الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خامسا: التنزيه عن النقائص المطلقة:
ثبوت المثل الأعلى أو الكمال المطلق لله ـ تعالى ـ يدل سمعًا على تنزيهه عن جميع صفات النقص المطلق ـ وهي ما كانت نقصًا في حق الخالق والمخلوق ـ، لأن إثبات الشيء نفي لضده ولما يستلزم ضده. يقول ابن تيمية رحمه الله:"السمع قد أثبت له من الأسماء الحسنى وصفات الكمال ما قد ورد، فكل ما ضاد ذلك فالسمع ينفيه، كما ينفي عنه المثل والكفء، فإن إثبات الشيء نفي لضده ولما يستلزم ضده. والعقل يعرف نفي ذلك كما يعرف إثبات ضده، فإثبات أحد الضدين نفي للآخر وما يستلزمه"(1).
وعلى هذا الأصل المحكم بنى علماء السلف تنزيه الرب عن النقائص المطلقة التي لم يصرح السمع بنفيها عن الله تعالى بأعيانها، كتلك التي افتراها اليهود ـ لعنهم الله ـ من وصف الرب بالحزن والندم، والبكاء والمرض، والكذب والغفلة والجهل!! وغير ذلك مما تطفح به أسفارهم المحرَّفة وخاصة أسفار التلمود! (2)، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
أما المتكلمون فقد بنوا تنزيه الرب عن هذه النقائص على نفي الجسم، فقالوا: لو اتصف الرب بها لكان جسما، والجسم على الله محال، لتماثل الأجسام فيما يجب ويجوز ويمتنع، ولأنها لا تخلو من الأعراض الحادثة، وما لا يخلو من الحوادث فهو محدث، ولأن الجسم مركب من أجزائه والمركب مفتقر لغيره، ولأن الجسم
(1) الرسالة التدمرية ص139.
(2)
انظر: الملل والنحل للشهرستاني 1/ 106، الرسالة التدمرية لابن تيمية ص132، الأسفار المقدسة لعلي وافي ص26 - 40.
محدود متناه لابد له من مخصص يخصه ببعض الأشكال، وما افتقر إلى غيره لم يكن إلها! (1).
وهذا الأصل لا يصلح اعتباره مناطا للتنزيه لعدة أسباب، منها:
1 -
أنه دليل مبتدع: فلم يرد نفي الجسم في الكتاب ولا السنة، لا في سياق الرد على اليهود، ولا على غيرهم من الكفار، ولم ينطق أحد من علماء السلف بلفظ الجسم لا نفيا ولا إثباتا، ولهذا لا يجوز اعتباره مناطا لما ينزه عنه الرب من الصفات (2).
2 -
أنه مخالف للفطرة: فقد فطر الله عباده على العلم بأن طرق المطالب الإلهية الكلية يقينية وغير مركبة، وعلى أن طريقة الاستدلال في الأمور الحسية والعقلية إنما تكون بالأجلى على الأخفى، لأن الدليل معرف للمدلول ومبين له. ودليل المتكلمين في التنزيه مخالف لهذه الفطرة العامة، لأن انتفاء الحزن والبكاء والمرض وسائر النقائص أظهر من انتفاء الجسم، لكثرة ما يتوقف عليه نفي الجسم من مقدمات، وكثرة ما تشتمل عليه مقدماته من شكوك تعتاص على المهرة بعلم الكلام فضلا عن عامة الخلق! (3).
(1) انظر: شرح المقاصد للتفتازاني 4/ 43 - 47.
وقد فرع المتكلمون أصلهم في التنزيه إلى طرق كثيرة ترجع إلى ثلاث طرق: طريق الأعراض، وطريق التركيب، وطريق الاختصاص. انظر: درء التعارض لابن تيمية 7/ 141، 142، 8/ 24.
(2)
انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية 6/ 74، الرسالة التدمرية له أيضا ص135، 136.
(3)
انظر: الكشف عن مناهج الأدلة لابن رشد ص47 - 49 (ضمن فلسفة ابن رشد)، الرسالة التدمرية لابن تيمية ص133.
3 -
أنه مخالف للعقل: لأن كل من نفى صفة فرارا من التجسيم فلابد أن يلزمه التجسيم فيما يثبته حتى تكون الغاية صفة الوجود، فإن طرد دليله قاده إلى التعطيل الأكبر المعلوم بطلانه بضرورة العقل، وإن نقض دليله تناقض، ولزمه التفريق بين المتماثلات، فمخالفة العقل لازمة له على كلا التقديرين، تقدير الطرد أو النقض! (1).
4 -
أنه مخالف للغة: فالجسم عند المتكلمين بمعنى المركب من الجواهر الفريدة، وهي في نظرهم متماثلة في صفات نفس الجوهر، وهي التحيز وقبول الأعراض والقيام بالنفس، ولهذا قالوا بتماثل الأجسام!.
والتعبير عن هذا المعنى بلفظ الجسم بدعة لغوية، لأن الجسم في اللغة بمعنى البدن. وليس هذا مجرد وضع اصطلاحي لا تنبغي المشاحة فيه، وذلك لأنه مشتمل على إيهام وتلبيس، فإذا نُفِيَ الجسم انصرف ذهن السامع لما ينزه الله عنه من الاتصاف بالبدن فيسلم بعموم النفي، فإذا سلم ألزموه نفي صفات الكمال، لأنها أعراض لو قامت بالرب لكان جسما، والأجسام متماثلة! (2).
وقد أطال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بيان ما اشتمل عليه أصل التجسيم من دعاوى باطلة، كإثبات الجوهر الفريد، والزعم بأن الأجسام مركبة منها، ودعوى تماثل الأجسام في
(1) انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية 6/ 44 - 51، 74، 75، الرسالة التدمرية لابن تيمية أيضا ص134، 135.
(2)
انظر: القاموس المحيط للفيروز آبادي 4/ 91، وانظر أيضا: مجموع الفتاوى 5/ 364، 419 - 430، الرسالة التدمرية ص53، 54، 121، 122، درء التعارض 4/ 176 - 180، 5/ 192، 193.