المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصلفأما فضيلة نوح عليه السلام فظاهرة - خصائص سيد العالمين وما له من المناقب العجائب

[السرمري]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة التحقيق

- ‌المبحث الأولالتعريف بالكتاب

- ‌المطلب الأول: اسم الكتاب:

- ‌المطلب الثاني: توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف:

- ‌المطلب الثالث: موضوع الكتاب ، ومجمل مباحثه:

- ‌المطلب الرابع: أهمية الكتاب ، وقيمته العلمية:

- ‌المطلب الخامس: منهج المؤلف فيه:

- ‌المطلب السادس: مصادره في الكتاب:

- ‌المطلب السابع: تقويم الكتاب:

- ‌المبحث الثانيالتعريف بالخصائص والمناقب والمعجزات

- ‌المطلب الأول: التعريف بالخصائص:

- ‌المطلب الثاني: التعريف بالمناقب:

- ‌المطلب الثالث: التعريف بالمعجزات:

- ‌المبحث الثالثوصف النسخ الخطية

- ‌النسخة الأولى:

- ‌النسخة الثانية:

- ‌النسخة الثالثة:

- ‌نماذج من النسختين الخطية

- ‌فصلاعلم أن التفضيل إنما يكون إذا ثبت للفاضل من الخصائص ما لايوجد للمفضول مثلُه

- ‌فصلفأمّا فضيلة نوح عليه السلام فظاهرة

- ‌الكلام على تفضيل هذه الأشياء وأنَّ ما أوتي محمد صلى الله عليه وسلم منها مثلُها أو ما يوازيها على أتم مما أوتيها إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأكمل وأفضل

- ‌فصلوأما عيسى صلى الله عليه وسلم فَرُوح الله ، وكلمته

- ‌فصلقال الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [

- ‌فصلوأما صالح عليه السلام

- ‌فصلوأما ردّ الشمس ليوشع بن نون عليه السلام

- ‌فصلوأما داود عليه السلام

- ‌فصلوأما ما أوتي سليمان عليه الصلاة والسلام

- ‌فصلوأمّا الخصائص التي اختصّ بها محمد صلى الله عليه وسلم دون غيره

- ‌فصلومن خصائص محمد صلى الله عليه وسلم أيضاً تضاعُف الصلاة على من صلى عليه

- ‌ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أنّه لما ولد فخرج من بطن أمّه [ق 62/و] وقع صلى الله عليه وسلم على الأرض ساجداً

- ‌فصلومن خصائصه صلى الله عليه وسلم التي اختصّ بها دون الأمّة أنه لم يكن يحتلم قط

- ‌فصلفي طيب ريحه صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلومن خصائصه أنه لم يكن أحَدٌ يَغلِبه بالقوّة

- ‌فصلومن خصائصه صلى الله عليه وسلم في أسمائه

- ‌فصلومن خصائصه صلى الله عليه وسلم الإسراء

- ‌فصلواختص بأن جمع فيه معاني وصفات لم تجتمع في غيره

- ‌فصلوفي حديث الإسراء والمعراج فوائد جليلة

- ‌فصل جامع لمقاصد الكتاب

- ‌فصلفيما خصه الله تعالى به في الآخرة

- ‌فهرس المصادر والمراجع

الفصل: ‌فصلفأما فضيلة نوح عليه السلام فظاهرة

‌فصل

فأمّا فضيلة نوح عليه السلام فظاهرة

، ومعجزته (1) باهرة ، وهو أوَّل رسول أُرسِل إلى بني آدم في أحد قولي العلماء ، وآيته التي أوتي نجاته في السفينة بمن آمن معه وإغراق عدوّه بدعوته وهي لعَمري فضيلة عظيمة ومعجزة كريمة ، ولاشك أن الماشي على وجه الماء من غير سفينةٍ أعظم من الماشي عليه في السفينة ، وقد أعطى الله تعالى نبيَّنا صلى الله عليه وسلم في أمَّته مَن مشى على وجه الماء بغير سفينة ، فكثير من أولياء أمَّة نبينا صلى الله عليه وسلم مشى (2) على الماء ، فمن ذلك ماروى مِنْجابٌ (3) قال: "غزونا مع العلاء بن الحَضْرمي (4) دَارِينَ (5) فدعا بثلاث دعوات فاستجيبت له ، نزلنا منزلاً فطَلَب الماء فلم يجدْه فقام فصلى ركعتين

وقال: اللهم إنَّا عبيدك وفي سبيلك نقاتل عدوَّك اللهم اسقنا غيثاً نتوضَّأ به ونشرب ولايكون لأحد فيه نصيب غيرنا ، فسِرْنا قليلاً فإذا نحن بماءٍ حين أقلعت السماء عنه

(1) كذا في أونسخة بهامش ب ، وفي ب "ومعجزاته".

(2)

في ب "يمشي".

(3)

الصواب أن الراوي هو ابنه: سهم بن منجاب بن راشد الضبي الكوفي.

انظر: الثقات (4/ 344) ، لابن حبان ، تحقيق: شرف الدين أحمد ، الطبعة الأولى 1395 ، دار الفكر؛ حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/ 7) ، لأبي نعيم الأصبهاني ، الطبعة الرابعة 1405 ، دار الكتاب العربي ، بيروت؛ موسوعة رسائل ابن أبي الدنيا (4/ص 39 - 40)، تحقيق: زياد حمدان ، الطبعة الأولى 1414 ، مؤسسة الكتب الثقافية ، بيروت؛ صفة الصفوة (1/ 695) ، لابن الجوزي ، تحقيق: محمود فاخوري ود. محمد رواس قلعه جي ، الطبعة الثانية 1399 ، دار المعرفة ، بيروت؛ منهاج السنة النبوية (8/ 106) ، البداية والنهاية (9/ 311).

(4)

هو الصحابي الجليل العلاء بن الحضرمي -واسم الحضرمي عبدالله- بن عباد بن أكبر بن ربيعة بن مالك بن الخزرج ، كان من حضرموت ، ولاه النبي صلى الله عليه وسلم البحرين ، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو عليها فأقره أبو بكر خلافته كلها ، ثم أقره عمر ، وتوفي في خلافة عمر سنة 14 ، وقيل: توفي سنة 21 والياً على البحرين.

انظر: أسد الغابة في معرفة الصحابة (4/ 71) ، لابن الأثير ، تحقيق: علي معوض وعادل عبدالموجود ، الطبعة الأولى 1415 ، دار الكتب العلمية.

(5)

دارين: فرضة بالبحرين يجلب إليها المسك من الهند ، والنسبة إليها (داري)، وهي حالياً قرية أو جزيرة من شرق المملكة العربية السعودية بالقرب من القطيف. انظر: المعالم الأثيرة في السنة والسيرة ص 115 ، لمحمد بن محمد حسن شراب ، الطبعة الأولى 1411 ، دار القلم ، دمشق؛ معجم البلدان (2/ 432).

ص: 330

فتوضأنا منه وتزوّدنا وملأت إداوتي (1) وتركتها مكانها حتى أنظر هل يستجيب له أم لا فسرنا قليلاً ثم قلت: لأصحابي نسيت إداوتي فرجعت إلى ذلك المكان فكأنَّه لم يصبه ماء قط ، ثم سرنا حتى أتينا دَارِينَ والبحر بيننا وبينهم فقال: يا عليم يا حليم يا عليّ يا عظيم إنَّا عبيدك وفي سبيلك نقاتل عدوّك اللهم فاجعل لنا إليهم سبيلاً فدخلنا البحر فلم يبلغ الماء لُبُودَنا (2) ومشينا على متن الماء ولم يَبْتلّ لنا شيء [ق 4/ظ] فلما رجع أخذه وجع البطن فمات فطلبنا ماء نغسله فلم نجده فلففناه في ثيابه ودفنَّاه فَسِرنا غير بعيدٍ فإذا نحن بماء كثير فقال بعضنا لبعضٍ: لو رجعنا فاستخرجناه ثم غسلناه فَرُحْنا (3) فطلبناه فلم نجده فقال رجل من القوم إني سمعته يقول: يا عظيم (4) يا حليم يا علي يا عظيم أخْفِ عليهم موتي - أو كلمة نحوها - ولا تُطلع على عيوبي أحداً فرحَلْنا وتركناه" (5) ، وقال عمر بن ثابت: "دخلتْ في أذن رجل من أهل البصرة حصاة فعالجها الأطبَّاء فلم يقدروا عليها حتى وصلت إلى سِماخه (6) فأسهرت ليلَهُ ونغَّصت عيشَ نهاره

فأتى رجلاً من أصحاب الحَسَن فشكا إليه فقال له: ويحك إن كان شيء ينفعُك الله به فدعوة العلاء بن الحَضْرمي التي دعا بها في البحر والمفازة ، قال: وما هي رحمك الله ،

(1) الإداوة بالكسر: المطهرة ، وهي إناء صغير من جلد يُتخذ للماء ، وجمعها أداوى.

انظر: تاجر العروس من جواهر القاموس (37/ 51) ، النهاية في غريب الأثر (1/ 63).

(2)

لبود: جمع لبد ، وهو كل شعر أو صوف ملتصق بعضه ببعض التصاقاً شديداً.

انظر: إكمال الأعلام بتثليث الكلام ، لمحمد الطائي الجياني ، تحقيق: سعد الغامدي ، 1404 ، جامعة أم القرى ، مكة.

(3)

كذا في أونسخة بهامش ب ، وفي ب "فرجعنا".

(4)

في هامش أ: الظاهر "عليم".

(5)

أخرجه بنحوه ابن أبي الدنيا في مجابي الدعوة -موسوعة رسائل ابن أبي الدنيا- (4/ص 39 - 40) ، كما ذكر هذه الرواية بنحوها ابن الجوزي في صفة الصفوة (1/ 695) ، وابن كثير في البداية والنهاية (9/ 311)، والبيهقي مختصراً في الدلائل (6/ 191)؛ قال ابن حبان في الثقات (4/ 344):"سهم بن منجاب يروي عن العلاء بن الحضرمي في دعواته المستجابة".

(6)

في ب "صِماخه" وهو صحيح ، قال ابن الأثير في السماخ:"ويقال بالصاد لمكان الخاء"؛ والسماخ: هو ثقب الأذن يدخل فيه الصوت. النهاية (2/ 992).

ص: 331

قال: يا علي يا عظيم يا حليم يا عليم فدعا بها فوالله ما برحنا حتى خرجت من أذنه ولها طنين حتى أصابت الحائط وبرأ" (1)؛ والمشي على الماء في السفينة أمر معلوم معهود والنجاة فيه غير مستبعدة ، ومشيُ العلاء بن الحَضرمي وأصحابه بخيولهم ودوابِّهم وحمُولهم على متن الماء بلا سفينة أعظم بالنسبة إلى معجزة محمد صلى الله عليه وسلم مِن مشي نوح عليه السلام ومن معه في السفينة واستجيبت دعواته كما استجيبت دعوة نوح عليه السلام أيضاً ، فكرامة الأمَّة (2) من معجزة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم ، وسيأتي قصة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأصحابه في فتح أبيض كسرى (3) إن شاء الله تعالى.

فإن قيل: إن الله تعالى أعطى نوحاً عليه الصلاة والسلام ما سأل من شِفَاء غيظه في إجابة دعوته على قومه بتعجيل النقمة عليهم حين كذَّبوه وكفروا بما أُرسل به فأهلك بدعوته مَن على بسيط الأرض مِن صامتٍ وناطقٍ إلا مَن آمن به ودخل معه السفينةَ وكانوا قليلاً كما قال تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود: من الآية 40] وكانوا فيما قيل: ثمانين نفساً أو نحوها ، قلنا: هذه فضيلة عظيمة وآية جسيمة وافقَتْ سابِق القَدَر في هلاك مَن هلك لكن فضيلة نبيِّنا صلوات الله عليه وسلامه أكمل ، ومعجزته أجمل ، وعاقبتها أحسن ، وصورة الواقع فيها أبين ، وذلك أنه لمَّا كذَّبه قومُه [ق 5/و] وآذوه وبالغوا في أذاه جاءه الملك من ربِّه يُخيِّره في أن يُطبِق عليهم الأخشبَيْن: أخشبَي مكة يعني: الجبلين المكتنفين لها ، فقال: «بل أرجو أن يُخرج الله من

أصلابهم مَن يعبد الله لايشركُ به شيئاً» (4) ، فكان ما رَجَا من ذلك وزيادة ، ولمَّا أسْرَف

(1) أخرجه ابن أبي الدنيا بنحوه في مجابي الدعوة -موسوعة رسائل ابن أبي الدنيا- (4/ 41) ، كما ذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة (1/ 696 - 697).

(2)

في ب "الأولياء".

(3)

أبيض كسرى: مُلك كسرى ، وإنما قال الأبيض لبياض ألوانهم ولأن الغالب على أموالهم الفضة. انظر: النهاية (1/ 541).

(4)

أخرجه البخاري (4/ 115) بنحوه في كتاب بدء الخلق ، باب إذا قال أحدكم: آمين والملائكة في السماء فوافقت إحداهما الأخرى غُفر له ما تقدم من ذنبه ، ح 3231؛ وأخرجه مسلم (3/ 1420) كتاب الجهاد والسير ، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين ، ح 1795.

ص: 332

من أسْرَف في عداوته وبلغ الغاية في أذيَّته حين ألقى عُقبة بن أبي مُعَيْط على ظهره صلى الله عليه وسلم سَلَا (1) الجزور وهو ساجد والحديث فيه مشهور وهو ما رُوي عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة وجَمْعٌ (2) من قريش ينظرون فقال قائل منهم: ألا ترون إلى هذا المُرائِي أيُّكم يقوم إلى جَزور آل فلان فيعمد إلى فرثها ودَمِها وسَلاها حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه ، فانطلق أشقاهم فجاء به حتى إذا سجد صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه ، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجداً ، وضحكوا حتى مال بعضهم على بعض من الضحك ، فانطلق منطلق إلى فاطمة وهي جويرية (3) فأقبلت تسعى وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً حتى نَحَّتْهُ عنه وأقبلت عليهم تسبُّهم ، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته استقبل الكعبة فقال (4):«اللهم عليك الملأ من قريش» ثم سمّاهم فقال: اللهم عليك بعَمرو بن هشام وشيبة وعُتبة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي مُعَيط وعُمَارة بن (5) الوليد» قال عبدالله: والذي توفّى نفْسَه لقد رأيتهم صرعى يُسحَبون إلى القليب قليب بدْر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اللهم أتبع أهل القليب لعنةً» (6) فلم يَدْعُ عليهم بالبوار

(1) السلى: الجلد الرقيق الذي يخرج فيه الولد من بطن أمه ملفوفاً فيه. النهاية (2/ 986).

(2)

كذا في أونسخة بهامش ب ، وفي ب "وجميع" وهو خطأ.

(3)

في هامش ب "أي شابة قليلة السنِّ".

(4)

في ب "قال" بدون الفاء.

(5)

في ب "ابن" بزيادة الهمزة ، وهو خطأ.

(6)

أخرجه البخاري (1/ 110) بنحوه في كتاب الصلاة ، باب المرأة تطرح عن المصلي شيئاً من الأذى ، ح 520 ، بلفظ:«اللهم عليك بقريش ، اللهم عليك بقريش ، اللهم عليك بقريش» ثم سمى: «اللهم عليك بعمرو بن هشام ، وعتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، والوليد بن عتبة ، وأمية بن خلف ، وعقبة بن أبي معيط ، وعمارة بن الوليد»

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأتبع أصحاب القليب لعنة» ؛ وأخرجه مسلم (3/ 1419) ، كتاب الجهاد والسير ، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين ، ح 1794 ، بلفظ:«اللهم عليك الملأ من قريش: أبا جهل ، وعتبة بن ربيعة ، وعقبة بن أبي معيط ، وشيبة بن ربيعة ، وأمية بن خلف - أو أبي بن خلف شعبة الشاك-» .

ص: 333

كلِّهم ولا باستئصال شأفتهم (1)(2) ، وكذلك لما استعان عليهم بدعائه أن يعينه عليهم بسبع كسبع يوسف فأجْدبوا حتى أكلوا العظام من الجوع حتى جاء إليه صلى الله عليه وسلم أكابرهم يسألونه أن يدعو لهم بكشف ذلك عنهم ، فلما دعا قال الله تعالى:{إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان: 15]، فلما عادوا انتقم الله منهم قال تعالى:{يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان: 16] فانتقم منهم بالقتل يوم بدر (3)؛ والسِّرُّ في دعائه صلى الله عليه وسلم على هؤلاء النَّفر خاصَّةً أنهم اتّفقوا [ق 5/ظ] على هذا الفعل القبيح ، وادَّعوا أنه مُراءٍ بصلاته ، وانتهكوا حرمة الصلاة مع حرمته صلى الله عليه وسلم ، فكان غضبه ودعاؤه لأجل انتهاك حرمة الصلاة لله تعالى في ذلك المكان فلم يَحسُن العفو حينئذ بل تعيَّن الانتصار والانتصاف فإنه كان (4) من عادته صلى الله عليه وسلم أن لاينتصر لنفسه كما لم يعاقب الذين سَمُّوه ولا الذين سَحروه ولا الذي أراد اغتياله في أشياء نحو ذلك وإنما غضب هنا (5) وانتصر لحقِّ الله تعالى فدعا عليهم فاستجاب الله تعالى له فيهم وأظهر تكذيبهم في اعتقادهم أنه مُراءٍ فاجتمع له صلى الله عليه وسلم في هذه القصة من الفضائل ما يضيق هذا المكان عن ذكره مما لم يحصل لنوح عليه السلام منه إلا البعض ، فإنَّ نوحاً عليه الصلاة والسلام لمَّا اشتدَّ عليه الأذى من قومه دعا ربَّه أنِّي مغلوب فانتصر فقال الله تعالى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا

جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر: 11 - 14] فكان دعاؤه عليه السلام دعاء منتقمٍ مستنصرٍ (6)

(1) في ب "ساقتهم" ، وفي هامشه "ساقة الجيش مُؤخّره".

(2)

شأفة الرجل: أهله وعياله. تاج العروس من جواهر القاموس (23/ 487).

(3)

القصة أخرجها البخاري (6/ 131) ، كتاب تفسير القرآن ، باب قوله:{رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان: 12] ، ح 4822؛ وأخرجها مسلم (4/ 2155) ، كتاب صفة القيامة والجنة والنار ، باب الدخان ، ح 2798.

(4)

في ب "فكان" بدون إنه.

(5)

في ب "هاهنا".

(6)

في ب "منتصر".

ص: 334

فاستجاب الله تعالى له فشفى صدره منهم وأغرقهم ودعوة نبيّنا صلى الله عليه وسلم كانت رحمةً و (كانت)(1) أكثر نفعاً وأعظم أثراً في الخير والبركة كما روى أنس رضي الله عنه قال: أصاب أهلَ المدينة قحط على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام إليه الناس يوم جمعة وهو على المنبر يخطب فقالوا: يا رسول الله غلَتِ الأسعار واحتَبَست الأمطار فادع الله أن يسقينا فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يَده واستسقى قال: فمُطِرنا ولم نزل نُمطَرُ حتى كانت الجمعة المُقبلة فقام إليه الناس فقالوا: ادع الله يَحْبِسْها عنَّا فتبسَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفع يده فقال: «اللهم حوالينا ولا علينا» قال: فتخرَّقَتْ (2) فصارت المدينة كأنَّها إكْليل (3) وما حولها ممطور (4)، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ربَّما ذكرتُ قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النّبي صلى الله عليه وسلم يستسقى (فما ينزل حتى يجيش [ق 6/و] كل مِيزاب (5)) (6)

وأبيض يُسْتسقى الغَمام بوجهه

ثِمَالَ (7) اليتامى عصمةً للأرامل (8)

(1)"كانت" ليس في ب.

(2)

في هامش ب "أي انكشفت الغيم".

(3)

إكليل: الإكليل -بكسر الهمزة وسكون الكاف-: كل شيء دار من جوانبه ، يُريد أن الغيم تقشَّع عنها واستدار بآفاقها. انظر: فتح الباري (2/ 506) ، تفسير غريب ما في الصحيحين البخاري ومسلم ص 102 ، لمحمد بن أبي نصر فتوح الأزدي الحميدي ، تحقيق: زبيدة محمد سعيد ، الطبعة الأولى 1415 ، مكتبة السنة ، القاهرة؛ النهاية (4/ 353).

(4)

أخرجه البخاري (4/ 195) ، كتاب المناقب ، باب علامات النبوة في الإسلام ، ح 3582 ، بلفظ: "أصاب أهل المدينة قحط على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبينا هو يخطب يوم الجمعة ، إذ قام رجل فقال: يا رسول الله هلكت الكراع ، هلكت الشاء ، فادع الله يسقينا ، «فمد يديه ودعا» ، قال أنس: وإن السماء لمثل الزجاجة ، فهاجت ريح أنشأت سحاباً ، ثم اجتمع ثم أرسلت السماء عزاليها ، فخرجنا نخوض الماء حتى أتينا منازلنا ، فلم نزل نمطر إلى الجمعة الأخرى ، فقام إليه ذلك الرجل أو غيره ، فقال: يا رسول الله: تهدمت البيوت فادع الله يحبسه ، فتبسم ، ثم قال:«حوالينا ولا علينا» فنظرت إلى السحاب تصدع حول المدينة كأنه إكليل ، وأخرجه مسلم (2/ 614) ، بنحوه في كتاب صلاة الاستسقاء ، باب الدعاء في الاستسقاء ، ح 897.

(5)

مِيزاب بكسر الميم: وهو ما يسيل منه الماء من موضع عال. انظر: فتح الباري (2/ 497).

(6)

مابين القوسين ليس في ب.

(7)

ثِمَال بكسر المثلثة وتخفيف الميم: هو العماد والملجأ والمطعم والمغيث والمعين والكافي ، قد أطلق على كل من ذلك. فتح الباري (2/ 496).

(8)

عصمة للأرامل: أي يمنعهم مما يضرهم ، والأرامل جمع أرملة: وهي الفقيرة التي لا زوج لها.

فتح الباري (2/ 496).

ص: 335

وهو قول عمه أبي طالب (1) رواه البخاري (2) ، فكانت دعوته نعمة في الأوَّل [و](3) رحمة في الآخر (4) ، ولم تكن دعوة نوح عليه الصلاة والسلام إلا مجرَّد عذابٍ شفى الله تعالى به قلبه؛ ولبث نوح عليه السلام في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم فبلغ جميع من آمن به من الرجال والنساء الذين ركبوا معه في السفينة وهم دون المائة نفْسٍ كما أشرنا إليه ، ونبينا صلى الله عليه وسلم كانت مدَّة دعائه (5) الخلق إلى الحقِّ نحو عشرين سنة فآمن فيها من الخلق شرقاً وغرباً ما لايُحصى ودانت له جبابرة الأرض وملوكها وخافته على ملْكها ككسرى وقيصر وأسلم النَّجاشي والأقيال (6) رغبة في دين الله تعالى ممن رآه وممن سمع به ولم يره لِمَا ألقى الله في قلوب الخلق من هيبته ، والتزم مَن لم يؤمن به من أقطار الأرض الجزية والأتاوة (7) عن صَغار كأهل نجران وهجر وأيلة وغيرهم فأذلَّهم الله بما ألقى في قلوبهم من الرعب الذي كان يسير أمامه مسيرة شهر حتى جاءه نصر الله والفتح

(1) هذا البيت من أبيات في قصيدة لأبي طالب ، ذكرها ابن إسحاق في السيرة بطولها ، وهي أكثر من ثمانين بيتاً ، قالها لما تمالأت قريش على النبي صلى الله عليه وسلم ونفَّروا عنه من يريد الإسلام ، أولها:

ولما رأيت القوم لا ود فيهم

وقد قطعوا كل العرا والوسائل. فتح الباري (2/ 496).

(2)

أخرجه البخاري (2/ 27) ، كتاب أبواب الاستسقاء ، باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا ، ح 1009.

(3)

"و" زيادة من ب.

(4)

في أ "في الثاني" ، وما أثبته من ب هو الصواب ، لأن العرب لا يسمون (الثاني) إلا ما كان له ثالث. انظر: عمدة الكتاب ، لأبي جعفر النحاس ص 100 ، تحقيق: بسام الجابي ، الطبعة الأولى 1425 ، دار ابن حزم.

(5)

في هامش ب "دعوته".

(6)

الأقيال: جمع قيل وهو أحد ملوك حِمْيَر دون الملك الأعظم ، مأخوذ من القول بمعنى نفوذ القول والأمر؛ وقد أسلم وائل بن حجر الحضرمي ، وكان قيلاً من أقيال حضرموت وكان أبوه من ملوكهم ، وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بشر أصحابه بقدومه قبل أن يصل يأيام وقال:«يأتيكم وائل بن حجر من أرض بعيدة من حضرموت طائعاً راغباً في الله عز وجل وفي رسوله ، وهو بقية أبناء الملوك» ، واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على الأقيال من حضرموت. انظر: النهاية في غريب الأثر (4/ 226،206) ، غريب الحديث (2/ 275) ، لابن الجوزي ، تحقيق: د. عبدالمعطي أمين قلعجي ، الطبعة الأولى 1985 ، دار الكتب العلمية ، بيروت؛ أسد الغابة (5/ 405).

(7)

الأتاوة: وهو الخراج. النهاية (1/ 27).

ص: 336

ودخل الناس في دين الله أفواجاً فهذه منزلة لم تحصل لا (1) لنوح ولا لغيره من النبيين صلوات الله عليهم أجمعين ، ولا بلغ مُلْك مَلك ما بلغ مُلكه ودينَه كما قال:«زُويت (2) لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وأن مُلك أمّتي سَيبلغ (3) ذلك» (4).

وأما فضيلة نوح عليه السلام بأن الله تعالى سماه شكوراً باسم من أسماءه سبحانه ، فنبيّنا صلى الله عليه وسلم قد خصَّه باسمين من أسماءه جمعهما له لم يشركه فيهما أحد فقال:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، ونوح عليه السلام لمَّا خاطبه الله تعالى قال له:{يَانُوحُ [اهْبِطْ بِسَلَامٍ] (5)} [هود: من الآية 48]، ولمَّا خاطب صلى الله عليه وسلم لم يقل له: يامحمد بل قال له: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة: 41 ، 67]، {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال: من الآية 64 ، 65 ، 70 / التوبة: من الآية 73 / الأحزاب: من الآية 1 ، 28 ، 45 ، 50 ، 59 / الممتحنة: من الآية 12 / الطلاق: من الآية 1 / التحريم: من الآية 1 ، 9] ، {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزَّمل: 1] ، {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدَّثر: 1] ، فخاطبه بصفات الشَّرف والرِّفعة التي تقوم مقام الكنية واللقب بل أعظم ، والخطاب بالكنية واللقب أعظم من

الخطاب بالاسم المجرَّد ، وكذلك باقي الأنبياء خاطبهم [ق 6/ظ] بأسمائهم المجرَّدة فقال:{يَاإِبْرَاهِيمُ} [هود: من الآية 76 / مريم: من الآية 46 / الأنبياء: من الآية 62 / الصافات: من الآية 104]، {يَامُوسَى} [البقرة: من الآية 55 ، 61 / المائدة: من الآية 22 ، 24 / الأعراف: من الآية

(1) في ب "إلا" ، وهو خطأ.

(2)

زويت: جُمعت ، ويقال: انزوى القوم بعضهم إلى بعض إذا تدانوا وتضاموا. غريب الحديث (1/ 3) ، القاسم بن سلام ، تحقيق: د. محمد عبدالمعيد خان ، الطبعة الأولى 1396 ، دار الكتاب العربي ، بيروت.

(3)

في ب "يبلغ".

(4)

أخرجه مسلم (4/ 2215) ، كتاب الفتن وأشراط الساعة ، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض ، ح 2889 ، بلفظ: «إن الله زوى لي الأرض ، فرأيت مشارقها ومغاربها ، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي منها

» الحديث.

(5)

{اهْبِطْ بِسَلَامٍ} زيادة من ب.

ص: 337

115 ، 134 ، 138 ، 144 / الإسراء: من الآية 101 / طه: من الآية 11 ، 17 ، 19 ، 36 ، 40 ، 49 ، 57 ، 65 ، 83 / النمل: من الآية 9 ، 10 / القصص: من الآية 19 ، 20 ، 30 ، 31] ، {يَايَحْيَى} [مريم: من الآية 12] ، {يَادَاوُودُ} [ص: من الآية 26] ، {يَاعِيسَى} [آل عمران: من الآية 55 / المائدة: من الآية 110 ، 112 ، 116] ولم يكنهم ولم يخاطبهم بما يقوم مقام الكنية واللقب ، ولمَّا خاطبهم كلّهم وكان محمد صلى الله عليه وعليهم وسلم داخلاً (1) فيهم خاطبهم بالتعظيم فقال: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ

} (الآية)(2)[المؤمنون: 51] ، فظهر فضل محمد صلى الله عليه وسلم عليهم كلهم في هذه المسئلة وفي غيرها كما سنذكره إن شاء الله تعالى ، وقريبٌ من هذا المعنى أن كل نبيّ لما آذاه قومُه وكذَّبوه وسبّوه تولى هو الذب عن نفسه بنفسه ، ومحمد صلى الله عليه وسلم صفح عنهم وأعرض عن إجابتهم فتولى الله سبحانه الجواب عنه وانتصر له وكذَّبهم فيما نسبوه (3) صلى الله عليه وسلم إليه ، وذلك نحو قول قوم نوح لنوح عليه الصلاة والسلام:{إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأعراف: من الآية 60] فأجابهم: {يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: من الآية 61]، ونحو قول قوم هود لهود عليه الصلاة والسلام:{إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} [الأعراف: من الآية 66] فقال مجيباً لهم: {يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: من الآية 67]، وقول فرعون لموسى عليه الصلاة والسلام:{إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا} [الإسراء: من الآية 101] فرد عليه بقوله: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ

مَثْبُورًا} [الإسراء: من الآية 102] وأشباه هذا ، ونبينا صلى الله عليه وسلم لمَّا قال له المشركون: شاعر أو مجنون صبر على أذاهم ووكل أمره إلى ربه سبحانه فتولى الجواب عنه ونصَره عليهم وكذّبهم بوحي يُتلى

(1) في ب "داخلهم".

(2)

"الآية" ليس في ب.

(3)

كذا في أونسخة بهامش ب ، وفي ب "سبُّوه".

ص: 338

فقال: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ [وَمَا يَنْبَغِي لَهُ] (1)} [يس: من الآية 69] وقال: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم: 2] وزاد على الانتصار له بمدحه إيّاه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] وهدَّد مَن نسب إليه خلاف الصحة (2) فقال: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} [القلم: 5 - 6] ولما قالت قريش: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: من الآية 103] و {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان: من الآية 4] دفع الله عنه ما قالوا وانتصر له وكذبهم وبكتهم وبكعهم (3) وأظهر حجَّته له عليهم وكسر حجتهم وأبطل دعواهم فقال سبحانه: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: من الآية 103] وقال تعالى: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفرقان: من الآية 6] في أمثال (هذا)(4) ، وكمال هذه الأمور [ق 7/و] لم تحصل لغير نبينا صلى الله عليه وسلم.

فإن قيل: في قوله تعالى: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: من الآية 26] وأن الله سبحانه استجاب له فأغرق الأرض ومَن عليها دليل على أن نوحاً عليه الصلاة والسلام كان مُرسلاً إلى جميع أهل الأرض فكيف يقال: بأن محمداً صلى الله عليه وسلم وحده أُرسِل إلى الناس كافةً ، فالجواب: أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم عامَّة في جميع الأمكنة والأزمنة والأصناف ، فإنه صلى الله عليه وسلم بُعث إلى جميع أهل الأرض إنسهم وجنِّهم ودعوته صلى الله عليه وسلم باقية إلى يوم القيامة لا يُبعث بعده نبي يَنسخ (5) شريعته ، وهذه الخصيصة ليست لنوح عليه

الصلاة والسلام ولا لغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وقوم نوح عليه الصلاة والسلام إذا كانوا هم الذين أُغْرِقُوا فدعوته مختصة بهم لم تتناول مَن بعدهم من القرون ،

(1){وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} زيادة من ب.

(2)

في هامش ب "أي المرض والجنون تعالى الرسول من ذلك".

(3)

بكعت الرجل بكعاً: إذا استقبلته بما يكره وهو نحو التقريع. النهاية (1/ 388).

(4)

"هذا" ليس في ب.

(5)

كذا في أونسخة بهامش ب ، وفي ب "يمسخ".

ص: 339

ودعوة موسى عليه الصلاة والسلام وإن كانت متناولة لبني إسرائيل قرناً بعد قرن إلى المسيح عليه الصلاة والسلام فلم تكن متناولة لغيرهم ولهذا لم يكن مبعوثاً إلى الخضر وما جرى بينهما من المحاورة دليل على ذلك والله أعلم.

فصل

وأما إبراهيم عليه الصلاة والسلام فهو خليل الله وناهيك بها فضيلة قد جمع الله تعالى له بين النُّبوة والرِّسالة والخلَّة (والعزيمة)(1) ، لكن قد أُعطي نبينا صلى الله عليه وسلم ذلك وزاد ، فهو نبي رسول خليل حبيب ، ففيه ما في إبراهيم والزيادة التي لم تتحصَّل لغيره من الرسل ، فإبراهيم صلى الله عليه وسلم خليل الله ومحمد صلى الله عليه وسلم أيضاً خليل الله ، ولكن محمد صلى الله عليه وسلم أعظم الخليلين ، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً» أو كما قال (2)، ففي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال:«لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن صاحبكم خليل الله» (3)، وقال صلى الله عليه وسلم:«اتخذ اللهُ إبراهيم خليلاً وموسى نجياً واتخذني حبيباً - ثم قال - وعزَّتي لأُوثرنَّ حبيبي على خليلي ونجيِّي» (4) ، وهو صلى الله عليه وسلم في

(1)"والعزيمة" ليس في ب.

(2)

أخرجه مسلم (1/ 377) ، بنحوه في كتاب الصلاة ، باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها والنهي عن اتخاذ القبور مساجد ، ح 523.

(3)

أخرجه مسلم (4/ 1896) ، بنحوه في كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم ، باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، ح 2383.

(4)

أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (3/ 81) ح 1413 ، تحقيق: د. عبدالعلي عبدالحميد ، الطبعة الأولى 1423 ، مكتبة الرشد ، الرياض ، وقال البيهقي في راويه مسلمة بن علي:"مسلمة بن علي هذا ضعيف عند أهل الحديث"؛ وقال ابن الجوزي: "هذا حديث لا يصح ، انفرد بروايته عن زيد: مسلمة ، قال يحيى: مسلمة ليس بشيء ، وقال النسائي والدارقطني والأزدي: متروك". كتاب الموضوعات (1/ 290) ، لابن الجوزي ، تحقيق: عبدالرحمن محمد عثمان ، الطبعة الأولى 1386 ، المكتبة السلفية ، المدينة؛ وقال الألباني: "موضوع

ثم إنه مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله اتخذني خليلاً ، كما اتخذ إبراهيم خليلاً» ". سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيء في الأمة (4/ 110) ، الطبعة الأولى 1412، دار المعارف ، الرياض.

ص: 340

التوراة مكتوب محمد حبيب الرحمن (1).

فإن قيل: إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام حُجب عن نُمروذ (2) بحُجب ثلاثة (3)، قيل: إنَّ محمَّداً صلوات الله وسلامه عليه حجبه الله تعالى بستة حجب قال [الله](4) تعالى في حقّه: {إِنَّا جَعَلْنَا [ق 7/ظ] فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [يس: 8 - 9] فهذه أربعة حجب ثم قال تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ

الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ

(1) هذا الخبر جزء من حديث الإسراء الطويل المتقدم تخريجه ، وقد أخرج هذا الخبر بلفظ:«وهو مكتوب في التوارة محمد حبيب الرحمن» البزار في مسنده (17/ 11) ، وأخرجه بنحوه ابن جرير في تهذيب الآثار (1/ 441) ، وابن كثير في تفسيره (5/ 37) ، والهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (1/ 236) ، طبعة 1408 ، دار الكتب العلمية ، بيروت؛ وقال:"ورجاله موثقون إلا أن الربيع بن أنس قال عن أبي العالية أو غيره فتابعيه مجهول". مجمع الزوائد (1/ 236).

(2)

في ب "نمرود" بالدال المهملة ، وكلا الوجهين صحيح عند الجمهور ، قال الزبيدي: "نمرود بالضم وإهمال الدال وإعجامها ، وفي المزهر -المزهر في علوم اللغة وأنواعها ، للسيوطي- بالوجهين، وصرَّح العصام وغيره بأنه المعجمة ، قال شيخنا: يؤيده ما أنشده الخفاجي في المجلس الثامن من الطراز لابن رشيق من قوله:

يا رب لا أقوى على دفع الأذى

وبك استعنت على الزمان المُوذي

مالي بعثت إليَّ ألف بعوضة

وبعثت واحدة على نمروذ -هذا اعتراض للقدر لا يجوز-

قال: وهو الموافق للضابط الذي نظمه الفارابي فرقاً بين الدال والذال في لغة الفرس حيث قال:

احفظ الفرق بين دال وذال

فهو ركن في الفارسية معظم

كل ما قبله سكون لا وا

وٍ فدالٌ وما سواه فمعجم

وفي أمالي ثعلب: نمروذ ، بالذال المعجمة ، وأهل البصرة يقولون: نمرود ، بالدال المهملة ، وعلى هذا عوَّل كثيرون فجوزوا الوجهين". تاج العروس (9/ 240).

(3)

في ب "بثلاث حجاب".

(4)

لفظ "الله" زيادة من ب.

ص: 341

وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء: 45 - 46] وهذا حجابان فصارت ستَّة حجب ، وزيادة أخرى وهي أنَّ الله تعالى جعل حجب محمد صلى الله عليه وسلم من أعداءه حجباً لأمَّته من أعدائهم من الجنِّ والإنس كما ذكرنا ذلك في موضعه.

فإن قيل: إن إبراهيم عليه السلام كسر نمروذ (1) ببرهان نبوَّته فبهته كما قال تعالى: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة: من الآية 258]، قلنا: فمحمد صلى الله عليه وسلم أتاه أُبيُّ بن خَلَف المكذِّب بالبعث بعظمٍ بالٍ ففركَه فانفتَّ في يده وقال: من يحي العظام وهي رميم إنكاراً لإحيائها بعدما رمَّت فأنزل الله تعالى البرهان الساطع والجواب القاطع: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 79] فانصرف مبهوتاً مكبوتاً (2).

فإن قيل: إبراهيم عليه السلام كسَّر أصنام قومه غضباً لله تعالى ، قلنا: فمحمد صلى الله عليه وسلم نكَّس (3) ثلاثمائة وستين صنماً كانت منصوبة حول الكعبة بإشارته إليها من غير أن يمسَّها بيده فتساقطت ، وجعل يطعن بسية (4) قوسٍ كانت معه في عين الصنم منها ويقول:«{جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: من الآية 81] ، {جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: من الآية 49]» (5) ، وأبلغ من هذا في الطرفين أن إبراهيم

(1) في ب "نمرود" بالدال المهملة.

(2)

القول أن الآيات في سورة يس (77 - 80) قد نزلت في أبي بن خلف هو قول: مجاهد ، وعكرمة ، وعروة بن الزبير ، والسدي ، وقتادة. تفسير ابن كثير (6/ 593).

(3)

في ب "يكسر" وعليها تضبيب.

(4)

في ب "بسئة" ، وما أثبته من أ -بتخفيف الياء- هو الوارد في صحيح مسلم ، قال النووي:"السية بكسر السين وتخفيف الياء المفتوحة: المنعطف من طرفي القوس". المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (12/ 128 - 129).

(5)

أخرجه البخاري (6/ 86) ، كتاب تفسير القرآن ، باب (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً) ، ح 4720 ، من طريق عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ، بلفظ: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة ، وحول البيت ستون وثلاث مائة نُصُب ، فجعل يطعنها بعود في يده ، ويقول:«{جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: من الآية 81] ، {جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: من الآية 49]» ؛ وأخرجه مسلم (3/ 1408) ، بنحوه في كتاب الجهاد والسير ، باب إزالة الأصنام من حول الكعبة ، ح 1781.

ص: 342

عليه الصلاة والسلام فعل ذلك مستخفياً من قومه وأحال به على كبيرهم وإن كان ذلك إلزاماً للحجة على قومه إذا لم ينطقوا حتى عدّد ذلك من كذباته ، فنبينا صلى الله عليه وسلم دخل هو وعلي رضي الله عنه الكعبة فصعد صلى الله عليه وسلم على منكب عليٍّ رضي الله عنه فلم يقدر عليٌّ على حمله ، فأصعد عليّاً على منكبه فقلع الصنم الذي كان من صُفرٍ على الكعبة فقذفه فوقع فتكسر كما تتكسَّر القوارير (1)[ق 8/و] ، ولا ريب أنَّ هذا كان سراً من قريش والأول (2) جهراً يوم فتح مكة.

فإن قيل: إبراهيم عليه السلام لمَّا أُلقي في نار نمروذ (3) خمدت وطفئت ، قلنا: أبلغ من ذلك نار جهنم إذا مرَّ عليها المؤمن من أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم قالت: جُزْ يامؤمن فقد أطفأ نورك لهبي (4).

وليلة مولد نبينا صلى الله عليه وسلم خمدت نيران فارس التي كانت تُعبَد ولم تخمد قبل ذلك بألف

(1) أخرجه أحمد في مسنده (1/ 443 - 444) ح 644 ، من طريق علي رضي الله عنه ، بلفظ:"انطلقت أنا والنبي صلى الله عليه وسلم حتى أتينا الكعبة ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجلس» وصعد على منكبي ، فذهبت لأنهض به ، فرأى مني ضعفاً فنزل ، وجلس لي نبي الله صلى الله عليه وسلم ، وقال: «اصعد على منكبي» ، قال: فصعدت على منكبيه ، قال: فنهض بي ، قال: فإنه يخيل إلي أني لو شئت لنلت أفق السماء ، حتى صعدت على البيت ، وعليه تمثال صُفر أو نحاس ، فجلت أُزاوله عن يمينه وعن شماله وبين يديه ومن خلفه ، حتى إذا استمكنت منه قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقذف به» ، فقذفت به ، فتكسر كما تتكسر القوارير ، ثم نزلت فانطلقت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نستبق ، حتى توارينا بالبيوت خشية أن يلقانا أحد من الناس"؛ وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 21) ح 9836؛ قال الشيخ أحمد شاكر: "إسناده صحيح". المسند للإمام أحمد (1/ 443)، شرح: أحمد شاكر ، الطبعة الأولى 1416 ، دار الحديث ، القاهرة.

(2)

في ب "والأول" عليها تضبيب.

(3)

في ب "نمرود" بالدال المهملة.

(4)

أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (1/ 340) ح 277 ، وقال فيه:"تفرد به سليم بن منصور وهو منكر"؛ والهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 652) ح 18446 ، وقال فيه:"رواه الطبراني وفيه سليم بن منصور بن عمار وهو ضعيف"؛ وابن عدي في الكامل في ضعفاء الرجال (6/ 394)، تحقيق: يحيى غزاوي ، 1409 ، دار الفكر ، بيروت؛ وقال الألباني:"ضعيف". انظر: ضعيف الجامع الصغير وزيادته ، ص 623.

ص: 343

عام (1) فإبراهيم عليه السلام طفئت عنه نار نمروذ (2) بقول الله تعالى لها: {

كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: من الآية 69] وقرب (3) إبراهيم منها ، ونيران فارس خمدت على مسافة أشهر من محمد صلى الله عليه وسلم حين ولد ، وفي أمة محمد صلى الله عليه وسلم مَن أُلقي في النَّار فلم توثِّر فيه ببركته: منهم أبو مسلم الخَولاني لمَّا دعاه الأسود العَنْسي المتنبِّئ إلى تصديقه فقال: ما أسمع -مراراً- ، فأجَّج له ناراً وطرح فيها أبا مسلم ، فلم تضرُّه ، فلمَّا قدم المدينة رآه عمر رضي الله عنه فقبَّل بين عينيه ، ثم جاء به حتى أجلسه بينه وبين أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وقال: الحمد لله الذي لم يُمتني حتى أراني في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فُعل به كما فُعل بإبراهيم خليل الرحمن (4) عليه السلام.

وأما إلقاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام في المنجنيق ورميهم به فإن في أصحاب

(1) ذكره البيهقي في الدلائل (1/ 126 - 127) من طريق مخزوم بن هانئ المخزومي عن أبيه ، بفلظ: "لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ارتجس إيوان كسرى ، وسقط منه أربع عشرة شرفة ، وخمدت نيران فارس ، ولم تتخمد قبل ذلك بألف عام

"؛ وأبو نعيم في دلائل النبوة (1/ 138) ، تحقيق: محمد رواس قلعه جي وعبدالبر عباس ، الطبعة الثانية 1406 ، دار النفائس ، بيروت؛ والسيوطي في الخصائص الكبرى ص 88 - 89 ، 1405 ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، بلفظ: "خمدت نار فارس ، ولم تخمد قبل ذلك

"؛ وقال: "قال ابن عساكر: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث مخزوم عن أبيه تفرد به أبو أيوب البجلي هكذا قال في ترجمة سطيح في تاريخه ، وقال في ترجمة عبد المسيح بعد أن أخرجه من هذا الطريق ورواه معروف بن خربوذ عن بشر بن تيم المكي قال: لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه ، قلت: ومن هذا الطريق أخرجه عبدان في كتاب الصحابة وقال ابن حجر في الاصابة أنه مرسل". الخصائص الكبرى ص 89؛ وقال د. عبدالمعطي قلعجي محقق كتاب الدلائل للبيهقي: "وهذا حديث ليس بصحيح ، وذكره في كل هذه الكتب على سبيل التسهيل لتمحيصه لا لصدقه". دلائل النبوة (1/ 129).

(2)

في ب "نمرود" بالدال المهملة.

(3)

في نسخة بهامش أ ، نسخة بهامش ب " بقرب".

(4)

أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (2/ 128 - 129) ، وابن عبدالبر في الاستيعاب في معرفة الأصحاب (4/ 1758)، تحقيق: علي البجاوي ، الطبعة الأولى 1412 ، دار الجيل ، بيروت؛ كما نقله ابن حبان في صحيحه (2/ 338)، من طريق أبي حاتم؛ قال ابن كثير:"هذا وإن كان فيه انقطاع مشهور". مسند أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأقواله على أبواب العلم (2/ 692) ، لابن كثير ، تحقيق: عبدالمعطي قلعجي ، الطبعة الأولى 1411 ، دار الوفاء ، المنصورة.

ص: 344

محمد صلى الله عليه وسلم ماهو شبيه بذلك ، وهو أنَّ البراء بن مالك رضي الله عنه لمَّا كانت وقعة مسيلمة وتحصَّنوا وأغلقوا باب الحصن ، قال البراء لأصحابه: ضعوني على تُرسٍ واحملوني على رؤوس الرِّماح ثم ألقوني من أعلاها إلى داخل الحصن ففعلوا فوقع وقام فقاتل المشركين وقتل عشرةً أو أكثر وفتح الباب للمسلمين وكان سبب الفتح وقَتْل عدوِّ الله مسيلمة (1)؛ ونظير ذلك ما فعَل طُلَيحة بن خويلد لما خرج في أصحابه لغزو الروم في البحر فلقيهم العدو في سفينة فقال طُلَيحة لأصحابه: اقذفوني في سفينتهم ، ففعلوا فغشيهم بسيفه حتى تطايروا (2) فرقاً منه فغرق من غرق واستسلم [ق 8/ظ] من استسلم فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فأعجبه (3) وإبراهيم عليه الصلاة والسلام أُلقي في المنجنيق مُكرهاً ، وهذان بذلا أنفسهما وطلبا ذلك واختاراه ففعلاه وهي فضيلة لنبينا صلى الله عليه وسلم إذ (4) كان في أمته مثل ذلك.

وأما كرم إبراهيم عليه الصلاة والسلام وإقراؤه للضيف وأنه كان يخرج المسافة يبتغي من يأكل معه حتى قيل له: أبو الضِيفان ، فقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك بالمنزلة التي لاتجهل فإنه كان يعطي عطاء من لا يخاف الفاقة فيهب المائة من الإبل ، وأعطى رجلاً غنماً بين جبلين ، وما سأله أحد شيئاً فقال: لا (5) ، ولقد أتاه مرةً ضيف فأرسل إلى

(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (9/ 44) ، كتاب السير ، باب من تبرع بالتعرض للقتل رجاء إحدى الحسنين ، ح 18379 ، الطبعة الأولى 1344 ، مجلس دائرة المعارف النظامية ، حيدر آباد ، من طريق السري بن يحيى عن محمد بن سيرين ، بفلظ:"أن المسلمين انتهوا إلى حائط قد أُغلق بابه ، فيه رجال من المشركين ، فجلس البراء بن مالك رضي الله عنه على ترس ، فقال: ارفعوني برماحكم فألقوني إليهم ، فرفعوه برماحهم ، فألقوه من وراء الحائط ، فأدركوه قد قتل منهم عشرة"؛ وابن كثير بنحوه في البداية والنهاية (6/ 300) ، وابن حجر في الإصابة في تمييز الصحابة (1/ 279 - 280)، تحقيق: علي البجاوي ، الطبعة الأولى 1412 ، دار الجيل ، بيروت؛ وابن حبان في الثقات (2/ 174 - 175).

(2)

في ب "تطايرا".

(3)

أخرجه ابن قدامة بنحوه في كتابه التوابين ص 134 ، تحقيق: عبدالقادر الأرناؤوط ، 1403 ، دار الكتب العلمية ، بيروت.

(4)

في ب "إذا".

(5)

أخرجه مسلم في كتاب الفضائل (4/ 1806) ، باب ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط فقال لا وكثرة عطائه ، ح 2312 ، من طريق موسى بن أنس عن أبيه ، بفلظ:"ما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئاً إلا أعطاه ، قال: فجاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين ، فرجع إلى قومه ، فقال: يا قوم أسلموا ، فإن محمداً يعطي عطاء لا يخشى الفاقة".

ص: 345

أزواجه واحدةً بعد واحدةٍ فيَقُلْن: والذي بعثك بالحق ماعندنا إلا ماء (1)؛ وذلك أنه كان لا يدَّخر شيئاً حتى يجوع ويربط على بطنه الحجر ، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام كان صاحب مال وماشية يُطعِم ويُضيف من جملة ماله ولم نسمع أنه أعطى كلَّ ماعنده ، ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول:«ما يكن عندي من خير فلن ادّخره عنكم» (2) وقال: «لو أنَّ لي مثلَ هذه العِضاهِ نعماً لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلاً ولا جباناً» (3) وجوده وكرمه من أشهر (4) صفاته الحميدة صلوات الله عليه وسلامه.

وأما فضيلة إبراهيم عليه الصلاة والسلام في صبره على ما ابتُلي به مِن ذبح ولده حتى أكرمه الله تعالى بالفِداء وهذه رُتبة عظيمة ، قلنا: ليس هذا بأعظم من فضيلة نبينا صلى الله عليه وسلم إذ جاد بنفسه في جهاد أعداء الله تعالى فإنه صبَّر نفسه وغرَّر (5) بها في طاعة ربه تعالى حتى إنه يوم حنين لما تولى عنه أصحابه وبقي وحده ما يألو ما صادم العدو بنفسه

(1) أخرجه البخاري (5/ 34) ، كتاب مناقب الأنصار ، باب قول الله:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: من الآية 9] ، ح 3798 ، من طريق أبي هريرة رضي الله عنه ، بلفظ: "أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فبعث إلى نسائه فقلن: ما معنا إلا الماء

"؛ وأخرجه مسلم في كتاب الأشربة ، باب إكرام الضيف وفضل إيثاره ، بلفظ: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: إني مجهود ، فأرسل إلى بعض نسائه ، فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا الماء ، ثم أرسل إلى أخرى ، فقالت مثل ذلك ، حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا ، والذي بعثك بالحق ، ما عندي إلا ماء

".

(2)

أخرجه البخاري (2/ 122) ، كتاب الزكاة ، باب الاستعفاف عن المسألة ، ح 1469 ، من طريق أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، وفي كتاب الرقاق (8/ 99) ، باب الصبر عن محارم الله ، ح 6470؛ وأخرجه مسلم (2/ 729) ، كتاب الزكاة ، باب في فضل التعفف والصبر ، ح 1053.

(3)

أخرجه البخاري (4/ 22) ، كتاب الجهاد والسير ، باب الشجاعة في الحرب والجبن ، ح 2821 ، بلفظ:«أعطوني ردائي ، لو كان لي عدد هذه العضاه نعماً لقسمته بينكم ، ثم لا تجدوني بخيلاً ، ولا كذوباً ، ولا جباناً» ، وفي كتاب فرض الخمس (4/ 94) ، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه ، ح 3148.

(4)

في ب "أشرف".

(5)

في ب "عزَّر" ، وفي هامشه "أي أدَّب نفسه بامتثال الطاعة".

ص: 346

وأخذ كفًّا من تراب فرمى به في وجوه القوم فهزمهم الله تعالى (1) ، وجوده صلى الله عليه وسلم بنفسه وصبره في (مثل)(2) هذا المقام الذي لم يبق معه ناصر ولا معاضد والعدو حريص على قتله أعظم من صبر إبراهيم عليه الصلاة والسلام على ذبح ابنه.

وأما قول الله تعالى في إبراهيم: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: من الآية 124] ففي الحديث أن نبينا صلى الله عليه وسلم[ق 9/و] قال: «أنا إمامهم إذا بُعثوا وخطيبهم إذا ورَدُوا

» الحديث (3) ، وقد صلى بإبراهيم وغيره من الأنبياء ليلة الإسراء وشريعته داخلة في شريعة محمد صلى الله عليهما وسلم وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم أتم وأكمل (4) من شريعة إبراهيم صلى

(1) أخرجه مسلم (3/ 1398) ، كتاب الجهاد ، باب في غزوة حنين ، ح 1775 ، من طريق العباس بن عبدالمطلب ، بلفظ:"شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ، فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نفارقه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي ، فلما التقى المسلمون والكفار ولَّى المسلمون مدبرين ، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قِبل الكفار ، قال عباس: وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكُفُّها إرادة أن لا تُسرع ، وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أي عباس ، ناد أصحاب السَّمُرة» ، فقال عباس: وكان رجلاً صيِّتاً ، فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السَّمُرة ، قال: فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها ، فقالوا: يا لبيك ، يا لبيك ، قال: فاقتتلوا والكفار ، والدعوة في الأنصار يقولون: يا معشر الأنصار ، يا معشر الأنصار ، قال: ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج ، فقالوا: يا بني الحارث بن الخزرج ، يا بني الحارث بن الخزرج ، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هذا حين حمي الوطيس» قال: ثم أخذ رسول صلى الله عليه وسلم حصيات فرمى بهنَّ وجوه الكفار ، ثم قال: «انهزموا ورب محمد» قال: فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى ، قال: فوالله ماهو إلا أن رماهم بحصياته فما زلت أرى حدهم كليلاً ، وأمرهم مدبراً".

(2)

"مثل" ليس في ب.

(3)

أخرجه الترمذي (5/ 585) ، في المناقب ، باب في فضل النبي صلى الله عليه وسلم ، ح 3610 ، من طريق أنس رضي الله عنه ، بلفظ:«أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا ، وأنا خطيبهم إذا وفدوا ، وأنا مبشرهم إذا أيسوا ، لواء الحمد يومئذ بيدي ، وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر» ، وقال:"هذا حديث حسن غريب"؛ وقال الألباني: "ضعيف". الجامع الصغير وزيادته (1/ 234) ح 3234؛ وأخرجه الدارمي (1/ 196) ، كتاب دلائل النبوة ، باب ما أعطي النبي صلى الله عليه وسلم من الفضل ، ح 49 ، بلفظ: «أنا أولهم خروجاً ، وأنا قائدهم إذا وفدوا ، وأنا خطيبهم إذا أنصتوا

» الحديث؛ وأخرجه البغوي في شرح السنة (13/ 203) ، كتاب الفضائل ، باب فضائل سيد الأولين والآخرين محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله أجمعين وشمائله ، ح 3624 ، وقال:"هذا حديث غريب"؛ وأخرجه البيهقي في الدلائل (6/ 108) ح 2233.

(4)

في ب "وأجمل".

ص: 347

الله عليه وسلم كما هو معروف؛ وقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} [النحل: من الآية 120] ومعنى الأمة أنه كان معلماً للخير وداعياً إليه ، ولا ريب أنَّ علم نبينا صلى الله عليه وسلم وتعليمَه وما ظهر من الخير على يديه في زمانه وبعد موته بسببه أمر لا يكاد يرتاب فيه عاقل ، فإنَّ علمَه وشريعته متداولة بين أمته إلى يوم القيامة ، وسنَّة إبراهيم صلى الله عليه وسلم من بعض ماهو من سنن محمد صلى الله عليه وسلم التي دعا إليها وأمر بالاستنان بها ، وقنوت محمد صلى الله عليه وسلم كان أعظم فإنه صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه:{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: من الآية 2] قام (1) فصلى حتى تفطرت قدماه فقيل له: قد غُفر لك من ذنبك ماتقدم وما تأخر ، فقال:«أفلا أكون عبداً شكوراً» (2) وصلّى حتى أنزل عليه صلى الله عليه وسلم: {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه: 1 - 3](3).

فإن قيل: إن إبراهيم صلى الله عليه وسلم بوَّأ الله تعالى له مكانَ البيت حتى عَمَره وأقام شعائر الله ، قيل: ما فعله محمد صلى الله عليه وسلم في أمر البيت أعظم ، فإن إبراهيم عليه الصلاة والسلام جاء إلى أرض داثرة (4) فبنى فيها بيتاً وأقام فيه أموراً شرعها الله تعالى له ، وليس في ذلك كبير (5) مشقة وإن كان فيه من الفضل والإحسان مافيه ، فإن فعل نبينا صلى الله عليه وسلم أعظم خطراً

(1) كذا في أونسخة بهامش ب ، وفي ب "فقام" بزيادة فاء.

(2)

أخرجه البخاري (6/ 135) ، كتاب تفسير القرآن ، باب {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 2] ، ح 4836؛ وأخرجه مسلم (4/ 2171) ، كتاب صفة القيامة والجنة والنار ، باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة ، ح 2819.

(3)

أخرج ابن مردويه عن علي رضي الله عنه قال: "لما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزَّمل: 1 - 2] قام الليل كله حتى تورمت قدماه ، فجعل يرفع رجلاً ، ويضع رجلاً ، فهبط عليه جبريل ، فقال:{طه} [طه: 1] طأ الأرض بقدميك يا محمد {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 2]

". انظر: كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال (2/ 543) ، للمتقي الهندي ، تحقيق: بكري حياني ، الطبعة الخامسة 1401 ، مؤسسة الرسالة.

(4)

في هامش ب "الدثور: الدروس ، أي مدروسة وخالية من العمران".

(5)

في ب "كثير".

ص: 348

وأشدّ ابتلاء فإنَّه بُدِّلت تلك الشعائر (1) التي رسمها إبراهيم عليه الصلاة والسلام (بعده)(2) ، وتناسخت الأحوال حتى صار ذلك البيت الذي بناه إبراهيم عليه الصلاة والسلام لإقامة شعائر الدين الحنيف بتبديل الجاهلية مَركزاً للشرك ومحلًّا للأوثان وصار يُعبَد فيه غير الله ويُدعى من سواه ويُقاتل على ذلك ، فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم[ق 9/ظ] فمحا تلك الآثار وكسر تلك الأصنام وأزال المنكرات وأعاد سنَّة إبراهيم عليه الصلاة والسلام التي كانت (3) قد دثرت ، وعبد الله وحده وزال (4) الإشراك (5) وزاد على شريعة إبراهيم مما (6) شرعه الله تعالى له حتى كان عام حجَّة الوداع أنزل عليه:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: من الآية 3] حتى قال بعض اليهود لعمر بن الخطاب: " (يا أمير المؤمنين)(7) آيةٌ في كتابكم تقرؤنها لو علينا معشر يهود أنزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً ، فقال عمر: أيّ آية ، قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ

} الآية [المائدة: من الآية 3]، فقال عمر رضي الله عنه: إني لأعلم الموضع الذي نزلت فيه واليوم الذي نزلت فيه يوم جمعة عشية عرفة" (8)؛ ففرقٌ بين من بنى بيتاً وسنَّ سُنَّة من غير منازع إلى من جاء إلى أمَّة جاهلية جهلاء ، قد اجتمعت على بيتٍ جعلته دينها وأقامت فيه الأصنام يعبدونها من دون الله وشرعوا أموراً زيَّنها لهم الشيطان فرأوها حسنة واتخذوها ديناً وقاتلوا على ذلك وتوارثوه خلفاً عن سلف ووجدوا عليه آبائهم فأمرَهم بترك ما قد نشأوا عليه من ذلك الدين ومفارقة ما قد

رسمه لهم أسلافهم

(1) في ب "الشرائع".

(2)

"بعده" ليس في ب.

(3)

في أ "كان" بدون التاء ، وهو خطأ.

(4)

في ب "وأزال".

(5)

في نسخة بهامش ب "الشرك".

(6)

كذا في أونسخة بهامش ب. وفي ب "فيما".

(7)

"يا أمير المؤمنين" ليس في ب.

(8)

أخرجه بنحوه البخاري (1/ 18) ، في كتاب الإيمان ، باب زيادة الإيمان ونقصانه ، ح 45؛ وأخرجه مسلم ، بنحوه في كتاب التفسير ، ح 3017.

ص: 349

ونبتت عليه (1) لحومهم ودماؤهم فصرفهم عنه طوعاً وكرهاً وردَّهم عنه إلى دين لم يعرفوه هم ولا آباؤهم بما أوضحه لهم من الحق حتى أطاعوه وقال أحبَّ إليهم من آبائهم وأولادهم وإخوانهم وعشيرتهم حتى ضَرَبَ الدينُ بحرانه واستقر على أركانه.

وأما كفالة إبراهيم عليه الصلاة والسلام الأطفال (2) المؤمنين الذين يُتوفون وهم صغار فليس ذلك بأعظم من كفالة الأطفالِ في الدنيا ، فإن في الدنيا يحتاجون إلى ما يمونهم من مأكول ومشروب وغير ذلك ، بخلاف من هو في الآخرة في كفالة الله تعالى لا يحتاج إلى أكل وشرب وكسوة ومؤنة ، فإن محمداً صلى الله عليه وسلم كان لليتيم كالأب الرحيم وللأرملة كالزوج الشفيق كما قال فيه عمه أبو طالب:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأرامل (3)

فكفالة الأحياء (بلا ريب أعظم من كفالة الأموات)(4).

فإن قيل: إن الله تعالى أمر محمداً صلى الله عليه وسلم وبارك باتباع [ق 10/و] ملة إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، قلنا: ذلك إحدى حسناته صلى الله عليه وسلم فإنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم قد اتبع ملة إبراهيم صلى الله عليه وسلم فحاز آخرها وزاد عليها ما أمر اللهُ به فكان له الفضل أولاً وأخيراً.

فإن قيل: إن الله تعالى سمَّى إبراهيم حليماً ومنيباً وأوَّاهاً ، قيل: هذه كلّها من بعض خصال محمد صلى الله عليه وسلم وله من الخصال الحميدة أضعافُ أضعاف هذه كما هو مبسوط في كتب مناقبه ، فكان في الحلم آيةً [كما] (5) قال أنس رضي الله عنه: "خدَمتُه عشر سنين (6)

(1) في أ "عليهم" بزيادة الميم.

(2)

في ب "أطفال".

(3)

تقدم التعليق عليه ، انظر: ص 335 - 336.

(4)

مابين القوسين ليس في ب.

(5)

"كما" زيادة من ب.

(6)

وردت رواية في مسلم (4/ 1805) ، كتاب الفضائل ، باب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً ، ح 2309:"تسع سنين"، قال النووي في شرحه (15/ 71):"وأما قوله: تسع سنين ، وفي أكثر الروايات: عشر سنين ، فمعناه أنها تسع سنين وأشهر ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بالمدينة عشر سنين تحديداً لا تزيد ولا تنقص ، وخدمه أنس في أثناء السنة الأولى ، ففي رواية (التسع) لم يحسب الكسر ، بل اعتبر السنين الكوامل ، وفي رواية (العشر) حسبها سنة كاملة ، وكلاهما صحيح".

ص: 350

وليس كلّ شأني كما يَرضى صاحبي ، فما قال لي يوماً قط لشيء صنعته لم صنعت هذا هكذا ، ولا لشيء لم أصنعه لِمَ لم تصنع هذا هكذا" (1) وكان صلى الله عليه وسلم من الإنابة إلى ربِّه سبحانه بالموضع الذي لايخفى فإنه كان من دعائه:«اللهم بك أُقاتِل وبك أصول وبك أحول» (2) إلى غير ذلك من الإنابة في جِلِّ الأمور ودِقِّها وكان من تأوهه وخوفه من ربه أنه يقول: «لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم (3) قليلاً وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصّعدات تجأرون إلى ربكم» (4) إلى غير ذلك من أخباره عن حلمه وإنابته وتأوّهه.

فإن قيل: إن إبراهيم عليه السلام أوحي إليه: "يا إبراهيم إنك لمَّا سَلَّمت مالك إلى الضِيفان ، وابنك إلى القربان ، ونفسك إلى النيران ، وقلبك إلى الرحمن ، اتخذناك

خليلاً" (5)، قلنا: إن ذلك لفضل عظيم ، وخير عميم ، وفخر مقيم ، وكل ذلك من

(1) أخرجه البخاري (9/ 12) ، كتاب الديات ، باب من استعان عبداً أو صبياً ، ح 6911 ، بلفظ:"فخدمته في الحضر والسفر ، فوالله ما قال لي لشيء صنعته لم صنعت هذا هكذا ، ولا لشيء لم أصنعه لِمَ لَمْ تصنع هذا هكذا"؛ وأخرجه مسلم ، بنحو لفظ البخاري في كتاب الفضائل ، باب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً ، ح 2309.

(2)

أخرجه الترمذي (5/ 572) ، أبواب الدعوات ، باب في فضل لا حول ولا قوة إلا بالله ، ح 3584 ، بلفظ:«اللهم أنت عضدي ، وأنت نصيري ، وبك أقاتل» ، وقال:"هذا حديث حسن غريب"؛ وأخرجه أبو داود (3/ 42) ، بنحوه في كتاب الجهاد ، باب ما يدعى عند اللقاء ، ح 2632 ، تحقيق: محمد محيي الدين عبدالحميد ، المكتبة العصرية ، بيروت؛ وقال الألباني في صحيح أبي داود (7/ 382) ، الطبعة الأولى 1423 ، مؤسسة غراس ، الكويت:"إسناده صحيح على شرط الشيخين ، وصححه ابن حبان ، وأبو عوانة ، وحسنة الترمذي".

(3)

في ب "وضحكتم" بدون اللام.

(4)

أخرجه الترمذي (4/ 556) ، بنحوه في أبواب الزهد ، باب في قول النبي صلى الله عليه وسلم لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ، ح 2312 ، وقال الترمذي:"حديث حسن غريب"؛ وأخرجه ابن ماجه (2/ 1402) ، بنحوه في كتاب الزهد ، باب الحزن والبكاء ، ح 4190.

(5)

لم أقف على هذا الحديث القدسي مروياً في كتب السنة ، وإنما قول من الأقوال في تأويل:{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125]. انظر: مفاتيح الغيب (11/ 47) ، للفخر الرازي ، الطبعة الأولى 1421 ، دار الكتب العلمية ، بيروت؛ لباب التأويل في معاني التنزيل (1/ 604) ، للخازن ، 1399 ، دار الفكر ، بيروت؛ وقد وجدته مروياً في كتب الشيعة عن أبي الحسن المسعودي في كتابه أخبار الزمان. انظر: خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر (3/ 433) ، للمحبي ، 1284 ، المطبعة الوهيبة.

ص: 351

بعض ما أُعطي نبينا صلى الله عليه وسلم وزاد عليه كما أشرنا إليه وكما يأتي فيما بعد إن شاء الله تعالى.

فإن قيل: إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أُعطي الصّحف وكانت عشر صحائف ، قلنا: إن ما أوتي محمد صلى الله عليه وسلم من السبع المثاني والقرآن العظيم أعظم من ذلك بكثير فإن صحف إبراهيم عليه السلام كانت كلها مواعظ وأمثالاً كقوله فيها: "أيها الملِك المبتلى المُسَلّط المغرور إنِّي لم أبعثك لجمع الدنيا بعضها على بعض ولكن بعثتك لتَرُدَّ عنِّي دعوة المظلوم فإنِّي [ق 10/ظ] لا أردها وإن كانت من كافر"(1) وأمثال ذلك من الحِكَم (2) ، وكان ما أوتيه محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن فيه نبأ مَن مضى ونبأ مَن يأتي إلى يوم القيامة ومابين ذلك من الحِكَم والأحكام والمواعظ والزواجر والأمر والنهي والتحليل والتحريم إلى غير ذلك مما يطول ذكره ويشق حصره ، فمحمد صلى الله عليه وسلم سيّد الرُّسل عليهم الصلاة والسلام وكتابه سيّد الكتب وأمَّته خَيْر الأمم صلوات الله عليه وسلامه.

وأما قوله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37]: أي وفَّى بما ابتلاه به من قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: من الآية 124] اختلف العلماء في الكلمات التي ابتلى الله تعالى بها إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: "هي ثلاثون سهماً ، وهي شرائع الإسلام لم يُبْتلَ أحدٌ بهذا الدين فأقامه كلَّه إلا إبراهيم عليه السلام أتمهنَّ فكُتِب له البراءة فقال:{وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37] وهي عشر في سورة براءة (3): {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ

} إلى

(1) أخرجه ابن حبان في صحيحه (2/ 76) ، بنحوه في كتاب البر والإحسان ، باب الصدق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ح 361 ، من حديث أبي ذر الطويل ، تحقيق: شعيب الأرنؤوط ، الطبعة الثانية 1414 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط: "إسناده ضعيف جداً

" ، وأخرجه كثير (2/ 472)؛ وقال الألباني: "ضعيف جداً". ضعيف الترغيب والترهيب (2/ 82) ح 1352 ، للإمام الألباني ، 1421 ، مكتبة المعارف.

(2)

في ب "الحلم".

(3)

في ب "البراءة".

ص: 352

آخرها (1)[التوبة: 112] وعشر في الأحزاب: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ

} إلى آخرها [الأحزاب: 35] وعشر في المؤمنين: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ

} [المؤمنون: 1] وقوله: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ

} [المعارج: 22] في سأل سائل" ، وروى طاوس عن ابن عباس أيضاً قال: "ابتلاه الله تعالى بعشرة أشياء هي من الفطرة والطهارة ، خمس في الرأس وخمس في الجسد فالتي في الرأس قصُّ الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرّأس (2) ، والتي في الجسد تقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة والختان والاستنجاء بالماء" ، وقال مجاهد: "هي الآيات التي بعدها في قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا

} [البقرة: من الآية 124] إلى آخر القصة" ، وقال الربيع وقتادة: مناسك الحج ، وقال الحسن: سبعة أشياء ابتلاه [الله](3) بالكوكب والقمر والشمس وأحسن النظر في ذلك وعلم أن ربَّه دائم لايزول [أبداً](4) وابتلاه بالنَّار فصبر على ذلك وابتلاه بالهجرة فصبر على ذلك وابتلاه بذبح ابنه فصَبر [على ذلك](5) وبالختان فصبر على ذلك؛ وقال أبو رَوْقٍ (6): هي قوله: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)

} [الشعراء: 78]

إلى آخر الآيات؛ وقال بعضهم: هي [ق 11/و] أن الله تعالى ابتلاه في ماله وولده ونفسه وقلبه ، فسَلَّم مالَه للضيفان ، وولدَه إلى القربان ، ونفسه إلى النيران ، وقلبه إلى الرحمن ، فاتخذه خليلاً؛ وقيل هي: سهام الإسلام وهي عشرة: شهادة أن لا إله إلا الله وهي الملة ، والصلاة وهي الفطرة ، والزكاة وهي الطُهْرة ، والصوم وهو الجُنّة ، والحج وهو

(1) في ب "آخره".

(2)

فرق الرأس: أي فرق شعر الرأس ، وهو قسمته في المفرق وهو وسط الرأس ، والمفرق مكان انقسام الشعر من الجبين إلى دائرة الرأس؛ قال النووي في حكمه: "اختلف السلف فيه

والحاصل أن الصحيح المختار جواز السدل والفرق ، وأن الفرق أفضل". انظر: عمدة القاري (22/ 86) ، شرح النووي على مسلم (15/ 90).

(3)

لفظ "الله" زيادة من ب.

(4)

"أبداً" زيادة من ب.

(5)

"على ذلك" زيادة من ب.

(6)

أبو روق -بفتح الراء وسكون الواء بعدها-: هو عطية بن الحارث الهمداني الكوفي ، صاحب التفسير. انظر: تقريب التهذيب ص 393.

ص: 353