الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوله من الحلول الذي ضاهى به النصارى من جنس كلام الحلولية.
والمقصود هنا أن نشير إلى جنس كلام السلف والأمة، مع جنس هؤلاء النفاة، وأن الجميع يشربون من عين واحدة، وأن كلام هؤلاء النفاة للصفات مع معطلة الصانع كلام قاصر، من جنس كلام جهم مع السمنية المشركين، وكلام المشائين الإلهيين من المتفلسفة مع الطبيعيين منهم.
وذكر أحمد أن الجهم اعتمد من القرآن على ثلاث آيات تشتبه معانيها على من لا يفهمها: آية نفي الإدراك لينفي بها الرؤية والمباينة، وآية نفي المثل لينفي بها الصفات ويجعل من أثبتها مشبها، وقوله {وهو الله في السماوات وفي الأرض} الأنعام 3، لينفي بها علوه على العرش، أو ليثبت بها مع ذلك الحلول والاتحاد وعدم مباينته للمخلوقات.
وهذه أصول الجهمية من المعتزلة أصحاب عمرو بن عبيد ومن دخل ف بالتجهم، أو الاعتزال أو بعض فروع ذلك، من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي واحمد مع أن هؤلاء الأئمة من أبعد الناس عن أصول الجهمية والمعتزلة.
تابع كلام الإمام أحمد
قال الإمام أحمد عن الجهمية فإن سألهم الناس عن قوله
تعالى {ليس كمثله شيء} الشورى: 11، يقولون ليس كمثله شيء من الأشياء وهو تحت الأرضين السابعة كما هو فوق العرش لا يخلو منه مكان ولا يكون في مكان دون مكان ولم يتكلم ولا يتكلم ولا ينظر إليه أحد في الدنيا ولا في الآخرة ولا يوصف ولا يعرف بصفة ولا يعقل ولا غاية ولا له غاية ولا منتهى ولا يدرك بعقل هو وجه كله وهو علم كله وهو سمع كله وهو بصر كله وهو نور كله وهو قدرة كله ولا يكون شيئين مختلفين وفي نسخة ولا يوصف بوصفين مختلفين وليس له أعلى ولا أسفل ولا نواحي ولا جوانب ولا يمين ولا شمال ولا هو ثقيل ولا خفيف ولا له لون ولا له جسم وليس هو معقولاً وكل ما خطر على قلبك أنه
شيء تعرفه فهو خلافه فقلنا هو شيء فقالوا هو شيء لا كالأشياء فقلنا إن الشيء الذي لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شيء فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يأتون بشيء وفي نسخة لا يثبتون شيئاً ولكنهم يدفعون عن أنفسهم الشنعة فإذا قيل لهم من تعبدون قالوا نعبد من يدبر أمر هذا الخلق فقلنا هذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة قالوا نعم فقلنا قد عرف المسلمون أنكم لا تأتمون بشيء وإنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون فقلنا لهم هذا الذي يدبر هو الذي كلم موسى فقالوا لم يتكلم ولا يتكلم لأن الكلام لا يكون إلا بجارحة والجوارح على الله منتفية فإذا سمع الجاهل قولهم يظن أنهم من أشد الناس تعظيماً لله ولا يشعر أنهم إنما يقودون قولهم إلى فرية في الله.
فهذا الذي وصفه الإمام أحمد وغيره من علماء السلف من كلام الجهمية هو كلام من وافقهم من القرامطة الباطنية والمتفلسفة المتبعين لأرسطو كابن سينا وأمثاله ممن يقول إنه الوجود المطلق أو المقيد بالقيود السلبية ونحو ذلك وهو حقيقة كلام القائلين بوحدة الوجود.
ولهذا ذكر عنهم أنهم سلبوه كل ما يتميز به موجود عن موجود فسلبوه الصفات والأفعال وسائر ما يختص بموجود.
ولما قالوا هو شيء لا كالأشياء علم الأئمة مقصودهم فإن الموجودين لا بد أن يتفقا في مسمى الشيء فإذا لم يكن هناك قدر اتفقا فيه اصلاً لزم أن لا يكونا جميعاً موجودين وهذا مما يعرف بالعقل.
ولهذا قال الإمام أحمد فقلنا إن الشيء الذي كالأشياء قد عرف أهل العقل إنه لا شيء فبين أن هذا مما يعرف بالعقل وهذا مما يعلم بصريح المعقولات.
ولهذا كان قول جهم المشهور عنه الذي نقله عنه عامة الناس أنه لا يسمى الله شيئاً لأن ذلك بزعمه يقتضي التشبيه لأن اسم الشيء إذا قيل على الخالق والمخلوق لزم اشتراكهما في مسمى الشيء وهذا تشبيه بزعمه.
وقوله باطل فإنه سبحانه وإن كان لا يماثله شيء من الأشياء في شيء من الأشياء فمن المعلوم بالعقل أن كل شيئين فهما متفقان في مسمى الشيء وكل موجودين فيها متفقان في مسمى الوجود وكل ذاتين فهما متفقان في مسمى الذات فإنك تقول الشيء والموجود والذات ينقسم إلى قديم ومحدث وواجب وممكن وخالق ومخلوق ومورد التقسيم بين الأقسام.
وقد بسطنا الكلام على هذه المسألة في غير هذا الموضع وبينا غلط من جعل اللفظ مشتركا اشتراكاً لفظياً.
وهذا الذي نبه عليه الإمام أحمد من أن مسمى الشيء والوجود ونحو ذلك معنى عام كلي تشترك فيه الأشياء كلها والموجودات كلها هو المعلوم بصريح العقل الذي عليه عامة العقلاء.
ومن نازع فيه فلا بد أن يقول به أيضاً فيتناقض كلامه في ذلك كما تناقض فيه كلام الشهر ستاني والرازي والآمدي وغيرهم إذ يجعلونه تارة عاماً مقسوماً مشتركاً اشتراكاً لفظيا ومعنوياً بين الأشياء الموجودات ويجعلونه تارة مشتركاً اشتراكاً لفظياً فقط كلفظ المشتري المشترك بين المبتاع والكوكب ولفظ سهيل المشترك بين الكوكب وبين الرجل المسمى بسهيل ولفظ الثريا المشترك بين الكوكب وبين المرأة المسماة ثريا.
كما قيل:
أيها المنكح الثريا سهيلاً
…
عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت
…
وسهيل إذا استقل يمان
ولما كان هذا مما يعرف بالعقل قال أحمد فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يأتمون بشيء أي لا يقصدون شيئاً فإن المؤتم بالشيء يؤمه ويقصده والإمام الطريق لأن السالك يأتم به وهو أيضاً الكتاب الذي يأتم به القارىء وهو الإمام الذي يأتم به المصلي.
والأمة القدوة الذي يؤتم به أي يقتدى والأمة أيضاً الدين يقال فلان لا أمة له أي لا دين له ولا نحلة له.
قال الشاعر:
وهل يستوي ذو أمة وكفور
وقول النابغة:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة
…
وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع
فقول أحمد لا يأتمون بشيء أي لا يدينون بدين ومن روي أنه قال إنكم لا تثبتون شيئاً فقوله ظاهر فإن قول الجهمية يتضمن أنهم لا يثبتون في الخارج رباً خالقاً للعالم.
ثم قال فإذا قيل للجهمية من تعبدون قالوا نعبد من يدبر
أمر هذا الخلق فقلنا هذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة قالوا نعم فقلنا قد عرف المسلمون أنكم لا تأتمون بشيء.
فقال أحمد في هذا الموضع قد عرف المسلمون وقال هناك قد عرف الناس لأنه هنا تكلم في كونه معبوداً وأنهم يعبدون وهناك تكلم في كونه موجوداً، فلما وصفوه بالسلب المحض، أخبر أن أهل العقل يعلمون أن الموصوف بالسلب المحض هو العدم، فعرف الناس أنهم لا يثبتون شيئاً.
وهنا لما سألهم: من يعبدون؟ فأخبروا انهم يعبدون مدبر الخلق، وقالوا: إنه مجهول لا يعرف بصفة عرف المسلمون أنهم لا يعبدون شيئاً، لأن العبادة أصلها قصد المعبود وإرادته والقصد والإرادة مستلزمة للعلم بالمراد المقصود.
فما يكون مجهولا لا يعرف بصفة يمتنع ان يكون مقصوداً فيمتنع أن يكون معبوداً والعبادة هي أمر ديني أمر الله بها ورسوله، وهي أصل دين المسلمين.
فلهذا قال هنا: قد عرف المسلمون أنكم لا تأتمون بشيء، وإنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون فبين أن الناس يعلمون
بعقلهم أنهم لا يثبتون شيئاً، وأن المسلمين يعرفون أنهم لا يعبدون شيئاً، وبين أن الجاهل إذا سمع قولهم يظن أنهم من أشد الناس تعظيماً لله، ولا يشعر أنهم إنما يقودون قولهم إلى فرية في الله.
