الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جناية التعطيل:
المعرفة التامة ناشئة عن العلم بصفات الله تعالى، وإثباتها دون تمثيل أو تعطيل، ولهذا تواطأت النصوص على بيان أسماء الرب وصفاته وأفعاله حتى كأن العباد ينظرون إليه فوق سماواته، مستو على عرشه، يكلم ملائكته، ويسمع أصوات خلقه، ويرى ظواهرهم وبواطنهم، ويدبر أمورهم، ويقضي حاجاتهم. قيل لعبد الله بن المبارك: بماذا نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه (1).
فالإيمان بالصفات قاعدة الإيمان، وسبيل المعرفة المفصلة برب العالمين. وقد قعدت المعطلة على رأس هذا الطريق تنفر الناس عن سلوكه بألفاظ ظاهرها يوهم التنزيه عن النقائص والعيوب والحاجة، وحقيقتها تعني تعطيل أوصاف الكمال كليا أو جزئيا، كالتنزيه عن الأعراض والأبعاض والأغراض، ونفي التجدد والتحدد، حتى راجت مقالاتهم على كثير من المسلمين، ونفرت قلوبهم عن طريق الصفات، وحيل بينهم وبين أعظم طرق المعرفة، ولهذا كان المعطلة حقا كما قيل: قطاع الطريق على القلوب! (2).
وقد تولد عن هذه الجناية العظمى جنايات كثيرة، منها:
1 -
تعطيل أعمال القلوب: فإن المعرفة الحق بصفات الإلهية هي القوة الجاذبة إلى محبة الرب، والرغبة في ثوابه، والرهبة من عقابه، فإذا عطلوا الأصل، وأنكروا الصفات، تعطل الفرع ولابد، ولهذا ضربت قلوبهم بالقسوة، وظهرت آثارها على كلامهم
(1) مدارج السالكين 3/ 341.
(2)
انظر: المرجع السابق 3/ 17، 23، 38، 39، 348، 349.
وعباداتهم، حتى آل الأمر ببعضهم إلى فعل المحرمات وترك العبادات الظاهرة، كما يذكر عن النَّظَّام وثمامة بن أشرس، وأبي هاشم وغيرهم! (1).
وكذلك فإن المعرفة بصفات الربوبية تورث المؤمن عبادة التوكل، فإن أساس التوكل الإيمان بقدرة الرب وقيوميته، وعلمه، ومشيئته، فإذا عطلوا هذه الصفات تعطل التوكل حتما، ولهذا قال ابن تيمية:"لا يصح التوكل ولا يتصور من فيلسوف، ولا من القدرية النفاة القائلين: بأنه يكون في ملكه ما لا يشاء، ولا يستقيم أيضا من الجهمية النفاة لصفات الرب جل جلاله. ولا يستقيم التوكل إلا من أهل الإثبات، فأي توكل لمن يعتقد أن الله لا يعلم جزئيات العالم سفليه وعلويه؟! ولا هو فاعل باختياره؟! ولا له إرادة ولا مشيئة، ولا يقوم به صفة؟! فكل من كان بالله وصفاته أعلم وأعرف كان توكله أصح وأقوى"(2).
فالمعطل لا يتصور منه عبادة ولا استعانة، ولا شيء مما يتفرع عن هذين الأصلين من أعمال القلوب، إذ كل ذلك ناشئ عن إثبات الصفات، والتحقق بمعرفة حقائقها ومعانيها. يقول ابن القيم: "كيف تصمد القلوب إلى من ليس داخل العالم ولا خارجه، ولا متصلا به ولا منفصلا عنه، ولا مباينا له ولا محايثا، بل حظ العرش منه كحظ الآبار والوهاد، والأماكن التي يرغب عن ذكرها؟!
(1) انظر: تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص15، الفرق بين الفرق للبغدادي ص172 - 174، 191، مدارج السالكين لابن القيم 3/ 23، 26، 351.
(2)
مدارج السالكين 2/ 118 [ويبدو أن النقل كان مشافهة].
وكيف تأله القلوب من لا يسمع كلامها، ولا يرى مكانها، ولا يحب ولا يحب، ولا يقوم به فعل البتة، ولا يتكلم ولا يكلم، ولا يَقْرُب من شيء ولا يَقْرُب منه شيء، ولا يقوم به رأفة ولا رحمة ولا حنان، ولا له حكمة، ولا غاية يفعل ويأمر لأجلها؟! فكيف يتصور على ذلك محبته والإنابة إليه، والشوق إلى لقائه، ورؤية وجهه الكريم في جنات النعيم، وهو مستو على عرشه فوق جميع خلقه؟! أم كيف تأله القلوب من لا يَحِبُّ ولا يُحَبُّ، ولا يرضى ولا يغضب، ولا يفرح ولا يضحك؟! فسبحان من حال بين المعطلة وبين محبته ومعرفته، والسرور والفرح به، والشوق إلى لقائه، وانتظار لذة النظر إلى وجهه الكريم، والتمتع بخطابه في محل كرامته ودار ثوابه! " (1).
