المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(قصة حجة الوداع) - حجة الله البالغة - جـ ٢

[ولي الله الدهلوي]

فهرس الكتاب

- ‌(الستْرَة)

- ‌(الْأُمُور الَّتِي لَا بُد مِنْهَا فِي الصَّلَاة)

- ‌(أذكار الصَّلَاة وهيأتها الْمَنْدُوب إِلَيْهَا)

- ‌‌‌(مَا لَا يجوز فِي الصَّلَاة

- ‌(مَا لَا يجوز فِي الصَّلَاة

- ‌(سُجُود السَّهْو)

- ‌(سُجُود التِّلَاوَة)

- ‌(النَّوَافِل)

- ‌(الاقتصاد فِي الْعَمَل)

- ‌(بَاب صَلَاة المعذورين)

- ‌(الْجَمَاعَة)

- ‌(الْجُمُعَة)

- ‌(العيدان)

- ‌(الْجَنَائِز)

- ‌(من أَبْوَاب الزَّكَاة)

- ‌(فضل الْإِنْفَاق وكراهية الْإِمْسَاك)

- ‌(مقادير الزَّكَاة)

- ‌(المصارف)

- ‌(أُمُور تتَعَلَّق بِالزَّكَاةِ)

- ‌(من أَبْوَاب الصَّوْم)

- ‌(فضل الصَّوْم)

- ‌(أَحْكَام الصَّوْم)

- ‌(أُمُور تتَعَلَّق بِالصَّوْمِ)

- ‌(من أَبْوَاب الْحَج)

- ‌(صفة الْمَنَاسِك)

- ‌(قصَّة حجَّة الْوَدَاع)

- ‌(أُمُور تتَعَلَّق بِالْحَجِّ)

- ‌(من أَبْوَاب الْإِحْسَان)

- ‌(الْأَذْكَار وَمَا يتَعَلَّق بهَا)

- ‌(بَقِيَّة مبَاحث الاحسان)

- ‌(المقامات وَالْأَحْوَال)

- ‌(من أَبْوَاب ابْتِغَاء الرزق)

- ‌(الْبيُوع الْمنْهِي عَنْهَا)

- ‌(أَحْكَام البيع)

- ‌(التَّبَرُّع والتعاون)

- ‌(الْفَرَائِض)

- ‌(من أَبْوَاب تَدْبِير الْمنزل)

- ‌(الْخطْبَة وَمَا يتَعَلَّق بهَا)

- ‌(ذكر العورات)

- ‌(صفة النِّكَاح)

- ‌(الْمُحرمَات)

- ‌(آدَاب الْمُبَاشرَة)

- ‌(حُقُوق الزَّوْجِيَّة)

- ‌(الطَّلَاق)

- ‌(الْخلْع. وَالظِّهَار. وَاللّعان. والايلآء)

- ‌(الْعدة)

- ‌(تربية الْأَوْلَاد والمماليك)

- ‌(الْعَقِيقَة)

- ‌(من أَبْوَاب سياسة المدن)

- ‌(الْخلَافَة)

- ‌(الْمَظَالِم)

- ‌(الْحُدُود)

- ‌(الْقَضَاء)

- ‌(الْجِهَاد)

- ‌(من أَبْوَاب الْمَعيشَة)

- ‌(الْأَطْعِمَة والأشربة)

- ‌(آدَاب الطَّعَام)

- ‌(المسكرات)

- ‌(اللبَاس. والزينة. والأواني وَنَحْوهَا)

- ‌(آدَاب الصُّحْبَة)

- ‌(وَمِمَّا يتَعَلَّق بِهَذَا المبحث أَحْكَام النذور والايمان)

- ‌(من أَبْوَاب شَتَّى)

- ‌(سير النَّبِي صلى الله عليه وسلم

- ‌(الْفِتَن)

- ‌(المناقب)

الفصل: ‌(قصة حجة الوداع)

إِجْمَالا أَن لَهما سَببا آخر غير منقض فَلم يتركهما.

وَإِنَّمَا لم يشرع الْوُقُوف بِعَرَفَة فِي الْعمرَة لِأَنَّهَا لَيْسَ لَهَا وَقت معِين ليتَحَقَّق معنى الِاجْتِمَاع فَلَا فَائِدَة للوقوف بهَا، وَلَو شرع لَهَا وَقت معِين كَانَت حجا، وَفِي الِاجْتِمَاع مرَّتَيْنِ فِي السّنة مَا لَا يخفى.

وَإِنَّمَا الْعُمْدَة فِي الْعمرَة تَعْظِيم بَيت الله وشكر نعْمَة الله.

والسر فِي السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة على مَا ورد فِي الحَدِيث أَن هَاجر أم إِسْمَعِيل عليه السلام لما اشْتَدَّ بهَا الْحَال سعت بَينهمَا سعي الْإِنْسَان المجهود، فكشف الله عَنْهُمَا الْجهد بابداء زَمْزَم، وإلهام الرَّغْبَة فِي النَّاس أَن يعمروا تِلْكَ الْبقْعَة، فَوَجَبَ شكر تِلْكَ النِّعْمَة على أَوْلَاده وَمن تَبِعَهُمْ، وتذكر تِلْكَ الْآيَة الخارقة لتبهت بهيميتهم، وتدلهم على الله، وَلَا شَيْء فِي هَذَا مثل أَن يعضد عقد الْقلب بهما بِفعل ظَاهر منضبط مُخَالف لمألوف الْقَوْم فِيهِ تذلل عِنْد أول دُخُولهمْ مَكَّة وَهُوَ محاكاة مَا كَانَت فِيهِ من العناء والجهد، وحكاية الْحَال فِي مثل هَذَا أبلغ بِكَثِير من لِسَان الْمقَال.

قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: " لَا ينفرن أحدكُم حَتَّى يكون آخر عَهده بِالْبَيْتِ وخفف عَن الْحَائِض " أَقُول: السِّرّ فِيهِ تَعْظِيم الْبَيْت بِأَن يكون هُوَ الأول وَهُوَ الآخر تصويرا لكَونه هُوَ الْمَقْصُود من السّفر، وموافقة لعادتهم فِي توديع الْوُفُود مُلُوكهَا عِنْد النَّفر، وَالله أعلم.

(قصَّة حجَّة الْوَدَاع)

الأَصْل فِيهَا حَدِيث جَابر. وَعَائِشَة. وَابْن عمر. وَغَيرهم رضي الله عنهم. اعْلَم أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مكث بِالْمَدِينَةِ تسع سِنِين لم يحجّ، ثمَّ أذن فِي النَّاس فِي الْعَاشِرَة أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حَاج، فَقدم الْمَدِينَة بشر كثير، فَخرج حَتَّى أَتَى ذَا الحليفة، فاغتسل، وتطيب، وَصلى رَكْعَتَيْنِ فِي الْمَسْجِد، وَلبس إزارا ورداء، وَأحرم، ولبى، لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك، لبيْك لَا شريك لَك لبيْك، إِن الْحَمد وَالنعْمَة لَك وَالْملك، لَا شريك لَك.

أَقُول: اخْتلف هَهُنَا فِي موضِعين: أَحدهمَا أَن نُسكه ذَلِك كَانَ حجا مُفردا، أَو مُتْعَة، بِأَن حل من الْعمرَة، واستأنف الْحَج، أَو أَنه أحرم بِالْحَجِّ، ثمَّ أَشَارَ لَهُ جِبْرِيل عليه السلام أَن يدْخل الْعمرَة عَلَيْهِ، فَبَقيَ على إِحْرَامه حَتَّى فرغ من الْحَج، وَلم يحل لِأَنَّهُ كَانَ سَاق الْهدى.

