الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تحريا للطاعة والورع، ولزوم السنة، لكن ليس لهم توكل واستعانة وصبر، بل فيهم عجز وجزع.
وطائفة فيهم استعانة وتوكل وصبر من غير استقامة على الأمر ولا متابعة للسنة. فقد يمكن أحدهم، ويكون له نوع من الحال باطنا وظاهرا، ويعطى من المكاشفات والتأثيرات ما لم يعطه الصنف الأول (1)، ولكن لا عاقبة له، فإنه ليس من المتقين، والعاقبة للتقوى، فالأولون (2) لهم دين ضعيف ولكنه مستمر باق إن لم يفسده صاحبه بالجزع والعجز، وهؤلاء لأحدهم حال وقوة، ولكن لا يبقى له إلا ما وافق فيه الأمر، واتبع فيه السنة.
وشر الأقسام من لا يعبده ولا يستعينه، فهو لا يشهد أن عمله لله، ولا أنه بالله" (3).
ثمرات المثل الأعلى الخاصة:
إذا كانت العبادة والاستعانة ثمرتي التحقق بالعلم بصفات الربوبية والإلهية على وجه الإجمال فإن لكل صفة من صفات الكمال عبادة قلبية خاصة، وحالا معينة يثمرها العلم بها والتحقق بمعرفتها، وهي كثيرة، منها:
(1) مقصوده القسم الثاني، وهم أهل العبادة دون الاستعانة، كما هو واضح من السياق.
(2)
أي أهل العبادة دون الاستعانة، وهو يعزو ما ذكرته في التعليق السابق.
وانظر: التحفة المهدية لفالح آل مهدي ص422، 424.
(3)
الرسالة التدمرية ص234، 235، وانظر منها: ص231، 232، الفوائد لابن القيم ص97، مدارج السالكين لابن القيم 1/ 78 - 84، تفسير السعدي 1/ 36، 6/ 596، 597.
أولا: التوكل: فإن العلم بقدرة الرب وتفرده بالضر والنفع يورث أهله صدق التوكل على الله وحده في جلب المنافع ودفع المضار، وهذه الثمرة من أعلى درجات الإيمان التي توصل أهلها لخيرات الدنيا والآخرة، وأعلاها دخول الجنة بلا حساب، قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 2 - 4]، وقال:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، أي كافيه في جلب المنافع ودفع المضار. وروى مسلم بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما:«عرضت عليَّ الأمم .....» الحديث، وفيه: «هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفا (1)
يدخلون الجنة بغير حساب .....» الحديث إلى قوله: «هم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون» (2). وهذه الفضيلة لأهل التوكل التام خاصة، وهو ما تميز أهله باجتماع ثلاث خصال قل أن تجتمع في مسلم، وهي: ترك الرقى الشركية، وعدم العمل بمقتضى التشاؤم، وترك الاكتواء في الأحوال المكروهة (3).
(1) ورد في بعض الروايات الثابتة ما يدل على تكرم الرب وإكرام الرسول صلى الله عليه وسلم بما يزيد على هذا العدد بكثير: فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم استزاد ربه فزاده مع كل ألف سبعين ألفا، وفي رواية للترمذي: وثلاث حثيات من حثياته.
انظر: المسند للإمام أحمد 2/ 359، سنن الترمذي: كتاب صفة القيامة، باب ما جاء في الشفاعة 4/ 626، فتح الباري لابن حجر 11/ 410، صحيح الجامع الصغير للألباني 2/ 1196.
(2)
صحيح مسلم بشرحه للنووي: كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب 3/ 93، 94.
(3)
في تحرير دلالة الحديث كلام طويل لأهل العلم، والظاهر ما ذكرته حملا للمطلق من النصوص على المقيد، وجمعا بين النصوص المتعددة في المسألة. انظر: الوعد الأخروي للمؤلف 2/ 835 - 853.
والتوكل عمل قلبي إذا استقر في القلب استتبع آثاره الظاهرة والباطنة، وأهمها اثنان:
أحدهما: البراءة التامة من الشرك الأكبر في التوكل، وهو الاعتماد على غير الله في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله، وذلك كالاعتماد على الأولياء المزعومين في الحفظ أو النصر أو الرزق أو العافية أو غير ذلك من المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله وحده.
الثاني: صحة التعامل مع الأسباب، وذلك بالحرص على فعل ما ثبت أنه من الأسباب النافعة شرعا أو قدرا دون اعتماد عليه، أو اعتباره وسيلة مستقلة أو حتمية في حصول المسببات. وفي هذه الثمرة نجاة المسلم من كثير من صور الشرك الخفي، كالاعتماد على الأسباب الظاهرة العادية في حصول آثارها، وكمباشرة بعض الأسباب التي تعتبر شركا أو ذريعة له. روى الإمام أحمد بسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الرقى والتمائم والتولة شرك» (1). وقد يصل الانحراف في التعامل مع الأسباب بأهله إلى الخروج من الإسلام كلية، وذلك كمن يؤمن بالتأثير الذاتي للأسباب، أو يباشر من الأسباب ما هو مشتمل على الشرك الأكبر، كالرقى والتمائم المشتملة على سؤال غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله (2).
(1) المسند 1/ 381، وهو حديث صحيح. انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 1/ 584، 585، ح (331).
(2)
انظر في التوكل وما يتعلق به: قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 2/ 213، مدارج السالكين لابن القيم 2/ 117، 118، تيسير العزيز الحميد لعبد العزيز آل الشيخ ص495 - 505، القول السديد لعبد الرحمن بن سعدي ص41، 42.
ثانيا: الحياء: فإن العلم بسمع الرب وبصره، وعلمه المحيط بما في السماوات والأرض، والتحقق بمعيته يثمر في قلوب العباد الاستحياء من اطلاع الرب عليهم، وأن يراهم على ما يكره، فتبقى خواطرهم وألسنتهم وجوارحهم محفوظة من المعاصي الظاهرة والباطنة، ولهذا كثر في القرآن الكريم ذكر صفة العلم في نصوص الجزاء على الأعمال كقوله تعالى:{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك: 14]، وقوله:{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت: 40]، وقوله:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7]، والمعية في الآية معية علم، كما يدل لذلك سياق الآية، حيث بدئت وختمت بالعلم، ولهذا قال علماء السلف: هو معهم بعلمه (1). وهذه المعية تورث القلب كمال الحياء من الله تعالى، وكذلك شأن المعية الخاصة من باب أولى، إذ كلا النوعين يدل على مصاحبة الرب لعبده واطلاعه على أحواله، واختلافهما إنما هو في المقتضى لا في أصل الدلالة، يقول ابن القيم: "المعية نوعان: عامة: وهي معية العلم والإحاطة .... وخاصة: وهي معية القرب .... فهذه تتضمن الموالاة والنصر والحفظ.
وكلا المعنيين مصاحبة منه للعبد، لكن هذه مصاحبة اطلاع وإحاطة، وهذه مصاحبة موالاة ونصر وإعانة، فـ "مع" في لغة العرب تفيد الصحبة
(1) انظر: الرد على الجهمية للإمام أبي سعيد الدارمي ص268، 269 (ضمن عقائد السلف).
اللائقة، لا تشعر بامتزاج ولا اختلاط ولا مجاورة ولا مجانبة، فمن ظن منها شيئا من هذا فمن سوء فهمه أتي" (1).
ثالثا: المحبة: وهي ثمرة العلم بجمال الرب وكماله وإنعامه وإحسانه، لأن القلوب مجبولة على محبة الكمال، وعلى محبة من أحسن إليها. والمحبة التي يثمرها العلم بهاتين الصفتين أكمل أنواع الحب القلبي، وهي محبة التأله التي إذا استقرت في القلب أورثت أهلها كمال الاتباع والإيثار، وموافقة الرب في محبوباته ومكروهاته ظاهرا وباطنا، وليست مجرد دعاوى وعواطف لا حقيقة لها في الواقع، كما يتوهمه المغرورون، أو مجرد محبة عقلية تعني إيثار ما يقتضي العقل السليم رجحانه، كما يزعم الجهمية نفاة المحبة، إذ الرب عندهم لا يحب ولا يحب، لأن المحبة لا تكون إلا لمناسبة بين الجانبين، ولا مناسبة بين القديم والمحدث!.
والقرآن يكذب مقالتهم في نصوص كثيرة، لقوله تعالى:{فَسَوْفَ يَاتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، وقوله:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222].
والحق خلاف ما عليه هؤلاء وهؤلاء، فإن محبة الله ـ تعالى ـ تملأ القلب، وتستتبع آثارها الظاهرة والباطنة، التزاما بالشرع واتباعا لأحكامه وتقديما له على كل محبوب، قال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، وقال: {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ
(1) مدارج السالكين 2/ 265، وانظر في الحياء وما يتعلق به: قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 1/ 21، 213، الفوائد لابن القيم ص96، مفتاح دار السعادة لابن القيم 2/ 90، تفسير السعدي 1/ 154.
تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَاتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].
وهذه المحبة أهم أعمال القلوب على الإطلاق، لأنها أصل أعمال الإيمان كما أن التصديق أصل أقواله، ولهذا كان شرك المحبة أصل الشرك العملي، وأعظم أنواعه، قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [البقرة: 165]. يقول الآلوسي: "جواب (لو) محذوف، للإيذان بخروجه عن دائرة البيان، أي لوقعوا من الحسرة والندامة فيما لا يكاد يوصف"(1).
رابعا: الخوف: وهو ثمرة العلم بصفات العقوبة، كالغضب والسخط والانتقام. والخوف من أعلى مراتب الإيمان، ومن ضرورات تحقيقه، يقول الله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا .......} الآيات [الأنفال: 2 - 4] ويقول: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]. يقول إبراهيم التيمي: "ينبغي لمن لا يحزن أن يخاف أن يكون من أهل النار، لأن أهل الجنة قالوا:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر: 34]، وينبغي لمن لا يشفق أن يخاف ألا
(1) روح المعاني للآلوسي 1/ 2/35، وانظر في المحبة وما يتعلق بها: قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 1/ 21، 206، 2/ 213، مجموع الفتاوى لابن تيمية 10/ 48، 49، الفوائد لابن القيم ص95، شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص266.
يكون من أهل الجنة، لأنهم قالوا:{إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور: 26]. اهـ كلامه" (1).
والخوف المحمود تارة يتعلق بالمخوف ذاته، كخوف مقام الرب أو عذابه، وتارة يتعلق بوسائل المخوف، كخوف رد العمل، أو الوقوع في الموبقات، قال تعالى:{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]، وقال:{وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7]، وقال:{لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر: 16]، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 57 - 61]. روى الإمام أحمد بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر؟ قال: «لا يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق وهو يخاف أن لا يقبل منه» (2). وقال ابن أبي مليكة: "أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه"(3).
والخوف من الله تعالى يستلزم القيام بفعل المأمور وترك المحظور، قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى *
(1) صفة الصفوة لابن الجوزي 3/ 91.
(2)
المسند 6/ 205، وهو حديث صحيح. صحيح الترمذي للألباني 3/ 80.
(3)
صحيح البخاري بشرحه فتح الباري: كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر 1/ 109.
فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَاوَى} [النازعات: 40، 41]، وأعظم ما يدخل في المحظور شرك العبادة، فإنه أعظم المحرمات، وهو ينتظم أنواعا كثيرة، منها شرك الخوف، وهو أن يخاف من غير الله أن يصيبه بما لا يقدر عليه إلا الله سواء اعتقد أن ذلك على سبيل الكرامة أو الاستقلال. وهذا المعنى هو الذي يعتقده المشركون في آلهتهم، ولهذا كانوا يخافونها ويخوفون بها أولياء الرحمن، قال تعالى:{وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 36]، وقال ـ حكاية عن قوم هود ـ:{إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود: 54]، وقد ورث هذا الشرك كثير من غلاة الشيعة والصوفية وغيرهم.
