الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخاتمة
أحمد الله في الختام كما حمدته في البدء فهو أهل للحمد في كل موطن، وبعد:
فقد انتهيت من دراستي لحقيقة المثل الأعلى إلى جملة من النتائج، منها:
1 -
لفظ (المثل) يستعمل لغة بمعنى النظير، والمثل المضروب، والصفة، واستعماله في هذه المعاني الثلاثة حقيقي، ولا يصح ادعاء أنه حقيقة في معنى النظير مجاز في الباقي، لأن هذه الدعوى مبنية على وجود مواضعة متقدمة، وعلى أن اللغات اصطلاحية، وكلاهما أمران غير مُسَلَّمَيْن.
2 -
وردت عن السلف الصالح عبارات متعددة في تفسير المثل الأعلى، فمن نظر لحقيقة المثل الأعلى فسره بالصفة العليا، أو بالنزاهة عن المثل، وهما معنيان متكاملان ومترابطان، لأن الصفات العليا يستحيل معها وجود المثل وإلا لم تكن عليا، وانتفاء المثل يعني التفرد بأعلى صفات الكمال، ومن نظر لآثار المثل الأعلى فسره بتوحيد العبادة قولا وعملا، أو ببعض أدلته ومعانيه، وذلك لأن التفرد بصفات الكمال يستلزم إفراد الموصوف بها بجميع أنواع العبادة.
3 -
دقة كلمات السلف، وعمق مضامينها، وضرورة فهمها وفق أصولهم ومداركهم، والحذر مما يسلكه بعض العلماء
من تخريج عباراتهم على ما يوافق مذهب الخلف، كما فعل بعض المفسرين بما نقل عنهم من تفسير المثل الأعلى بالشهادة بأن مرادهم الوصف بوحدانية الذات والصفات، أي توحيد الربوبية، وكما حمل آخرون تفسيرهم للمثل الأعلى بنفي المثل على نفي الصفات! وهذا ونظائره خروج بعباراتهم عن أصولهم وقواعدهم المعروفة، ومن هنا تبرز ضرورة تأمل عباراتهم حتى يصل الباحث لمرادهم الحقيقي، وحتى يتمكن من فهم حقيقة اختلاف عباراتهم في كل مسألة: هل هو خلاف حقيقي، أو مجرد اختلاف في المدارك والعبارات وتفسير للفظ ببعض أفراد معناه؟.
4 -
ثبوت المثل الأعلى لله وحده يقتضي بالضرورة إمكان وجود الصفة، وإمكان متعلقها إذا دلت على صفة متعدية، لأن الكمال لا يكون إلا بالحقائق الممكنة، ولهذا لا يجوز أن يفترض أن فعل الممتنع لذاته من الكمال، كما لا يجوز إخراج الصفات الاختيارية من نطاق الكمال، لأن وجودها الممكن إنما يكون على سبيل التعاقب!.
5 -
ثبوت المثل الأعلى يعني تفرد الرب بالكمال المطلق، وهو اسم جامع لصفات الكمال الوجودية المحضة التي لا تستلزم نقصا، ولا تشعر به بوجه من الوجوه، وهذا المعنى يتضمن تنزيه الرب عن ثلاثة أنواع من الصفات:
أ - صفات النقص النسبي: وهي ما كانت كمالا في المخلوق دون الخالق، وذلك لدلالتها على الحدوث والعدم والافتقار، وعلى وجود نظير يشارك الرب فيما تفرد به من الكمال، وما يجب له وحده من الحقوق. وهذا يبطل مسلك الضلال من اليهود والنصارى
ومشركي العرب وغيرهم الذين وصفوا الرب بهذا النوع من الصفات، كالصاحبة والولد!.
ب - الصفات السلبية المحضة: لأن الكمال إنما يتحقق بصفات وجودية، ولهذا كانت الصفات الثابتة بنصوص القرآن والسنة تدل صراحة أو تضمنا على معان وجودية. وهذا يبطل مسلك المتكلمين الذين وصفوا الرب بصفات سلبية محضة مفصلة، فضلوا عن تحقيق الكمال، وأساءوا الأدب مع الله، وخالفوا القرآن في إثباته ونفيه، وضمنوا ما ذكروه من صفات سلبية تعطيل كثير مما ورد من صفات الإثبات حتى ألزموا تعطيل الذات أو القول بالحلول!.
ج - صفات النقص المطلق: لأن إثبات الكمال يستلزم نقلا وعقلا انتفاء ضده وكل ما يستلزم ضده، وعلى هذا الأصل المحكم بنى علماء السلف تنزيه الرب عن النقائص التي لم ينفها السمع بأعيانها، كالحزن والندم والبكاء والمرض. وقد بنى المتكلمون التنزيه عن هذه الصفات على نفي الجسم، وهو دليل مبتدع لم يرد اعتباره مناطا للتنزيه، وهو كذلك مخالف للغة والعقل والطرق الفطرية في الاستدلال، ولهذا لم يحقق التنزيه وإنما أفضى بأهله إلى نفي صفات الكمال، واعتبارها نقائص تستلزم التجسيم!.
6 -
التنزيه عن المثل والكفء داخل في حقيقة المثل الأعلى كما نص على ذلك ابن عباس رضي الله عنهما، وذلك لأنه محقق لصفات الكمال ومستلزم لثبوتها على أكمل وجه، لأن نفي المثل والكفء إذا ورد في سياق المدح اقتضى التفرد بكثرة أوصاف الكمال. ولهذا أثبت أهل السنة والجماعة صفات الكمال المطلق على وجه
الاختصاص، فكل صفة من صفات الكمال فإن الله متصف بها على وجه لا يماثله فيها أحد سواء كان مما اختص به من كل وجه، كالخلق، أو كان مما اختص بكماله، كالعلم. وقد خالفهم في هذا الأصل طائفتان مشهورتان:
الأولى: الممثلة: فقد أثبتوا الصفات على وجه المماثلة بين الخالق والمخلوق إما مطلقا أو من بعض الوجوه!.
الثانية: المعطلة: فقد نفوا صفات الكمال أو كثيرا منها ظنا أن إثبات القدر المشترك يستلزم التمثيل!.
وأصل الخطأ مشترك بين الطائفتين، فقد اعتقدوا أن ظاهر نصوص الصفات إنما يدل على ما يختص بالمخلوق، ولهذا أبقاه الممثلة على ما توهموه، وأوجب المعطلة تأويله أو تفويضه فرارا مما تخيلوه من التمثيل!.
والصواب أن هذه الألفاظ موضوعة للقدر المشترك، والخصائص لا تدخل في مسماها عند الإطلاق، فإذا أضيفت لأحدهما دخلت الخصائص، وكان لكل منهما ما يختص به. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.