المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

خيرات الدنيا والآخرة (1).   ‌ ‌براهين التوحيد: تفرد الرب بالمثل الأعلى من أعظم - حقيقة المثل الأعلى وآثاره

[عيسى السعدي]

فهرس الكتاب

- ‌ملخص البحث

- ‌حقيقة المثل الأعلى

- ‌المقدمة

- ‌المبحث الأولمعنى المثل الأعلى

- ‌معنى المثل لغة:

- ‌المراد بالمثل الأعلى:

- ‌المبحث الثانيمدلولات المثل الأعلى

- ‌توطئة

- ‌أولا: إمكان وجود الصفة:

- ‌ثانيا: ثبوت الكمال المطلق:

- ‌ثالثا: التنزيه عن النقص النسبي:

- ‌رابعا: التنزيه عن السلب المحض:

- ‌خامسا: التنزيه عن النقائص المطلقة:

- ‌سادسا: التنزيه عن المثل:

- ‌الخاتمة

- ‌آثار المثل الأعلى

- ‌ملخص البحث

- ‌المقدمة

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأولمعرفة الرب وعبادته

- ‌فطرة المعرفة والتوحيد:

- ‌أدلة وجود الله وتوحيده:

- ‌دلالة المثل الأعلى على وجود الله وتوحيده:

- ‌ثمرات المثل الأعلى الخاصة:

- ‌براهين التوحيد:

- ‌جناية التعطيل:

- ‌المطلب الثانيقياس الأولى

- ‌معنى القياس وإطلاقاته:

- ‌استعمال القياس بين صفات الله تعالى:

- ‌حكم القياس بين صفات الخالق والمخلوق:

- ‌تطبيق قياس الأولى:

- ‌الخاتمة

- ‌نبذة في معنى التعطيل وأنواعه

- ‌معنى التعطيل

- ‌تعطيل الجهمية الأولى:

- ‌تعطيل المعتزلة:

- ‌تعطيل الكلابية:

- ‌خطورة التعطيل وبطلانه:

- ‌مراجع البحث

الفصل: خيرات الدنيا والآخرة (1).   ‌ ‌براهين التوحيد: تفرد الرب بالمثل الأعلى من أعظم

خيرات الدنيا والآخرة (1).

‌براهين التوحيد:

تفرد الرب بالمثل الأعلى من أعظم أدلة صحة التوحيد ووجوبه وبطلان الشرك وتحريمه، قال تعالى:{لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 60]، فجعل مثل السوء المتضمن لكل عيب ونقص للمشركين وآلهتهم المزعومة، وأخبر أن المثل الأعلى المتضمن لجميع صفات الكمال لله وحده. وهذا يستلزم عقلا بطلان الشرك وصحة التوحيد. وعلى هذا المعنى الجامع والتلازم الضرورية قامت براهين التوحيد وإبطال الشرك، وهي أربعة أنواع:

الأول: الاستدلال بتوحيد الربوبية على توحيد العبادة، فإن تفرد الرب بمعاني الربوبية يستلزم إفراده بالعبادة، وذلك لاعتبارات متعددة، منها:

1 -

أن التفرد بالربوبية يعني التفرد بتربية العباد بنعمه وإحسانه، وأصل ذلك الخلق، إذ كل ما بعده من النعم تابع له، وفرع عنه، ولاشك أن شكر من تفرد بالخلق والإنعام أوجب شيء في العقول.

2 -

أن التفرد بالربوبية يعني التفرد التام بجلب المنافع ودفع

(1) انظر في الرجاء ومتعلقاته: قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 1/ 21، 206، مدارج السالكين لابن القيم 2/ 36، الفوائد لابن القيم أيضا ص95، شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص343، تيسير العزيز الحميد لسليمان آل الشيخ ص40، 174، 183، 220، 243، روح المعاني للآلوسي 5/ 9/12، 13.

ص: 85

المضار، وهذا يقتضي عقلا أن يكون الرب وحده محل محبة العبد ورغبته ورهبته.

3 -

أن التفرد بالربوبية يعني التفرد بالخلق والملك والغنى الذاتي، وأن ما عدا الرب مخلوق مملوك فقير لا يصح عقلا أن يكون محلا لمحبة العبد ورغبته ورجائه، ولا لشيء مما ينشأ عن ذلك من عباداته!! وعلى هذه الاعتبارات وما يجري مجراها جاء هذا النوع من براهين القرآن على صحة التوحيد وبطلان الشرك، فمن تفرد بمعاني الربوبية من خلق وتدبير وملك وعناية وهداية ونفع وضر فهو المستحق عقلا وشرعا للعبادة وحده، قال تعالى:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [يونس: 3]، وقال:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزمر: 6]، وقال:{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ......} الآيات [النمل: 60 - 64].

الثاني: الاستدلال بتوحيد الصفات على توحيد العبادة، فإن التفرد بصفات الكمال المطلق يستلزم تعلق القلب بالموصوف بها محبة وخوفا ورجاء وتألها في الظاهر والباطن، وهذا البرهان ينتظم جميع ما ورد من صفات الكمال، فكلها أدلة على توحيد العبادة سواء أصرح بذكر لازمها، أو ذكرت مجردة. فمما ذكر مجردا قوله تعالى:{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 61]، وقوله:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، وقوله:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:

ص: 86

64]، وقوله:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]، وقوله:{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58]، فهذه النصوص ونظائرها لم تذكر لمجرد تقرير الكمال وإنما ذكرت لبيان أن الموصوف بها هو المستحق للعبادة وحده. يقول ابن تيمية:"الله سبحانه لم يذكر هذه النصوص لمجرد تقرير الكمال له، بل ذكرها لبيان أنه المستحق للعبادة دون ما سواه، فأفاد الأصلين اللذين بهما يتم التوحيد، وهما: إثبات الكمال، ردا على أهل التعطيل، وبيان أنه المستحق للعبادة لا إله إلا هو، ردا على المشركين"(1).

أما ما صرح بذكر لازمه من نصوص الصفات فقوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]، وقوله:{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر: 22، 23]، وقوله:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]، فصرح بذكر لازم صفات كماله، وهو البراءة من الشرك وأهله، وإفراد الله بجميع العبادات الظاهرة والباطنة، ومحل الدلالة في قوله:{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ، وقوله:{سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، فإن الشهادة تدل على توحيد العبادة مطابقة، والتنزيه عن الشرك يستلزم إفراد الله بالعبادة.

وصفات الكمال لا تدل على التوحيد فحسب، بل إنها تدل

(1) مجموع الفتاوى 6/ 83.

ص: 87

مع ذلك على ما يليق بالرب، من الأفعال، ولهذا نزه الرب نفسه عن كل ما ينافي كماله من الأفعال، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} [الأنبياء: 16]، وقال:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]، وقال:{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35، 36]، وقال:{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 44 - 47]، فنزه نفسه عن اللعب والعبث والظلم وتصديق المتنبئ بما لا معارض له من البراهين، لأن هذه الأفعال تنافي كماله وحكمته وعدله ورحمته (1).

الثالث: الاستدلال بأوصاف الآلهة الباطلة على التوحيد، فإن كل ما يعبد من دون الله تعالى من بشر، أو شجر، أو حجر، أو غير ذلك يجمعهم مثل السوء من الحدوث والعجز والفقر، وهي كلها صفات نقص تبطل ألوهيتهم المزعومة، وقد فصل القرآن هذه الصفات في نصوص كثيرة بطرق متعددة، منها:

1 -

تقرير أن كل ما يعبد من دون الله مخلوق مربوب لا قدرة له على الخلق، وهذا يقتضي ضرورة بطلان الشرك، وأن الإله الحق هو خالق هذه المعبودات والخلق أجمعين، قال تعالى:{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [النحل: 20]، وقال:{أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الأعراف: 191]، وقال:{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان: 11]. يقول ابن القيم: "إن زعموا أن آلهتهم خلقت شيئا مع الله

(1) انظر: شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص36.

ص: 88

طولبوا بأن يروه إياه، وإن اعترفوا بأنها أعجز وأضعف وأقل من ذلك كانت إلهيتها باطلة ومحالة" (1).

2 -

أن الآلهة المزعومة ليست أهلا للعبادة، وذلك لتجردها من جميع معاني الربوبية، فهي لا تنفع ولا تضر، ولا ترزق ولا تضر، ولا تملك مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، قال تعالى:{قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة: 76]، وقال:{إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} [العنكبوت: 17]، وقال:{وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} [الأعراف: 192]، وقال:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر: 13]، وقال:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22، 23]. يقول ابن القيم: "أخذت هذه الآية على المشركين بمجامع الطرق التي دخلوا منها إلى الشرك، وسدتها عليهم أحكم سد وأبلغه، فإن العابد إنما يتعلق بالمعبود لما يرجو من نفعه، وإلا فلو لم يرج منه منفعة لم يتعلق قلبه به، وحينئذ فلابد أن يكون المعبود مالكا للأسباب التي ينتفع بها عابده، أو شريكا لمالكها، أو ظهيرا، أو وزيرا، أو معاونا له، أو وجيها ذا حرمة وقدر يشفع عنده، فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة من كل وجه وبطلت؛ انتفت أسباب الشرك وانقطعت مواده، فنفى سبحانه عن آلهتهم أن تملك

(1) الصواعق المرسلة 2/ 465.

ص: 89

مثقال ذرة في السماوات والأرض، فقد يقول المشرك: هي شريكة لمالك الحق.

فنفى شركتها له، فيقول المشرك: قد تكون ظهيرا أو وزيرا ومعاونا، فقال: وما له منهم من ظهير، فلم يبق إلا الشفاعة فنفاها عن آلهتهم، وأخبر أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه" (1).

3 -

بيان ما عليه الآلهة المزعومة من صفات النقص المنافية للألوهية، فهي إما مخلوقات محتاجة، لا قيام لها بنفسها، أو جمادات لا تسمع ولا تبصر ولا تتكلم، قال تعالى:{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَاكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة: 75]، وقال:{إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [فاطر: 14]، وقال ـ حكاية عن الخليل عليه السلام:{يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 42]، وقال:{أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} [الأعراف: 148](2).

الرابع: الاستدلال على التوحيد بضرب الأمثال في المعاني (3)،

وهي عبارة عن براهين وحجج تفيد توضيحا للمعنى

(1) الصواعق المرسلة 2/ 461، 462.

(2)

وانظر في هذه البراهين الثلاثة: القول السديد لعبد الرحمن بن سعدي ص61 - 69، دعوة التوحيد لمحمد خليل هراس ص35 - 41، الأدلة العقلية على أصول الاعتقاد لسعود العريفي ص390 - 450.

(3)

هذا لإخراج المثل اللغوي، وهو القول السائر الممثل مضربه بمورده، وهو الذي عني به علماء اللغة، وأفردوا له مؤلفات مستقلة، كمجمع الأمثال لأبي الفضل الميداني. وفائدة هذه الأمثال ترجع إلى التعبير اللغوي ولا دلالة فيه على الأحكام، لأن الدلالة على الأحكام مخصوصة بأمثال المعاني سواء أكانت معينة أم كلية، فالأمثال المعينة هي التي يقاس فيها الفرع بأصل معين إما موجود أو مقدر، وفي بعض المواضع يذكر الأصل من غير تصريح بذكر الفرع، والقصص القرآني من هذا الباب، فإنها كلها أصول قياس ولا يمكن تعديد ما يلحق بها من الفروع.

والأمثال المعينة ترجع إلى القياس الفقهي المشهور بقياس التمثيل.

