الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَكَانَت يَهُودِيَّة تَشْتُم النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَتَقَع فِيهِ فخنقها رجل حَتَّى مَاتَت فَأبْطل النَّبِي صلى الله عليه وسلم دَمهَا، وَذَلِكَ لانْقِطَاع ذمَّة الذِّمِّيّ بالطعن فِي دين الْمُسلمين والشتم والإيذاء الظَّاهِر.
قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: " أَنا برِئ من كل مُسلم مُقيم بَين أظهر الْمُشْركين، لَا يتَرَاءَى ناراهما ".
أَقُول: السَّبَب فِي ذَلِك أَن الِاخْتِلَاط معم وتكثير سوادهم إِحْدَى النصرتين لَهُم، ثمَّ ضبط النَّبِي صلى الله عليه وسلم الْبعد من أَحيَاء الْكفَّار بِأَن يكون مِنْهُم بِحَيْثُ لَو أوقدت نَارا على أرفع مَكَان فِي بلدهم أَو حلتهم لم تظهر للآخرين، وَالْأَصْل فِي الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى:
{فَإِن بَغت إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى فَقَاتلُوا الَّتِي تبغي حَتَّى تفئ إِلَى أَمر الله} .
وَقَوله صلى الله عليه وسلم: " إِذا بُويِعَ لخليفتين فَاقْتُلُوا الآخر مِنْهُمَا "
أَقُول: السَّبَب فِي ذَلِك أَن الامامة مَرْغُوب فِيهَا طبعا، وَلَا يخلوا اجْتِمَاع النَّاس فِي الأقاليم من رجل يجترئ لأَجلهَا على الْقِتَال، ويجتمع لنصرته الرِّجَال، فَلَو ترك وَلم يقتل لقتل الْخَلِيفَة ثمَّ قَاتله آخر وهلم جرا، وَفِيه فَسَاد عَظِيم للْمُسلمين، وَلَا ينسد بَاب هَذِه الْمَفَاسِد إِلَّا بِأَن تكون السّنة بَين الْمُسلمين أَن الْخَلِيفَة إِذا انْعَقَدت خِلَافَته، ثمَّ خرج آخر ينازعه حل قَتله وَوَجَب على الْمُسلمين نصْرَة الْخَلِيفَة عَلَيْهِ، ثمَّ الَّذِي خرج بِتَأْوِيل لمظلمة يُرِيد دَفعهَا عَن نَفسه وعشيرته أَو لنقيصة يثبتها فِي الْخَلِيفَة ويحتج عَلَيْهَا بِدَلِيل شَرْعِي بعد أَلا يكون مُسلما عِنْد جُمْهُور الْمُسلمين وَلَا يكون أمرا من الله فِيهِ عِنْدهم
برهَان لَا يَسْتَطِيعُونَ إِنْكَاره فَأمره دون الْأَمر الَّذِي خرج يفْسد فِي الأَرْض وَيحكم السَّيْف دون الشَّرْع، فَلَا يَنْبَغِي أَن يجعلا بِمَنْزِلَة وَاحِدَة، فَلذَلِك كَانَ الأول أَن يبْعَث الإِمَام إِلَيْهِم فطنا ناصحا عَالما يكْشف شبهتهم أَو يدْفع عَنْهُم مظلتهم كَمَا بعث أَمر الْمُؤمنِينَ عَليّ رضي الله عنه عبد الله بن وَابْن عَبَّاس رضي الله عنه إِلَى الحرورية، فَإِن رجعُوا إِلَى جمَاعَة الْمُسلمين فِيهَا وَإِلَّا قَاتلهم وَلَا يقتل مدبرهم وَلَا أسيرهم وَلَا يُجهز على جريحهم لِأَن الْمَقْصُود إِنَّمَا هُوَ دفع شرهم وتفريق جَمَاعَتهمْ وَقد حصل، وَأما الثَّانِي فَهُوَ من الْمُحَاربين وَحكمه حكم الْمُحَارب.
(الْقَضَاء)
اعْلَم أَن من الْحَاجَات الَّتِي يكثر وُقُوعهَا وتشتد مفسدتها المناقشات فِي النَّاس؛ فانها
تكون باعثة على الْعَدَاوَة والبغضاء وَفَسَاد ذَات الْبَين، وتهيج الشُّح على غمط الْحق وَألا ينقاد للدليل فَوَجَبَ أَن يبْعَث فِي كل نَاحيَة من يفصل قضاياهم بِالْحَقِّ، ويقهرهم على الْعَمَل بِهِ أشاءوا أم أَبَوا، وَلذَلِك كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يعتني ببعث قُضَاة اعتناء شَدِيدا، ثمَّ لم يزل الْمُسلمُونَ على ذَلِك، ثمَّ لما كَانَ الْقَضَاء بَين النَّاس مَظَنَّة الْجور والحيف وَجب أَن يدهب النَّاس عَن الْجور فِي الْقَضَاء وَأَن يضْبط الكليات الَّتِي يرجع إِلَيْهَا الْأَحْكَام.
قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم:
" من جعل قَاضِيا بَين النَّاس فقد ذبح بِغَيْر سكين ".
أَقُول: هَذَا بَيَان أَن الْقَضَاء حمل ثقيل وَإِن الْإِقْدَام عَلَيْهِ مَظَنَّة الْهَلَاك إِلَّا أَن يَشَاء الله.
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " من ابْتغى الْقَضَاء وَسَأَلَهُ وكل إِلَى نَفسه وَمن أكره عَلَيْهِ أنزل الله ملكا يسدده ".
أَقُول: السِّرّ فِيهِ أَن الطَّالِب لَا يَخْلُو غَالِبا من دَاعِيَة نفسانية من مَال أَو جاه أَو التَّمَكُّن من انتقام عَدو نَحْو ذَلِك فَلَا يتَحَقَّق مِنْهُ خلوص النِّيَّة الَّذِي هُوَ سَبَب نزُول البركات.
قَالَ صلى الله عليه وسلم:
" الْقُضَاة ثَلَاثَة وَاحِد فِي الْجنَّة وَاثْنَانِ فِي النَّار فَأَما الَّذِي فِي الْجنَّة فَرجل عرف الْحق وَقضى بِهِ، وَرجل عرف الْحق فجار فِي الحكم فَهُوَ فِي النَّار، وَرجل قضى للنَّاس على جهل فَهُوَ فِي النَّار ".
أَقُول: فِي هَذَا الحَدِيث أَنه لَا يسْتَوْجب الْقَضَاء إِلَّا من كَانَ عدلا بَرِيئًا من الْجور والميل قد عرف مِنْهُ ذَلِك. وعالما يعرف الْحق لَا سِيمَا فِي مسَائِل الْقَضَاء، والسر فِي ذَلِك وَاضح فَإِنَّهُ لَا يتَصَوَّر وجود الْمصلحَة الْمَقْصُودَة إِلَّا بهَا.
قَالَ صلى الله عليه وسلم:
" لَا يقضين حكم بَين اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَان ".
أَقُول: السَّبَب الْمُقْتَضِي لذَلِك أَن الَّذِي اشْتغل قلبه بِالْغَضَبِ لَا يتَمَكَّن من التَّأَمُّل فِي الدَّلَائِل والقرائن وَمَعْرِفَة الْحق.
قَالَ صلى الله عليه وسلم:
" إِذا حكم الْحَاكِم فاجتهد فَأصَاب فَلهُ أَجْرَانِ وَإِذا حكم فاجتهد فَأَخْطَأَ فَلهُ أجر وَاحِد " اجْتهد يَعْنِي بذل طاقته فِي انباع الدَّلِيل؛ وَذَلِكَ لِأَن التَّكْلِيف بِقدر الوسع وَإِنَّمَا وسع الْإِنْسَان أَن يجْتَهد وَلَيْسَ فِي وَسعه أَن يُصِيب الْحق أَلْبَتَّة.
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم لعَلي رضي الله عنه: " إِذا تقاضى إِلَيْك رجلَانِ فَلَا تقض للْأولِ حَتَّى تسمع كَلَام الآخر فَإِنَّهُ أَحْرَى أَن يتَبَيَّن لَك الْقَضَاء أَقُول: وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عِنْد مُلَاحظَة الحجتين يظْهر التَّرْجِيح ".
وَأعلم أَن الْقَضَاء فِيهِ مقامان: أَحدهمَا أَن يعرف جلية الْحَال الَّتِي تشاجرا فِيهِ، وَالثَّانِي الحكم الْعدْل فِي تِلْكَ الْحَالة، وَالْقَاضِي قد يحْتَاج إِلَيْهِمَا وَقد يحْتَاج إِلَى أَحدهمَا فَقَط فَإِذا ادّعى كل وَاحِد أَن هَذَا الْحَيَوَان مثلا ملكه قد ولد فِي يَده، وَهَذَا الْحجر التقطه من جبل ارْتَفع الْإِشْكَال لمعْرِفَة جلية الْحَال.
والقضية الَّتِي وَقعت بَين عَليّ، وَزيد، وجعفر رضي الله عنهم فِي حضَانَة بنت حَمْزَة رضي الله عنه كَانَت جلية الْحَال مَعْلُومَة وَإِنَّمَا كَانَ الْمَطْلُوب الحكم.
وَإِذا ادّعى وَاحِد على الآخر الْغَصْب وَالْمَال متغير صفته وَأنكر الآخر
وَقعت الْحَاجة أَولا إِلَى معرفَة جلية الْحَال هَل كَانَ هُنَاكَ غصب أَولا، وَثَانِيا إِلَى الحكم هَل يحكم بردعين الْمَغْصُوب أَو قِيمَته، وَقد ضبط النَّبِي صلى الله عليه وسلم كلا المقامين بضوابط كُلية، أما الْمقَام الأول فَلَا أَحَق فِيهِ من الشَّهَادَات والأيمان فَإِنَّهُ لَا يُمكن معرفَة الْحَال إِلَّا باخبار من حضرها أَو بِإِخْبَار صَاحب الْحَال مؤكدا بِمَا يظنّ أَنه لَا يكذب مَعَه، قَالَ صلى الله عليه وسلم:
" لَو يعْطى النَّاس بدعواهم لادعى نَاس دِمَاء رجال وَأَمْوَالهمْ وَلَكِن الْبَيِّنَة على الْمُدَّعِي وَالْيَمِين على الْمُدَّعِي عَلَيْهِ " فالمدعي هُوَ الَّذِي يَدعِي خلاف الظَّاهِر وَيثبت الزِّيَادَة، وَالْمُدَّعى عَلَيْهِ هُوَ مستصحب الأَصْل والمتمسك بِالظَّاهِرِ وَلَا عدل ثمَّ من أَن يعْتَبر فِيمَن يَدعِي بَيِّنَة وفيمن يتَمَسَّك بِالظَّاهِرِ ويدرأ عَن نَفسه الْيَمين إِذا لم تقم حجَّة الآخر.
وَقد أَشَارَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِلَى سَبَب مَشْرُوعِيَّة هَذَا الأَصْل حَيْثُ قَالَ: " لَو يعْطى النَّاس " الخ يَعْنِي كَانَ سَببا للتظالم فَلَا بُد من حجَّة، ثمَّ أَنه يعْتَبر فِي الشَّاهِد صفة كَونه مرضيا عَنهُ لقَوْله تَعَالَى:
{مِمَّن ترْضونَ من الشُّهَدَاء} .
وَذَلِكَ بِالْعقلِ. وَالْبُلُوغ. والضبط. والنطق. وَالْإِسْلَام. وَالْعَدَالَة. والمروءة. وَعدم التُّهْمَة.
قَالَ صلى الله عليه وسلم:
" لَا تجوز شَهَادَة خائن وَلَا خَائِنَة وَلَا زَان وَلَا زَانِيَة، وَلَا ذِي غمر على
أَخِيه وَترد شَهَادَة القانع لأهل الْبَيْت " وَقَالَ الله تَعَالَى فِي القذفة:
{وَلَا تقبلُوا لَهُم شَهَادَة أبدا وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذين تَابُوا} الْآيَة.
وَفِي حكم الْقَذْف. وَالزِّنَا سَائِر الْكَبَائِر، وَذَلِكَ لِأَن الْخَبَر يحْتَمل فِي نَفسه الصدْق وَالْكذب وَإِنَّمَا يتَرَجَّح أحد المحتملين بِالْقَرِينَةِ، وَهِي إِمَّا فِي الْمخبر أَو الْمخبر عَنهُ أَو غَيرهمَا، وَلَيْسَ شَيْء من ذَلِك مضبوطا يحِق أَن يدار عَلَيْهِ الحكم التشريعي إِلَّا صِفَات الْمخبر غير مَا ذكرنَا من الظَّاهِر والاستصحاب، وَقد اعْتبر مرّة حَيْثُ شرع للْمُدَّعِي الْبَيِّنَة وَالْمُدَّعى عَلَيْهِ الْيَمين ثمَّ اعْتبر عدد الشُّهُود على أطوار وزعها على أَنْوَاع الْحُقُوق، فالزنا لَا يثبت إِلَّا بأَرْبعَة شُهَدَاء. وَالْأَصْل فِيهِ قَوْله تَعَالَى:
{وَالَّذين يرْمونَ الْمُحْصنَات ثمَّ لم يَأْتُوا بأَرْبعَة شُهَدَاء} الْآيَة.
وَقد ذكر سَبَب مَشْرُوعِيَّة هَذَا من قبل.
وَلَا يعْتَبر فِي الْقصاص وَالْحُدُود إِلَّا شَهَادَة رجلَيْنِ، وَالْأَصْل فِيهِ قَول الزُّهْرِيّ رَحمَه الله تَعَالَى: جرت السّنة من عهد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَلا تقبل شَهَادَة النِّسَاء فِي الْحُدُود، وَيعْتَبر فِي الْحُقُوق الْمَالِيَّة شَهَادَة رجل وَامْرَأَتَيْنِ، وَالْأَصْل فِيهِ قَوْله تَعَالَى:
{فَإِن لم يَكُونَا رجلَيْنِ فَرجل وَامْرَأَتَانِ} .
وَقد نبه الله تَعَالَى على سَبَب مَشْرُوعِيَّة الْكَثْرَة فِي جَانب النِّسَاء " فَقَالَ:
{أَن تضل إِحْدَاهمَا فَتذكر إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى} .
يَعْنِي هن ناقصات الْعقل، فَلَا بُد من جبر هَذَا النُّقْصَان بِزِيَادَة الْعدَد.
وَقضى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِشَاهِد وَيَمِين وَذَلِكَ لِأَن الشَّاهِد الْعدْل إِذا لحق مَعَه الْيَمين تَأَكد الْأَمر، وَأمر الشَّهَادَات لَا بُد فِيهِ توسعة، وَجَرت السّنة أَنه إِذا كَانَ ريب زكى الشَّاهِدَانِ، وَذَلِكَ لِأَن شَهَادَتهمَا إِنَّمَا
اعْتبرت من جِهَة صفاتهما المرجحة للصدق على الْكَذِب فَلَا بُد من تبينها.
وَجَرت السّنة أَنه إِذا كَانَ ريب غلظت الْأَيْمَان بِالزَّمَانِ وَالْمَكَان وَاللَّفْظ، وَذَلِكَ لِأَن الْأَيْمَان إِنَّمَا صَارَت دَلِيلا على صدق الْخَبَر من جِهَة اقتران قرينَة تدل على أَنه لَا يقدم على الْكَذِب مَعهَا فَكَانَ حَقّهَا إِذا كَانَ زِيَادَة ريب طلب قُوَّة الْقَرَائِن، فِي اللَّفْظ زياده الْأَسْمَاء وَالصِّفَات، وَالْأَصْل فِيهِ قَوْله صلى الله عليه وسلم:" احْلِف بِاللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة " وَنَحْو ذَلِك،
وَالزَّمَان أَن يحلف بعد الْعَصْر لقَوْله تَعَالَى:
{تحبسونهما من بعد الصَّلَاة} .
وَالْمَكَان أَن يُقَام بَين الرُّكْن وَالْمقَام إِن كَانَ بِمَكَّة. وَعند مِنْبَر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِن كَانَ بِالْمَدِينَةِ. وَعند الْمِنْبَر فِي سَائِر الْبلدَانِ لوُرُود فضل هَذِه الْأَمْكِنَة وتغليظ الْكَذِب عِنْدهَا.
ثمَّ وَقعت الْحَاجة أَن يرهب النَّاس أَشد ترهيب من أَن يجترئوا على خلاف مَا شرع الله لَهُم لفصل القضايا وَمَعْرِفَة جلية الْحَال.
وَالْأَصْل فِي تِلْكَ الترهيبات ثَلَاثَة أَشْيَاء: أَحدهَا أَن الْإِقْدَام على فعل نهى الله تَعَالَى عَنهُ وَغلظ فِي النَّهْي دَلِيل قلَّة الْوَرع والاجتراء على الله فأدير حكم الاجتراء على هَذِه الْأَشْيَاء، وَأثبت لَهَا أَثَره مثل وجوب دُخُول النَّار وَتَحْرِيم الْجنَّة وَنَحْو ذَلِك.
وَالثَّانِي أَن ذَلِك سعى فِي الظُّلم وبمنزلة السّرقَة وَقطع الطَّرِيق، أَو بِمَنْزِلَة دلَالَة السَّارِق على المَال ليَسْرِق أوردء الْقَاطِع فتوجهت لعنة الله وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس على السَّعَادَة فِي الأَرْض بِالْفَسَادِ إِلَى هَذَا العَاصِي فَاسْتحقَّ النَّار.
وَالثَّالِث أَنه مخالفه لما شرع الله لِعِبَادِهِ وسعى فِي سد جَرَيَانه على مَا أَرَادَ الله فِي شرائعه فان الْيَمين إِنَّمَا شرعت معرفَة للحق، وَالْبَيِّنَة إِنَّمَا شرعت مبينَة لجلية الْحَال فان جرت السّنة بزور الشَّهَادَة وَالْإِيمَان انسد بَاب الْمصلحَة المرعية.
فَمن ذَلِك كتمان الشَّهَادَة لقَوْله تَعَالَى.
{وَمن يكتمها فَإِنَّهُ آثم قلبه} .
وَمِنْهَا شَهَادَة الزُّور لعده عليه السلام من الْكَبَائِر شَهَادَة الزُّور.
وَمِنْهَا الْيَمين الكاذبة لقَوْله صلى الله عليه وسلم:
" من حلف على يَمِين صَبر وَهُوَ فِيهَا فَاجر ليقتطع بهَا حق امْرِئ مُسلم لَقِي الله تَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَان ".
وَمِنْهَا الدَّعْوَى الكاذبة لقَوْله صلى الله عليه وسلم:
" من ادّعى مَا لَيْسَ لَهُ فَلَيْسَ منا وليتبوأ مَقْعَده من النَّار ".
وَمِنْهَا الاخذ لقَضَاء القَاضِي وَلَيْسَ لَهُ الْحق لقَوْله صلى الله عليه وسلم
" إِنَّمَا أَنا بشر مثلكُمْ وأنكم تختصمون " الحَدِيث.
وَمِنْهَا الاعتياد بالمجادلة وَرفع الْقَضِيَّة فان ذَلِك لَا يَخْلُو من إِفْسَاد ذَات الْبَين لقَوْله صلى الله عليه وسلم:
" إِن أبْغض الرِّجَال إِلَى الله الألد الْخصم ".
وَرغب لمن ترك الْمُخَاصمَة فِي الْحق وَالْبَاطِل جَمِيعًا فَإِن ذَلِك مطاوعة لداعية السماحة، وَأَيْضًا كثيرا مَا لَا يكون الْحق لَهُ، ويظن أَن الْحق لَهُ فَلَا يخرج
عَن الْعهْدَة بِالْيَقِينِ إِلَّا إِذا وَطن نَفسه على ترك الْخُصُومَة فِي الْحق وَالْبَاطِل جَمِيعًا، وَفِي الحَدِيث " إِن رجلَيْنِ تداعيا دَابَّة فَأَقَامَ كل وَاحِد مِنْهُمَا الْبَيِّنَة أَنَّهَا دَابَّته نتجها فَقضى بهَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم للَّذي فِي يَده.
أَقُول: والسر فِي ذَلِك أَن الحجتين لما تَعَارَضَتَا تساقطتا فَبَقيَ الْمَتَاع فِي يَد صَاحب الْقَبْض لعدم مَا يَقْتَضِي رده، أَو نقُول اعتضدت إِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ بِالدَّلِيلِ الظَّاهِر وَهُوَ الْقَبْض فرجحت.
وَأما الْمقَام الثَّانِي فشرع النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِيهِ أصولا يرجع إِلَيْهَا: وَالْجُمْلَة فِي ذَلِك أَن جلية الْحَال إِذا كَانَت مَعْلُومَة فالنزاع يكون إِمَّا فِي طلب كل وَاحِد شَيْئا وَهُوَ مُبَاح فِي الأَصْل وَحكمه أبدا التَّرْجِيح إِمَّا بِزِيَادَة صفة يكون فِيهَا نفع للْمُسلمين وَلذَلِك الشَّيْء أَو سَبْعَة أَحدهمَا إِلَيْهِ أَو بِالْقُرْعَةِ مِثَاله فقضية زيد. وَعلي. وجعفر رضي الله عنهم فِي حضَانَة بنت حَمْزَة رضي الله عنه فَقضى بهَا لجَعْفَر رضي الله عنه، وَقَالَ:" الْخَالَة أم "، وَقَوله صلى الله عليه وسلم فِي الْأَذَان:" لَا ستهموا " وَكَانَ صلى الله عليه وسلم إِذا أَرَادَ سفرا أَقرع بَين نِسَائِهِ، وَأما أَن يكون هُنَاكَ سَابِقَة من عقد أَو غصب يَدعِي كل وَاحِد أَنه أَحَق، وَيكون لكل وَاحِد شُبْهَة وَحِكْمَة اتِّبَاع الْعرف وَالْعَادَة الْمسلمَة عِنْد جُمْهُور النَّاس يُفَسر الأقارير وألفاظ الْعُقُود بِمَا عِنْد جمهورهم من الْمَعْنى وَيعرف الأضرار وَغَيرهَا بِمَا عِنْدهم، مِثَاله قَضِيَّة الْبَراء ابْن عَازِب دخلت نَاقَته حَائِطا فأفسدت فِيهِ، وأدعى كل وَاحِد أَنه مَعْذُور فَقضى بِمَا
هُوَ الْمَعْرُوف من عَادَتهم من حفظ أهل الحوائط أَمْوَالهم بِالنَّهَارِ وَحفظ أهل الْمَوَاشِي مَوَاشِيهمْ بِاللَّيْلِ.
وَمن الْقَوَاعِد المبنية عَلَيْهَا كثير من الْأَحْكَام أَن الْغنم بالغرم، وَأَصله
مَا قضى النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَن الْخراج بِالضَّمَانِ وَذَلِكَ لعسر ضبط الْمَنَافِع، وَإِن قسم الْجَاهِلِيَّة ودمائها وَمَا كَانَ فِيهَا لَا يتَعَرَّض بهَا، وَأَن الْأَمر مُسْتَأْنف بعْدهَا، وَأَن الْيَد لَا تنقص إِلَّا بِدَلِيل آخر وَهُوَ أصل الِاسْتِصْحَاب وَأَنه إِن انسد بَاب التفتيش فَالْحكم أَن يكون مَا يُريدهُ صَاحب المَال أَو يترادا، وَالْأَصْل فِيهِ قَوْله صلى الله عليه وسلم:
" البيعان إِذا اخْتلفَا بَينهمَا والسلعة قَائِمَة " الحَدِيث وَأَن الأَصْل فِي كل عقد أَن يُوفي لكل أحد وعَلى كل أحد مَا الْتَزمهُ بعقده إِلَّا أَن يكون عقدا نهى الشَّرْع عَنهُ، وَهُوَ قَوْله صلى الله عليه وسلم:" الْمُسلمُونَ على شروطهم إِلَّا شرطا أحل حَرَامًا أَو حرم حَلَال " فَهَذِهِ نبذ مِمَّا شرع النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي الْمقَام الثَّانِي.
وَمن القضايا الَّتِي قضى فِيهَا رَسُول الله قَضِيَّة صلى الله عليه وسلم قضيت بنت حَمْزَة رضي الله عنه فِي الْحَضَانَة حَيْثُ قَالَ عَليّ رضي الله عنه. بنت عمي وَأَنا أَخَذتهَا، وَقَالَ جَعْفَر رضي الله عنه: بنت عمي وخالتها تحتي، وَقَالَ زيد رضي الله عنه: بنت أخي فَقضى بهَا لجَعْفَر رضي الله عنه، وَقَالَ: الْخَالَة بِمَنْزِلَة الْأُم ".
وَقَضِيَّة ابْن وليدة زَمعَة فِي الدعْوَة حَيْثُ قَالَ سعد: إِن أخي قد عهد إِلَيّ فِيهِ، وَقَالَ عبد بن زَمعَة ابْن وليدة أبي ولد على فرَاشه، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم ": هُوَ لَك يَا عبد ابْن زَمعَة الْوَلَد للْفراش وللعاهر الْحجر ".
وَقَضِيَّة زيد رضي الله عنه. والأنصاري فِي شراج الْحرَّة فَأَشَارَ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَمر لَهما فِي سَعَة " اسْقِ يَا زبير ثمَّ أرسل إِلَى جَارك فَغَضب الْأنْصَارِيّ، فاستوعى لزبير حَقه قَالَ: احْبِسْ المَاء حَتَّى يرجع إِلَى الْجدر ".
وَقَضِيَّة نَاقَة برَاء بن عَازِب رضي الله عنه دخلت حَائِطا لرجل من الْأَنْصَار فأفسدت فِيهِ فَقضى صلى الله عليه وسلم أَن على أهل الْأَمْوَال حفظهَا بِالنَّهَارِ وعَلى أهل الْمَوَاشِي حفظهَا بِاللَّيْلِ.
وَقضى صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَة فِيمَا لم يقسم فَإِذا وَقعت الْحُدُود وصرفت الطّرق فَلَا شُفْعَة، وَقد ذكرنَا فِيمَا سبق وُجُوه هَذِه القضايا.
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:
" إِذا اختلفتم فِي الطَّرِيق جعل عرضه سَبْعَة أَذْرع ".