المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ظلم وعقوق لِأَنَّهُ تخييب أَبِيه، فانه طلب بَقَاء نَسْله الْمَنْسُوب - حجة الله البالغة - جـ ٢

[ولي الله الدهلوي]

فهرس الكتاب

- ‌(الستْرَة)

- ‌(الْأُمُور الَّتِي لَا بُد مِنْهَا فِي الصَّلَاة)

- ‌(أذكار الصَّلَاة وهيأتها الْمَنْدُوب إِلَيْهَا)

- ‌‌‌(مَا لَا يجوز فِي الصَّلَاة

- ‌(مَا لَا يجوز فِي الصَّلَاة

- ‌(سُجُود السَّهْو)

- ‌(سُجُود التِّلَاوَة)

- ‌(النَّوَافِل)

- ‌(الاقتصاد فِي الْعَمَل)

- ‌(بَاب صَلَاة المعذورين)

- ‌(الْجَمَاعَة)

- ‌(الْجُمُعَة)

- ‌(العيدان)

- ‌(الْجَنَائِز)

- ‌(من أَبْوَاب الزَّكَاة)

- ‌(فضل الْإِنْفَاق وكراهية الْإِمْسَاك)

- ‌(مقادير الزَّكَاة)

- ‌(المصارف)

- ‌(أُمُور تتَعَلَّق بِالزَّكَاةِ)

- ‌(من أَبْوَاب الصَّوْم)

- ‌(فضل الصَّوْم)

- ‌(أَحْكَام الصَّوْم)

- ‌(أُمُور تتَعَلَّق بِالصَّوْمِ)

- ‌(من أَبْوَاب الْحَج)

- ‌(صفة الْمَنَاسِك)

- ‌(قصَّة حجَّة الْوَدَاع)

- ‌(أُمُور تتَعَلَّق بِالْحَجِّ)

- ‌(من أَبْوَاب الْإِحْسَان)

- ‌(الْأَذْكَار وَمَا يتَعَلَّق بهَا)

- ‌(بَقِيَّة مبَاحث الاحسان)

- ‌(المقامات وَالْأَحْوَال)

- ‌(من أَبْوَاب ابْتِغَاء الرزق)

- ‌(الْبيُوع الْمنْهِي عَنْهَا)

- ‌(أَحْكَام البيع)

- ‌(التَّبَرُّع والتعاون)

- ‌(الْفَرَائِض)

- ‌(من أَبْوَاب تَدْبِير الْمنزل)

- ‌(الْخطْبَة وَمَا يتَعَلَّق بهَا)

- ‌(ذكر العورات)

- ‌(صفة النِّكَاح)

- ‌(الْمُحرمَات)

- ‌(آدَاب الْمُبَاشرَة)

- ‌(حُقُوق الزَّوْجِيَّة)

- ‌(الطَّلَاق)

- ‌(الْخلْع. وَالظِّهَار. وَاللّعان. والايلآء)

- ‌(الْعدة)

- ‌(تربية الْأَوْلَاد والمماليك)

- ‌(الْعَقِيقَة)

- ‌(من أَبْوَاب سياسة المدن)

- ‌(الْخلَافَة)

- ‌(الْمَظَالِم)

- ‌(الْحُدُود)

- ‌(الْقَضَاء)

- ‌(الْجِهَاد)

- ‌(من أَبْوَاب الْمَعيشَة)

- ‌(الْأَطْعِمَة والأشربة)

- ‌(آدَاب الطَّعَام)

- ‌(المسكرات)

- ‌(اللبَاس. والزينة. والأواني وَنَحْوهَا)

- ‌(آدَاب الصُّحْبَة)

- ‌(وَمِمَّا يتَعَلَّق بِهَذَا المبحث أَحْكَام النذور والايمان)

- ‌(من أَبْوَاب شَتَّى)

- ‌(سير النَّبِي صلى الله عليه وسلم

- ‌(الْفِتَن)

- ‌(المناقب)

الفصل: ظلم وعقوق لِأَنَّهُ تخييب أَبِيه، فانه طلب بَقَاء نَسْله الْمَنْسُوب

ظلم وعقوق لِأَنَّهُ تخييب أَبِيه، فانه طلب بَقَاء نَسْله الْمَنْسُوب اليه المتفرغ عَلَيْهِ، وَترك شكر نعْمَته وإساءة مَعَه، وَأَيْضًا فَإِن النُّصْرَة والمعاونة لَا بُد مِنْهَا فِي نظام الْحَيّ وَالْمَدينَة، وَلَو فتح بَاب الانتفاء من الاب

لأهملت هَذِه الْمصلحَة، ولاختلطت أَنْسَاب الْقَبَائِل، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:" أَيّمَا امْرَأَة أدخلت على قوم من لَيْسَ مِنْهُم فَلَيْسَتْ من الله فِي شَيْء وَلنْ يدخلهَا الله الْجنَّة، وَأَيّمَا رجل جحدو وَلَده وَهُوَ ينظر إِلَيْهِ احتجب الله مِنْهُ " وفضحه على رُءُوس الْخَلَائق ".

أَقُول: لما كَانَت الْمَرْأَة مؤتمنة فِي الْعدة وَنَحْوهَا مأمورة أَلا تلبس عَلَيْهِم أنسابهم وَجب أَن ترهب فِي ذَلِك وَإِنَّمَا عوقبت على هَذَا لِأَنَّهُ سعي فِي إبِْطَال مصلحَة الْعَالم ومناقضة لما فِي جبلة النَّوْع، وَذَلِكَ جالب بغض الْمَلأ الْأَعْلَى حَيْثُ أمروا بِالدُّعَاءِ لصلاح النَّوْع، وَأَيْضًا فَفِي ذَلِك تخييب لوَلَده وتضييق وَحمل لنقل الْوَلَد على آخَرين، وَالرجل إِذا أنكر وَلَده فقد عرضه للذل الدَّائِم والعار الَّذِي لَا يَنْتَهِي حَيْثُ لَا نسب لَهُ، وأضاع نسمته حَيْثُ ى منفق عَلَيْهِ، وَهُوَ يشبه قتل أَوْلَاد من جِهَة، وَعرض والدته للذل الدَّائِم والعار الْبَاقِي طول الْعُمر.

(الْعَقِيقَة)

وَاعْلَم أَن الْعَرَب كَانُوا يعقون عَن أَوْلَادهم، وَكَانَت الْعَقِيقَة أمرا لَازِما عِنْدهم وَسنة مُؤَكدَة، وَكَانَ فِيهَا مصَالح كَثِيرَة رَاجِعَة إِلَى الْمصلحَة الملية وَالْمَدينَة فِيمَن تِلْكَ الْمصَالح التلطف بإشاعة نسب الْوَلَد، إِذْ لَا بُد من إشاعته لِئَلَّا يُقَال مَا لَا يُحِبهُ، وَلَا يحسن أَن يَدُور فِي السكَك، فينادي أَنه ولد لي ولد. فَتعين التلطف بِمثل ذَلِك، وَمِنْهَا اتِّبَاع دَاعِيَة السخاوة وعصيان دَاعِيَة الشُّح، وَمِنْهَا أَن النَّصَارَى كَانَ إِذا ولد لَهُم ولدا صبغوه بِمَاء اصفر يسمونه المعمودية، وَكَانُوا يَقُولُونَ: يصير الْوَلَد بِهِ نَصْرَانِيّا، وَفِي مشاكلة هَذَا الِاسْم نزل قَوْله تَعَالَى:

{صبغة الله وَمن أحسن من الله صبغة} .

فاستحب أَن يكون للحنفيين فعل بِإِزَاءِ فعلهم ذ لَك يشْعر بِكَوْن الْوَلَد حنيفيا تَابعا لملة إِبْرَاهِيم واسماعيل عليهما السلام والنفسانية، فأبقاها النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَعمل بهَا، وَرغب النَّاس فِيهَا من الْإِجْمَاع على ذبح وَلَده، ثمَّ نعْمَة الله عَلَيْهِ أَن فدَاه بِذبح عَظِيم، وَأشهر شرائعهما الْحَج الَّذِي فِيهِ الْحلق وَالذّبْح، فَيكون التَّشَبُّه بهما فِي هَذَا تنويها بالملة الحنيفية ونداء أَن الْوَلَد قد فعل بِهِ مَا يكون من أَعمال هَذِه الْملَّة،

ص: 223

وَمِنْهَا أَن هَذَا الْفِعْل فِي بَدْء وِلَادَته يخيل إِلَيْهِ أَنه بذل وَلَده فِي سَبِيل الله كَمَا فعل إِبْرَاهِيم عليه السلام، وَفِي ذَلِك تَحْرِيك سلسلة الاحسان والانقياد كَمَا ذكرنَا فِي السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة.