أما الأمثال الكلية فهي التي يقاس فيها الفرع (المثل) بالمعنى الكلي، لأن القضية الكلية في قياس الشمول تماثل كل ما يندرج فيها من الأفراد، فإن الذهن يرتسم فيه معنى عام يماثل الفرد المعين، فصار هذا قياسا حقيقة، وهو ضرب مثل في نفس الوقت، لأن ضرب المثل هو القياس بعينه.

انظر: مجمع الأمثال للميداني 1/ 5، مجموع الفتاوى لابن تيمية 14/ 54 - 68، 16/ 41.

ص: 90

أو دلالة على الحكم عن طريق تصوير المعقول في صورة المحسوس، أو تصوير أحد المحسوسين في صورة أظهرهما، واعتبار أحدهما بالآخر. وهي أقوى في النفس، وأبلغ في الإقناع، لقوة التشبيه، وقربه من الحس، واقتران دلالته بالترغيب والترهيب (1). وأمثال التوحيد مما يدخل في معنى المثل الأعلى، ولهذا فسره ابن كيسان بما ضربه الله للتوحيد والشرك من الأمثال (2)، وهو تفسير للمثل الأعلى باعتبار أثره لا باعتبار حقيقته، وهو يعم تفسيره بكلمة التوحيد، أو بمدلولاتها، أو بأدلتها وبراهينها كما تقدم (3).

وقد ذكر الله في كتابه كثيرا من الأمثال المشتملة على ذكر ما في الآلهة المزعومة من نقائص وأمثال سوء تنفر القلب، وتهدي

(1) انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية 14/ 56، إعلام الموقعين لابن القيم 1/ 148، البرهان للزركشي 1/ 486 - 496.

(2)

انظر: الصواعق المرسلة لابن القيم 3/ 1033.

(3)

انظر: ص (63) من الكتاب.

ص: 91

العقل بالبرهان لبطلان الشرك وصحة التوحيد، والتزامه قولا وعملا، رغبا ورهبا، ومنها:

1 -

قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [النحل: 75]، فهذا مثل ضربه الله لنفسه وللأوثان، فللأوثان مثل السوء ولله المثل الأعلى في السماوات والأرض، فالله تعالى هو مالك كل شيء، ينفق على عباده سرا وجهرا وليلا ونهارا، والأوثان مملوكة عاجزة لا تقدر على شيء، فكيف يقبل عقل أن تكون شريكة لله ومعبودة معه مع هذا التفاوت العظيم! (1).

2 -

قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَاتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَامُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 76]، وهذا مثل آخر ضربه الله لنفسه وللوثن، فإن القادر على الحق قولا وأمرا وفعلا لا يماثل الأبكم الذي لا يقدر على شيء البتة لا نطقا ولا فعلا، وهكذا شأن الله مع الأوثان ـ ولله المثل الأعلى ـ فإن كماله المطلق يحيل أن تماثله الأوثان العاجزة في شيء من كمالاته أو حقوقه! (2).

3 -

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ *

(1) انظر: إعلام الموقعين لابن القيم 1/ 157، 158.

(2)

انظر: تفسير القرطبي 10/ 149، 150، إعلام الموقعين 1/ 158 - 161.

ص: 92

مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 73، 74]، وقد ضرب الله هذا المثل بأوجز عبارة وأحلاها، وبين فيه ما يعم المعبودات الباطلة من عجز حتى حال الاجتماع والتعاون، فهي لا تقدر على إيجاد مخلوق من أضعف المخلوقات، ولا حتى على الانتصار منه، وذلك لكمال عجزها المستلزم بطلان ألوهيتها ضرورة، إذ من لوازم الألوهية الحق القدرة التامة على كل شيء، ولهذا فإن من عرف الله حق المعرفة، وآمن بصفاته الكاملة، وقدرته التامة عصمه إيمانه من شرك العبادة، إذ لا يبتلى به إلا من لم يقدر الله حق قدره. وهذا المثل يقطع مواد الشرك، وهو من أبلغ ما أنزله الله في إبطال الشرك وتجهيل أهله (1).

