الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَسُئِلَ صلى الله عليه وسلم عَن الثَّمر الْمُعَلق، فَقَالَ:
" من أَصَابَهُ بِفِيهِ من ذِي حَاجَة غير متخذ خبنه فَلَا شَيْء عَلَيْهِ "
اعْلَم أَن دفع التظالم بَين النَّاس إِنَّمَا هُوَ أَن يقبض على يَد من يضر
بِالنَّاسِ وَيَتَعَدَّى عَلَيْهِم، لَا أَن يتبع شحهم وغمر نُفُوسهم، فَفِي صُورَة الْأكل من الثَّمر الْمُعَلق غير المحرز الْكثير الَّذِي لَا يشح مِنْهُ بشبع إِنْسَان مُحْتَاج إِذا لم يكن هُنَاكَ مُجَاوزَة حد الْعرف. وَلَا اتِّخَاذ خبنة، وَلَا رمي الْأَشْجَار بِالْحِجَارَةِ، فان الْعرف يُوجب الْمُسَامحَة فِي مثله، فَمن ادّعى فِي مثل ذَلِك فانه اتبع الشُّح، وَقصد الضرار. فَلَا يتبع، وَأما مَا كَانَ من ثَمَر مشفوة أَو اتِّخَاذ خبنة أَو رمى الْأَشْجَار أَو مُجَاوزَة الْحَد فِي الاتلاف بِوَجْه من الْوُجُوه فَفِيهِ التعرير والغرامة.
وَأما لبن الْمَاشِيَة فالافية فِيهِ متعارضة، وَقد بَينهَا النَّبِي صلى الله عليه وسلم، فقاسها تَارَة على الْمَتَاع المخزون فِي الْبيُوت، فَنهى عَن حلبه. وَتارَة على الثَّمر الْمُعَلق والأشياء غير المحرزة، فأباح مِنْهُ بِقدر الْحَاجة لمن لم يجد صَاحب المَال ليستأذنه، وَالْأَصْل فِيمَا اخْتلف فِيهِ الاحاديث وأظهرت الْعِلَل أَن يجمع بِاعْتِبَار تِلْكَ الْعِلَل، فحينما جرت الْعَادة ببذل مثله وَلَيْسَ هُنَاكَ شح وتضييق وَكَانَت حَاجَة جَازَ وَإِلَّا فَلَا، وعَلى مثل ذَلِك يَنْبَغِي أَن يعْتَبر تصرف الزَّوْجَة فِي مَال الزَّوْج وَالْعَبْد فِي مَال سَيّده
(الْحُدُود)
اعْلَم أَن من الْمعاصِي مَا شرع الله فِيهِ الْحَد، وَذَلِكَ كل مَعْصِيّة جمعت وُجُوهًا من المفسده، بِأَن كَانَت فَسَادًا فِي الأَرْض واقتضابا على طمأنينة الْمُسلمين، وَكَانَت لَهَا دَاعِيَة فِي نفوس بني آدم لَا تزَال تهيج فِيهَا، وَلها ضراوة لَا يَسْتَطِيعُونَ الاقلاع مِنْهَا بعد أَن أشربت قُلُوبهم بهَا، وَكَانَ فِيهِ ضَرَر لَا يَسْتَطِيع الْمَظْلُوم دَفعه عَن نَفسه فِي كثير من الأحيان، وَكَانَ كثير الْوُقُوع فِيمَا بَين النَّاس، فَمثل هَذِه الْمعاصِي لَا يَكْفِي فِيهَا التَّرْهِيب بِعَذَاب الْآخِرَة، بل لَا بُد من إِقَامَة ملامة شَدِيدَة عَلَيْهَا وإيلام، ليَكُون بَين أَعينهم ذَلِك، فيردعهم عَمَّا يريدونه.
كَالزِّنَا فَإِنَّهَا تهيج من الشبق وَالرَّغْبَة فِي جمال النِّسَاء، وَلها شرة وفيهَا عَار شَدِيد
على أَهلهَا، وَفِي مزاحمة النَّاس على موطوأة تَغْيِير الجبلة الإنسانية، وَهِي مَظَنَّة المقاتلات والمحاربات فِيمَا بَينهم، وَلَا يكون غَالِبا إِلَّا بِرِضا الزَّانِيَة وَالزَّانِي، وَفِي الخلوات حَيْثُ لَا يطلع عَلَيْهَا إِلَّا الْبَعْض، فَلَو لم يشرع فِيهَا حد وجيع لم يحصل الردع.
كالسرقة فَإِن الْإِنْسَان كثيرا مَا لَا يجد كسبا صَالحا، فينحدر إِلَى السّرقَة وَلها ضراوة فِي نُفُوسهم، وَلَا يكون الاختفاء بِحَيْثُ لَا يرَاهُ النَّاس بِخِلَاف الْغَصْب، فانه يكون باحتجاج وشبهة لَا يثبتها الشَّرْع، وَفِي تضاعيف معاملات بَينهمَا وعَلى أعين النَّاس فَصَارَ مُعَاملَة من الْمُعَامَلَات.
وكقطع الطَّرِيق فانه لَا يَسْتَطِيع الْمَظْلُوم ذبه عَن نَفسه وَمَاله، وَلَا يكون فِي بِلَاد الْمُسلمين وَتَحْت شوكتهم فيدفعوا، فَلَا بُد لمثله أَن يُزَاد فِي الْجَزَاء والعقوبة، وكشرب الْخمر فان لَهَا شَرها وفيهَا فَسَادًا فِي الأَرْض وزوالا لمسكة عُقُولهمْ الَّتِي بهَا صَلَاح معادهم ومعاشهم،
وكالقذف فان الْمَقْذُوف يتَأَذَّى أَذَى شَدِيدا، وَلَا يقدر على دَفعه بِالْقَتْلِ وَنَحْوه لِأَنَّهُ إِن قتل قتل بِهِ، وَإِن ضرب ضرب بِهِ، فَوَجَبَ فِي مثله زاجر عَظِيم.
ثمَّ الْحَد إِمَّا قتل وَهُوَ زجر لَا زجر فَوْقه، وَإِمَّا قطع وَهُوَ إيلام شَدِيد وتفويت قُوَّة لَا يتم الِاسْتِقْلَال بالمعيشة دونهَا طول عمره ومثو عَار ظَاهر أَثَره بمرأى النَّاس لَا يَنْقَضِي، فان النَّفس إِنَّمَا تتأثر من وَجْهَيْن؛ النَّفس الواغلة فِي البهيمية يمْنَعهَا الايلام كالبقر. والجمل وَالَّتِي فِيهَا حب الجاه يردعه الْعَار اللَّازِم لَهُ اشد من الايلام، فَوَجَبَ جمع هذَيْن الْوَجْهَيْنِ فِي الْحُدُود
وَدون ذَلِك إيلام بِضَرْب يضم مَعَه مَا فِيهِ عَار، ظهر أَثَره كالتغريب وَعدم قبُول الشَّهَادَة والتبكيت
وَاعْلَم أَنه كَانَ من شَرِيعَة من قبلنَا الْقصاص فِي الْقَتْل، وَالرَّجم فِي الزِّنَا وَالْقطع فِي السّرقَة، فَهَذِهِ الثَّلَاث كَانَت متوارثة فِي الشَّرَائِع السماوية وأطبق عَلَيْهَا جَمَاهِير الْأَنْبِيَاء والأمم، وَمثل هَذَا يجب أَن يُؤْخَذ عَلَيْهِ بالنواجذ، وَلَا يتْرك، وَلَكِن الشَّرِيعَة المصطفوية تصرفت فِيهَا بِنَحْوِ آخر، فَجعلت مزجرة كل وَاحِد على طبقتين: إِحْدَاهمَا الشَّدِيدَة الْبَالِغَة أقْصَى المبالغ، وَمن حَقّهَا أَن تجْعَل فِي الْمعْصِيَة الشَّدِيدَة، وَالثَّانيَِة دونهَا، وَمن حَقّهَا أَن تجْعَل فِيمَا كَانَت الْمعْصِيَة دونهَا.
فَفِي الْقَتْل الْقود وَالدية وَالْأَصْل فِيهِ قَوْله تَعَالَى:
قَالَ: ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما: كَانَ فيهم الْقصاص وَلم يكن فيهم الدِّيَة.
وَفِي الزِّنَا الْجلد، وَكَانَ الْيَهُود لما ذهبت شوكتهم، وَلم يقدروا على الرَّجْم ابتدعوا التجبيه. والتشحيم فَصَارَ ذَلِك تحريفا لشريعتهم، فَجمعت لنا بَين شريعتي من قبلنَا السماوية والابتداعية، وَذَلِكَ غَايَة رَحْمَة الله بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا
وَفِي السّرقَة الْعقُوبَة وغرامة مثلَيْهِ على مَا جَاءَ فِي الحَدِيث.
وَإِن حملت أَنْوَاع من الظُّلم عَلَيْهَا كالقذف. وَالْخمر فَجعلت لَهَا حدا فَإِن هَذِه أَيْضا بِمَنْزِلَة تِلْكَ الْمعاصِي وَإِن زَادَت فِي عُقُوبَة قطع الطَّرِيق.
وَاعْلَم أَن النَّاس على طبقتين - ولسياسة كل طبقَة وَجه خَاص _ طبقَة هم مستقلون، أَمرهم بأيدهم، وسياسة هَؤُلَاءِ أَن يؤخذوا على أعين النَّاس، ويوجعوا، وَيلْزم عَلَيْهِم عَار شَدِيد، ويهانوا، ويحقروا.
وطبقة هم بأيدي نَاس آخَرين أسراء عِنْدهم، وسياسة هَؤُلَاءِ أَن يُؤمر سادتهم أَن يحفظوهم عَن الشَّرّ، فَإِنَّهُ يظْهر لَهُم وَجه فِي حَبسهم عَن فعلهم ذَلِك، وَهُوَ قَوْله صلى الله عليه وسلم:
" إِذا زنت أمة أحدكُم فليضرب " الحَدِيث، وَقَوله عليه السلام:
" إِذا سرق عبد أحدكُم فبيعوه وَلَو بنش " فضبطت الطبقتان بِوَصْف ظَاهر، فَالْأولى الْأَحْرَار وَالثَّانيَِة الارقاء.
ثمَّ كَانَ من السَّادة من يتَعَدَّى على عبيده، ويحتج بِأَنَّهُ زنى، أَو سرق، وَنَحْو ذَلِك، فَكَانَ الْوَاجِب فِي مثله أَن يشرع على الأرقاء دون مَا على الْأَحْرَار ليقطع هَذَا النَّوْع، وَألا يخيروا فِي الْقَتْل وَالْقطع، وَأَن يخيروا فِيمَا دون ذَلِك.
وَالْحَد يكون كَفَّارَة لأحد وَجْهَيْن، لِأَن العَاصِي إِمَّا أَن يكون منقادا لأمر الله وَحكمه، مُسلما وَجهه لله فالكفارة فِي حَقه تَوْبَة عَظِيمَة، وَدَلِيله حَدِيث
" لقد تَابَ تَوْبَة لَو قسمت على أمة مُحَمَّد لوسعتهم ".
وَإِمَّا أَن يكون إيلاما لَهُ وقسرا عَلَيْهِ، وسر ذَلِك أَن الْعَمَل يَقْتَضِي فِي حِكْمَة الله أَن يجازى فِي نَفسه أوماله، فَصَارَ مُقيم الْحَد خَليفَة الله فِي المجازاة فَتدبر.
قَالَ الله تَعَالَى:
{الزَّانِيَة وَالزَّانِي فاجلدوا كل وَاحِد مِنْهُمَا مائَة جلدَة} .