قَالَ صلى الله عليه وسلم:

" مَعَ الْغُلَام عقيقة فأهريقوا عَنهُ دَمًا وأميطوا عَنهُ الْأَذَى " وَقَالَ صلى الله عليه وسلم "

الْغُلَام مُرْتَهن بعقيقته يذبح عَنهُ يَوْم السَّابِع وَيُسمى ويحلق ".

أَقُول: أما سَبَب الْأَمر فِي بالعقيقة فقد ذكرنَا، وَأما تَخْصِيص الْيَوْم السَّابِع فَلِأَنَّهُ لَا بُد من فصل بَين الْولادَة والعقيقة، فَإِن أَهله مشغولون باصلاح الوالدة وَالْولد فِي أول الْأَمر، فَلَا يكلفون حِينَئِذٍ بِمَا يُضَاعف شغلهمْ، وَأَيْضًا فَرب إِنْسَان لَا يجد شَاة إِلَّا بسعي، فَلَو سنّ كَونهَا فِي أول يَوْم لضاق الْأَمر عَلَيْهِم، والسبعة أَيَّام مُدَّة صَالِحَة للفصل المعتد بِهِ غير الْكثير، وَأما إمَاطَة الْأَذَى فللتشبه بالحاج، وَقد ذكرنَا، وَأما التَّسْمِيَة فَلِأَن الطِّفْل قبل ذَلِك لَا يحْتَاج أَن يُسمى.

وعق رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَن الْحسن بِشَاة، وَقَالَ:" يَا فَاطِمَة احلقي رَأسه، وتصدقي بزنة شعره فضَّة " أَقُول السَّبَب فِي التَّصَدُّق بِالْفِضَّةِ أَن الْوَلَد لما انْتقل من الجنينية إِلَى الطفلية كَانَ ذَلِك نعْمَة يجب شكرها، وَأحسن مَا يَقع بِهِ الشُّكْر مَا يُؤذن أَنه عوضه، فَلَمَّا كَانَ شعر الْجَنِين

بَقِيَّة النشأة الجنسية وإزالته أَمارَة للاستقلال بالنشأة الطفلية وَجب أَن يُؤمر بِوَزْن الشّعْر فضَّة، وَأما تَخْصِيص الْفضة فَلِأَن الذَّهَب أغْلى، وَلَا يجده إِلَّا غَنِي، وَسَائِر الْمَتَاع لَيْسَ لَهُ بَال أَن يزنه شعر الْمَوْلُود.

وَأذن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي أذن الْحسن بن عَليّ حِين وَلدته فَاطِمَة بِالصَّلَاةِ. أَقُول: السِّرّ فِي ذَلِك مَا ذكرنَا فِي الْعَقِيقَة من الْمصلحَة الملية، فَإِن الْأَذَان من شَعَائِر الْإِسْلَام، وإعلام الدّين المحمدي، ثمَّ لَا بُد من تَخْصِيص الْمَوْلُود بذلك الْأَذَان، وَلَا يكون إِلَّا بِأَن بِصَوْت بِهِ فِي أُذُنه، وَأَيْضًا فقد علمت أَن من خاصية الْأَذَان أَن يفر مِنْهُ الشَّيْطَان، والشيطان يُؤْذِي الْوَلَد فِي أول نشأته حَتَّى ورد فِي الحَدِيث " إِن استهلاله لذَلِك ".

قَالَ صلى الله عليه وسلم:

" عَن الْغُلَام شَاتَان وَعَن الْجَارِيَة شَاة ".

