الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوجه الحادي والعشرون
أن يقال: معارضة أقوال الأنبياء بآراء الرجال، وتقديم ذلك عليها، هو من فعل المكذبين للرسل، بل هو جماع كل كفر، كما قال الشهرستاني في أول كتابه المعروف بالملل والنحل ما معناه: أصل كل شر هو من معرضة النص بالرأي، وتقديم الهوى على الشرع.
وهو كما قال، فإن الله أرسل رسله، وأنزل كتبه، وبين أن المتبعين لما أنزل هم أهل الهدى والفلاح، والمعرضين عن ذلك هم أهل الشقاء والضلال.
كما قال تعالى: {قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} [طه: 123-126] .
وقال تعالى: {يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * والذين
كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [الأعراف 35-36] .
وقد أخبر عن أهل النار أنهم إنما دخلوها لمخالفة الرسل، قال تعالى:{ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس} [الأنعام: 128]، إلى قوله:{يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين} [الأنعام: 130] .
وقال تعالى: {وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين} [الزمر: 71] .
وقال تعالى: {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير * قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير} [الملك: 8، 9] .
ومعلوم أن الكلام الذي جاءت به الرسل عن الله نوعان: إما إنشاء وإما خبر.
والإنشاء يتضمن الأمر والنهي والإباحة، فأصل السعادة تصديق خبره، وطاعة أمره وأصل الشقاوة معارضة خبره وأمره بالرأي والهوى، وهذا هو معرضة النص بالرأي، وتقديم الهوى على الشرع.
ولهذا كان ضلال من ضل من أهل الكلام والنظر في النوع الخبري، بمعارضة خبر الله عن نفسه وعن خلقه بعقلهم ورأيهم، وضلال من ضل من أهل العبادة والفقه في النوع الطلبي، بمعارضة أمر الله الذي هو شرعه بأهوائهم وآرائهم.
والمقصود هنا أن معارضة أقوال الرسل بأقوال غيرهم من فعل الكفار، كما قال تعالى:{ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد} [غافر: 4]، إلى قوله:{وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب} [غافر: 5] .
وقوله تعالى: {وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق} [الكهف: 56] .
وقوله تعالى: {ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا} [غافر 4]، مصدق لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«مراء في القرآن كفر» .
ومن المعلوم أن كل من عارض القرآن، وجادل في ذلك بعقله ورأيه، فهو داخل في ذلك، وإن لم يزعم تقديم كلامه على كلام الله ورسوله، بل إذا قال ما يوجب المرية والشك في كلام الله، فقد دخل في ذلك، فكيف بمن يزعم أن ما يقوله بعقله ورأيه مقدم على نصوص الكتاب والسنة.
وقال تعالى: {إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه} الآية [غافر: 56] .
وقال: {الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار} [غافر: 35] .
والسلطان هو الكتاب المنزل من السماء، كما ذكر ذلك غير واحد من المفسرين.
وشواهده كثيرة كقوله تعالى: {أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون} [الروم: 35] .
وقوله: {إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان} [النجم: 23] في سورة الأعراف ويوسف
والنجم، فمن عارض آيات الله المنزلة برأيه وعقله من غير سلطان أتاه، دخل في معنى هذه الآية.
وهذا مما يبين أنه لا يجوز معارضة كتاب الله إلا بكتاب الله، ولا يجوز معارضته بغير ذلك.
وكتاب الله نوعان: خبر وأمر، كما تقدم.
أما الخبر فلا يجوز أن يتناقض، ولكن قد يفسر أحد الخبرين الآخر ويبين معناه.
وأما الأمر فيدخله النسخ، ولا ينسخ ما أنزل الله إلا بما أنزل الله فمن أراد أن ينسخ شرع الله، الذي أنزله برأيه وهواه كان ملحداً، وكذلك من دفع خبر الله برأيه ونظره كان ملحداً.
والقرامطة جمعوا هذا وهذا، وزعموا أن محمد بن إسماعيل هو السابع الذي نسخ دين محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك تعرض لدعوى النبوة غير واحد من الملاحدة.
وآخرون يدعون ما هو عندهم أعلى من النبوة: إما ختم الولاية عند من يزعم أن الولاية أفضل من النبوة، كمذهب صاحب الفصوص ابن عربي وأمثاله، وإما دعوى الفلسفة والحكمة التي هي في زعم كثير منهم أعلى من النبوة.
وهؤلاء الملاحدة نوعان: نوع يزعم أنه نزل عليه، كما يدعي ذلك من يدعيه من ملاحدة أهل النسك والتصوف.
ثم من هؤلاء من يقول: إن الله أنزل عليه ذلك.
ومنهم من يقول: ألقي إلي، أوحي إلي، ولا يسمي الموحي.
وقوم يزعمون أنهم يقولون ذلك بعقلهم ورأيهم.
وقد جمع الله هؤلاء بقوله: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله} [الأنعام: 93] .
فذكر سبحانه من يفترى الكذب على الله، ومن يقول أنه يوحى إليه، ومن زعم أنه يقول كلاماً مثل الكلام الذي أنزله الله.
وهذا الأصل هو مما يعلم بالضرورة من دين الرسل من حيث الجملة: يعلم أن الله إذا أرسل رسولاً، فإنما يقول من يناقض كلامه ويعارضه من هو كافر، فكيف بمن يقدم كلامه على كلام الرسول؟ وأما المؤمنون بما جاء به فلا يتصور أن يقدموا أقوالهم على قوله، بل قد أدبهم الله بقوله:{لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} [الحجرات: 1] .
ولكن البدع مشتقة من الكفر، فلهذا كانت معارضة النصوص الثابتة عن الأنبياء بآراء الرجال هي من شعب الكفر، وإن كان المعارض لهذا بهذا يكون مؤمناً بما جاء به الرسول في غير محل التعارض.
وإذا كان أصل معارضة الكتب الإلهية بقول فلان وفلان من أصول الكفر، علم أن ذلك كله باطل.
وهذا مما ينبغي للمؤمن تدبره، فإنه إذا حاسب نفسه على ذلك، علم تصديق ذلك.
ومما بين هذا: