الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أو بعبارة أشمل وأضبط أن يكون المقيس مماثلا للمقيس عليه أو أولى بالحكم منه.
استعمال القياس بين صفات الله تعالى:
استعمال القياس في العلم المتعلق بصفات الله تعالى يكون في اعتبار الغائب من أفعال الله بالمشهود منها، ويكون في اعتبار صفات الخالق بما يشاهد من صفات المخلوق، فإن كان الاعتبار في طرفيه متعلقا بأفعال الله وصفاته؛ جاز في ذلك استعمال قياس الأولى والمساواة، والأدلة على ذلك كثيرة. فمن أدلة قياس المساواة النصوص الآتية:
1 -
قوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم: 19]، فقاس النظير على النظير، ودل بفعله المتحقق بالمشاهدة من إخراج وإحياء على بعث الأموات الذي استبعدوه وأنكروه، إذ الفعل الموعود نظير الفعل المشاهد، ومن أنكره لزمه التناقض والتفريق بين المتماثلين، والطعن في علم الرب وحكمته وإرادته وقدرته، ولهذا حكم الله على منكري البعث بكفر الربوبية، قال تعالى:{وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} [الرعد: 5].
وقد تكرر الاستدلال على البعث بإحياء الأرض بالنبات، وذلك لصحة مقدماته، ووضوح دلالته، وقرب تناوله، وبعده عن كل معارض، قال تعالى:{وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج:5، 6]، وقال:
{فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم: 50]، وقال:{وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق: 11]، وقال:{وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت: 39]. يقول ابن القيم: "جعل الله سبحانه إحياء الأرض بعد موتها نظير إحياء الأموات، وإخراج النبات منها نظير إخراجهم من القبور، ودل بالنظير على نظيره، وجعل ذلك آية ودليلا على خمسة مطالب:
أحدها: وجود الصانع، وأنه الحق المبين، وذلك يستلزم إثبات صفات كماله وقدرته وإرادته وحياته وعلمه وحكمته ورحمته وأفعاله.
الثاني: أنه يحيي الموتى.
الثالث: عموم قدرته على كل شيء.
الرابع: إتيان الساعة وأنها لا ريب فيها.
الخامس: أنه يخرج الموتى من القبور كما أخرج النبات من الأرض" (1).
2 -
قوله تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَا يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ} [الأنعام: 133]، فقاس النظير على النظير، وبَيَّنَ أن القدرة على إذهاب المخاطبين كالقدرة على إذهاب السابقين، فإذا ساووهم
(1) إعلام الموقعين 1/ 143، 144، وانظر من نفس المصدر: ص139، 142، 146.
في العلة والمعنى والأعمال؛ ساووهم في الحكم والوعيد والعاقبة، كما قال تعالى:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد: 10]، فأخبر أن حكم الشيء حكم مثله، وكذلك كل موضع أمر فيه بالسير في الأرض فإنه يدل على الاعتبار والحذر أن يحل بالمخاطبين من أفعال الله وأمثلته مثل ما حل بالسابقين! (1).
3 -
ما رواه الإمام البخاري بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلا قال: يا نبي الله! يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟! قال: «أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة» (2)، فقاس الإمشاء على الوجه على الإمشاء على الرجلين، إذ قدرة الرب على الفعل الموعود نظير قدرته على الفعل المشهود. يقول ابن حجر: "المراد بالمشي حقيقته، فلذلك استغربوه حتى سألوا عن كيفيته، وزعم بعض المفسرين أنه مثل، وأنه كقوله:{أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك: 22]، قال مجاهد: هذا مثل المؤمن والكافر. قلت: ولا يلزم من تفسير مجاهد لهذه الآية بهذا أن يفسر به الآية الأخرى (3)، فالجواب الصادر عن النبي صلى الله عليه وسلم ظاهر في تقرير المشي على
(1) انظر: إعلام الموقعين 1/ 134، 138، 139.
(2)
صحيح البخاري بشرحه فتح الباري: كتاب التفسير، باب الذين يحشرون على وجوههم 8/ 492.
(3)
أي قوله تعالى: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 34]، وهي الآية التي ساق الإمام البخاري الحديث في تفسيرها. انظر: كتاب التفسير، باب الذين يحشرون على وجوههم 8/ 492.
حقيقته .... والحكمة في حشر الكافر على وجهه أنه عوقب على عدم السجود لله في الدنيا بأن يسحب على وجهه في القيامة، إظهارا لهوانه، بحيث صار وجهه مكان يده ورجله في التوقي عن المؤذيات" (1).
أما أدلة استعمال قياس الأولى بين صفات الله تعالى فمنها النصوص الآتية:
1 -
قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59]، فقاس القدرة على خلق عيسى على القدرة على خلق آدم، لأن من قدر على الخلق من غير أب ولا أم فقدرته على الخلق من غير أب من باب أولى. يقول ابن تيمية:"شبهه الله بخلق آدم الذي هو أعجب من خلق المسيح، فإذا كان سبحانه قادرا أن يخلقه من تراب والتراب ليس من جنس بدن الإنسان أفلا يقدر أن يخلقه من امرأة هي من جنس بدن الإنسان؟! "(2).
2 -
قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 78 - 82]، فقاس القدرة على الأيسر على القدرة على الأعظم، لأن القدرة على النشأة الأولى، وعلى خلق
(1) فتح الباري 11/ 382، 383.
(2)
الجواب الصحيح 4/ 55، وانظر: إعلام الموقعين لابن القيم 1/ 135.
السماوات والأرض دليل على النشأة الثانية من باب أولى. وقد ذكر الله في ثنايا هذا الدليل الصفات المصححة للإعادة، وهي عموم العلم وتمام القدرة وكمال الإرادة، لأن تعذر الإعادة إنما يكون لقصور في هذه الصفات، ولا قصور في علم من هو بكل شيء عليم، ولا قدرة فوق قدرة من خلق السماوات والأرض، ولا إرادة تعارض من إذا أراد شيئا قال له: كن؛ فيكون! (1).
وقد تكرر الاستدلال على المعاد بخلق الأنفس والآفاق بأفصح العبارات، وأقطعها للعذر، وألزمها للحجة، قال تعالى:{وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [مريم: 66، 67]، وقال:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ......} [الحج: 5]، وقال:{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} [الطارق: 5 - 8]، فدل على الإعادة بالقياس على النشأة الأولى المعلومة والمشهودة، وهي نشأة أصل البشر من تراب لا حياة فيه، ونشأة آحاد بني آدم تدريجيا في الأطوار حتى إحكام الخلق (2).
وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [الإسراء: 99]، وقال:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [الأحقاف: 33]، فقدرة الله التامة على خلق السماوات والأرض دليل
(1) انظر: تفسير الطبري 9/ 15/169، 170، إعلام الموقعين 1/ 132، 140 - 147، تفسير ابن كثير 3/ 65، 66، 582، 4/ 85، 171.
(2)
انظر: روح المعاني للآلوسي 9/ 18/117، تفسير السعدي 5/ 274.