4 -

قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41]، فمثل اتخاذ الأولياء من دونه، واعتماد المشركين عليهم في حصول المنافع بما في ذلك العزة والقدرة والنصرة مثله باعتماد العنكبوت على أضعف البيوت، فإن اعتمادهم عليها ما زادهم إلا ضعفا، وموالاتهم لها ما زادتهم إلا ذلة، جزاء وفاقا، ومعاملة للمشرك بنقيض مقصوده، كما هي سنة الله مع المشركين (2).

(1) انظر: إعلام الموقعين لابن القيم 1/ 174، 175، الصواعق المرسلة 2/ 466، 467.

(2)

انظر: المحرر الوجيز لابن عطية 4/ 318، تفسير القرطبي 13/ 345، إعلام الموقعين لابن القيم 1/ 152، 153.

ومما يدل مع الآية على معاملة المشرك بنقيض قصده حديث عمران بن حصين مرفوعا: "انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنا"، وحديث عقبة بن عامر مرفوعا:"من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له"، أي لا تركه في دعة وراحة وسكون بل حرك عليه كل مؤذ. انظر فيا يتعلق ببيان معنى الحديثين وتخريجهما: كتاب التوحيد بشرحه فتح المجيد وتخريجه لعبد القادر الأرنؤوط ص125 - 130.

ص: 93

5 -

قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم: 28]، والمعنى: هل يرضى أحدكم أن يكون عبده شريكه في ملكه حتى يساويه في التصرف، ويخافه على ماله كما يخاف أمثاله من الشركاء الأحرار؟! فإذ لم ترضوا بهذا لأنفسكم فلم جعلتم خلق الله وعبيده شركاء له في العبادة؟! (1).

وقد رأى القرطبي أن مقصود المثل المضروب في الآية إبطال أن يكون شيء من العالم شريكا لله في شيء من أفعاله، ولهذا قال في تحرير المثل:"كيف يتصور أن تنزهوا نفوسكم عن مشاركة عبيدكم وتجعلوا عبيدي شركاء في خلقي؟! "(2). وهذا ليس بصحيح، لأن مقصود المثل إقامة البرهان على توحيد العبادة ـ وهو يتضمن توحيد الأفعال ـ، ودعوة الخلق له قولا وعملا، إذ هو محل الخصومة بين الرسل وأممهم. قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9]، وقال:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، وقال:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].

(1) انظر: تفسير القرطبي 14/ 23، إعلام الموقعين 1/ 156، 157.

(2)

تفسير القرطبي 14/ 23.

ص: 94

6 -

قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29]، وهذا المثل للدلالة على حسن التوحيد وقبح الشرك، وعدم استواء الموحد والمشرك في صفتيهما وحاليهما، فالمشرك الذي يعبد آلهة شتى بمنزلة عبد يملكه شركاء مختلفون متعاسرون، لا يلقاه أحدهم إلا جره واستخدمه، ومع ذلك لا يرضي واحدا منهم بخدمته، لكثرة الحقوق في رقبته، وتعاسر مواليه، وسوء أخلاقهم!! والموحد الذي يعبد الله وحده مثله كمملوك سالم لرجل واحد، لا ينازعه فيه أحد، قد عرف مقاصده وطرق رضاه، فهو في راحة من تشاحن الشركاء، وفي نعمة ورغد عيش من إحسان سيده وتوليه لمصالحه!! فهذا مثل المؤمن في حياته الطيبة، وذاك مثل المشرك فيما يبتلى به من ضنك الحياة. قال تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97]، وقال:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124]، أي عيشا ضيقا في الدنيا. يقول ابن كثير:"لا طمأنينة له، ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيق حرج، لضلاله وإن تنعم ظاهره، ولبس ما شاء، وأكل ما شاء، وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك، فلا يزال في ريبه يتردد، فهذا من ضنك المعيشة"(1).

(1) تفسير ابن كثير 3/ 168، وانظر: تفسير القرطبي 11/ 258، 259، 5/ 253، إعلام الموقعين لابن القيم 1/ 179، مدارج السالكين 1/ 422، 423.

ص: 95