وَقَالَ عمر رضي الله عنه: إِن الله بعث مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِالْحَقِّ، وَأنزل عَلَيْهِ الْكتاب، فَكَانَ مِمَّا أنزل الله آيَة الرَّجْم، رجم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، وَالرَّجم فِي كتاب الله حق على من زنى إِذا أحصن من الرِّجَال وَالنِّسَاء.
أَقُول: إِنَّمَا جعل حد الْمُحصن الرَّجْم، وحد غير الْمُحصن الْجلد؛ لِأَنَّهُ كَمَا يتم التَّكْلِيف ببلوغ خمس عشر سنة أَو نَحوه، وَلَا يتم دون ذَلِك لعدم تَمام الْعقل وَتَمام الجثة وَكَونه من الرِّجَال فَلذَلِك يَنْبَغِي أَن تَتَفَاوَت الْعقُوبَة المترتبة على التَّكْلِيف بأتمية الْعقل وصيرورته رجلا كَامِلا مُسْتقِلّا بأَمْره مستبدا بِرَأْيهِ، وَلِأَن الْمُحصن كَامِل وَغير الْمُحصن نَاقص، فَصَارَ وَاسِطَة بَين الْأَحْرَار الكاملين وَبَين العبيد، وَلم يعْتَبر ذَلِك إِلَّا فِي الرَّجْم خَاصَّة لِأَنَّهُ أَشد عُقُوبَة شرعت فِي حق الله.
وَأما الْقصاص فَحق النَّاس وهم محتاجون، فَلَا يضيع حُقُوقهم.
وَأما حد السّرقَة وَغَيرهَا فَلَيْسَ بِمَنْزِلَة الرَّجْم وَلِأَن الْمعْصِيَة مِمَّن أنعم الله عَلَيْهِ وفضله على كثير من خلقه أقبح وأشنع لِأَنَّهَا اشد الكفران، فَكَانَ من حَقّهَا أَن يُزَاد فِي الْعقُوبَة لَهَا، وَإِنَّمَا جعل حد الْبكر مائَة جلدَة لِأَنَّهَا عدد كثير مضبوط يحصل بِهِ الزّجر والإيلام، وَإِنَّمَا عُوقِبَ بالتغريب لِأَن الْعقُوبَة المأثرة تكون على وَجْهَيْن: إيلام فِي الْبدن وإلحاق حَيَاء وخجالة وعار وفقد مألوف فِي النَّفس، وَالْأول عُقُوبَة جسمانية، وَالثَّانِي عُقُوبَة نفسانية، وَلَا تتمّ الْعقُوبَة إِلَّا بِأَن تجمع الْوَجْهَيْنِ: قَالَ الله تَعَالَى:
{فَإِذا أحصن فَإِن أتين بِفَاحِشَة فعليهن نصف مَا على الْمُحْصنَات من الْعَذَاب} .
أَقُول السِّرّ فِي تصنيف الْعقُوبَة على الارقاء أَنهم يُفَوض أَمرهم إِلَى
مواليهم، فَلَو شرع فيهم مزجرة بَالِغَة أقْصَى المبالغ لفتح ذَلِك بَاب الْعدوان بِأَن يقتل الْمولى عَبده، ويحتج بِأَنَّهُ زَان، وَلَا يكون سَبِيل الْمُؤَاخَذَة عَلَيْهِ، فنقص من حَدهمْ، وَجعل مَا لَا يُفْضِي إِلَى الْهَلَاك، وَالَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي الْفرق بَين الْمُحصن وَغَيره يَتَأَتَّى هُنَا.
قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: " خُذُوا عني، خُذُوا عني، قد جعل الله لَهُنَّ سَبِيلا الْبكر بالبكر جلد مائَة، وتغريب عَام، وَالثَّيِّب بِالثَّيِّبِ، جلد مائَة، وَالرَّجم " وَعمل بِهِ عَليّ رَضِي الله عَنهُ
أَقُول: اشْتبهَ هَذَا على النَّاس وظنوا مناقضا مَعَ رجمه الثّيّب وَعدم جلده، وَعِنْدِي أَنه لَيْسَ مناقضا لَهُ، وَأَن الْآيَة عَامَّة لَكِن يسن الإِمَام الِاقْتِصَار على الرَّجْم عِنْد وجوبهما، وَإِنَّمَا مثله مثل الْقصر فِي السّفر، فَإِنَّهُ لَو أتم جَازَ، لَكِن يسن لَهُ الْقصر، وَإِنَّمَا شرع ذَلِك لِأَن الرَّجْم عُقُوبَة عَظِيمَة، فتضمنت مَا دونهَا، وَبِهَذَا يجمع بَين قَوْله صلى الله عليه وسلم هَذَا، وَعمل عَليّ رضي الله عنه. وَبَين عمله صلى الله عليه وسلم، وَأكْثر خلفائه فِي الِاقْتِصَار على الرَّجْم، وَحَدِيث جَابر أَمر بِالْجلدِ، ثمَّ اخبر أَنه مُحصن، فَأمر بِهِ، فرجم يدل عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ مَا أقدم على الْجلد إِلَّا لجَوَاز مثله مَعَ كل زَان.
وَعِنْدِي أَن التَّرْغِيب يحْتَمل الْعَفو، وَبِه بِجمع بَين الْآثَار.
لما قَالَ مَاعِز بن مَالك زَنَيْت فطهرني، قَالَ صلى الله عليه وسلم:" لَعَلَّك قبلت أَو غمزت أَو نظرت؟ قَالَ: لَا يَا رَسُول الله قَالَ: أنكتها؟ قَالَ: نعم فَعِنْدَ ذَلِك أَمر برجمه ".
أَقُول الْحَد مَوضِع الاحيتاط، وَقد يُطلق الزِّنَا على مَا دون الْفرج كَقَوْلِه صلى الله عليه وسلم:" فزنا اللِّسَان كَذَا وزنا الرجل كَذَا " فَوَجَبَ التثبت والتحقق فِي مثل ذَلِك.