أما ترك بعض الواجبات خوفا من الناس، كترك ما يجب من الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهذا مما دون الشرك من المحرمات، وهو الذي نزل فيه قوله تعالى:{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]، أي يخوفكم بأوليائه، لئلا تجاهدوهم، ولا تأمروهم بمعروف ولا تنهوهم عن منكر (1).
خامسا: الرجاء: وهو ثمرة العلم بصفات الرحمة، كالمغفرة واللطف والعفو والبر والإحسان. والرجاء من أعظم عبادات القلوب، وأقوى بواعث الطاعة، وقوته في القلب تكون على حسب قوة المعرفة بالله وصفاته. يقول ابن القيم: "قوة الرجاء على حسب قوة المعرفة بالله وأسمائه وصفاته، وغلبة رحمته غضبه، ولولا روح
(1) انظر في الخوف وما يتعلق به: قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 1/ 21، 206، الفوائد لابن القيم ص96، تيسير العزيز الحميد لسليمان آل الشيخ ص483 - 295، 498.
الرجال لعطلت عبودية القلب والجوارح، وهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا" (1).
والرجاء عبادة لا يجوز أن ينفك عنها المسلم لا في حال الإحسان ولا في حالة الإساءة، ففي حال الإحسان يرجو قبول العمل فرضا كان أو نفلا، وفي حال الإساءة يرجو قبول التوبة والتجاوز عن العقوبة، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، وقال:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، أي لمن تاب، ولهذا عمم في المذنبين وأطلق في الذنوب، لأن الله يغفر بالتوبة النصوح لكل مذنب من كل ذنب، وهذه خاصة التوبة من بين أسباب المغفرة.
وقد اختلف أهل العلم في التفضيل بين الرجاءين، فطائفة فضلت رجاء المحسن، لقوة أسباب الرجاء معه، وطائفة فضلت رجاء المذنب التائب، لأن رجاءه مجرد عن علة رؤية العمل، ومقرون بكسرة رؤية الذنب. والظاهر أن التفضيل لا يتعلق بنوع الرجاء، وإنما يتعلق بمقدار ما يقوم بقلب صاحبه من حقائق التقوى حال رجائه، فمن كان أتقى كان رجاؤه أفضل سواء أكان محسنا أو تائبا، قال تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
وفيما تقدم ذكره بيان واضح لنوع الرجاء المحمود، وهو إما
(1) مدارج السالكين 2/ 42.
رجاء المحسن لقبول العمل، أو التائب لقبول التوبة. أما الرجاء المجرد عن العمل، والاسترسال في المعاصي اتكالا على عفو الله تعالى فهو من الغرور، والأمن من مكر الله، قال تعالى:{أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَامَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99]، إذ عاقبته استدراج العاصي حتى يهلكه الله في غفلته!.
ولابد من اقتران الخوف والرجاء في قلب المؤمن، لئلا يفضي به الرجاء إلى الأمن من مكر الله، أو يفضي به الخوف إلى القنوط من رحمة الله، واليأس من روحه، ولهذا قرنت صفات الرحمة بصفات العقوبة في مواضع كثيرة من القرآن، لتورث المؤمن قوة في الخوف والرجاء، واعتدالا بين وعد الله ووعيده، قال تعالى:{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: 49، 50]، وقال:{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} [الرعد: 6]، وقال:{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 98].
وللرجاء الصادق أكبر الآثار في واقع المسلم، فهو يبعث على التوبة النصوح، والإكثار من الأعمال الصالحة رجاء الفوز بجنة الله، ورؤيته، وسماع كلامه، ويحفظ عقيدة المسلم من التعلق بالمخلوقات، رجاء حصول البركة، أو الشفاعة، أو كشف الضر، أو تحويله، ولهذا لا ترى في حياة المسلم الصادق شيئا من مظاهر شرك الرجاء، كالتبرك بمقامات الأنبياء، أو بذوات الأولياء وأضرحتهم، أو بالعيون والمغارات، أو بغير ذلك من البقاع والأمكنة والأعيان، لأنه يعلم يقينا تفرد الرب بجلب المنافع ودفع المضار، ويؤمن بأن الله وحده هو محل رجائه في كل ما يؤمله من