الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصفات حتى أنه اعتبرها مجرد وجود للذات، بناء على رأي الفلاسفة في اعتبار الذات واحدة لا كثرة فيها بوجه، والصفات عين الذات لا زائدة عليها، ولهذا أرجعوا صفاته لمعنى السلب أو الإضافة.
والمشهور عن المعتزلة أن الصفات غير الذات، ولهذا قالوا: هو عالم بذاته، قادر بذاته، حي بذاته، لا بعلم وقدرة وحياة، بخلاف أبي الهذيل فإنه قال: هو عالم بعلم وعلمه ذاته، قادر بقدرة وقدرته ذاته، حي بحياة وحياته ذاته. والفرق بين القولين أن الأول نفي للصفة، والثاني إثبات صفة هي بعينها الذات، ومحصلة القولين واحد، وهو إنكار أن تكون الصفات معان قائمة بالذات، لأن ذلك ينافي حقيقة التوحيد، إما من جهة التعدد على رأي أوائل المعتزلة، وإما من جهة التركيب على رأي أبي الهذيل ومن وافقه (1).
وبهذه الطريقة أدخل المعتزلة تعطيل الصفات في أكبر أصول مذهبهم حتى غدا التجهم سيماهم، وأصبح لقب الجهمية لا يكاد يقصد به سواهم، وما كتبه الإمام أحمد والإمام البخاري في الرد على الجهمية إنما كان موجها لهم بالقصد الأول (2).
تعطيل الكلابية:
وهم أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب، حدثت بدعتهم في
(1) انظر: الملل والنحل للشهرستاني 1/ 44 - 86، شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص524 - 527، مقدمة ابن خلدون ص464.
(2)
انظر: عقائد السلف (المقدمة) ص25، 26، نقض التأسيس (المقدمة) ص12.
القرن الثالث الهجري، نتيجة للخلاف بين السلف والمعطلة، فأثبتوا الصفات اللازمة موافقة للسلف، وأنكروا الصفات الاختيارية موافقة للمعتزلة، لئلا يلزم من ذلك قيام الحوادث بذات الرب، لأن ما قامت به الحوادث فهو حادث، بناء على دليل الحدوث المشهور، ولهذا قال بأزلية جميع ما أثبته من الصفات، وأنكر كل ما يدل على تجدد الصفات حتى زعم أن ألفاظ القرآن حكاية عن كلام الله، لأن كلام الله مجرد المعنى القديم القائم بذات الرب! (1).
وقد أنكر الإمام أحمد والإمام ابن خزيمة وغيرهما من أئمة السلف مقالة الكلابية، ونسبوهم إلى البدعة وبقايا بعض الاعتزال فيهم، وحذروا منهم وهجروهم، وأغلظوا القول فيهم حتى كان بعضهم يلعن الكلابية، كما أثر عن أبي نصر السجزي وغيره (2).
وفي مطلع القرن الرابع أعلن أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري في البصرة توبته من مذهب المعتزلة وانتقل لمذهب الكلابية، فأثبت الصفات عدا الاختياري منها، بناء على أصل ابن كلاب والمعتزلة، ولهذا قال خلف المعلم:"أقام الأشعري أربعين سنة على الاعتزال، ثم أظهر التوبة، فرجع عن الفروع، وثبت على الأصول"(3).
وقد كان لأبي الحسن الأشعري أثر بالغ في تأصيل مذهب
(1) انظر: مقالات الإسلاميين للأشعري ص169، 170، درء التعارض 2/ 6، 18، 99.
(2)
انظر: درء التعارض 2/ 6، 18، موقف ابن تيمية من الأشاعرة للمحمود 1/ 469 - 472.
(3)
الرد على من أنكر الحرف والصوت لأبي نصر السجزي ص168 [نقلا عن موقف ابن تيمية من الأشاعرة للمحمود 1/ 363].
الكلابية، والانتصار لمقالتهم ببراهين كلامية، حتى كثر أتباعه، وانتشرت مقالاته، وتحولت نسبة المذهب إليه بدلا عن ابن كلاب (1).
وللأشعري مؤلفات كثيرة، أوصلها المقريزي إلى خمسة وخمسين مؤلفا (2). آخرها "كتاب الإبانة" على أصح أقوال أهل العلم، وهو أقربها للسنة، حتى أن بعض علماء السلف اعتبره توبة من مذهب الكلابية ورجعة للسنة المحضة. وهو حكم تؤيده شواهد في الكتاب أبرزها إثبات العلو والاستواء، والوجه، والعينين، واليدين، وإبطال تأويلها (3).