وَاعْلَم أَن الْمقر على نَفسه بِالزِّنَا الْمُسلم نَفسه لإِقَامَة الْحَد تائب، والتائب كمن لَا ذَنْب لَهُ، فَمن حَقه أَلا يحد، لَكِن هُنَا وُجُوه مقتضية لإِقَامَة الْحَد عَلَيْهِ:
مِنْهَا أَنه لَو كَانَ إِظْهَار التَّوْبَة وَالْإِقْرَار درءا للحد لم يعجز كل زَان أَن يحتال إِذا استشعر بمؤاخذة الإِمَام بِأَن يعْتَرف، فيندرئ عَنهُ الْحَد، وَذَلِكَ مناقضة للْمصْلحَة.
وَمِنْهَا أَن التَّوْبَة لَا تتمّ إِلَّا أَن يعتضد بِفعل شاق عَظِيم لَا يَتَأَتَّى إِلَّا من مخلص، وَلذَلِك قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي مَاعِز لما أسلم نَفسه للرجم:" لقد تَابَ تَوْبَة لَو قسمت بَين أمة مُحَمَّد لوسعتهم " وَقَالَ عليه السلام، فِي الغامدية " لقد تابت تَوْبَة تابها صَاحب مكس لغفر لَهُ ".
وَمَعَ ذَلِك فَيُسْتَحَب السّتْر عَلَيْهِ، وَهُوَ وَقَوله صلى الله عليه وسلم لهزال " لَو كَسرته بثوبك لَكَانَ خيرا لَك "، وَأَن يُؤمر هُوَ أَن يَتُوب فِيمَا بَينه وَبَين الله، وَأَن يحتال فِي دَرْء الْحَد.
قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم. " إِذا زنت أمة أحدكُم، فَتبين زنَاهَا فليجلدها الْحَد، وَلَا يثرب عَلَيْهَا "، ثمَّ إِن زنت فليجلدها
الْحَد، وَلَا يثرب عَلَيْهَا " أَقُول: السِّرّ فِي ذَلِك أَن الْإِنْسَان مَأْمُور شرعا أَن يذب عَن حريمه الْمعاصِي ومجبول على ذَلِك خلقه، وَلَو لم يشرع الْحَد إِلَّا عِنْد الإِمَام لما اسْتَطَاعَ السَّيِّد إِقَامَته فِي كثير من الصُّور، وَلم يتَحَقَّق الذب عَن الذمار، وَلَو لم يحد مِقْدَار معِين للحد لتجاوز المتجاوز إِلَى حد الإهلاك أَو الايلام الزَّائِد عَن الْحَد، فَلذَلِك قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم:" لَا يثرب ".
قَالَ صلى الله عليه وسلم: " أقيلوا ذوى الهيآت عثراتهم إِلَّا الْحُدُود " أَقُول: المُرَاد بذوي الهيآت أهل المروءات، أما أَن يعلم من رجل صَلَاح فِي الدّين، وَكَانَت العثرة أمرا فرط مِنْهُ على خلاف عَادَته، ثمَّ نَدم، فَمثل هَذَا يَنْبَغِي أَن يُجَاوز عَنهُ، أَو يَكُونُوا أهل نجدة وسياسة وَكبر فِي النَّاس، فَلَو أُقِيمَت الْعقُوبَة عَلَيْهِ فِي كل ذَنْب قَلِيل أَو كَبِير لَكَانَ فِي ذَلِك فتح بَاب التشاحن وَاخْتِلَاف على الامام وبغى عَلَيْهِ فان النُّفُوس كثيرا مَالا تحْتَمل ذَلِك.
وَأما الْحُدُود فَلَا يَنْبَغِي لَهَا أَن تهمل إِلَّا إِذا وجد لَهَا سَبَب شَرْعِي تندرئ بِهِ، وَلَو أهملت لتناقضت الْمصلحَة وَبَطلَت فَائِدَة الْحُدُود.
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم فِي مُخْدج يَزْنِي " خُذُوا لَهُ عثْكَالًا فِيهِ مائَة شِمْرَاخ فاضربوا بِهِ ".
اعْلَم أَن من لَا يَسْتَطِيع أَن يُقَام عَلَيْهِ الْحُدُود لضعف فِي جبلته، فان ترك سدى كَانَ مناقضا لتأكد الْحُدُود فانما اللَّائِق بالشرائع اللَّازِمَة الَّتِي جعلهَا الله تَعَالَى بِمَنْزِلَة الْأُمُور الجبلية أَن يَجْعَل كالمؤثر بالخاصية، ويعض عَلَيْهِ بالنواجذ، وَأَيْضًا فان فِيهِ بعض الْأَلَم الميسور لَا ضَرُورَة فِي تَركه.
وَاخْتلف فِي حد اللواطة، وَقيل. هِيَ من الزِّنَا، وَقيل: يقتل لحَدِيث " من وجدتموه يعْمل عمل قوم لوط فَاقْتُلُوا الْفَاعِل وَالْمَفْعُول بِهِ ".
قَالَ الله تَعَالَى:
وَفِي حكم الْمُحْصنَات المحصنون بالاجماع، والمحصن حر مُكَلّف مُسلم عفيف من وَطْء يحد بِهِ.
وَاعْلَم أَن هَهُنَا وَجْهَيْن متعارضين، وَذَلِكَ أَن الزِّنَا مَعْصِيّة كَبِيرَة يجب إخمالها وَإِقَامَة الْحَد عَلَيْهَا والمؤاخذة بهَا، وَكَذَلِكَ الْقَذْف مَعْصِيّة كَبِيرَة، وَفِيه إِلْحَاق عَار عَظِيم يجب إِقَامَة الْحَد عَلَيْهَا، وَيشْتَبه الْقَذْف بِالشَّهَادَةِ على الزِّنَا، فَلَو أَخذنَا الْقَاذِف لنقيم عَلَيْهِ الْحَد يَقُول: أَنا شَاهد على الزِّنَا، وَفِيه بطلَان لحد الْقَذْف وَالَّذِي هُوَ شَاهد على الزِّنَا يذبه عَن نَفسه الْمَشْهُود عَلَيْهِ بِأَنَّهُ قَاذف يسْتَحق الْحَد، فَلَمَّا تعَارض الحدان فِي هَذِه الْجُمْلَة عَن سياسة الْأمة وَجب أَن يفرق بَينهمَا بِأَمْر ظَاهر وَذَلِكَ كَثْرَة المخبرين، فَإِنَّهُم إِذا كَثُرُوا قوى ظن الشَّهَادَة والصدق، وَضعف ظن الْقَذْف، فان الْقَذْف يستدعى جمع صفتين: ضَعِيف فِي الدّين، وغل بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَقْذُوف، وَيبعد أَن يجتمعا فِي جمَاعَة من الْمُسلمين وَإِنَّمَا لم يكتف بعدالة الشَّاهِدين لِأَن الْعَدَالَة مَأْخُوذَة فِي جَمِيع الْحُقُوق، فَلَا يظْهر للتعارض أثر، وضبطت الْكَثْرَة بِضعْف نِصَاب الشَّهَادَة.
وَإِنَّمَا جعل حد الْقَذْف ثَمَانِينَ لِأَنَّهُ يَنْبَغِي أَن يكون أقل من الزِّنَا، فان
إِشَاعَة فَاحِشَة لَيست بِمَنْزِلَة فعلهَا، وَضبط النُّقْصَان بِمِقْدَار ظَاهر وَهُوَ عشرُون، فَإِنَّهُ خمس الْمِائَة وَإِنَّمَا جعل من تَمام حَده عدم قبُول الشَّهَادَة لما ذكرنَا أَن الايلام قِسْمَانِ: جسماني. ونفساني. وَقد اعْتبر الشَّرْع جَمعهمَا فِي جَمِيع الْحُدُود لَكِن جمع مَعَ حد الزِّنَا التَّغْرِيب لِأَن الزِّنَا عِنْد سياسة وُلَاة الْأُمُور وَغَيره الأؤلياء لَا يتَصَوَّر إِلَّا بعد مُخَالطَة وممازجة وَطول صُحْبَة وائتلاف، فَجَزَاؤُهُ الْمُنَاسب لَهُ أَن يجلى عَن مَحل الْفِتْنَة، وَجمع مَعَ حد الْقَذْف عدم قبُول الشَّهَادَة، لِأَنَّهُ إِخْبَار، وَالشَّهَادَة إِخْبَار، فجوزي بِعَارٍ من جنس الْمعْصِيَة فان عدم قبُول الشَّهَادَة من الْقَاذِف عُقُوبَة، وَعدم قبُولهَا من سَائِر العصاة لفَوَات الْعَدَالَة وَالرِّضَا، وَأَيْضًا فقد ذكرنَا أَن الْقَاذِف لَا يعجز أَن يَقُول: أَنا شَاهد فَيكون سد هَذَا الْبَاب أَن يُعَاقب بِمثل مَا احْتج بِهِ، وَجمع فِي حد الْخمر التبكيت.
وَاخْتلفُوا فِي قَوْله تَعَالَى:
{إِلَّا الَّذين} .
هَل الِاسْتِثْنَاء رَاجع إِلَى عدم قبُول الشَّهَادَة أم لَا؟ وَالظَّاهِر مِمَّا مهدنا أَن الْفسق لما انْتهى وَجب أَن يَنْتَهِي أَثَره وعقوبته، وَقد اعْتَبرهُ الْخُلَفَاء لحد الزِّنَا فِي تنصيف الْعقُوبَة على الأرقاء.
قَالَ تَعَالَى:
{السَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا جَزَاء بِمَا كسبا نكالا من الله وَالله عَزِيز حَكِيم} .
اعْلَم أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم بعث مُبينًا لما أنزل إِلَيْهِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{لتبين للنَّاس} .
وَكَانَ أَخذ مَال الْغَيْر أقساما: مِنْهُ السّرقَة، وَمِنْه قطع الطَّرِيق، وَمِنْه الاختلاس، وَمِنْه الْخِيَانَة، وَمِنْه الِالْتِقَاط، وَمِنْه الْغَصْب، وَمِنْه مَا يُقَال لَهُ قلَّة المبالاة والورع، فَوَجَبَ أَن يبين النَّبِي صلى الله عليه وسلم حَقِيقَة السّرقَة متميزة عَن هَذِه الْأُمُور.
وَطَرِيق التميز أَن ينظر إِلَى ذاتيان هَذِه الْأَسَامِي الَّتِي لَا تُوجد فِي السّرقَة، وَيَقَع بهَا التفارق فِي عرف النَّاس، ثمَّ تضبط السّرقَة بِأُمُور مضبوطة مَعْلُومَة يحصل بهَا التَّمْيِيز مِنْهَا والاحتراز عَنْهَا، فَقطع الطَّرِيق. والنهب. والحرابة أَسمَاء تنبئ عَن اعْتِمَاد الْقُوَّة بِالنِّسْبَةِ إِلَى المظلومين، وَاخْتِيَار مَكَان أَو زمَان لَا تحلق فِيهِ الْغَوْث من جمَاعَة الْمُسلمين، والاختلاس يُنبئ عَن اختطاف على أعين النَّاس وَفِي مرأى مِنْهُم ومسمع، والخيانة تنبئ عَن تَقْدِيم شركَة أَو مباسطة وَإِذن بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ وَنَحْو ذَلِك، والالتقاط يُنبئ عَن وجدان شَيْء فِي غير حرز، وَالْغَصْب يُنبئ عَن غَلَبَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَظْلُوم لَا مُعْتَمدًا على الْحَرْب والهرب وَلَكِن على الجدل وَظن أَلا يرفع قَضيته إِلَى الْوُلَاة وَلَا ينْكَشف عَلَيْهِم جبلة الْحَال وَقلة المبالاة، والورع يُقَال فِي الشَّيْء التافه الَّذِي جرى الْعرف ببذله والمواساة بِهِ بَين النَّاس كَالْمَاءِ. والحطب، فضبط النَّبِي صلى الله عليه وسلم الِاحْتِرَاز على ذاتيات هَذِه الْأَسَامِي.
قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم:
" لَا تقطع يَد السَّارِق إِلَّا فِي ربع دِينَار " وروى الْقطع فِيمَا بلغ ثمن الْمِجَن، وروى أَنه قطع فِي مجن ثمنه ثَلَاثَة دَرَاهِم، وَقطع عُثْمَان رضي الله عنه فِي أترجة ثمنهَا ثَلَاثَة دَرَاهِم من صرف اثْنَي عشر درهما.
وَالْحَاصِل أَن هَذِه التقديرات الثَّلَاث كَانَت منطبقة على شَيْء وَاحِد فِي زَمَانه صلى الله عليه وسلم، ثمَّ اخْتلفت بعده، وَلم يصلح الْمِجَن للاعتبار لعدم انضباطه، فَاخْتلف الْمُسلمُونَ فِي الْحَدِيثين الآخرين: فَقيل: ربع دِينَار،
وَقيل: ثَلَاثَة دَرَاهِم قيل: بُلُوغ المَال إِلَى حد القدرين وَهُوَ الْأَظْهر عِنْدِي، وَهَذِه شرعة النَّبِي صلى الله عليه وسلم فرقا بَين التافه وَغَيره لِأَنَّهُ لَا يصلح للتقدير جنس دون جنس لاخْتِلَاف الأسعار فِي الْبلدَانِ، وَاخْتِلَاف الْأَجْنَاس نفاسة وخساسة بِحَسب اخْتِلَاف الْبِلَاد، فمباح قوم وتافههم مَال عَزِيز عِنْد آخَرين، فَوَجَبَ أَن يعْتَبر التَّقْدِير فِي الثّمن، وَقيل: يعْتَبر فيهمَا، وَأَن الْحَطب وَإِن كَانَ قِيمَته عشرَة دَرَاهِم لَا يقطع فِيهِ.
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:
" لَا قطع فِي ثَمَر مُعَلّق وَلَا فِي حريسة الْجَبَل فَإِذا آواه المراح والجرين فالقطع فِيمَا بلغ ثمن الْمِجَن " وَسُئِلَ عَن الثَّمر الْمُعَلق، فَقَالَ عليه السلام:" من سرق مِنْهُ شَيْئا بعد ان يؤويه الجرين فَبلغ ثمن الْمِجَن فَعَلَيهِ الْقطع ".
أَقُول: أفهم النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَن الْحِرْز شَرط الْقطع وَسبب ذَلِك أَن غير المحرز يُقَال فِيهِ الِالْتِقَاط فَيجب الِاحْتِرَاز عَنهُ.
قَالَ صلى الله عليه وسلم:
" لَيْسَ على خائن وَلَا منتهب وَلَا مختلس قطع ".
أَقُول. أفهم النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه لَا بُد فِي السّرقَة من أَخذ المَال مختفيا وَإِلَّا كَانَ نهبة أَو خطْفَة وَألا يتقدمها شركَة وَلُزُوم حق، وَإِلَّا كَانَ خِيَانَة أَو اسْتِيفَاء لحقه.
وَفِي الْآثَار فِي العَبْد يسرق مَال سَيّده إِنَّمَا هُوَ ملك بعضه فِي بعض.
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم فِي اسارق:
" اقطعوه ثمَّ احسموه " أَقُول: إِنَّمَا أَمر بالحسم لِئَلَّا يسري فَيهْلك، فان الحسم سَبَب عدم السَّرَايَة، وَأمر عليه السلام بِالْيَدِ فعلقت فِي عنق السَّارِق أَقُول. إِنَّمَا فعل هَذَا للتشهير، وليعلم النَّاس أَنه سَارِق وفرقا بَين مَا يقطع الْيَد ظلما وَبَين مَا يقطع حدا.
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم فِي سَرقَة مَا دون النّصاب: " عَلَيْهِ الْعقُوبَة وغرامة مثيلة ".
أَقُول: إِنَّمَا أَمر بغرامة المثلين لِأَنَّهُ لَا بُد من ردع وعقوبة مَالِيَّة وبدنية، فَإِن الْإِنْسَان رُبمَا يرتدع بِالْمَالِ أَكثر من ألم الْجَسَد. وَرُبمَا يكون الْأَمر بِالْعَكْسِ فَجمع بَين ذَلِك، ثمَّ غَرَامَة مثله يَجْعَل كَأَن لم لَكِن يسرق وَلَيْسَ فِيهِ عُقُوبَة، وَلذَلِك زيدت غَرَامَة أُخْرَى لتَكون مناقضة لقصده فِي السّرقَة.
وأتى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بلص قد اعْترف اعترافا وَلم يُوجد مَعَه مَتَاع، فَقَالَ: مَا إخالك سرقت قَالَ: بلَى فَأَعَادَ عَلَيْهِ مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا فَأمر بِهِ فَقطع، وجئ بِهِ فَقَالَ. قل اسْتغْفر الله وَأَتُوب إِلَيْهِ، فَقَالَ. اسْتغْفر الله وَأَتُوب إِلَيْهِ قَالَ. اللَّهُمَّ تب عَلَيْهِ ثَلَاثًا ".
أَقُول: السَّبَب فِي ذَلِك أَن العَاصِي الْمُعْتَرف بِذَنبِهِ النادم عَلَيْهِ يسْتَحق أَن يحتال فِي دَرْء الْحَد عَنهُ، وَقد ذكرنَا قَوْله الله تَعَالَى:
{إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله} الْآيَة.
أَقُول: الْحِرَابَة لَا تكون إِلَّا مُعْتَمدَة على الْقِتَال بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجَمَاعَة الَّتِي وَقع الْعدوان عَلَيْهَا، وَالسَّبَب فِي مَشْرُوعِيَّة هَذَا الْحَد أَشد من حد السّرقَة أَن الِاجْتِمَاع الْكثير من بني آدم لَا يَخْلُو من أنفس تغلب عَلَيْهِم الْخصْلَة السبعية لَهُم جزاءه شديده وقتال واجتماع فَلَا يبالون بِالْقَتْلِ والنهب، وَفِي ذَلِك مفْسدَة اعظم من السّرقَة لِأَنَّهُ يتَمَكَّن أهل الْأَمْوَال من حفظ أَمْوَالهم من السراق، وَلَا يتَمَكَّن أهل الطَّرِيق من التمنع من قطاع الطَّرِيق، وَلَا يَتَيَسَّر
لولاة الْأُمُور وَجَمَاعَة الْمُسلمين نصرتهم فِي ذَلِك الْمَكَان وَالزَّمَان، وَلِأَن دَاعِيَة الْفِعْل من قطاع الطَّرِيق أَشد وَأَغْلظ، فَإِن الْقَاطِع لَا يكون إِلَّا جرئ الْقلب قوي الْجنان، وَيكون فِيمَا هُنَالك اجْتِمَاع واتفاق بِخِلَاف السراق، فَوَجَبَ أَن تكون عُقُوبَته أغْلظ من عُقُوبَته
وَالْأَكْثَرُونَ على أَن الْجَزَاء على التَّرْتِيب وَهُوَ الْمُوَافق لقَوْله صلى الله عليه وسلم:
" لَا يقتل الْمُؤمن إِلَّا لأحدى ثَلَاث " الحَدِيث، وَقيل: على التَّخْيِير وَهُوَ الْمُوَافق لكلمة " أَو " وَعِنْدِي أَن قَوْله صلى الله عليه وسلم:
" المفارق للْجَمَاعَة " يحْتَمل أَن يكون قد جمع العلتين وَالْمرَاد أَن كل عِلّة تفِيد الحكم كَمَا جمع النَّبِي صلى الله عليه وسلم بَين العلتين، فَقَالَ:
" لَا يخرج الرّجلَانِ يضربان الْغَائِط كاشفين عَن عودتهما يتحدثان " فكشف الْعَوْرَة سَبَب اللَّعْن والتحديث فِي مثل تِلْكَ الْحَالة أَيْضا سَبَب اللَّعْن.
قَالَ الله تَعَالَى:
أَقُول: بَين الله تَعَالَى أَن فِي الْخمر مفسدتين: مفْسدَة فِي النَّاس، فان شاربها يلاحي الْقَوْم يعدوا عَلَيْهِم، ومفسدة فِيمَا يرجع إِلَى تَهْذِيب نَفسه، فان شاربها يغوص فِي حَالَة بهيمية، وَيَزُول عقله الَّذِي بِهِ قوام الاحسان
وَلما كَانَ قَلِيل الْخمر يَدْعُو إِلَى كَثِيره وَجب عِنْد سياسة الْأمة أَن يدار التَّحْرِيم على كَونهَا مسكرة، لَا على وجود السكر فِي الْحَال.
ثمَّ بَين النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَن الْخمر مَا هِيَ، فَقَالَ:
" كل مُسكر خمر وكل مُسكر حرَام " وَقَالَ: "
الْخمر من هَاتين الشجرتين النَّخْلَة والعنبة " وتخصيصهما بِالذكر لما كَانَ حَال تِلْكَ الْبِلَاد، وَسُئِلَ عليه السلام عَن المزر والبتع، فَقَالَ: " كل مُسكر حرَام " وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:
" مَا أسكر كَثِيره فقليله حرَام " أَقُول: هَذِه الْأَحَادِيث مستفيضة، وَلَا أَدْرِي أَي فرق بَين العنبى وَغَيره لِأَن التَّحْرِيم مَا نزل إِلَّا للمفاسد الَّتِي نَص الْقُرْآن عَلَيْهَا وَهِي مَوْجُودَة فيهمَا، وَفِيمَا سواهُمَا سَوَاء
قَالَ صلى الله عليه وسلم: " من شرب الْخمر فِي الدُّنْيَا فَمَاتَ وَهُوَ يدمنها لم يتب لم يشْربهَا فِي الْآخِرَة " أَقُول: وَسبب ذَلِك أَن الغائص فِي الْحَالة البهيمية الْمُدبرَة عَن الْإِحْسَان لَيْسَ لَهُ فِي لذات الْجنان نصيب، فَجعل شرب الْخمر وإدمانها وَعدم التَّوْبَة مِنْهَا مَظَنَّة للغوص، وأدير الحكم عَلَيْهَا، وَخص من لذات الْجنان الْخمر، ليظْهر تخَالف اللذتين بادئ الرَّأْي، وَأَيْضًا أَن النَّفس إِذا انهمكت فِي اللَّذَّة البهيمية فِي ضمن فعل تمثل هَذَا الْفِعْل عِنْدهَا شبحا لتِلْك اللَّذَّة يتذكرها بتذكرها، فَلَا يسْتَحق أَن تتمثل اللَّذَّة الاحسانية بصورتها، وَأَيْضًا فَأمر الْجَزَاء على الْمُنَاسبَة، فَمن عصى بالاقدام على شَيْء فَجَزَاؤُهُ أَن يؤلم يفقد مثل تِلْكَ اللَّذَّة عِنْد طلبه لَهَا واستشرافه عَلَيْهَا
قَالَ صلى الله عليه وسلم:
" إِن على الله عهدا لمن شرب الْمُسكر أَن يسْقِيه من طِينَة الخبال وطينة عصارة أهل النَّار ".
