الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عضو مما ذكرته أو تركته كالحال في الإنسان نفسه.
تعليق ابن تيمية
قلت يقال له قولك قد يغلب على أوهام الناس أن الموجود هو المحسوس إما أن تريد أن الوجود هو ما أحس الشخص المعين أو ما يمكن إحساسه في الدنيا أو ما يمكن الإحساس به ولو بعد الموت فأما الأول فلا يقوله عاقل فإنه ما من عاقل إلا ويعلم إما بخبر غيره وإما بنظره وقياسه ما لم يعلمه بحسه ومن حكى عن الراهمة أو غيرهم من الأمم انهم حصروا الموجودات في المحسوسات بمعنى انه ما لم يحسه الشخص المعين لا يصدق به وانه لا يصدق بالأخبار المتواترة وغيرها فلم يفهم مرادهم فإن أمة من الأمم لها بلاد يعيشون فيها لا بد أن يميز الرجل بين أمة وأبيه وأن يعرف من حوادث بلده وسير ملوكهم وعاداتهم ما لا يعرفه إلا بالخبر وهذا نظير إلا بالخبر وهذا نظير حكاية من حكى أن أمة من الأمم يقال لهم السوفسطائية ينسبون إلى رجل يقال له سوفسطا يجحدون الحقائق أو علمهم بجميع الحقائق أو يقفون أو يجعلون الحقائق مطلقاً تابعة للعقائد فإن هذا لا يتصور أن تكون عليه أمة من الأمم لهم بقاء في الدنيا وإنما السفسطة كلمة معربة أصلها سوفسقيا وهي كلمة يونانية أي حكمة مموهة بالسفسطة أي الكلام الباطل المشبه للحق وهذا يعرض لكثير من الناس أو لأكثرهم في كثير من الأمور لا في جميعها فإنه كما تعرض الأمراض
للأبدان كذلك تعرض الأمراض للنفوس مرض الشبهات والشهوات.
وفي الحديث المأثور: إن الله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات، رواه البيهيقي مرسلاً، وزاد فيه بعضهم: ويحب السماحة، ولو بكف من تمرات، ويحب الشجاعة ولو على قتل الحيات.
ولكن البراهمة أنكرت ما سوى هذا الموجود المحسوس، كما هو قول الطبيعية من الفلاسفة، وقول الفرعونية ونحوهم، وهذا هو المردود عليهم، وسيأتي بيان ذلك في حكاية الإمام أحمد مناظرتهم لجهم، ويمكن أن الراهمة أو بعضهم قال مالا يمكن معرفته بالحس ألبته فهو ممتنع وهذا قول أكثر أهل الأرض من أهل الملل وغيرهم، وهو القول الذي أنكره ابن سينا وأراد إبطاله.
لكن هؤلاء نوعان: منهم من أنكر مالا يحسه عموم الناس في الدنيا، حتى أنكر الملائكة والجن، بل وجحد رب العالمين سبحانه، فهؤلاء هم الكفار الدهرية المعطلة المحضة.
وابن سينا وأمثاله يردون على هؤلاء لكن يردون عليهم أحيانا بحجج فاسدة.
وهذا هو القسم الثاني، وهو إنكار الإنسان مالا يحس في الدنيا.
وأما القسم الثالث، وهو أن الموجود هو ما يمكن الإحساس به، ولو في الآخرة، وأن ما أخبرت به الرسل من الغيب، كما أخبرت به عن الجنة والنار وعن الملائكة، بل وإخبارهم عن الله تعالى، هو مما يمكن معرفته بالحس، كالرؤية.
فهذا قول جماهير أهل الإيمان بالرسل، وسلف الأمة وأئمتها، فإنهم متفقون على أن الله يرى في الآخرة عيانا، كما يرى الشمس والقمر، وأنه لا يلزم من تعذر رؤية الشيء في حال تعذر رؤيته في حال أخرى، بل قد يرى الشيء في حال دون حال، كما أن الأنبياء يرون مالا يراه غيرهم من الملائكة وغيرها، بل والجن يراهم كثير من الناس.
وإن ادعى أن من الموجودات القائمة بأنفسها مالا يمكن أن يعرف بالإحساس في حال من الأحوال، فهذا قول باطل، ولا دليل له لعيه، وهذا قول الجهمية الذين ينكرون رؤية الله تعالى.
وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على بطلان قولهم، وفساد قولهم يعلم بالعقل الصريح، كما يعلم بالنقل الصحيح، وهؤلاء في نفس الأمر من أجهل الناس وأضلهم، وإن كانوا عند أنفسهم من أعقل الناس وأعرفهم، فهم كما قال تعالى:{الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه} غافر 56.
وكما قال تعالى {وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون} البقرة 13.
وقوله: {فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} غافر 83.
وأما حجته على إثبات وجود ما ليس بمحسوس، فقد احتج بالكليات.
فيقال له: قولك: إن هذه المحسوسات يقع عليها اسم واحد بحسب معنى واحد، مثل اسم الإنسان، فإن وقوعه على زيد وعمرو بمعنى واحد موجود.
فيقال له: لأتعني أن هذا المعنى الواحد الذي يشترك فيه زيد وعمرو، هو معنى واحد قائم بالعالم كالإنسان؟ كما أن لفظ إنسان قائم بالناطق، وكما أن خط زيد قائم باللوح الذي فيه الخط؟
أم تعني أن ذلك المعنى الواحد هو موجود في الخارج، في زيد وعمرو أو في غيرهما؟
أما الأول فصحيح ولاحجة لك فيه.
وأما الثاني فقولك في المعنى كقول من يطرد قولك، ويجعل لفظ الإنسان الواقع على زيد وعمرو موجوداً في الخارج قائماً بزيد وعمرو ويجعل الخط المطابق للفظ ثابتاً في الخارج عن اللوح، قائما بزيد وعمرو، إذا كل عاقل يعلم أن الخط مطابق للفظ، وأن اللفظ مطابق للمعنى، وأن عموم المعنى الواحد كعموم اللفظ الواحد المطابق له.
فإذا قال القائل إنسان كان للفظه وجود في لسانه وللمعنى وجود في ذهنه ووقوعه هذا على زيد وعمرو كوقوع هذا على زيد وعمرو وهذا هو المعنى الذي سميته معقولاً، وجعلته معقولاً صرفاً،
وهل يكون المعقول الصرف إلا في الحي العاقل؟ فإن المعقول الصرف الذي لا يتصور وجوده في الحس هو مالا يوجد إلا في العقل، وما لا يوجد إلا في لاعقل لم يكن موجوداً في الخارج عن العقل، فالتفتيش الذي أخرج من المحسوس ما ليس بمحسوس، أخرج منه المعقولات المحضه التي يختص بها العقلاء، وهي الكليات الثابتة في عقول العقلاء، فإن الإنسان إذا تصور زيداً أو عمراً ورأى ما بينهما من التشابه انتزع عقله من ذلك معنى عاماً كلياً معقولاً، لا يتصور أن يكون موجوداً في الخارج عن العقل.
فهذا هو وجود الكليات، وهذه الكليات المعقولة أعراض قائمة بالذات العاقلة، بل يمكن وجود أعيان في الخارج من غير أن يعقل الإنسان كلياتها، ويمكن وجود كليات معقولة في الأذهان لا حقيقة لها في الخارج، كما يعقل الأنواع الممتنعة لذاتها وغير ذلك، فمن استدل على إمكان الشيء ووجوده في الأعيان، بإمكان تصوره في الأذهان، كان في هذا المقام أضل من بهيم الحيوان.
قال تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل} الأعراف: 179، وقال تعالى:{والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات} الأنعام 39.
وقال تعالى {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} الحج 46.
وقال تعالى: {أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا} الفرقان 44.
وقال تعالى: {ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} الأحقاف 26.
وقولهم: فالإنسان من حيث هو واحد بالحقيقة بل من حيث الحقيقة الأصلية التي لا يختلف فيها الكثرة غير محسوس، بل معقول صرف.
وكذلك الحال في كل كلي هو من الأقوال الملبسة، فإن هذه الحقيقة إما أن تعني بها ما يتصوره المعقول من الإنسان، أو ما يوجد منه، أو شيء ثالث.
فأما شيء ثالث فلا حقيقة له، فإن كان له حقيقة فبينوها.
فإنا نعلم بالاضطرار أنه ما في الوجود إلا ما هو موجود في نفسه، أو ما هو متصور في الذهن إذ العقل أو العلم ونحو هذه الأمور مما ليس
بحاصل في العلوم والأذهان، ليس بموجود في الأعيان فلا حقيقة له البتة ولكن الناطق بهذه العبارة يتصور في نفسه مالا حقيقة له، كتصور إنسان ليس بموجود في الخارج.
فإذا قلت: الإنسان من حيث هو هو، مع قطع النظر عن ثبوته في العلم أوالعين.
قلت لك: تقديره مطلقاً لا بشرط من حيث هو هو - هو أيضاً من تقديرات الأذهان فإذا كان مالا يوجد إلا مقدراً في الأذهان وفرضته غير مقدر في الأذهان جمعت بين النقيضين.
فإن قلت: أنا يمكنني أن أتصور إنساناً مطلقاً، مع قطع النظر عن وجوده في الذهن والخارج.
قلت: تصوره مطلقا غير مقيد بالذهن ولا بالخارج شيء، وتصوره مقيدا بسلب الذهن والخارج شيء آخر.
فأما الأول فأنت لم تتصور معه سائر لوازمه، وتصور الملزوم دون لوازمه ممكن، كما تتصور إنساناً مع قطع النظر عن وجوده وعدمه، وإن كان لا يخلو عن واحد منهما، فهذا تصور للشيء دون لوازمه.
وأما تصوره مقيداً بسلب الوجود الذهني والخارجي، فهو من باب تصور الجمع بين النقيضين أو رفع النقيضين وهو كتصور إنسانا مقيد بكونه لا موجوداً ولا معدوماً ومجرد فرض هذا ف بالذهن يوجب العلم بامتناعه.
وأما الأول فلا يوجب تصور الملزوم بدون لازمة، إمكان وجوده في
الخارج بدون لازمة، فكونه إما في الذهن وإما في الخارج هو من لوازمه، ويمكن تصور الملزوم فإن عدم العلم بالشيء ليس علماً بعدمه وهذا كما يمكنك تصور إنسان مع قطع النظر عن وجوده وعدمه، وإن كان لا بد له إما أن يكون موجوداً أو معدوماً لامتناع الخلو عن النقيضين.
وهؤلاء يجعلون تقدير الذهن للممتنعات حجة على ثبوتها، ويشبهون الوجود الواجب بالوجود الممتنع.
وهذا كما أن الإنسان يتصور علماً مطلقاً وقدرة مطلقة، مع علمه بان ذلك لا يكون إلا بذات حية عالمة قادرة.
وكذلك يتصور الإنسان حيواناً مطلقاً، ولا يتصور مع ذلك انه ناطق أو بهيم، ولا يخلد ولا يموت، ولا يعلم ولا يجهل، ولا يعجز ولا يقدر، ولا يسكن ولا يتحرك، فهل يستدل بتصوره ذلك في عقلة على أنه يوجد؟ أو يمكن أن يوجد في الخارج حيوان مطلق يخلو عن هذه المتقابلات كلها، فلا يموت ولا يخلد، ولا يقدر ولا يعجز؟
ومن المعلوم أن مقدرات الأذهان ومتصورات العقول يحصل فيها مالا وجود له في الخارج، تارة بأن لا يوجد ما يطابقه وهو الوهم، وتارة مع وجود ما يطابقه، كمطابقة الاسم للمسمى، والعلم للمعلوم،
وهو مطابقة ما في الذهن لما في الخارج، ومطابقة الصورة العلمية لمعلوماتها الخارجية.
وإذا قيل في هذه الصورة إنها كلية فهو كقولنا في الاسم إنه عام.
والمراد بذلك أنها مطابقة لأفرادها، مطابقة اللفظ العام والمعنى العام لأفراده ن وهي مطابقة معلومة متصورة لكل عاقل، لا تحتاج إلى نظير، وإذا شبهت بمطابقة الصورة التي في المرآة، أو مطابقة نقش الخاتم للشمع ونحو ذلك، كان ذلك تقريباً وتمثيلاً، وإلا فالحقيقة معلومة، وكل عاقل يعلم مثل هذا من نفسه.
واعلم أنه بالكلام على هذه الحجة التي لهؤلاء المتفلسفة في التوحيد يتبين الكلام على حجتهم الثانية، وهي قولهم: لو كان واجبان لا يشتركان في مسمى الوجوب، وامتاز أحدهما عن الآخر بما يخصه فكان كل منهما مركباً مما به الاشتراك ومما به الامتياز والمركب مفتقر إلى جزئه فلا يكون واجباً.
فإنه يقال لهم: إنما اشتركا في المطلق الذهني، لم يشارك أحدهما الآخر في شيء موجود في الخارج، حتى يكون في ذلك الموجود تركيب، وكل منهما يمتاز عن الآخر بالوجوب الذي يخصه، كما امتاز عنه بحقيقته التي تخصه والوجود الذي يخصه.
ويقال لهم: هذا كاشتراك الموجود الواجب والموجود الممكن في مسمى الوجود مع امتياز هذا بما يخصه وهذا بما يخصه، فإن الوجوب المشترك الكلي ليس هو ثابتاً في الخارج، بل للواجب وجود يخصه، وللممكن وجود يخصه، كما أن لهذا حقيقة تخصه، ولهذا حقيقة تخصه.
وكذلك إذا قيل لهذا ماهية تخصه ولهذا ماهية تخصه، فإنهما يشتركان في مسمى الماهية، ويمتاز أحدهما عن الآخر بما يختص به وإنما اشتركا في المسمى المطلق الكلي، وامتاز كل منهما عن الآخر بالوجود الذي في الخارج، وذلك لا يكون إلا في الذهن، وما امتازا به هو موجود في الخارج وقد يتصور في الذهن، فإن ما في الخارج يتصور في الذهن، وليس كل ما يتصور في الذهن يكون في الخارج، فلم يكن ما به الاشتراك مفتقراً إلى ما به الامتياز، ولا ما به الامتياز مفتقراً إلى ما به الاشتراك، بل لاشركة في الأعيان الموجودة الجزئيات، ولا امتياز في الكليات المطلقة بالمعقولات، أعني من حيث تناولها وشمولها لأفرادها بل تناولها لأفرادها تناول واحد وشمولها شمول واحد.
وهذا المعنى الواحد الشامل هو كاللفظ الواحد الشامل العام، واشتراك الموجودين في الوجود أو الواجبين في الوجوب، مع ما بينهما ف بالخارج من الامتياز والاختصاص، كاشتراك اللونين في اللونية، مع أن هذا في الخارج سواد، وهذا بياض
فإذا قلت: السواد مركب من اللونية والسوادية، كما تقول: الموجود مركب من الحيوانية والناطقية.
قيل لك أتعني أنه مركب من لونية مطلقة لا تخصه، ومن السوادية التي تخصه، ومن الوجود المطلق الذي لا يخصه والوجوب الذي يخصه ومن الحيوانية المطلقة التي لا تخصه والناطقية التي تخصه؟ أم مركب من نفس لونيته الخاصة وسواديته ومن نفس وجوده الخاص ووجوبه ومن الحيوانية التي تخصه وناطقيته؟
فأما الأول فباطل، فإنه ليس فيه شيء مطلق: لا لونية مطلقة ولا حيوانية مطلقة، ولا وجودية مطلقة.
وإن عنيت الثاني فلونيته الخاصة وسودايته متلازمان، وكذلك حيوانيته الخاصة وناطقيته وكذلك وجوده الخاص ووجوبه فكما لا يمكن تقدير هذا اللون المعين الذي هو سواد بدون السواد فلا يمكن تقدير هذا الحيوان المعين الذي هو ناطق بدون النطق ولا يمكن تقدير هذا الموجود المعين الذي هو واجب بدون الوجود، فإن هذا الحيوان هو الحيوان المعين والواجب هو الموجود المعين، ولا يتميز في الخارج سواد من لون، كما لا يتميز ناطق عن حيوان، ولا
وجود عن وجوب، بل الذهن يعقل ما بين هذا السواد وسائر الألوان من المشابهة في اللونية، ويميز بين ذلك ما يعقله ما بين هذا السواد وسائر الألوان من المشابهة في اللونية، ويميز بين ذلك ما يعقله بينه وبين سائر السوادات من المشابهة، ويضم هذا إلى هذا، وهو تركيب عقلي اعتباري، وكذلك يعقل ما بين هذا الإنسان وغيره من الحيوان من المشابهة في الحيوانية وما بينه وما بين سائر الإناسي من المشابهة في الإنسانية، ويضم هذا إلى هذا، وهو تركيب عقلي اعتباري.
ومن قال: إن الإنسان مركب من الحيوان والناطق، وهو يعقل ما يقول، فإنما يعني هذا التركيب ونحوه، وليس ذلك تركيباً في الوجود الخارجي، ولا في الوجود الخارجي جزء لهذا المركب متميز عن كله، ولا جزء سابق لكل، بل هذه الأمور إنما توجد في الأذهان لا في الأعيان، فهذه التركيبات مركبة من تلك الكليات.
والكليات الخمسة: الجنس والنوع والفصل، والخاصة والعرض العام، إنما توجد كليات في الأذهان لا في الأعيان.
كذلك التركيب الذي يوجد في بعض هذه مع بعض، فإن أجزاء المركب، التي هي الكليات، لا تكون إلا في الذهن فالمركب من الكليات الذهنية أولى أن لا يكون إلا ذهنياً.
وهؤلاء المتفلسفة المنطقيون نفوا حقيقة واجب الوجود وصفاته معتقدين أنهم موحدون لذاته وقالوا هو منزه عن التركيب لافتقار المركب إلى جزئية.
والتركيب يقع عندهم كما ذكره ابن سينا وغيره، وذكره الغزالي عنهم في تهافت الفلاسفة وغيره على خمسة أنواع أحدها: تركيب الموجود من الوجود والماهية.
والثاني: تركب الحقيقة من الأمور العامة والخاصة: كالوجود العم، والوجوب الخاص.
والثالث: تركب الذات الموصوفة من الذات والصفات.
والرابع: تركب الذات القائة بنفسها، المباينة لغيرها المشار إليها: من الجواهر المنفردة التي يقال إنها مركبة منها.
والخامس: تركبها من المادة والصورة التي يقال أنها مركبة منها.
وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وبينا أنه يمتنع وجود موجود قائم بنفسه: سواء كان واجباً أو ممكناً بدون ثبوت هذه المعاني التي سموها تركيبا وإن تسميتهم لذلك تركيباً غلط منهم.
وإن قالوا: هو أصطلاح اصطلحنا عليه فلا ترتفع بسب غلط الغالطين وأوضاعهم اللفظية الحقائق الموجودة والمعاني العقلية.
وأنه ليس في العقل ما يمنع ذلك بل العقل يصدق السمع الدال على إثبات صفات الله تعالى ومباينته لمخلوقاته، وأن العقل أثبت موجوداً واجباً بنفسه غنياً عما سواه
وأما كون ذلك الموجود لا يكون إلا حياً عالماً قادراً، أو لا يكون إلا
موصوفاً بصفات لازمة لذاته، ولا يكون إلا مبايناً لمخلوقاته فالعقل يوجب ذلك الوجود، لا نحيله عليه، وأن ما ذكروه من إثبات وجود مطلق بشرط الإطلاق، أو بسلب الأمور الثبوتية عنه، ليس له حقيقة ولا ماهية، سواء مطلق الوجود، أو الوجود المسلوب عنه الأمور الثبوتية، وهو أمر يمتنع تحققه في الخارج.
وإنما يكون في الأذهان لا في الأعيان.
وهذا هو الواحد الذي قالوا: لا يصدر عنه إلا واحد.
فإنه يمتنع تحققه في الخارج.
وكذلك الواحد البسيط الذي يتركب منه الأنواع هو أيضاً مما لا يتحقق إلا في الأذهان.
ومتكلموا أهل الإثبات إذا قالوا: وجوده عين حقيقته أو ماهيته أو ليس وجوده زائداً على ماهيته، فليس مرادهم بذلك مراد المتفلسف الجهمي، الذي يقول إنه وجود مطلق، فإن الوجود المطلق لا حقيقة له في الخارج.
ولكن مرادهم بذلك ما يريدونه بقولهم: إن حقيقة الإنسان هي وجوده الموجود في الخارج وحقيقة السواد هو السواد الوجود في الخارج ونحو ذلك ومرادهم بذلك أن الشيء الموجود في الخارج الذي له حقيقة تخصه وجوده الثابت في الخارج هو تلك الحقيقة الخاصة فوجوده المختص به هو حقيقته المختصة كما أن الوجود المطلق كلي عام، والحقيقة المطلقة كلية عامة، ونفس حقيقة الإنسان والجسم وغيرهما، ليست
هي وجوداً مطلقاً وإن كانت حقيقته نفس وجوده فكيف يكون رب العالمين حقيقته وجود مطلق لا يتصور إلا في الذهن؟
بل هو سبحانه وتعالى مختص بحقيقته التي لا يشركه فيها غيره ولا يعلم كنهها إلا هو وتلك هي وجوده الذي لا يشركه فيه غيره ولا يعلم كنهه إلا هو.
والناس إذا علموا وجوداً مطلقاً أو حقيقة مطلقة، فذلك هو الكلي العام الشامل، ليس هو نفس الحقيقة الموجودة في الخارج.
وكذلك تركب الحقيقة من الصفات العامة والخاصة، إنما هو تركيب في الذهن تركيب ذهني عقلي اعتباري.
وكذلك تركب الموصوف من الذات ولاصفات إنما يكون تركيباً لو كان هناك ذات مجردة عن تلك الصفات، أو لو أمكن وجود ذلك فأما الذات التي لا تكون إلا حية عالمة فلا يتصور أنفكاكها عن الحياة والعلم، حتى نقول إن الذات تركيب مع الصفات.
وكذلك أيضاً الماهية المشار إليها القائمة بنفسها المباينة لغيرها، إنما يقال هي مركبة من الأجزاء المنفردة، أو من المادة والصورة، ولو كان لهذا التركيب حقيقة، فأما إذا كان الجوهر الفرد باطلاً، وتركب الجسم من الجوهرين: المادة والصورة باطلاً، والأمور المشار إليها المباينة لغيرها من المخلوقات: كالشمس والقمر ليس هو مركباً من أجزاء منفردة، ولا من جوهرين: مادة وصورة فكيف يظن برب العالمين أنه مركب من ذلك؟
وقد بسط هذا في غير هذا الموضع وبين أن الأعيان القائمة بأنفسها خلقها الله تعالى كذلك ليس فيها أجزاء تركبت منها لكن يمكن أن يفرقها الله ويجزئها إلى أن يتصاغر جداً ثم يستحيل إلى نوع آخر من أن ذلك الجزء الصغير يتميز منه شيء عن شيء وليس في الوجود عين قائمة لا يتميز منها شيء عن شيء.
والصورة إما صورة عرضية كشكل فالمادة هنا هو الجسم نفسه وغما الصورة التي هي المصور كالإنسان نفسه والمادة فيها ليس لها جوهر يحملها بل مادتها ما منه خلقت وتلك استحالت إلى صورة أخرى وفني الأول وعدم كما يفنى المني إذا صار إنساناً وليس بين ما استحال منه واستحال إليه شيء باق بعينه وإنما يشتركان في أمور نوعيه كالمقدار ونحوه.
والمركب المعقول هو ما كان مفترقاً فركبه غيره كما تركب المصنوعات من الأطعمة والثياب والأبنية ونحو من أجزائها المفترقة.
والله تعالى أجل وأعظم من أن يوصف بذلك بل من مخلوقاته ما لا يوصف بذلك ومن قال ذلك فكفره وبطلان قوله واضح.
وقد يقال المركب على ما له أبعاض مختلفة كأعضاء الإنسان
وأخلاطه وإن كان خلق كذلك مجتمعاً لكنه يقبل التفريق والانفصال والانقسام والله مقدس عن ذلك.
وقد يقال المركب على ما يقبل التفريق والانفصال وإن كان شيئاً بسيطاً كالماء والله مقدس عن ذلك.
فهذا هو التركيب المعقول في اللغة والاصطلاح فأما المركب في اللغة فهو الأول خاصة ولكن هذا المعنى لم يريدوه لفظ المركب.
والثاني والثالث قد يسميه طائفة من أهل العلم مركباً فأما الذات المتصفة بصفات لازمة لها التي لها حقيقة تمتاز بها عن سائر الحقائق وتباين غيرها من الموجودات من غير أن يجوز عليها تفريق وتبعيض وتجزئة وتقسيم فهذه لو قدر أنها مخلوقة لم تكن مما يسمى مركباً في اللغة المعروفة والاصطلاح.
وإذا سمى مسم هذه مركباً كان إما غالطاً في عقله لاعتقاده اشتمالها على حقيقتين وجودها وحقيقتها المغايرة لوجودها أو على حقيقتين ذات قائمة بنفسها معقولة مستغنية عن صفاتها وصفات زائدة عليها قائمة بها أو على جواهر منفردة أو معقولة أو نحو ذلك من الأمور التي يثبتها طائفة من الناس ويسمونها تركيباً.
وجمهور العقلاء يخالفونهم في إثبات ذلك فضلاً عن تسميته تركيباً ولو سلم لهم ثبوت ما يدعونه لم تكن تسميته مركباً من اللغة المعروفة بل هو واضح اصطلحوا عليه فإن الجسم الذي له صفات كالتفاحة التي لها لون وطعم وريح لا يعرف في اللغة المعروفة إطلاق كونها مركبة من لونها وطعمها وريحها ولا تسمية ذلك أجزاء لها ولا يعرف في اللغة أن يقال إن الإنسان مركب من الطول والعرض والعمق بل ولا أنه مركب من حياته ونطقه إلى أمثال ذلك من الأمور التي يسميها من يسميها من أهل الفلسفة والكلام تركيباً إما غلطاً في المعقولات وإما اصطلاحاً انفردوا به عن أهل اللغات.
فليس لهؤلاء أن ينفوا ما علم ثبوته بالشرع والدعاء ومضاهاة للمشركين والنصارى والصابئين الذين {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} التوبة: 31.
وهذه الشفاعة التي أثبتها المشركون وأبطلها القرآن رأيت من هؤلاء المتفلسفة نفاة الصفات كابن سينا ومن ضاهاهم في بعض الأمور
التي يجعلونها علوماً مضنوناً بها على غير أهلها قد أثبتوا هذه الشفاعة الشركية وهذه الوسائط الإفكية مع أن القرآن العزيز مملوء من ذم أهلها قال تعالى {أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون * قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون} الزمر: 43- 44.
وقال تعالى {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون} يونس: 18.
وقال تعالى {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون} الأنعام: 94.
وقال تعالى {ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون} آل عمران: 80.
وقال تعالى {قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا * أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم
الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا} الإسراء: 56 و57.
وقال تعالى {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير * ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} سبأ: 22، 23.
فنفي أن يكون لغيره معه ملك أو شريك في الملك أو مظاهرة له ولم يثبت من الشفاعة النافعة إلا ما كان بإذنه وهذه الشفاعة التي يؤمن بها المؤمنين كشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة فإنه بإتفاق أهل السنة والجماعة له شفاعات في القيامة حتى يشفع في أهل الكبائر من أمته كما استفاضت بذلك الأحاديث الصحيحة كما كان يدعو ويشفع لهم في حياته.
وكذلك يشفع غيره ممن يأذن الله له في الشفاعة لكن ليست هي الشفاعة التي يثبتها أصناف المشركين من غير أهل الكتاب والصابئين ومن ضاهاهم من أهل الكتاب كالنصارى ومن ضاهاهم من هذه الأمة كالمتفلسفة والملاحدة والإسماعلية وكأهال المضنون به وغيرهم فإنهم جعلوا الشفاعة تنفع بدون دعاء الشافع لله وبدون إذن الرب له في الشفاعة كما تقدم.
والله تعالى يقول {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} البقرة: 255.
وقال تعالى {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} الأنبياء: 28، وأمثال ذلك في كتاب الله عز وجل.
وهنا جواب آخر عن أصل الحجة وهو أن يقال هب أن الشيئين يشركان في شيء موجود في الخارج ويمتاز أحدهما عن الآخر بما يخصه وأن الكلي المشترك بينهما ثابت في الخارج، وأن أحدهما إما أن يكون لازماً للآخر أو ملزوماً، أو عارضاً، أو معروضاً، فلم لا يجوز أن يكون المشترك لازماً للمعين بل وملزوماً له بحيث يكون كل من المشترك والمختص مشروطاً بالآخر والشرط لا يجب تقدمه على المشروط؟
وهذا كما أن الحيوانية مع الناطقية والصاهلية كل منهما مشروط بالآخر فلا يوجد المختص الذي هو الناطقية والصاهلية إلا مع الحيوانية ولا توجد حيوانية إلا مع بعض ذلك.
وليس المراد بكون المشترك مشروطاً بالمختص أنه بهذا المعين بل مشروط إما بهذا وإما بهذا فالمشترك من حيث مشروط بأحدهما لا بعينه ومن حيث تشخصه وتعينه مشروط بما لقترن به من التعين.
وهذا ثابت في كل شيئين اتفقا في شيء وافترقا في شيء ولا حيلة لهم فيه وذلك أن كون الشيء لازماً للآخرين أعم من كونه علة أو معلولاً أو لا علة ولا معلولاً فليس كل لازم معلولاً فإذا كان كل من الوجوبين لازماً لمعينه لم يجب أن يكون الواجب معلولاً ولا يكون الملزوم علة.
وبهذا يتبين فساد مقدمته الثانية التي قال فيها يجوز أن تكون ماهية الشيء سبباً لصفة من صفاته وأن تكون الصفة سبباً لصفة أخرى ولكن لا يجوز أن يكون الوجود بسبب ماهيته التي ليست من الوجود أو بسبب صفة أخرى لأن السبب يتقدم في الوجود ولا يتقدم بالوجود قبل الوجود.
فإنه يقال له لفظ السبب قد تعني به العلة الموجبة وقد تعني به الشرط فإن عنيت به الأول لم يجعل مسبباً عن غيره لئلا يلزم تقدم غير الوجود الواجب عليه.
وإن عنيت بالسبب الشرط فالشرط لا يجب تقدمه على مشروط بل يجوز مقارنته للمشروط فالأمور المتلازمة كالمتضايقات كل منها لا يوجد إلا مع الآخر فوجوده مشروط به من غير تقدم أحدهما على الآخر.
وكذلك أنتم تقولون إن المادة مع الصورة كل منهما شرط في