الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإذا كان هؤلاء من أجهل الناس وأكفرهم، فمن جعل أئمة الملاحدة الباطنية أفضل من محمد وإبراهيم وموسى وعيسى، كان أكثر من هؤلاء.
وهؤلاء الملاحدة ركبوا مذهباً من دين المجوس ودين الصابئين ودين رافضة هذه الأمة، فطافوا على أبواب المذاهب، وفازوا بأخس المطالب، فإنهم يبطنون من مناقضة الرسل وإبطال ما جاءوا به، ما لم يبطنه أتباع بولص وأمثاله من النصارى.
ومن لم يصل إلى هذا الحد من ملاحدة المتكلمين والمتعبدين ونحوهم، فقد شاركهم في الأصل وهو تفضيل أئمته وشيوخه على الأنبياء، ومن لم يقر منهم بتفضيل أئمته وشيوخه على الأنبياء لزمه ذلك لزماً لا محيد عنه، كما تقدم إذا جعل العلم بالله وملائكته وكتبه ورسله والمعاد لا يستفاد من خطاب الأنبياء وكلامهم، وبيانهم وطريقهم التي بينوها.
وإنما يستفاد من كلام شيوخه وأئمته.
الوجه التاسع والثلاثون
أن يقال: إن الرسل لم يسكتوا عن الكلام في هذا الباب، ولو سكتوا عنه للزم تفضيل شيوخ النفاة وأئمتهم على الأنبياء كما تقدم، فكيف إذا تكلموا فيه بما يفهم منه الخلق نقيض الحق على قول النفاة،
فإذا كان الحق هو قول النفاة، ولم يتكلموا إلا بما يدل على نقيضه، كانوا - مع أنهم لم يهدوا الخلق ويعلموهم الحق عند النفاة، - قد لبسوا عليهم ودلسوا، بل أضلوهم وجهلوهم وأخرجوهم إلى الجهل المركب، وظلمات بعضها فوق بعض: إما من علم كانوا عليه وإما من جهل بسيط، أو حيروهم وشككوهم وجعلوهم مذبذين لا يعرفون الحق من الباطل، ولا الهدى من الضلال، إذ كانوا ما تكلموا به عارضوا به طرق العلم العقلية والكشفية.
فعند هؤلاء كلام الأنبياء وخطابهم في أشرف المعارف وأعظم العلوم يمرض ولا يشفي، ويضل ولا يهدي، ويضر ولا ينفع، ويفسد ولا يصلح، ولا يزكي النفوس ويعلمها الكتاب والحكمة، بل يدسي النفوس ويوقعها في الضلال والشبهة، بل يكون كلام من يسفسط تارة ويبين أخرى، كما يوجد ف كلام كثير من أهل الكلام والفلسفة، كابن الخطيب، وابن سينا، وابن عربي، وأمثالهم خيراً من كلام الله وكلام رسله، فلا يكون خير الكلام كلام الله، ولا أصدق الحديث حديثه، بل يكون بعض قرآن مسيلمة الكذاب، الذي ليس فيه كذب في نفسه، وإن كانت نسبته إلى الله كذب، ولكنه مما لا يفيد كقوله: الفيل وما أدراك ما الفيل، له زلوم طويل، إن ذلك من خلق ربنا
لجليل - عند هؤلاء الملاحدة خيراً من كلام الله، الذي وصف به نفسه، ووصف به ملائكته، واليوم الآخر، وخيراً من كلام رسوله، لأن قرآن مسيلمة، وإن لم تكن فيه فائدة ولا منفعة، فلا مضرة فيه، ولا فساد، بل يضحك المستمع-كما يضحك الناس- من أمثاله.
وكلام الله ورسوله عند هؤلاء أضل الخلق وأفسد عقولهم، وأديانهم، وأوجب أن يعتقدوا نقيض الحق في الإيمان بالله ورسله، أو يشكوا ويرتابوا في الحق، أو يكونوا- إذا عرفوا بعقلهم- تعبوا تعباً عظيماً في صرف الكلام عن مدلوله ومقتضاه، وصرف الخلق عن اعتقاد مضمونه وفحواه، ومعاداة من يقر بذلك، وهم السواد الأعظم من أتباع الرسل.