ص: 224

أَقُول: يسْتَحبّ لمن وجد الشاتين أَن ينْسك بهما عَن الْغُلَام وَذَلِكَ لما عِنْدهم أَن الذّكر أَنْفَع لَهُم من الْإِنَاث، فَنَاسَبَ فِي زِيَادَة الشُّكْر وَزِيَادَة التنويه بِهِ.

قَالَ صلى الله عليه وسلم: " أحب الْأَسْمَاء إِلَى الله عبد الله وَعبد الرَّحْمَن " اعْلَم أَن أعظم الْمَقَاصِد الشَّرْعِيَّة أَن يدْخل ذكر الله فِي تضاعيف ارتفاقاتهم الضرورية ليَكُون كل ذَلِك أَلْسِنَة تدعوا إِلَى الْحق، وَفِي تَسْمِيَة الْمَوْلُود بذلك إِشْعَار بِالتَّوْحِيدِ، وَأَيْضًا فَكَانَ الْعَرَب وَغَيرهم يسمون الْأَوْلَاد بِمن يعبدونه وَلما بعث النَّبِي صلى الله عليه وسلم مُقيما لمراسم التَّوْحِيد وَجب أَن يسن فِي التَّسْمِيَة أَيْضا مثل ذَلِك، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَانِ الاسمان أحب من سَائِر مَا يُضَاف فِيهِ العَبْد إِلَى اسْم من أَسمَاء الله تَعَالَى لِأَنَّهُمَا أشهر الْأَسْمَاء، وَلَا يطلقان على غَيره تَعَالَى بِخِلَاف غَيرهمَا، وَأَنت تَسْتَطِيع أَن تعلم من هَذَا سر اسْتِحْبَاب تَسْمِيَة الْمَوْلُود بِمُحَمد وَأحمد، فَإِن طوائف النَّاس أولعوا بِتَسْمِيَة أَوْلَادهم

بأسماء أسلافهم المعظمين عِنْدهم، وَكَاد يكون ذَلِك تنويها بِالدّينِ وبمنزلة الْإِقْرَار بِأَنَّهُ من أَهله.

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:

" اخنى الْأَسْمَاء يَوْم الْقِيَامَة عِنْد الله رجل يُسمى ملك الْأَمْلَاك ".

أَقُول: السَّبَب فِيهِ أَن أصل أصُول الدّين هُوَ تَعْظِيم الله وَألا يسوى بِهِ غَيره وتعظيم الشَّيْء مساوق لتعظيم اسْمه، وَلذَلِك وَجب أَلا يُسمى باسمه لَا سِيمَا هَذَا الِاسْم الدَّال على أعظم التَّعْظِيم، قَالَ الله تَعَالَى:

{والوالدات يرضعن أَوْلَادهنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلين} الْآيَة.

أَقُول: لما تَوَجَّهت إِرَادَة الله تَعَالَى إِلَى إبْقَاء نوع الْإِنْسَان بالتناسل، وَجرى بذلك قَضَاؤُهُ وَكَانَ الْوَلَد لَا يعِيش فِي الْعَادة إِلَّا بتعاون من الْوَالِد والوالدة فِي أَسبَاب حَيَاته، وَذَلِكَ أَمر جبلي خلق النَّاس عَلَيْهِ بِحَيْثُ يكون عصيانه ومخالفته تغييرا لخلق الله وسعيا فِي نقض مَا أوجبته الْحِكْمَة الإلهية - وَجب أَن يبْحَث الشَّرْع عَن ذَلِك، ويوزع عَلَيْهِمَا مَا يَتَيَسَّر، ويتأتى مِنْهُمَا، والمتيسر من الوالدة أَن ترْضع. وتحضن. فَيجب عَلَيْهَا ذَلِك، والمتيسر من الْوَالِد أَن ينْفق عَلَيْهِ من طوله، وَينْفق عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ حَبسهَا عَن المكاسب، وشغلها بحضانة وَلَده، ومعاناة التَّعَب فِيهَا. فَكَانَ الْعدْل أَن تكون كفايتها عَلَيْهِ، وَلما كَانَ من النَّاس من يستعجل الْفِطَام، وَرُبمَا يكون ذَلِك ضارا بِالْوَلَدِ حد الله لَهُ حدا تغلب السَّلامَة عِنْده وَهُوَ حولان

ص: 225

كاملان، وَرخّص فِيمَا دون ذَلِك بِشَرْط تشَاور مِنْهُمَا، إِذْ كثيرا مَا يكون الْوَلَد بِحَيْثُ يقدر على التغذى قبلهَا، وَلكنه يحْتَاج إِلَى اجْتِهَاد وتحر وهما أرْفق النَّاس بِهِ وأعلمهم بسريرته، ثمَّ حرم المضادة من الْجَانِبَيْنِ لِأَنَّهُ

تضييق يُفْضِي إِلَى نُقْصَان التعاون فَإِن احتاجوا إِلَى الاسترضاع لضعف الوالدة أَو مَرضهَا، أَو تكون قد وَقعت بَينهمَا فرقة لَا تلائمه وَنَحْو ذَلِك من الْأَسْبَاب فَلَا جنَاح فِيهِ، وَيجب عِنْد ذَلِك إِيفَاء الْحق من الْجَانِبَيْنِ.

" قيل يَا رَسُول الله مَا يذهب عني مذمة الرَّضَاع؟ قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم:

" غرَّة عبد أَو أمة ". اعْلَم أَن الْمُرْضع أم بعد الْأُم الْحَقِيقِيَّة، وبرها وَاجِب بعد بر الْأُم حَتَّى أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم بسط رِدَاءَهُ لمرضعة إِكْرَاما لَهَا، وَرُبمَا لَا ترْضى بِمَا يهديه إِلَيْهَا وَإِن كثر، وَرُبمَا يستكثر الَّذِي رضع الْقَلِيل الَّذِي يمنحها، وَيكون فِي ذَلِك الِاشْتِبَاه، فَسئلَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَن حد يضر بِهِ، فَضرب الْغرَّة حدا، وَذَلِكَ أَن الْمُرْضع إِنَّمَا أَثْبَتَت حَقًا فِي ذمَّته لأجل إِقَامَة بنيته وتصييرها إِيَّاه إنْسَانا كَامِلا وَلأَجل حضانته ومقاساة التَّعَب فِيهِ، فَيكون الْجَزَاء الْوِفَاق أَن يمنحها إنْسَانا يكون بِمَنْزِلَة جوارحه فِيمَا يُرِيد من ارتفاقاته، ويتحمل عَنْهَا مُؤنَة عَملهَا، وَهُوَ حد استحبابي لَا ضَرُورِيّ.

وَقَالَت هِنْد: " إِن أَبَا سُفْيَان رجل شحيح لَا يعطيني إِلَّا أَن آخذ من مَاله بِغَيْر إِذْنه، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: خذي مَا يَكْفِيك وولدك بِالْمَعْرُوفِ " أَقُول: لما كَانَت نَفَقَة الْوَلَد وَالزَّوْجَة يعسر ضَبطهَا فوضها النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِلَيْهَا، وأكد اشْتِرَاط أَخذهَا بِالْمَعْرُوفِ، وأهمل الرُّجُوع إِلَى الْقُضَاة مثلا لِأَنَّهُ عسير عِنْد ذَلِك.

قَالَ صلى الله عليه وسلم:

" مروا أَوْلَادكُم بِالصَّلَاةِ " الحَدِيث. وَقد مر أسراره فِيمَا سبق.

وَاخْتلفت قضاياه صلى الله عليه وسلم فِي الأحق بالحضانة عِنْد المشاجرة

مِنْهُمَا، لِأَنَّهُ إِنَّمَا ينظر إِلَى الأرفق بِالْوَلَدِ وَالِديهِ، وَلَا ينظر إِلَى من يُرِيد المضارة، وَلَا يلْتَفت إِلَى الْمصلحَة، فَإِن الْحَسَد والضرار غير مُتبع، فَجَاءَتْهُ مرّة امْرَأَة، وَقَالَت: يَا رَسُول الله إِن أبني هَذَا كَانَ بَطْني لَهُ وعَاء وثدي لَهُ سقاء، وحجري لَهُ حَوَّاء، وان أَبَاهُ طَلقنِي وَأَرَادَ أَن يَنْزعهُ مني، قَالَ صلى الله عليه وسلم. " أَنْت أَحَق بِهِ مَا لم تنكحي ".