ص: 95

وَثَانِيهمَا أَنه أهل حِين صلى أَو حِين ركب نَاقَته أَو حِين أشرف على الْبَيْدَاء. وَبَين ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما أَن النَّاس كَانُوا يأتونه أَرْسَالًا، فَأخْبر كل وَاحِد بِمَا رَآهُ، وَقد كَانَ أول إهلاله حِين صلى رَكْعَتَيْنِ، وَإِنَّمَا اغْتسل وَصلى رَكْعَتَيْنِ لِأَن ذَلِك أقرب لتعظيم شَعَائِر الله، وَلِأَنَّهُ ضبط للنِّيَّة بِفعل ظَاهر منضبط يدل على الْإِخْلَاص لله والاهتمام بِطَاعَة الله، وَلِأَن تَغْيِير اللبَاس بِهَذَا النَّحْو يُنَبه النَّفس، ويوقظها للتواضع لله تَعَالَى، وَإِنَّمَا تطيب لِأَن الْإِحْرَام حَال الشعث والتفل، فَلَا بُد من تدارك لَهُ قبل ذَلِك، وَإِنَّمَا اخْتَار هَذِه الصِّيغَة فِي التَّلْبِيَة لِأَنَّهَا تَعْبِير عَن قِيَامه بِطَاعَة مَوْلَاهُ وتذكر لَهُ ذَلِك، وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يعظمون شركاءهم، فَأدْخل النَّبِي صلى الله عليه وسلم لَا شريك لَك " ردا على هَؤُلَاءِ وتمييزا للْمُسلمين مِنْهُم، وَيسْتَحب زِيَادَة سُؤال الله رضوانه وَالْجنَّة واستعفاءه برحمته من النَّار.

وَأَشَارَ جِبْرِيل عليه السلام بِرَفْع أَصْوَاتهم بِالْإِحْرَامِ والتلبية وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

(مَا من مُسلم يُلَبِّي إِلَّا لبّى مَا عَن يَمِينه وشماله من حجر أَو شجر أَو مدر حَتَّى تَنْقَطِع الأَرْض من هَهُنَا وَهَهُنَا) أَقُول: سره أَنه من شَعَائِر الله، وَفِيه تنويه ذكر الله، وكل مَا كَانَ من هَذَا الْبَاب فَإِنَّهُ يسْتَحبّ الْجَهْر بِهِ، وَجعله بِحَيْثُ يكون على رُؤُوس الخامل والنبيه، وبحيث تصير الدَّار دَار الْإِسْلَام، فَإِذا كَانَ كَذَلِك كتب فِي صحيفَة عمله صُورَة تَلْبِيَة تِلْكَ الْمَوَاضِع:

وأشعر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم نَاقَته فِي صفحة سنامها الْأَيْمن وسلت الدَّم عَنْهَا وقلدها نَعْلَيْنِ أَقُول: السِّرّ فِي الْإِشْعَار التنويه بشعائر الله وَأَحْكَام الْملَّة الحنيفية يرى ذَلِك مِنْهُ الأقاصي والأداني، وَأَن يكون فعل الْقلب منضبطا بِفعل ظَاهر:

وَولدت أَسمَاء بنت عُمَيْس بِذِي الحليفة فَقَالَ لَهَا " اغْتَسِلِي واستثفري بِثَوْب وأحرمي " أَقُول: ذَلِك لتأتي بِقدر الميسور من سنة الْإِحْرَام.

وَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم حِين حَاضَت عَائِشَة رضي الله عنها بسرف: إِن ذَلِك شَيْء كتبه الله على بَنَات آدم فافعلي مَا يفعل الْحَاج غير أَلا تطوفي بِالْبَيْتِ حَتَّى تطهري " أَقُول: مهد الْكَلَام بِأَنَّهُ شَيْء يكثر وُقُوعه، فَمثل هَذَا الشَّيْء يجب فِي حِكْمَة الشَّرَائِع

ص: 96

أَن يدْفع عَنهُ الْحَرج، وَأَن يسن لَهُ سنة ظَاهِرَة فَلذَلِك سقط عَنْهَا طواف الْقدوم وَطواف الْوَدَاع.

فَلَمَّا دنا من مَكَّة نزل بِذِي طوى، وَدخل مَكَّة من أَعْلَاهَا نَهَارا، وَخرج

من أَسْفَلهَا، وَذَلِكَ ليَكُون دُخُول مَكَّة فِي حَال اطمئنان الْقلب دون التَّعَب، لتمكن من استشعار جلال الله وعظمته، وَأَيْضًا ليَكُون طَوَافه بِالْبَيْتِ على أعين النَّاس فَإِنَّهُ أنوه بِطَاعَة الله، وَأَيْضًا فَكَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يُرِيد أَن يعلمهُمْ سنة الْمَنَاسِك، فأمهلهم حَتَّى يجتمعوا لَهُ جامعين متهيئين وَإِنَّمَا خَالف فِي الطَّرِيق ليظْهر شَوْكَة الْمُسلمين فِي كلتا الطَّرِيقَيْنِ، وَنَظِيره الْعِيد.

فَلَمَّا أَتَى الْبَيْت اسْتَلم الرُّكْن، وَطَاف سبعا، رمل ثَلَاثًا، وَمَشى أَرْبعا، وَخص الرُّكْنَيْنِ اليمانيين بالاستلام، وَقَالَ فِيمَا بَينهمَا:{رَبنَا آتنا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة وقنا عَذَاب النَّار} .

ثمَّ تقدم إِلَى مقَام إِبْرَاهِيم، فَقَرَأَ:{وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى} .

فصلى ركعيتن، وَجعل الْمقَام بَينه وَبَين الْبَيْت، وَقَرَأَ فيهمَا:{قل هُوَ الله أحد} .

و {قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ} .

ثمَّ رَجَعَ إِلَى الرُّكْن فاستلمه.

أَقُول أما سر الرمل والاضطباع فقد ذَكرْنَاهُ، وَإِنَّمَا خص الرُّكْنَيْنِ اليمانيين بالاستلام لما ذكره ابْن عمر من أَنَّهُمَا باقيان على بِنَاء إِبْرَاهِيم عليه السلام دون الرُّكْنَيْنِ الآخرين فَإِنَّهُمَا من تغييرات أهل الْجَاهِلِيَّة، وَإِنَّمَا اشْترط لَهُ شُرُوط الصَّلَاة لما ذكره ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما من أَن الطّواف يشبه الصَّلَاة فِي تَعْظِيم الْحق وشعائره، فَحمل عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا سنّ رَكْعَتَيْنِ بعده

إتماما لتعظيم الْبَيْت، فَإِن تَمَامه أَن يسْتَقْبل فِي صلواتهم، وَإِنَّمَا خص بهما مقَام إِبْرَاهِيم لِأَنَّهُ أشرف مَوَاضِع الْمَسْجِد، وَهُوَ آيَة من آيَات الله ظَهرت على سيدنَا إِبْرَاهِيم، وتذكر هَذِه الْأُمُور هِيَ الْعُمْدَة فِي الْحَج، وَإِنَّمَا اسْتحبَّ أَن يَقُول بَين الرُّكْنَيْنِ:{رَبنَا آتنا فِي الدُّنْيَا فِي الْحَسَنَة وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة} الخ لِأَنَّهُ دُعَاء جَامع نزل بِهِ الْقُرْآن، وَهُوَ قصير اللَّفْظ يُنَاسب تِلْكَ الفرصة القليلة.

ثمَّ خرج من الْبَاب إِلَى الصَّفَا، فَلَمَّا دنا من الصَّفَا قَرَأَ {إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله} أبدأ بِمَا بَدَأَ بِهِ، فَبَدَأَ بالصفا، ورقي عَلَيْهِ حَتَّى رأى الْبَيْت، فَاسْتقْبل

ص: 97

الْقبْلَة، فَوحد الله، وَكبره، وَقَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ لَهُ الْملك وَله الْحَمد وَهُوَ على كل شَيْء قدير، لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده أنْجز وعده وَنصر عَبده وَهزمَ الْأَحْزَاب وَحده، ثمَّ دَعَا بَين ذَلِك قَالَ مثل هَذَا ثَلَاث مَرَّات، ثمَّ نزل، وَمَشى إِلَى الْمَرْوَة حَتَّى إِذا انصبت قدماه فِي بطن الْوَادي سعى حَتَّى إِذا صعدتا مَشى حَتَّى أَتَى الْمَرْوَة، فَفعل على الْمَرْوَة كَمَا فعل على الصَّفَا.

أَقُول: فهم النَّبِي صلى الله عليه وسلم من هَذِه الْآيَة أَن تَقْدِيم الصَّفَا على الْمَرْوَة إِنَّمَا هُوَ لتوفيق الْمَذْكُور بالمشروع، وَإِنَّمَا خص من الْأَذْكَار مَا فِيهِ تَوْحِيد وَبَيَان لإنجاز الْوَعْد وَنَصره على أعدائه تذكيرا لنعمه وإظهارا لبَعض معجزاته وقطعا لدابر الشّرك وبيانا أَن كل ذَلِك مَوْضُوع تَحت قَدَمَيْهِ وإعلانا لكلمة الله وَدينه فِي مثل هَذَا الْموضع، ثمَّ قَالَ: " لَو أَنى اسْتقْبلت من أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرت لم أسق الْهدى وجعلتها عمْرَة، فَمن كَانَ مِنْكُم لَيْسَ مَعَه هدى فليحل، وليجعلها عمْرَة، قيل: ألعامنا هَذَا أم لِلْأَبَد. قَالَ: لَا بل لأبد الْأَبَد، فَحل النَّاس كلهم، وَقصرُوا إِلَّا النَّبِي صلى الله عليه وسلم، وَمن كَانَ مَعَه هدى.

أَقُول الَّذِي بدا لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم أُمُور: مِنْهَا أَن النَّاس كَانُوا قبل النَّبِي صلى الله عليه وسلم يرَوْنَ الْعمرَة فِي أَيَّام قبل الْحَج من أفجر الْفُجُور، فَأَرَادَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَن يبطل تحريفهم ذَلِك بأتم وَجه.

وَمِنْهَا أَنهم كَانُوا يَجدونَ فِي صُدُورهمْ حرجا من قرب عَهدهم بِالْجِمَاعِ عِنْد إنْشَاء الْحَج حَتَّى قَالُوا: أناتي عَرَفَة ومذا كيرنا تقطر منيا؟ وَهَذَا من التعمق، فَأَرَادَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَن يسد هَذَا الْبَاب.

وَمِنْهَا أَن إنْشَاء الْإِحْرَام عِنْد الْحَج أتم لعظيمهم الْبَيْت.

وَإِنَّمَا كَانَ سوق الْهدى مَانِعا من الْإِحْلَال لِأَن سوق الْهدى بِمَنْزِلَة النّذر أَن يبْقى على هَيئته تِلْكَ حَتَّى يذبح الْهدى، وَالَّذِي يلتزمه الْإِنْسَان إِذا كَانَ حَدِيث نفس أَو نِيَّة غير مضبوطة بِالْفِعْلِ لَا عِبْرَة بِهِ، وَإِذا اقْترن بهَا فعل وَصَارَت مضبوطة وَجَبت رعايتها، والضبط مُخْتَلف، فأدناه بِاللِّسَانِ، وأقواه أَن يكون مَعَ القَوْل فعل عَلَانيَة يخْتَص بالحالة الَّتِي أرادها كالسوق.

فَلَمَّا كَانَ يَوْم التَّرويَة توجهوا إِلَى منى، فأهلوا بِالْحَجِّ، وَركب النَّبِي صلى الله عليه وسلم، فصلى بهَا الظّهْر. وَالْعصر. وَالْمغْرب. وَالْعشَاء. وَالْفَجْر، ثمَّ مكث قَلِيلا حَتَّى طلعت الشَّمْس، فَسَار حَتَّى نزل بنمرة.

ص: 98

أَقُول: إِنَّمَا توجه يَوْم التَّرويَة ليَكُون أرْفق بِهِ وَمِمَّنْ مَعَه، فَإِن النَّاس مجتمعون فِي ذَلِك الْيَوْم اجتماعا عَظِيما، وَفِيهِمْ الضَّعِيف والسقيم، فاستحب الرِّفْق بهم، وَلم يدْخل عَرَفَة قبل وَقتهَا لِئَلَّا يتخذها النَّاس سنة، ويعتقدوا أَن دُخُولهَا فِي غير وَقتهَا قربَة.

فَلَمَّا زاغت الشَّمْس بنمرة أَمر بالقصواء فرحلت لَهُ، فَأتى بطن

الْوَادي، فَخَطب النَّاس، وَحفظ من خطبَته يَوْمئِذٍ " إِن دماءكم حرَام " الخ، ثمَّ أذن بِلَال، ثمَّ أَقَامَ فصلى الظّهْر، ثمَّ أَقَامَ فصلى الْعَصْر، وَلم يصل بَينهمَا شَيْئا.

أَقُول: إِنَّمَا خطب يَوْمئِذٍ بِالْأَحْكَامِ الَّتِي يحْتَاج النَّاس إِلَيْهَا، وَلَا يسعهم جهلها لِأَن الْيَوْم يَوْم اجْتِمَاع، وَإِنَّمَا تنتهز مثل هَذِه الفرصة لمثل هَذِه الْأَحْكَام الَّتِي يُرَاد تبليغها إِلَى جُمْهُور النَّاس، وَإِنَّمَا جمع بَين الظّهْر وَالْعصر وَبَين الْمغرب وَالْعشَاء لِأَن للنَّاس يَوْمئِذٍ اجتماعا لم يعْهَد فِي غير هَذَا الموطن، وَالْجَمَاعَة الْوَاحِدَة الْمَطْلُوبَة، وَلَا بُد من إِقَامَتهَا فِي مثل هَذَا الْجمع ليراه جَمِيع من هُنَالك وَلَا يَتَيَسَّر اجْتِمَاعهم فِي وَقْتَيْنِ، وَأَيْضًا فَلِأَن للنَّاس اشتغالا بِالذكر وَالدُّعَاء وهما وَظِيفَة هَذَا الْيَوْم ورعاية الْأَوْقَات وَظِيفَة جَمِيع السّنة، وَإِنَّمَا يرجح فِي مثل هَذَا الشَّيْء البديع النَّادِر.

ثمَّ ركب حَتَّى أَتَى الْموقف، واستقبل الْقبْلَة، فَلم يزل وَاقِفًا حَتَّى غربت الشَّمْس، وَذَهَبت الصُّفْرَة قَلِيلا، ثمَّ دفع.

أَقُول: إِنَّمَا دفع بعد الْغُرُوب ردا لتحريف الْجَاهِلِيَّة فَإِنَّهُم كَانُوا لَا يدْفَعُونَ إِلَّا قبل الْغُرُوب، وَلِأَن قبل الْغُرُوب غير مضبوط وَبعد الْغُرُوب أَمر مضبوط، وَإِنَّمَا يُؤمر فِي مثل ذَلِك الْيَوْم بِالْأَمر المضبوط.

ثمَّ دفع حَتَّى أَتَى الْمزْدَلِفَة، فصلى بهَا الْمغرب وَالْعشَاء بِأَذَان وَإِقَامَتَيْنِ وَلم يسبح بَينهمَا، ثمَّ اضْطجع حَتَّى طلع الْفجْر، فصلى الْفجْر حِين تبين لَهُ الصُّبْح بِأَذَان وَإِقَامَة، ثمَّ ركب الْقَصْوَاء حَتَّى أَتَى الْمشعر الْحَرَام، فَاسْتقْبل الْقبْلَة، فَدَعَا الله، وَكبره، وَهَلله، وَوَحدهُ، فَلم يزل وَاقِفًا حَتَّى أَسْفر جدا فَدفع قبل أَن تطلع الشَّمْس حَتَّى أَتَى بطن محسر، فحرك قَلِيلا.

أَقُول: إِنَّمَا لم يتهجد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي لَيْلَة مُزْدَلِفَة لِأَنَّهُ كَانَ لَا يفعل كثيرا من الْأَشْيَاء المستحبة فِي المجامع لِئَلَّا يتخذها النَّاس سنة، وَقد ذكرنَا سر الْوُقُوف بالمشعر

ص: 99

الْحَرَام، وَإِنَّمَا أوضع بمسحر لِأَنَّهُ مَحل هَلَاك أَصْحَاب الْفِيل، فَمن شَأْن من خَافَ الله وسطوته أَن يستشعر الْخَوْف فِي ذَلِك الموطن، ويهرب من الْغَضَب، وَلما كَانَ استشعاره أمرا خفِيا ضبط بِفعل ظَاهر مُذَكّر لَهُ مُنَبّه للنَّفس عَلَيْهِ.

ثمَّ أَتَى جَمْرَة الْعقبَة، فَرَمَاهُ بِسبع حَصَيَات يكبر مَعَ كل حَصَاة مِنْهَا مثل حَصى الْخذف رمى من بطن الْوَادي.

أَقُول: إِنَّمَا كَانَ رمي الْجمار فِي الْيَوْم الأول غدْوَة، وَفِي سَائِر الْأَيَّام عَشِيَّة، لِأَن من وَظِيفَة الأول النَّحْر وَالْحلق والإفاضة، وَهِي كلهَا بعد الرَّمْي، فَفِي كَونه غدْوَة توسعة، وَأما سَائِر الْأَيَّام فأيام تِجَارَة وَقيام أسواق، فالأسهل أَن يَجْعَل ذَلِك بعد مَا يفرغ من حَوَائِجه، وَأكْثر مَا كَانَ الْفَرَاغ فِي آخر النَّهَار، وَإِنَّمَا كَانَ رمى الْجمار توا، وَالسَّعْي بَين الصَّفَا والمروة توا لما ذكرنَا من أَن الْوتر عدد مَحْبُوب، وَأَن خَليفَة الْوَاحِد الْحَقِيقِيّ هُوَ الثَّلَاثَة أَو السَّبْعَة، فبالحري أَلا يتَعَدَّى من السَّبْعَة إِن كَانَ فِيهَا كِفَايَة، وَإِنَّمَا رمي بِمثل حَصى الْخذف لِأَن دونهَا غير محسوس، وفوقها رُبمَا يُؤْذى فِي مثل هَذَا الْموضع.

ثمَّ انْصَرف إِلَى المنحر فَنحر ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَة بِيَدِهِ، ثمَّ أعْطى عليا رضي الله عنه لينحر مَا غبر، وأشركه فِي هَدْيه، ثمَّ أَمر من كل بَدَنَة ببضعة فَجعلت فِي قدر، فطبخت، فأكلا من لَحمهَا وشربا من مرقها.

أَقُول: إِنَّمَا نحر بِيَدِهِ هَذَا الْعدَد، ليشكر مَا أولاه الله فِي كل سنة من عمره ببدنة، وَإِنَّمَا أكل مِنْهَا وَشرب اعتناء بِالْهدى وتبركا بِمَا كَانَ لله تَعَالَى.

قَالَ صلى الله عليه وسلم " نحرت هَهُنَا، وَمنى كلهَا منحر، فَانْحَرُوا فِي رحالكُمْ، ووقفت هَهُنَا، وعرفة كلهَا موقف، ووقفت هَهُنَا، وَجمع كلهَا موقف " وَزَاد فِي رِوَايَة وكل فجاج مَكَّة طَرِيق ومنحر " أَقُول: فرق النَّبِي صلى الله عليه وسلم بَين مَا فعله تشريعا لَهُم وَبَين مَا فعله بِحَسب الِاتِّفَاق أَو لمصْلحَة خَاصَّة بذلك الْيَوْم أَو اخْتِيَارا لمحاسن الْأَمر.

ثمَّ ركب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَأَفَاضَ إِلَى الْبَيْت، فصلى بِمَكَّة الظّهْر، وَطَاف وَشرب من زَمْزَم.

أَقُول: إِنَّمَا بَادر إِلَى الْبَيْت لتَكون الطَّاعَة فِي أول وَقتهَا، وَلِأَنَّهُ لَا يَأْمَن الْإِنْسَان أَن يكون لَهُ مَانع، وَإِنَّمَا شرب من زَمْزَم تَعْظِيمًا لشعائر الله وتبركا بِمَا أظهره الله رَحْمَة.

فَلَمَّا انْقَضتْ أَيَّام منى نزل بِالْأَبْطح، وَطَاف للوداع، وَنَفر.

ص: 100