2 -
لزوم الشرك والإلحاد، فإن الشرك لازم حتمي للتعطيل، لأن تعلق القلوب بالرب محبة ورغبة ورهبة وتوكلا ناشئ عن استيقان القلوب بعلم الرب، وسمعه وبصره، ورحمته، وجوده، وبره، وإحسانه، وقدرته، وتفرده بجلب النافع ودفع المضار. فإذا نفى المعطل هذه الصفات أبطل مقتضى التعلق برب العالمين، وفزعت الخليقة إلى غيره، وتعلقت قلوبهم بمن يتوهمون فيه العلم بأحوالهم، والقدرة على تحقيق رغباتهم، وقضاء حوائجهم، واتخذوه ندا من دون الله، يدعونه ويعبدونه ويتوكلون عليه!!.
وإذا كان اللازم مجرد دليل فساد المذهب وليس بمذهب فإن هذه القاعدة قد لا تنطبق هنا من كل وجه، لأن قوة التلازم بين التعطيل والشرك قد تدفع إلى الوقوع في الشرك اعتقادا وعملا، إذ
(1) مدارج السالكين 2/ 351.
كل شرك في العالم فإن تعطيل الصفات أصله ومبدؤه، فالمشرك إنما يعبد مع الله غيره إذا ساء ظنه بصفات ربه، فظن أنه محتاج إلى الشركاء والأعوان، أو يخفى عليه شيء من أحوال عباده حتى يحتاج إلى من يعرفه بها، أو لا يقدر وحده على الاستقلال بقضاء حاجات العباد، أو شك في رحمته فظن أنه محتاج إلى شفعاء يستعطفونه على عباده، أو شك في قوته فظن أنه محتاج إلى أولاد وأولياء يتكثر ويتعزر بهم!.
وكذلك فإن الإلحاد في أسماء الرب لازم حتمي للتعطيل، قال تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180]، ودعاؤه بها يعم دعاء المسألة ودعاء الثناء، ودعاء التعبد. وهذا كله فرع عن ثبوت حقائق الأسماء ومعانيها، فإذا أنكر المعطل معانيها، واعتبرها مجرد أعلام لا تتضمن أوصافا ولا معان أبطل حسن دلالاتها على الرب، وأبطل متعلقاتها من الخلق، وهذا من أعظم الإلحاد عقلا وشرعا ولغة وفطرة، ولهذا قال ابن القيم: المعطل أشر من المشرك! (1)، وهذا محمول على غلاة المعطلة، لأنهم ينكرون جميع الصفات والمشرك غايته أن ينكر بعض الصفات أو يطعن في كمالها، كإنكارهم القدرة على البعث وشكهم في عموم علم الله بأفعال العباد، قال تعالى:{وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} [الإسراء: 49]، وقال: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ
(1) النونية بشرحها لابن عيسى 2/ 451، وانظر: مدارج السالكين لابن القيم أيضا 1/ 420، 3/ 347، 351، توضيح الكافية لابن سعدي ص166 - 169.
عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت: 22].
3 -
إنكار أعلى درجات العرفان والنعيم: فإن رؤية الرب عيانا وتكليمه أعلى درجات معرفته، وأعلى نعيم أهل الجنة، قال تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23]، وروى الإمام البخاري بسنده عن جرير البجلي رضي الله عنه مرفوعا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم سترون ربكم عيانا» (1)، وروى الإمام مسلم بسنده عن صهيب الرومي رضي الله عنه مرفوعا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فا أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل» (2). وهذا كله محال عند المعطلة، لأن الله عندهم منزه عن الأبعاض، فلا وجه له، ولا يجوز النظر إليه ولا كلامه، لما يستلزمه ذلك من إثبات الجهة وحلول الحوادث بذات الرب المناقض لحقيقة الألوهية! (3).
وهذه الجنايات المتعلقة بمعرفة الرب وعبادته تدل على قبح مقالة التعطيل، وأنها من شر مقالات أهل الأرض، وأكثرها مناقضة لموجبات المعرفة والعبادة. ومما يزيدها قبحا كثرة لوازمها الباطلة،
(1) صحيح البخاري بشرح فتح الباري: كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 13/ 419.
(2)
صحيح مسلم برح النووي: كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين ربهم في الآخرة 3/ 17.
(3)
انظر: مدارج السالكين 3/ 24، 349، 351، وانظر أيضا: الكشاف للزمخشري 2/ 112، 113، شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار ص248 - 235، 276.
فإنه يلزم مقالة التعطيل على وجه العموم لوازم كثيرة، منها:
1 -
سلب كمال الرب، ووصفه بالنقائص والعيوب، ويلزم غلاتهم جحد الصانع ونفيه، وتشبيهه بالجمادات أو المعدومات أو الممتنعات!.
2 -
سوء الظن بربهم، وبكتابه وبنبيه، وبأتباعه، فسوء ظنهم بربهم أفضى بهم إلى تعطيل صفات كماله، وقد جعل الله إنكار الصفات من سوء الظن به، قال تعالى:{وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 22، 23].
وسوء ظنهم بالقرآن والسنة أفضى بهم إلى توهم أن ظاهرها إنما يدل على التمثيل، وهو كفر ضلال يستحيل أن يكون مراد الله ورسوله، ولهذا عزلوا الوحي عن معرفة الرب، وعطلوا أدلة صفات الكمال، واختلقوا دعوى تعارض العقل والنقل!.
أما سوء ظنهم بالرسول صلى الله عليه وسلم فلأنه في زعمهم كان يتكلم بنصوص الصفات، ويقررها، ويؤكدها، دون أن يُبَيِّنَ للأمة أن الحق فيما يخالف ظاهرها. وهذا يستلزم القدح في علم الرسول، أو بيانه، أو نصحه، أو جميع ذلك!.
وأما سوء ظنهم بأتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فلأنهم كانوا يرددون ألفاظا لا يفقهون تأويلاتها، ولهذا قالوا: إن طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعم وأحكم! (1).
(1) انظر: الصواعق المرسلة لابن القيم 4/ 1232 - 1236، مدارج السالكين 3/ 347، 360، شرح النونية لأحمد بن عيسى 1/ 506، 507.
وذلك أن طريقة السلف تقوم في نظرهم على التفويض، أي تفويض المعاني وإمرار نصوص الصفات دون اعتقاد لثبوت مدلولها واتصاف الرب بما دلت عليه!.
أما طريقة الخلف وهم المتكلمون وأتباعهم فهي تقوم على تفسير نصوص الصفات بما ينفي حقيقتها عن الرب، ولهذا جعلوا الحق دائرا بين التفويض والتأويل في كل نص يوهم التمثيل في نظرهم، وزعموا أن طريق التفويض أسلم، وطريق التأويل أعلم وأحكم. وهذا تنقص للسلف، وطعن في علمهم وإيمانهم، كما أنه تناقض ظاهر، إذ مقتضى السلامة العلم والحكمة!.
3 -
تعطيل دلالة الخلق والأمر على الصفات، فإن المخلوق يدل على صفات الرب من حيث وجوده وصفاته، فوجود المخلوق بعد عدمه دليل على وجود الخالق وحياته وقدرته وعلمه ومشيئته، لأن الفعل الاختياري يستلزم ذلك استلزما ضروريا، ويستحيل وجوده دونها. وصفات الكمال في المخلوق تدل على صفات خالقه، فما فيه من الإتقان يدل على حكمة خالقه، وما فيه من التخصيصات المتنوعة يدل على الإرادة. وما فيه من رحمة وعلم وسمع وبصر وكلام يدل على ثبوتها للخالق من باب أولى، لأن معطي الكمال أحق به.
وكذلك شأن الأمر فإنه يدل على صفات الكمال، فإن ما في الأوامر الشرعية من الحكم والمصالح والمنافع دليل على علم الخالق وحكمته، وهكذا أوامره وأحكامه الكونية، فإنها تدل على صفاته من وجوه مختلفة، فإن الإحسان إلى المطيعين دليل على المحبة والرضى، وعقوبة العصاة دليل على الغضب، واستجابة
الدعوات دليل على علم الرب بالجزئيات، وعلى سمعه وقدرته ورحمته، وجميع أقداره دليل على كماله، لأن أفعال الله مبنية على الحكمة، فلا يفعل إلا ما فيه مصلحة خالصة أو راجحة.
وهذا لازم لكثير من المعطلة بدرجات متفاوتة، فقد حرموا دلالة الآيات المشهودة كما حرموا دلالة الآيات المسموعة، وهما طريقا معرفة الله في القرآن، ولهذا استحكم جهلهم بالله، حتى كانوا يلتمسون معرفته بالمعميات الفلسفية، والقواعد المنطقية! ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور (1).
(1) انظر: شفاء العليل لابن القيم ص466، 467، مدارج السالكين 3/ 354 - 357، الفوائد لابن القيم ص31 - 34، شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص442.