أَقُول: وَذَلِكَ لِأَن الْأُم أهْدى للحضانة وأرفق بِهِ، فَإِذا نكحت كَانَت كالمملوكة تَحْتَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ أَجْنَبِي لَا يحسن إِلَيْهِ،

ص: 226

وَخير غُلَاما بَين أَبِيه وَأمه وَذَلِكَ إِذا كَانَ مُمَيّزا.

اعْلَم أَن الْإِنْسَان مدنِي بالطبع لَا يَسْتَقِيم معاشه إِلَّا بتعاون بَينهم، وَلَا تعاون إِلَّا بالألفة وَالرَّحْمَة فِيمَا بَينهم، وَلَا ألفة إِلَّا بالمواساة ومراعاة الخواطر من الْجَانِبَيْنِ، وَلَيْسَ التعاون على مرتبَة وَاحِدَة، بل لَهُ مَرَاتِب يخْتَلف باختلافها الْبر والصلة، فأدناها الارتباط الْوَاقِع بَين الْمُسلمين، وحد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الْبر فِيمَا بَينهم بِخمْس، فَقَالَ:" حق الْمُسلم على الْمُسلم خمس: رد السَّلَام، وعيادة الْمَرِيض، وَاتِّبَاع الْجَنَائِز، وَإجَابَة الدعْوَة وتشميت الْعَاطِس " وَفِي رِوَايَة سِتَّة السَّادِسَة " إِذا استنصحك فانصح لَهُ: وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " أطعموا الجائع، وفكوا العاني " يَعْنِي الْأَسير.

والسر فِي ذَلِك أَن هَذِه الْخمس أَو السِّت خَفِيفَة المؤنه مورثة للألفة، ثمَّ الارتباط الْوَاقِع بَين أهل الْحَيّ وَالْجِيرَان والأرحام، فتتأكد هَذِه الْأَشْيَاء فِيمَا بَينهم، وتتأكد التَّعْزِيَة والتهنئة والزيارة والمهاداة، وَأوجب النَّبِي صلى الله عليه وسلم أمورا يتقيدون بهَا شَاءُوا أم أَبَوا كَقَوْلِه صلى الله عليه وسلم:

" من ملك ذَا رحم محرم فَهُوَ حر وكباب الدِّيات ".

ثمَّ الارتباط الْوَاقِع بَين أهل الْمنزل من الزَّوْجَة وَمَا ملكت يَمِينه أما الزَّوْجَة فقد ذكرنَا الْبر مَعهَا، وَأما مَا ملكت الْيَمين فَجعل النَّبِي صلى الله عليه وسلم بره على مرتبتين: إِحْدَاهمَا واجبه يلْزمهُم أشاءوا أم أَبُو، وَالثَّانيَِة ندب إِلَيْهَا، وحث عَلَيْهَا من غير إِيجَاب.

أما الأولى فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:

" للمملوك طَعَامه وَكسوته، وَلَا يُكَلف من الْعَمَل مَا لَا يُطيق " وَذَلِكَ أَنه مَشْغُول بخدمته عَن الِاكْتِسَاب، فَوَجَبَ أَن تكون كِفَايَته عَلَيْهِ، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:

" من قذف مَمْلُوكه، وَهُوَ برِئ مِمَّا قَالَ جلد يَوْم الْقِيَامَة " وَقَالَ عليه الصلاة والسلام: " من جدع عَبده فَالْعَبْد حر عَلَيْهِ ".

أَقُول: وَذَلِكَ أَن إِفْسَاد ملكه عَلَيْهِ مزجرة عَن أَن يفعل مَا فعل.

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم لَا يجلد فَوق عشر جلدات إِلَّا فِي حد من حُدُود الله " أَقُول: وَذَلِكَ سد لباب الظُّلم والامعان فِي التعزيز زِيَادَة بِالْحَدِّ على الْحَد، أَو المُرَاد النَّهْي عَن أَن يُعَاقب فِي حق نَفسه أَكثر من عشر جلدات كَتَرْكِ مَا أَمر بِهِ وَنَحْو ذَلِك، وَالْمرَاد بِالْحَدِّ الذَّنب الْمنْهِي عَنهُ لحق الشَّرْع، وَهُوَ قَول الْقَائِل أصبت حدا، وَأرى ان هَذَا الْوَجْه أقرب، فان الْخُلَفَاء لم يزَالُوا يعزرون أَكثر من عشر فِي حُقُوق الشَّرْع.

وَأما الثَّانِيَة فَقَوله صلى الله عليه وسلم:

ِ " إِذا صنع لأحدكم خادمه طَعَامه، ثمَّ جَاءَ بِهِ، وَقد ولى حره ودخانه،

ص: 227

فليقعده مَعَه فَليَأْكُل، فان كَانَ الطَّعَام مشفوها قَلِيلا فليضع فِي يَده مِنْهُ أَكلَة أَو أكلتين " وَقَوله صلى الله عليه وسلم:

" من ضرب غُلَاما لَهُ حدا لم يَأْته أَو لطمه، فان كَفَّارَته أَن يعتقهُ "، وَقَوله

" إِذا ضرب أحدكُم خادمه، فَذكر اسْم الله فليمسك.

قَالَ صلى الله عليه وسلم:

" من أعتق رَقَبَة مسلمة أعتق الله بِكُل عُضْو مِنْهَا عضوا فِيهِ من النَّار ".

أَقُول: الْعتْق فِيهِ جمع شَمل الْمُسلمين، وَفك عانيهم، فجوزي جَزَاء وفَاقا.

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:

" من أعتق شِقْصا فِي عبد اعْتِقْ كُله إِن كَانَ لَهُ مَال "، أَقُول: سَببه مَا وَقع التَّصْرِيح بِهِ فِي نفس الحَدِيث حَيْثُ قَالَ صلى الله عليه وسلم:

" لَيْسَ لله شريك " يُرِيد أَن الْعتْق جعله لله، وَلَيْسَ من الْأَدَب أَن يبْقى مَعَه ملك لأحد.

قَالَ صلى الله عليه وسلم:

" من ملك ذَا رحم محرم فَهُوَ حر "، أَقُول: السَّبَب فِيهِ صلَة الرَّحِم، فَأوجب الله تَعَالَى نوعا مِنْهَا عَلَيْهِم، أشاءوا أم أَبَوا، وَإِنَّمَا حض هَذَا لِأَن ملكة وَالتَّصَرُّف فِيهِ واستخدامه بِمَنْزِلَة العبيد حفاء عَظِيم.

قَالَ صلى الله عليه وسلم:

" إِذا ولدت أمة الرجل مِنْهُ فَهِيَ مُعتقة عَن دبر مِنْهُ ".

أَقُول: السِّرّ فِي الْإِحْسَان إِلَى الْوَلَد لِئَلَّا يملك أمه غير أَبِيه، فَيكون عَلَيْهِ عَار من هَذِه الْجِهَة.

وَأوجب على العَبْد خدمَة الْمولى وَحرم عَلَيْهِ الاباق، قَالَ صلى الله عليه وسلم:

" إيما عبد أبق فقد برِئ من الذِّمَّة حَتَّى يرجع " وَحرم على الْمُعْتق أَن يوالي غير موَالِيه.

وَأعظم ذَلِك كُله حُرْمَة حق الْوَالِدين، قَالَ صلى الله عليه وسلم:

" من أكبر الْكَبَائِر عقوق الْوَالِدين " وبرهما يتم بِأُمُور: الْإِطْعَام وَالْكِسْوَة والخدمة إِن احتاجا. وَإِذا دَعَاهُ الْوَالِد أجَاب. وَإِذا أمره أطَاع مَا لم يَأْمر بِمَعْصِيَة، وَيكثر زيارته، وَيتَكَلَّم مَعَه بالْكلَام اللين، وَلَا يقل أُفٍّ، وَلَا يَدعُوهُ باسمه، وَيَمْشي خَلفه، ويذب عَنهُ من اغتابه وآذاه، ويوقره فِي مَجْلِسه، وَيَدْعُو لَهُ بالمغفرة، وَالله أعلم.

ص: 228