وإنما ذكرنا هذا لأن كثيراً من الجهمية النفاة يقولون: فائدة إنزال هذه النصوص المثبتة للصفات، وأمثالها من الأمور الخيرية التي يسمونها هم المشكل والمتشابه، فائدتها عندهم اجتهاد أهل العلم في صرفها عن مقتضاها بالأدلة المعارضة لها حتى تنال النفوس كد الاجتهاد، وحتى تنهض إلى التفكر والاستدلال بالأدلة العقلية المعارضة لها الموصلة إلى الحق، فحقيقة الأمر عندهم أن الرسل خاطبوا الخلق بما لا يبين الحق، ولا يدل على العلم، ولا يفهم منه الهدى، بل يدل على الباطل، ويفهم منه الضلال، ليكون انتفاع الخلق بخطاب الرسول اجتهادهم في رد ما أظهرته الرسل وأفهمته الخلق، وأنهم بسبب ذلك ينظرون نظراً
يؤديهم إلى معرفة الحق، من غير أن ينصب الرسول لهم على الحق دلالة، ولا يبينه لهم بخطابه أصلاً، فمثال ذلك عندهم مثل من أرسل مع الحجاج أدلة يدلونها على طريق مكة، وأوصى الأدلاء بأن يخاطبوهم بخطاب يدلهم على غير طريق مكة، ليكون ذلك الخطاب سبباً لنظرهم واستدلالهم حتى يعرفوا طريق مكة بنظرهم، لا بأولئك الأدلاء، وحينئذ يردون ما فهم من كلام الأدلاء، ويجتهدون في نفي دلالته، وإبطال مفهومه ومقتضاه.
وإذا كان لأمر كذلك، فمن المعلوم أن خلقاً كثيراً لا يتبعون إلا الأدلاء الذين يدعون انهم أعلم بالطريق منهم، وأن ولاة الأمور قد قلدوهم دلالة الحاج، أو تعريفهم الطريق، وإن درك ذلك عليهم فيتبعون الأدلاء.
والطائفة التي ظنت أن الأدلاء لم يقصدوا بكلامهم الدلالة والإفهام والإرشاد إلى سبيل الرشاد، صار كل منهم يستدل بنظره واجتهاده، فاختلفوا في الطرق وتشتتوا فمنهم من سلك طرقاً أخرى غير طريق مكة، فأفضت بهم إلى أودية مهلكة، ومفاوز متلفة، وأرض متشعبة -فأهلكتهم.
وطائفة أخرى شكوا وحاروا، فلا مع الأدلاء سلكوا فأدركوا المقصود، ولا لطرق المخالفين للأدلاء ركبوا وسلكوا، بل وقفوا مواقف التائهين الحائرين، حتى هلكوا أيضاً في أمكنتهم جوعاً وعطشاً، كما هلك
أرباب الطرق المتشعبة فلم يظفروا بالمطلوب، ولا نالوا المحبوب، بل هلكوا هلاك الخاسر الحائر.
وآخرون اختصموا فيما بينهم فصار هؤلاء يقولون: الصواب فيما ذكره الأدلاء، ونطق به هؤلاء الخبراء، وآخرون يقولون: بل الصواب مع هؤلاء الذين يقولون: إنهم أخبر وأحذق، وكلامهم في الدلالة أبين وأصدق، وآخرون حاروا مع من الصواب، ووقفوا موقف الارتياب، فاقتتل هؤلاء وهؤلاء، وخذل الواقفون الحائرون لهؤلاء وهؤلاء، ولكن فاتت باختلاف أولئك مصالح دينهم ودنياهم، فهلك الحجيج وكثر الضجيج، وعظم النشيج، واضطربت السيوف، وعظمت الحتوف، وتزاحف الصفوف، وحصل من الفتنة والشر والفساد، ما لا يحصيه إلا رب العباد.
فهل من فعل هذا بالحجيج يكون قد هداهم السبيل، وأرشدهم إلى اتباع الدليل؟ أم يكون مفسداً عليهم دينهم ودنياهم، فاعلاً بهم ما لا يفعله إلا أشد عداهم؟ وإذا قال: إنما قصدت بذلك أن يجتهد الحجاج في أن يعرفوا الطريق بعقولهم وكشوفهم، ولا يستدلوا بكلام الأدلاء الذين أرسلتهم لتعريفهم، لينالوا بذلك أجر المجالدين، وتنبعث هممهم إلى طريق المجالدين-هل يصدقه في ذلك عاقل؟ أو يقبل عذره من عنده حاصل؟ .
فهذا مثال ما يقوله النفاة في رسل الله، الذين أرسلهم الله تعالى إلى الخلق ليعلموهم ويهدوهم سبيل الله، ويدعوهم إليه كما قال تعالى:
{كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد} [إبراهيم: 1] .
وقال تعالى: {إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا} [الأحزاب: 45-46] .
وقال تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور} [الشورى: 52-53] .
فجعل هؤلاء الجهاد في إفساد سبيل الله جهاداً في سبيل الله، والاجتهاد في تكذيب رسل الله اجتهاداً في تصديق رسل الله، والسعي في إطفاء نور الله سعياً في إظهار نور الله، والحرص على أن لا تصدق كلمته، ولا تقبل شهادته، أو لا تفيد دلالته، سعياً في أن تكون كلمة الله هي العليا، والمبالغة في طريق أهل الإشراك بالله والتعطيل مبالغة في طريق أهل التوحيد، السالكين سواء السبيل، فقلبوا الحقائق، وأفسدوا الطرائق، وأضلوا الخلائق.
وهذه المعاني وأمثالها - وأعظم منها - يعرفها كل من فهم لوازم أقوال هؤلاء المبدلين المعطلين، وإن كان قد التبس كثير من كلامهم على من لا يعرف لا الحق ولا نقيضه، بل صار حائرا، حتى أنك تجد كثيراً ممن عنده علم وفقه، وعبادة وزهد، وحسن قصد، وقد ضرب في العلم والدين بسهم وافر، وهو لا يختار أن ينحاز عن المؤمنين بالله واليوم الآخر، فيسمع كلام الله وكلام رسوله، وأهل العلم والإيمان،
وكلام أهل الزندقة والإلحاد، الذين سعوا في الأرض بالفساد، فيؤمن بهذا وهذا إيماناً مجملا، ويصدق الطائفتين، أو يعرض عنهما، فلا يدخل في تحقيق طريق هؤلاء ولا هؤلاء بمنزلة من سمع كلام محمد بن عبد الله الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، وكلام مسيلمة الكاذب الكافر، ولم يفهم ما بينهما من التناقض والاختلاف، فصار يصدق هذا وهذا، ويقر كلا منهما، على ما قاله، ويسلم إليه حاله، ويقول: هذا رسول الله، وهذا رسوله.
لكن هؤلاء لا يمكنهم التظاهر بين المسلمين بإظهار رسالة غير محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن يقولون ما هو بمعنى الرسالة أو أبلغ منها، فيقولون: هذا كلام رسول الله، وهذا كلام أولياء الله، بل كلام خاتم الأولياء، وهذا كلام العارفين المحققين، وكلام العقلاء وأهل البراهين، وكلام النظار المحققين، ونحن نسلم هذا وهذا، ففضلاؤهم الذين يفهمون التناقض، هم في الباطن مع أعداء الرسول، وإليهم أميل.
وهم عندهم أهل التحقيق والتبيين بحقيقة الطريق.
وأما من لم يفهم التناقض، فقد يكون الطائفتان عنده على السواء، وقد يكون إلى أهل مسيلمة أميل لمعنى من المعاني، وإلى أبي بكر الصديق وأمثاله أميل من وجه ثان.
وربما رجح هؤلاء من وجه، وهؤلاء من وجه آخر.
فهذا وأمثاله من الأمور الواقعة، بسبب هذه الواقعة، التي أصلها