أَقُول: السِّرّ فِي ذَلِك أَن الْقَيْح وَالدَّم أقبح الْأَشْيَاء السيالة عندنَا وأحقرها
واشدها نعزة بِالنِّسْبَةِ للطبائع السليمة، وَالْخمر شَيْء سيال فَنَاسَبَ أَن يتَمَثَّل مَقْرُونا بِصفة الْقبْح فِي صُورَة طِينَة الخبال وَذَلِكَ كَمَا قَالُوا فِي الْمُنكر والنكير: إنَّهُمَا إِنَّمَا كَانُوا أزرقين لِأَن الْعَرَب يكْرهُونَ الزرقة، وَقد ذكرنَا أَن بعض الوقائع الْخَارِجَة بِمَنْزِلَة الْمَنَام فِي ذَلِك
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " من شرب الْخمر لم يقبل الله لَهُ صَلَاة أَرْبَعِينَ صباحا فان تَابَ تَابَ الله عَلَيْهِ ".
أَقُول: السِّرّ فِي عدم قبُول صلَاته أَن ظُهُور صفة الْبَهِيمَة وغلبتها على الملكية بالإقدام على الْمعْصِيَة اجتراء على الله وغوص نَفسه فِي حَالَة رذيلة تنَافِي الْإِحْسَان وتضاده، وَيكون سَببا لفقد اسْتِحْقَاق أَن تَنْفَع الصَّلَاة فِي نَفسه نفع الْإِحْسَان وَأَن تنقاد نَفسه للحالة الإحسانية.
وَكَانَ الشَّارِب يُؤْتى بِهِ إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم فيأمر بضربه فَيضْرب بالنعال والأردية وَالْيَد حَتَّى يبلغ أَرْبَعِينَ ضَرْبَة، ثمَّ قَالَ:" بكتوه " فَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ يَقُولُونَ: مَا اتَّقَيْت الله، مَا خشيت الله، مَا استحييت من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم؟ ! وروى أَنه صلى الله عليه وسلم أَخذ تُرَابا من الأَرْض فَرمى بهَا وَجهه.
أَقُول: السَّبَب فِي نُقْصَان هَذَا الْحَد بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَائِر الْحُدُود أَن سَائِر الْحُدُود لوُجُود مفْسدَة بِالْفِعْلِ أَن يكون سرق مَتَاعا أَو قطع طَرِيق أَو زنى قذف، وَأما هَذَا فقد أَتَى بمظنة الْفساد دون الْفساد فَلذَلِك نقص عَن الْمِائَة وَإِنَّمَا كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يضْرب أَرْبَعِينَ لِأَنَّهُ مَظَنَّة الْقَذْف والمظنة يَنْبَغِي أَن تكون أقل من نفس الشَّيْء بِمَنْزِلَة نصفه.
ثمَّ لما كثر الْفساد جعل الصَّحَابَة رضي الله عنهم حَده ثَمَانِينَ إِمَّا لِأَنَّهُ أخف
حد فِي كتاب الله فَلَا يُجَاوز غير الْمَنْصُوص عَن أقل الْحُدُود، وَإِمَّا لِأَن الشَّارِب يقذف غَالِبا إِن لم يكن زنى أَو قتل، وَالْغَالِب حكمه حكم الْمُتَيَقن وَأما سر التبكيت فقد ذكرنَا من قبل.
قَالَ النَّبِي أَيْنَمَا صلى الله عليه وسلم: " إِن أهلك الَّذين من قبلكُمْ أَنهم كَانُوا إِذا سرق مِنْهُم الشريف تَرَكُوهُ وَإِذا سرق مِنْهُم الضَّعِيف أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَد، وَايْم وَالله لَو أَن فَاطِمَة بنت مُحَمَّد سرقت لَقطعت يَدهَا " وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " من حَالَتْ شَفَاعَته دون حد من حُدُود الله فقد ضاد الله " أَقُول: علم النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَن حفظ جاه الشرفاء والمسامحة مَعَهم والذب عَنْهُم والشفاعة فِي أَمرهم أَمر توارد عَلَيْهِ الْأُمَم وانقاد لَهَا طوائف النَّاس من الْأَوَّلين والآخرين، فأكد فِي ذَلِك وسجل، فان الشَّفَاعَة والمسامحة بالشرفاء مناقضة لشرع الله الْحُدُود.
وَنهى رَسُول صلى الله عليه وسلم عَن لعن الْمَحْمُود أَو الْوُقُوع فِيهِ لِئَلَّا يكون سَببا لِامْتِنَاع النَّاس عَن إِقَامَة الْحَد، وَلِأَن الْحَد كَفَّارَة، وَالشَّيْء إِذا تدورك بِالْكَفَّارَةِ صَار كَأَن لم يكن، وَهُوَ قَوْله صلى الله عليه وسلم:" وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ إِنَّه لفي انهار الْجنَّة منغمس بهَا ".
وَيلْحق بالحدود مزجرتان أخريان: إِحْدَاهمَا عُقُوبَة هتك حُرْمَة الْملَّة، وَالثَّانيَِة الذب عَن الأمامة، وَالْأَصْل فِي الأولى قَوْله صلى الله عليه وسلم:" من بدل دينه فَاقْتُلُوهُ " وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يجب أَن يُقَام اللائمة الشَّدِيدَة على الْخُرُوج من الْملَّة وَإِلَّا لانفتح بَاب هتك حُرْمَة الْملَّة، ومرضى الله تَعَالَى أَن تجْعَل الْملَّة السماوية بِمَنْزِلَة الْأَمر المجبول عَلَيْهِ الَّذِي لَا يَنْفَكّ عَنهُ، وَتثبت الرِّدَّة بقول يدل على نعني الصَّانِع أَو الرُّسُل أَو تَكْذِيب رَسُول أَو فعل تعمد بِهِ استهزاء صَرِيحًا بِالدّينِ، وَكَذَا إِنْكَار ضروريات الدّين، قَالَ الله تَعَالَى: