز تنَاوله وَيكرهُ مَا يَأْكُل الْجِيَف والنجاسة وكل مَا يستخبثه الْعَرَب لقَوْله تَعَالَى:
{يحرم عَلَيْهِم الْخَبَائِث} .
وَأكل الجرادفي عَهده صلى الله عليه وسلم لِأَن الْعَرَب يستطيبونه وبحري يُبَاح مِنْهُ مَا يستطيبه الْعَرَب كالسمك والعنبر وَأما مَا يستخبثه
الْعَرَب ويسميه باسم حَيَوَان محرم كالخنزير فَفِيهِ تعَارض الدَّلَائِل وَالتَّعَفُّف أفضل.
وَسُئِلَ صلى الله عليه وسلم عَن السّمن مَاتَت فِيهِ الْفَأْرَة: فَقَالَ " ألقوها وَمَا حولهَا وكلوه " وَفِي رِوَايَة " إِذا وَقعت الْفَأْرَة فِي السّمن فان كَانَ جَامِدا فألقوها وَمَا حولهَا وَإِن كَانَ مَائِعا فَلَا تقربوه ".
أَقُول: الجيفة وَمَا تأثر من منهاني جَمِيع الْأُمَم والملل فَإِذا تميز الْخَبيث من غَيره ألْقى الْخَبيث وَأكل الطّيب وَإِن لم يُمكن التميز حرم كُله. وَدلّ الحَدِيث على حُرْمَة كل نجس ومتنجس.
وَنهى عليه السلام عَن أكل الْجَلالَة وَأَلْبَانهَا، أَقُول ذَلِك لِأَنَّهَا لما شربت أعضائها النَّجَاسَة وانتشرت فِي جَمِيع أَجْزَائِهَا كَانَ حكمهَا حكم النَّجَاسَات أَو حكم من يتعيش بالنجاسات.
قَالَ صلى الله عليه وسلم:
" أحلّت لنا ميتَتَانِ وَدَمَانِ أما الْمَيتَتَانِ الْحُوت وَالْجَرَاد والدمان الكبد وَالطحَال "، أَقُول: الكبد وَالطحَال عضوان من أَعْضَاء بدن الْبَهِيمَة لكنهما يشبهان الدَّم فأزاح النَّبِي صلى الله عليه وسلم الشّبَه فيهمَا وَلَيْسَ فِي الْحُوت وَالْجَرَاد دم مسفوح فَلذَلِك لم يشرع فيهمَا الذّبْح، وَأمر صلى الله عليه وسلم بقتل الوزغ وَسَماهُ فَاسِقًا وَقَالَ:" كَانَ ينْفخ على إِبْرَاهِيم " وَقَالَ: " من قتل وزغا فِي أول ضَرْبَة كتب لَهُ كَذَا وَكَذَا وَفِي الثَّانِيَة دون ذَلِك وَفِي الثَّالِثَة دون ذَلِك ".
أَقُول: بعض الْحَيَوَان جبل بِحَيْثُ يصدر مِنْهُ أَفعَال وهيآت شيطانية وَهُوَ أقرب الْحَيَوَان شبها بالشيطان وأطوعه لوسوسته، وَقد علم النَّبِي
صلى الله عليه وسلم أَن مِنْهُ الوزغ وَنبهَ على ذَلِك بِأَنَّهُ كَانَ ينْفخ على إِبْرَاهِيم لانقياده بِحَسب الطبيعة لوسوسة الشَّيْطَان وَإِن لم ينفع نفخه فِي
النَّار شَيْئا، وَإِنَّمَا رغب فِي قَتله لمعنيين: أَحدهمَا أَن فِيهِ دفع مَا يُؤْذِي نوع الْإِنْسَان فَمثله كَمثل قطع أَشجَار السمُوم من الْبلدَانِ وَنَحْو ذَلِك مِمَّا فِيهِ جمع شملهم.
وَالثَّانِي أَن فِيهِ كسر جند الشَّيْطَان وَنقص وكر وسوسته، وَذَلِكَ مَحْبُوب عِنْد الله وَمَلَائِكَته المقربين، وَإِنَّمَا كَانَ الْقَتْل فِي أول ضَرْبَة أفضل من قَتله فِي الثَّانِيَة لما فِيهِ من الحذاقة والسرعة إِلَى الْخَيْر، وَالله أعلم.
قَالَ الله تَعَالَى:
أَقُول: فالميتة وَالدَّم لِأَنَّهُمَا نجسان، وَالْخِنْزِير لِأَنَّهُ حَيَوَان مسخ بصورته قوم (وَمَا أهل لغير الله بِهِ)(وَمَا ذبح على النصب) يَعْنِي الْأَصْنَام قطعا لدابر الشّرك، وَلِأَن قبح الْفِعْل يسري فِي الْمَفْعُول بِهِ و (المنخنقة) وَهِي الَّتِي تخنق فتموت (والمتردية) وَهِي الَّتِي تقع من الْأَعْلَى إِلَى الْأَسْفَل (والنطيحة) وَهِي الَّتِي قتلت نطحا بالقرون (وَمَا أكل السَّبع) فَبَقيَ مِنْهُ لِأَنَّهُ ضبط الْمَذْبُوح الطّيب بِمَا قصد إزهاق الرّوح بِاسْتِعْمَال المحدد فِي حلقه أَو لبته فجر ذَلِك إِلَى تَحْرِيم هَذِه الْأَشْيَاء.
وَأَيْضًا فَإِن الدَّم المسفوح ينتشر فِيهِ ويتنجس جَمِيع الْبدن (إِلَّا مَا ذكيتم) أَي وجدتموه قد أُصِيب بِبَعْض هَذِه الْأَشْيَاء، وَفِيه حَيَاة مُسْتَقِرَّة فذبحتموه فَكَانَ إزهاق روحه بِالذبْحِ (وَأَن تستقسموا بالأزلام) أَي تَطْلُبُوا علم مَا قسم لكم من الْخَيْر وَالشَّر بِالْقداحِ الَّتِي كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يجيلونها، فِي أَحدهَا افْعَل، وَالثَّانِي لَا تفعل، وَالثَّالِث غفل فَإِن ذَلِك افتراء على الله واعتماد على جهل.
وَنهى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَن تصبر بَهِيمَة وَعَن أكل المصبورة أَقُول كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يصبرون الْبَهَائِم ويرمونها بِالنَّبلِ، وَفِي ذَلِك إيلام غير مُحْتَاج إِلَيْهِ وَلِأَنَّهُ لم يصر قربانا إِلَى الله وَلَا شكر بِهِ نعم الله.
قَالَ صلى الله عليه وسلم:
" إِن الله كتب الاحسان على كل شَيْء فَإِذا قتلتم فَأحْسنُوا القتلة وَإِذا ذبحتم فَأحْسنُوا الذبْحَة وليحد احدكم شفرته وليرح ذَبِيحَته ".
أَقُول: فِي اخْتِيَار أقرب طَرِيق لازهاق الرّوح اتِّبَاع دَاعِيَة الرَّحْمَة وَهِي خلة يرضى بهَا رب الْعَالمين ويتوقف عَلَيْهَا اكثر الْمصَالح المنزلية والمدنية.
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم " مَا يقطع من الْبَهِيمَة وَهِي حَيَّة فَهِيَ ميتَة " أَقُول:
" كَانُوا يجبونَ أسنمة الابل ويقطعون إليات الْغنم وَفِي ذَلِك تَعْذِيب ومناقضة لما شرع الله من الذّبْح، فَنهى عَنهُ.
قَالَ صلى الله عليه وسلم:
" من قتل عصفورا فَمَا فَوْقه بِغَيْر حَقه سَأَلَهُ الله عز وجل عَن قَتله، قيل: يَا رَسُول الله وَمَا حَقه؟ قَالَ. أَن يذبحه فيأكله
وَلَا يقطع رَأسه فَيرمى بِهِ " أَقُول: هَهُنَا شيآن متشابهان لَا بُد من التَّمْيِيز بَينهمَا: أَحدهمَا الذّبْح للْحَاجة وَاتِّبَاع دَاعِيَة إِقَامَة مصلحَة نوع الْإِنْسَان.
وَالثَّانِي السَّعْي فِي الأَرْض بِفساد نوع الْحَيَوَان وَاتِّبَاع دَاعِيَة قسوة الْقلب.
وَاعْلَم أَنه كَانَ الِاصْطِيَاد ديدنا للْعَرَب وسيرة فَاشِية فيهم حَتَّى كَانَ ذَلِك أحد المكاسب الَّتِي عَلَيْهَا معاشهم فأباحه النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَبَين مَا فِي إكثاره بقوله:
" من اتبع الصَّيْد لَهَا ".
وَأَحْكَام الصَّيْد تبنى على أَنه مَحْمُول على الذّبْح فِي جَمِيع الشُّرُوط إِلَّا فِيمَا يعسر الْحِفْظ عَلَيْهِ وَيكون أَكثر سَعْيهمْ أَن اشْترط بَاطِلا فَيشْتَرط التَّسْمِيَة على إرْسَال الْجَارِح أَو الرَّمْي وَنَحْوهَا وَيشْتَرط أَهْلِيَّة الصَّائِد وَلَا يشْتَرط الذّبْح وَلَا الْحلق واللبة وعَلى تَحْقِيق ذاتيات الِاصْطِيَاد كارسال الْجَارِح الْمعلم قصدا وَإِلَّا كَانَ ظفرا بالصيد اتِّفَاقًا لَا اصطيادا، وَكَون الْجَارِح لم يَأْكُل مِنْهُ فَإِن أكل فَأدْرك حَيا وذكى حل وَإِلَّا لَا، وَذَلِكَ تَحْقِيقا لِمَعْنى الْمعلم وتميزا لَهُ مِمَّا أكل السَّبع.
وَسُئِلَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَن أَحْكَام الصَّيْد والذبائح فَأجَاب بالتخريج على هَذِه الْأُصُول.
قيل: إِنَّا بِأَرْض قوم أهل كتاب أفنأ كل فِي آنيتهم؟ وبأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الَّذِي لَيْسَ بمعلم ولكلبي الْمعلم فَمَا يصلح لي؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: " أما مَا ذكرت من آنِية أهل الْكتاب فَإِن وجدْتُم غَيرهَا فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا وَإِن لم تَجدوا فاغسلوها وكلوا فِيهَا وَمَا صدت بقوسك فَذكرت اسْم الله فَكل وَمَا صدت بكلبك الْمعلم فَذكرت اسْم الله فَكل وَمَا صدت بكلبك غير الْمعلم وَأدْركت ذَكَاته فَكل ".
قَوْله صلى الله عليه وسلم:
" فَإِن وجدْتُم غَيرهَا فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا ".
أَقُول: ذَلِك تحريا للمختار وراحة للقلب من الوساوس وَقيل: يَا رَسُول الله إِنَّا نرسل الْكلاب المعلمة قَالَ صلى الله عليه وسلم: " إِذا أرْسلت كلبك فاذكر اسْم الله فَإِن أمسك عَلَيْك فَأَدْرَكته حَيا فاذبحه وَإِن أَدْرَكته قد قتل وَلم يَأْكُل مِنْهُ فكله فَإِن أكل فَلَا تَأْكُل فَإِنَّمَا أمسك على نَفسه وَإِن وجدت مَعَ كلبك كَلْبا غَيره وَقد قتل فَلَا تَأْكُل فَإنَّك لَا تَدْرِي أَيهمَا قَتله، قيل: يَا رَسُول الله ارمي الصَّيْد فَإِنِّي فأجد فِيهِ من الْغَد سهمي قَالَ صلى الله عليه وسلم: " وَإِذا رميت سهمك فاذكر اسْم الله فَإِن غَابَ عَنْك يَوْمًا فَلم تَجِد فِيهِ إِلَّا أثر سهمك فَكل إِن شِئْت وَإِن وجدته غريقا فِي المَاء فَلَا تَأْكُل " قيل: " إِنَّا نرمي بالمعراض قَالَ صلى الله عليه وسلم: كل مَا خزق وَمَا أصَاب بعرضه فَقتل فانه وقيذ فَلَا تَأْكُل، قيل:" يَا رَسُول الله إِن هُنَا أَقْوَامًا حَدِيث عَهدهم بشرك يأتوننا بلحمان لَا نَدْرِي يذكرُونَ اسْم الله عَلَيْهَا أم لَا، قَالَ صلى الله عليه وسلم: " اذْكروا أَنْتُم اسْم الله وكلوا " أَقُول: أَصله أَن الحكم على الظَّاهِر، قيل: " إِنَّا لاقوا الْعَدو غَدا وَلَيْسَت مَعنا مدى أفنذبح بالقصب؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: مَا أنهر الدَّم وَذكر اسْم الله فَكل لَيْسَ السن وَالظفر وسأحدثك عَنهُ أما السن فَعظم وَأما الظفر فمدى الْحَبَش " وند بعير فَرَمَاهُ رجل بِسَهْم فحبسه فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " إِن لهَذِهِ الْإِبِل أوابد كأوابد الْوَحْش فَإِذا غَلَبَكُمْ مِنْهَا شَيْء فافعلوا بِهِ هَكَذَا " أَقُول: لِأَنَّهُ صَار وحشيا فَكَانَ حكمه حكم الصَّيْد.
وَسُئِلَ صلى الله عليه وسلم عَن شَاة أَبْصرت جَارِيَة بهَا موتا فَكسرت حجرا فذبحتها فَأمر بأكلها.
قيل: " إِن من الطَّعَام طَعَاما أتحرج مِنْهُ؟ قَالَ لَا يختلجن فِي صدرك شَيْء، ضارعت فِيهِ النَّصْرَانِيَّة ".
قيل: " يَا رَسُول نَنْحَر النَّاقة ونذبح الْبَقر وَالشَّاة فنجد فِي بَطنهَا الْجَنِين أنلقيه أم نأكله؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم. كلوه إِن شِئْتُم فَإِن ذَكَاته زَكَاة أمه ".