الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عارفا بالله محبا له، عابدا له وحده" (1).
أدلة وجود الله وتوحيده:
إلى جانب تلك الحجة النابعة من داخل الإنسان وأعماق نفسه فإن هناك حججا خارجية في الأنفس والآفاق، تجمعها حقيقة عقلية أولية واحدة، وهي دلالة الأثر على المؤثر، وهذه الحجج تنتظم ما لا يحصى من آحاد الأدلة، إذ العالم كله دليل وشاهد على وجود الله وتوحيده، ولهذا جنح أهل العلم لحصر أنواع الأدلة دون آحادها، وذلك بطرق متعددة، وتحت أسماء مختلفة، منها:
1 -
دليل الخلق والاختراع: فما يعلمه كل عاقل بالمشاهدة والضرورة العقلية من وجود المخلوقات بعد العدم دليل قاطع على وجود الخالق وتوحيده، وذلك لافتقار المخلوق إلى الخالق، واحتياج المحدَث للمحدِث، قال تعالى:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ} [الطور: 35، 36]، وقال:{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء: 23 - 28]. وهذا النوع من الاستدلال يرتكز على أصلين معلومين بداهة:
أحدهما: حدوث المخلوقات: وهذا معلوم بالمشاهدة في آحاد الحيوان والنبات، وبالضرورة العقلية في الكواكب وسائر
(1) مجموع الفتاوى 10/ 135، وانظر: الأدلة العقلية للعريفي ص191 - 209.
المخلوقات، لأنها مسخرة مدبرة، والمسخر المأمور مخترع من قبل غيره ضرورة.
والثاني: حاجة المحدَث إلى محدِث: وهذا الأصل معلوم بضرورة العقل، فالمحدَث لابد له من محدِث لا يفتقر إلى غيره، وهو الله تعالى. يقول ابن تيمية:"معلوم بضرورة العقل أن المحدث لابد له محدث، وأنه يمتنع تسلسل المخلوقات باتفاق العقلاء، وذلك بأن يكون للمحدَث محدِث، وللمحدِث محدَث إلى غير غاية، وهذا يسمى تسلسل المؤثرات، والعلل، والفاعلية، وهو لا يزول إلا بمحدث أزلي لا يحتاج إلى غيره"(1).
2 -
دليل العناية: فما في الوجود من مظاهر العناية بالمخلوقات عامة، والإنسان خاصة، براهين قاطعة على وجود الخالق، وعلى كماله، وتوحيده. ويدخل في هذا الدليل كثير من صور الاستدلال، منها:
أ - دلالة الإتقان: فكل مخلوق يحمل من كمال الإتقان ما يدل على وجود خالقه وكمال ذاته وصفاته، قال تعالى:{صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88]، وقال:{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7]، وقال:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4].
ب - دلالة التناسق: فالعالم كله علويَّه وسفليَّه يخضع لنواميس كونية متناسقة ثمرتها التوافق الدقيق بين المخلوقات، والموافقة التامة لوجود الإنسان، قال تعالى: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ
(1) مجموع الفتاوى 16/ 445 (بتصرف)، وانظر: الكشف عن مناهج الأدلة لابن رشد ص61، الأدلة العقلية للعريفي ص209 - 226.
الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40]، وقال:{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا * وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا * وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} [النبأ: 6 - 16]، وقال:{وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل: 12]، أي أدلة على إثبات الصانع وعلى التوحيد والمعاد وصدق الرسل، ولهذا أطلق متعلق الآية ولم يقيدها بمطلوب معين (1).
ج - دلالة الهداية العامة: فإن هداية المخلوقات ودلالتها إلى مصالح معاشها، وسبل بقائها وما يقيمها ويحفظها من أعظم آيات الربوبية، قال تعالى:{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 49، 50]. يقول ابن القيم: "الهداية العامة قرينة الخلق في الدلالة على الرب تبارك وتعالى وأسمائه وصفاته وتوحيده، ومعنى الآية أن الله أعطى كل شيء من الخلق والتصوير ما يصلح به لما خلق له، ثم هداه لما خلق له، وهداه لما يصلحه في معيشته ومطعمه ومشربه ومنكحه وتقلبه وتصرفه. والخلق إعطاء الوجود العيني الخارجي، والهدى إعطاء الوجود العلمي الذهني. والآية شاملة لهداية الحيوان كله ناطقه وبهيمه، وطيره ودوابه، فصيحه وأعجمه"(2).
(1) انظر: بدائع الفوائد 4/ 162، 163.
(2)
شفاء العليل ص119، 137 - 140 (بتصرف).
3 -
دليل المعجزات: فآيات الأنبياء وما يتبعها من نصر الرسل وأتباعهم، وإكرامهم بخوارق العادات، وإجابة الدعوات برهان حسي عقلي قاطع على إثبات الخالق وتوحيده وصدق رسله، قال تعالى:{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا * قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء: 101، 102]، أي حجج وأدلة تبصر بصدق ما يدعو إليه موسى من الإيمان بالله وتصديق رسوله، وآثار واضحة للإله الحق وصفاته وأفعاله: يقول ابن القيم: "هذه الطريق من أقوى الطرق وأصحها، وأدلها على الصانع، وصفاته، وأفعاله، وارتباط أدلة هذا الطريق بمدلولاتها أقوى من ارتباط الأدلة العقلية الصريحة بمدلولاتها، فإنها جمعت بين دلالة الحس (1)
والعقل، ودلالتها ضرورية بنفسها، ولهذا يسميها الله آيات بينات، وليس في طرق الأدلة أوثق ولا أقوى منها، فإن انقلاب عصا تقلها اليد ثعبانا عظيما يبتلع ما يمر به ثم يعود عصا كما كانت من أدل الدليل على وجود الصانع وحياته وقدرته وإرادته وعلمه بالكليات والجزئيات، وعلى رسالة الرسول، وعلى المبدأ والمعاد، فكل قواعد الدين في هذه العصا! وهكذا
(1) هذا في حق من شاهدها، أما من غاب عنها فإنها في حقه من باب دلالة الخبر القاطع والعقل، والقطع بثبوت آيات الأنبياء يعلم بطرق متعددة، كذكرها في القرآن المقطوع بصحته، وكتواتر بعض آحادها تواترا عاما يعلمه العام والخاص، أو تواترا خاصا يعلمه العلماء، وكتواتر القدر المشترك بين آحادها تواترا عاما اتفقت على معرفته جميع الطوائف.
انظر: الجواب الصحيح لابن تيمية 6/ 324 - 380، الصواعق المرسلة لابن القيم 3/ 1196 - 1197.