والصواب أنه بقي على عقيدة ابن كلاب حتى في الإبانة، لأن الموافقة بينهما إنما هي في نفي الصفات الاختيارية، فرارا من حلول الحوادث بذات الرب، ولهذا تأولوا ما ورد في النصوص منها بأحد أمرين:
الأول: أن تجعل الصفة أزلية، وينفي ما يستلزم تجددها، فالكلام مثلا جعلوه معنى أزليا قائما بذات الله، وأنكروا ما يتعلق منه بالمشيئة، ولهذا زعموا أن ألفاظ القرآن حكاية أو عبارة عن كلام الله!.
الثاني: أن يجعل مقتضى الصفة الاختيارية مفعولا منفصلا عن الله لا يقوم بذاته، فالاستواء والنزول مثلا لا يعنيان قيام مقتضاهما بذات الله، وإنما يعنيان أنه فعل فعلا في العرش سماه
(1) انظر: الملل والنحل للشهرستاني 1/ 93، الخطط للمقريزي 2/ 358.
(2)
انظر: الخطط 2/ 359.
(3)
انظر: الإبانة للأشعري ص119 - 141.
استواء، وفعل فعلا في سماء الدنيا سماه نزولا!.
أما إثبات العلو وسائر الصفات الخبرية التي وردت في القرآن، فإن كلام ابن كلاب والأشعري لا يختلف في إثباتها، وإن كان الأشاعرة يحملون ذلك على طريقة التفويض! (1).
وقد اقتفى طريقة الأشعري من بعده تلميذه ابن مجاهد، وأبو الحسن الباهلي، وغيرهما، وأخذ عنهم القاضي أبو بكر الباقلاني، وهو الذي حرر مذهبهم، ووضع مقدمات براهينهم، كإثبات الجوهر الفريد، وأن العرض لا يقوم بالعرض، وأنه لا يبقى زمانين، وقد أوجب اعتقادها، لأن بطلان الدليل يستلزم بطلان المدلول!. وقد ظل في الصفات على عقيدة ابن كلاب والأشعري، فأثبت الصفات الأزلية، كالعلو، والوجه، واليدين، والعينين، ونفي الصفات الاختيارية، وقال بالكلام النفسي. يقول ابن تيمية:"الأشعري وأئمة أصحابه، كأبي الحسن الطبري وأبي عبد الله بن مجاهد الباهلي، والقاضي أبي بكر متفقون على إثبات الصفات الخبرية التي ذكرت في القرآن، كالاستواء والوجه واليد، وإبطال تأويلها .... وأما مسألة قيام الأفعال الاختيارية به فإن ابن كلاب والأشعري وغيرهما ينفونها، وعلى ذلك بنوا قولهم في مسألة القرآن"(2).
وقد عاصر الباقلاني عددًا من أئمة الأشاعرة، من أهمهم اثنان:
(1) انظر: درء التعارض 2/ 6، 12، 17، 18، 98، 99 - 115، موقف ابن تيمية من الأشاعرة 1/ 348 - 356، 377 - 410، 418 - 426، 442 - 450.
(2)
درء التعارض 2/ 17، 18، وانظر: مقدمة ابن خلدون ص465، موقف ابن تيمية من الأشاعرة 2/ 526 - 555.
أحدهما: محمد بن الحسن بن فورك، وقد تميز بالعناية بالحديث، والاهتمام به، والغلو في التأويل، فلم يقف عند تأويل ما جاءت به السنة من الصفات الخبرية، كالكف والقدم والأصابع، وإنما توسع في ذلك، فأول العلو والاستواء مخالفا أئمة مذهبه. أما ما عدا الاستواء من الصفات الخبرية الواردة في القرآن، وهي الوجه واليدين والعين فقد أبقاها على ظاهرها، ومنع تأويلها! (1).
والثاني: عبد القاهر بن طاهر البغدادي، وقد أدرك أبا عبد الله بن مجاهد، تلميذ الأشعري المشهور (2)، وعاصر الباقلاني وابن فورك وغيرهما، إلا أن وفاته تأخرت عنهما بأكثر من عشرين عاما. وقد كان للبغدادي دور مهم في توسع الأشاعرة في التعطيل، فقد زاد على تعطيل ابن فورك نفي الصفات الخبرية الواردة في القرآن، وإلى جانب ذلك أيد بقوة دليل الحدوث، وما بناه عليه أسلافه من تعطيل الصفات، وصاغ آراء الأشاعرة على أنها عقيدة المسلمين على مدى القرون حتى استقر في أذهان كثير من الناس أن مذهب الأشاعرة يمثل مذهب أهل السنة والجماعة لا آراء فرقة من الفرق الإسلامية! (3).
ويبدو أن تعطيل الأشاعرة قد استقر بعد هذين الرجلين على نفي الصفات الاختيارية والعلو والاستواء دون ما ذهب إليه
(1) انظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة 2/ 555 - 570.
(2)
انظر: أصول الدين للبغدادي ص310.
(3)
انظر: أصول الدين للبغدادي ص23، 76 - 79، 109 - 115، الفرق بين الفرق للبغدادي ص313 - 366، موقف ابن تيمية من الأشاعرة ص572 - 580.
البغدادي من تعطيل الصفات الخبرية بإطلاق، ولهذا كان بعض أعلام الأشاعرة من بعده يثبتون الوجه واليدين والعين، ويؤولون القدم والأصابع ونظائرها، وأبرز مثال على ذلك الإمام البيهقي (1).
وحين جاء أبو المعالي الجويني وافق البغدادي على تعطيل الصفات الخبرية بإطلاق، وقرر ذلك في كتابه "الشامل" ومختصره "الإرشاد"، وتلقاه الأشاعرة بالقبول، واستقر مذهبهم على ما في "الإرشاد" حتى قيل: إنه أصل طريقة المتقدمين! (2)، وهي عبارة فيها تجاوز كبير، إذا كان المقصود بها ما يعم من قبله من أئمة مذهبه، لأن الجويني عطل ما أثبته قدماء الأشاعرة من الصفات الخبرية، واختار فيها إما التأويل كما في "الإرشاد"، أو التفويض كما في "النظامية"، وجنح بالمذهب نحو الاعتزال في المنهج والتأويل، حتى أنه كان يترك تأويلات الأشاعرة ويختار ما كان يبطله أئمة مذهبه من تأويلات المعتزلة! وأبرز مثال على ذلك صفة الاستواء، فقد أَوَّلها بالاستيلاء مع أن الأشاعرة كانوا لا يقبلون هذا التأويل البتة! (3).
وقد تتلمذ على الجويني مجموعة من أعلام الأشاعرة أشهرهم وأكثرهم نبوغا أبو حامد الغزالي، وهو أول من مزج المنطق بعلوم المسلمين، وأدخل الرد على الفلاسفة في عقيدة الأشاعرة، ونشأ عن ذلك ما يعرف عندهم بطريقة المتأخرين، وهي تخالف كثيرا مما
(1) انظر: الاعتقاد للبيهقي ص40 - 43، موقف ابن تيمية من الأشاعرة ص580 - 591.
(2)
انظر: مقدمة ابن خلدون ص465، 467.
(3)
انظر: أصول الدين للبغدادي ص112، العقيدة النظامية للجويني ص32 - 35، درء التعارض لابن تيمية 2/ 12 - 20، موقف ابن تيمية من الأشاعرة للمحمود ص600 - 622.
حرره الباقلاني من مقدمات البراهين، وما ترتب عليها من اعتقاد بطلان المدلول من بطلان دليله (1).
وقد سار أئمة الأشاعرة من بعده على طريقته، وأوغلوا في علوم الفلسفة، وخلطوها بعلم الكلام، وبلغ هذا الاتجاه ذروته على يد الفخر الرازي، ولهذا اتخذه الأشاعرة إماما، وبدؤوا في تحرير مذهبهم في صورته النهائية اعتمادا على كتبه في المقام الأول، ومن ثم ظهرت الكتب التي استقر عليها مذهبهم، كطوالع الأنوار للبيضاوي، والمواقف، والعقائد العضدية، وكلاهما لعضد الدين الإيجي، وشرح المقاصد للتفتازاني.
وأهم ما تميزت به مرحلة الغزالي والرازي فيما يتعلق بتعطيل الصفات، تأصيل قوانين التأويل، كتقديم العقل على النقل عند التعارض، والزعم بأن الدليل اللفظي لا يفيد اليقين، لعدم عصمة رواة مفرداته، واحتمال الاشتراك، والمجاز، والنقل، والتخصيص، والإضمار، والتأخير والتقديم، والنسخ، والمعارض العقلي الذي لو كان لرجح عليه! (2).
(1) انظر: مقدمة ابن خلدون ص465، 466، مناهج البحث عند مفكري الإسلام للنشار ص77 - 100.
(2)
انظر: المحصل للرازي ص71، أساس التقديس للرازي ص130، موقف ابن تيمية من الأشاعرة للمحمود ص627، 629، 643، 654 - 697.
وعلى الرغم من هذه المخالفات العقدية المنكرة وغيرها مما لم أذكره، فقد اشتهر هذا المذهب، وكثر أتباعه، لكثرة من اعتقده وانتصر له وصنف فيه من المتكلمين، ولتبني بعض الممالك الإسلامية له، وحمل الناس على التزامه، حتى كان يستباح دم من خالفه! انظر: الخطط للمقريزي 2/ 358 - 361.
وقد تصدى علماء السلف لهذا المذهب، وألفوا في ذلك كتبا كثيرة، من أعظمها وأهمها فيما يتعلق بالرد على قوانين التعطيل، درء التعارض لابن تيمية، والصواعق المرسلة لابن القيم.