الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سائر آياته وآيات الأنبياء، فكلها من أعظم الأدلة على الصانع وصفاته وأفعاله وصدق رسله واليوم الآخر" (1).
دلالة المثل الأعلى على وجود الله وتوحيده:
لم يكتف الشرع بتنبيه العباد وإرشادهم لما هو مركوز في فطرهم، وما تعرفه عقولهم من الإيمان المجمل بوجود الله وتوحيده، وإنما عرفهم بربهم ومعبودهم معرفة مفصلة، إذ من المحال أن تستقل العقول بمعرفة فاطرها ومعبودها على التفصيل (2)، فعرفهم بأسماء الرب وصفاته وأنواع كمالاته التي يجمعها ما تفرد به من المثل الأعلى في السماوات والأرض، قال تعالى:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَاخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255]، وقال: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
(1) الصواعق المرسلة لابن القيم 3/ 1197، 1198 (بتصرف يسير). وانظر في الأدلة الخارجية عامة: الكشف عن مناهج الأدلة لابن رشد ص60 - 64، الأدلة العقلية للعريفي ص209 - 308.
(2)
انظر: بيان تلبيس الجهمية لابن تيمية 1/ 248، الصواعق المرسلة لابن القيم 1/ 150.
وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 22 - 24]، وقال:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1 - 4].
ولهذا النصوص نظائر كثيرة يدخل كل واحد منها ضمن جانب أو أكثر من جوانب المثل الأعلى، وهي:
1 -
صفات الكمال الذاتية: قال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 35]، وقال:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59]، وقال:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7]، وقال:{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3]، وقال:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67].
2 -
صفات الكمال الفعلية: قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ
تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]، وقال:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6]، وقال:{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان: 27]، وقال:{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [الأنعام: 95].
3 -
التنزيه عن النقائص المتصلة: قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38]، وقال تعالى:{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر: 44]، وقال:{عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ: 3]، وقال تعالى:{وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49].
4 -
التنزيه عن النقائص المنفصلة: قال تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 101]، وقال:{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91]، وقال:{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111]، وقال:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
وهذه المعرفة المفصلة لابد أن تُثَمِّر في قلب العارف محبة الله
ورجاء ثوابه والخوف من عقابه والالتزام بعبادة الله وحده قولا وعملا، وهذا هو المقصود الأعظم لما أخبرنا الله به من تفرده بالمثل الأعلى في السماوات والأرض، قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 27 - 30]، فتمدح الحق سبحانه وتعالى بتفرده بالمثل الأعلى، ثم أتبع ذلك بالأمر بلزوم موجبه والمقصود من ذكره، وهو البراءة من عبادة ما سوى الله، وإفراد الله بجميع أنواع العبادة. والأمر بهذا التوحيد والإخلاص مستفاد من المثل المضروب ببطلان الشرك ولزوم التوحيد، ومن التشنيع بجهل المشركين واتباعهم أهوائهم بغير علم، ومن الأمر الصريح في آخر الآيات بالإخلاص الموافق للفطرة، ولهذا فسر كثير من علماء السلف المثل الأعلى بمقصوده الأعظم من التوحيد والإخلاص. يقول ابن عباس رضي الله عنهما:"المثل الأعلى شهادة أن لا إله إلا الله"(1)، ويقول قتادة:"المثل الأعلى شهادة أن لا إله إلا الله"(2)،
ويقول: "المثل الأعلى الإخلاص والتوحيد"(3)، وقال مجاهد: "المثل
(1) تفسير البغوي 3/ 73، تفسير القرطبي 10/ 119.
(2)
تفسير الطبري 8/ 14/125، معاني القرآن للنحاس 4/ 77 ..
(3)
المرجعان السابقان، تفسير القرطبي 14/ 22.
الأعلى قول لا إله إلا الله" (1)، وقال محمد بن المنكدر في قوله: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} قال: "لا إله إلا الله" (2).
فالمعرفة والتوحيد أمران متلازمان، وهما أعظم ثمرات المثل الأعلى على الإطلاق، ولهذا كثر في نصوص القرآن والسنة التصريح بصفات الكمال ليعرف العباد ربهم بأسمائه وصفاته وأفعاله، وتمتلئ قلوبهم بمحبته وصدق التوكل عليه، فإن التحقق بمعرفة صفات الإلهية يورث المحبة الخاصة المستلزمة لكمال الطاعة والعبادة، والتحقيق بمعرفة صفات الربوبية يورث صدق التوكل وكمال الاستعانة، وهي الاعتماد على الله وحده في جلب المنافع ودفع المضار، ثقة بكفاية الله في العطاء والمنع والضر والنفع.
فالمعرفة الحق بصفات الإلهية تثمر إفراد الله بالعبادة قولا وعملا، والمعرفة بصفات الربوبية تثمر كمال الاستعانة بالله، والعبادة والاستعانة، أو الشرع والقدر هما أصلا السعادة في الدنيا والآخرة، وخاصة المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وقد جمع الله هذين الأصلين في مواضع من كتابه، كقوله تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، وقال:{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123]، وقال:{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: 10]، يقول ابن تيمية: "الناس في عبادته واستعانته على أربعة أقسام:
فالمؤمنون المتقون هم له وبه، يعبدونه ويستعينونه.
وطائفة تعبده من غير استعانة ولا صبر، فتجد عند أحدهم
(1) تفسير القرطبي 14/ 22.
(2)
تفسير ابن كثير 3/ 431.