الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمهيد
معنى المثل الأعلى
اختلف المفسرون في المراد بالمثل الأعلى في قوله: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النحل: 60]، وقوله:{وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم: 27] على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن المراد بالمثل الصفة، كما في قوله تعالى:{ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ} [الفتح: 29]، أي صفتهم، وقوله:{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [الرعد: 35]، أي صفتها، فالمثل الأعلى بمعنى الصفة العليا، وهذا قول لابن عباس رضي الله عنهما، وقال به الخليل وكثير من المفسرين، كالبغوي والقرطبي وابن كثير. وقد اختلف المفسرون في تعيين الوصف الأعلى، فمنهم من خصه بأوصاف محددة، كالتوحيد والإخلاص، أو النزاهة عن الولد، وهذه طريقة البغوي وابن الجوزي ومن وافقهما. ومنهم من جعله عاما لجميع صفات الكمال ومعاني التنزيه. وهذه طريقة ابن كثير ومن وافقه (1).
(1) انظر: تفسير البغوي 3/ 73، 481، تفسير القرطبي 9/ 324، 10/ 119، 14/ 22، زاد المسير لابن الجوزي 4/ 459، 6/ 298، تفسير ابن كثير 2/ 573، حاشية الصاوي على الجلالين 3/ 303، 304، تفسير القاسمي 10/ 120.
والظاهر أن تخصيص الصفة العليا بالتوحيد والإخلاص من تخريجات المفسرين، واجتهاداتهم في التوفيق بين العبارات المأثورة عن السلف في تفسير المثل الأعلى، لأن التوحيد والإخلاص من آثار الوصف الأعلى، وليس هو الوصف الأعلى نفسه، ولهذا درج أكثر المفسرين على اعتبار تفسير المثل الأعلى بالتوحيد قولا مستقلا عن تفسيره بالصفة!.
القول الثاني: أن المراد بالمثل الأعلى تنزيه الرب عن وجود المثل. روى الإمام الطبري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 60]، قال:"يقول: ليس كمثله شيء"(1). وهذا القول محقق لتفسير المثل الأعلى بالوصف الأعلى، لأن نفي المثل إذا ورد في سياق المدح دل على التفرد بصفات الكمال، ولهذا قال القرطبي:"المثل الأعلى وصفه بما لا شبيه له ولا نظير"(2).
القول الثالث: أن المراد بالمثل الأعلى كلمة التوحيد، وما دلت عليه من حقائق الإيمان، يقول ابن عباس رضي الله عنهما:"المثل الأعلى شهادة أن لا إله إلا الله"(3). ويؤثر نحوه عن قتادة ومجاهد ومحمد بن المنكدر (4). وقال قتادة في رواية ثانية: "المثل الأعلى
(1) تفسير الطبري 11/ 21/38.
(2)
تفسير القرطبي 10/ 119، وانظر: الصواعق المرسلة لابن القيم 3/ 1022.
(3)
تفسير البغوي 3/ 73، تفسير القرطبي 10/ 119.
(4)
انظر: تفسير الطبري 8/ 14/125، 11/ 21/38، معاني القرآن للنحاس 4/ 77، تفسير القرطبي 14/ 22، تفسير ابن كثير 3/ 431، الدر المنثور للسيوطي 4/ 121.
الإخلاص والتوحيد" (1)، وهي بمعنى الرواية الأولى، ولهذا قال أبو جعفر النحاس: "المعنيان واحد، أي لله عز وجل التوحيد ونفي كل معبود دونه" (2).
ويدخل تحت هذا القول تفسير المثل الأعلى بما ضربه الله للتوحيد وأهله من الأمثال، وتفسيره بما يحل في قلوب المؤمنين من معرفة الرب ومحبته. يقول ابن تيمية:"وأما المؤمنون فإن الإيمان بالله، ومعرفته، ومحبته، ونوره وهداه، يحل في قلوبهم، وهو المثل الأعلى، والمثال العلمي"(3).
ومما يعضد تفسير المثل الأعلى بالتوحيد قوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ ......} [الروم: 27، 28]، فأتبع ما تمدح به من التفرد بالمثل الأعلى ما يشعر بمعناه من أمثال التوحيد، ولهذا كان تفسير المثل الأعلى بالتوحيد هو غالب المأثور عن السلف (4). وهذا لا يعني ضعف تفسيرهم له بالصفة أو تفسيره بعدم وجود المثل، لاختلاف مدارك عباراتهم، ومآخذ أقوالهم، وذلك لأن المثل الأعلى باعتبار حقيقته يعني التفرد بأوصاف الكمال التي يستحيل معها وجود المثل، وباعتبار آثاره يعني التوحيد وما يحل في القلوب من حقائق الإيمان ومعاني
(1) تفسير الطبري 8/ 14/125، معاني القرآن للنحاس 4/ 77.
(2)
معاني القرآن 4/ 77.
(3)
الجواب الصحيح 4/ 372، وانظر: الصواعق المرسلة لابن القيم 3/ 1033 - 1037.
(4)
انظر: ص13 - 14.
الإخلاص، ولهذا جنح بعض المفسرين إلى تفسيره بمجموع أو أغلب المأثور عن السلف. يقول الخازن:"ولله المثل الأعلى، أي الصفة العليا المقدسة، وهي أن له التوحيد، وأنه المنزه عن الولد، وأنه لا إله إلا هو، وأن له جميع صفات الجلال والكمال"(1).
(1) تفسير الخازن 3/ 97، وانظر: تفسير الطبري 11/ 21/38، التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي 1/ 429، الصواعق المرسلة لابن القيم 3/ 1034، 1035.