وهذا الذي ذكره الإمام أحمد أصل قول هؤلاء النفاة الجهمية، وسر مذهبهم، وكلما كان الرجل أعقل وأعرف، وأعلم وأفضل، وأخبر بحقيقة الأمر في نفسه، وبقول هؤلاء النفاة أزداد في ذلك بصيرة وإيماناً ويقيناً وعرفانا.
وقد ذكر ابن جرير في تاريخه نسخة الكتاب الذي أرسل في المحنة المشهورة لما كان المأمور قد ذهب إلى ناحية طرسوس، وأرسل كتاباً إلى الناس ببغداد، وأمر نائبه إسحاق بن إبراهيم أن يقرأه على الناس، ويدعوهم إلى موافقته، فامتنع العلماء عن الإجابة، حتى أرسل كتاباً يهدد بن الناس، وأمر بقتل القاضيين إذا لم يجيبا: قاضي الشرقية والغربية، وهما: بشر بن الوليد وعبد الرحمن بن إسحاق فأجاب الناس كرها، واعترفوا بذلك، وامتنع عن الإجابة سبعة فقيدوهم فأجاب منهم خمسة، وبقي أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح النيسابوري، فأرسلوهما مقيدين، فمات محمد بن نوح في الطريق، فبقي أحمد بن حنبل، ومات المأمون قبل أن يصير إليه أحمد
والمقصود أنه ذكر في كتابه لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه فوافقه من لم يعرف حقيقة هذه الكلمة وذكر عن أحمد أنه قال: لا يشبه الأشياء وليس كمثله شيء ونحو ذلك أو كما قال.
وأما قوله: بوجه من الوجوه فامتنع منها وذلك لأنه عرف أن مضمون ذلك التعطيل المحض، فإنه يقتضي أنه ليس بموجود، ولا شيء ولا حي ولا عليم ولا قدير، ويقتضي إبطال جميع أسمائه الحسنى.
وهذا النفي حقيقة قول القرامطة، والله تعالى: ليس كمثله شيء بوجه من الوجوه، بل هو سبحانه في كل ما هو موصوف به مختص بما لا يماثله فيه غيره، وله المثل الأعلى.
ولكن لفظ الشبه فيه إجمال وإبهام، فما من شيئين إلا وهما متفقان في أمر من الأمور، ولو كونهما موجودين، وذلك الذي اتفقا فيه لا يمكن نفيه إلا بنفي كل منهما.
فإذا قيل: هذا لا يوافق هذا بوجه من الوجوه ولا يواطئه بوجه من الوجوه كان هذا ممتنعاً.
وكذلك إذا أريد بقول القائل لا يشبهه بوجه من الوجوه هذا المعنى بخلاف ما إذا أراد بذلك المماثلة والمساواة والمكافاة أو أراد ذلك بلفظ المشاركة والموافقة والمواطأة، فإنه سبحانه لا يماثل شيء بوجه من الوجوه ولا شريك له بوجه من الوجوه لا سيما والكليات التي يتفق فيها الشيئان إنما هي في الأذهان لا في الأعيان، فليس في
الموجودات الخارجية اثنان اشتركا في شيء، فضلا عن أن يكون الخالق تعالى مشاركا لغيره في شيء من الأشياء سبحانه وتعالى.
والقرامطة الباطنية كالجهمية الذين ينفون أن يسمى الله بشيء من الأسماء التي يسمى بها مخلوق، لبسوا على الناس بلفظ التشبيه والتركيب ولهذا أنكر جماهير الطوائف عليهم من المعتزلة والنجارية والضرارية ومتكلمة الصفاتية، وغيرهم بل أنكر عليهم من أنكر من الفلاسفة مع تناقض كثير من الناس معهم.
ولهذا زعم أبو العباس الناشيء أن الأسماء التي يسمى بها الله، ويسمى بعض عباده بها هي حقيقة في الله مجاز في عباده نقيض قول القرامطة الباطنية والجهمية.
ولهذا كان السلف يجعلون الجهمية زنادقة ولم يكن إذا ذاك ظهرت ملاحدة الشيعة، بل في عصر محنة الجهمية، في خلافة المأمون والمعتصم ونحوهما، شرعت طوائف الملاحدة الباطنية تظهر مع ظهور الجهمية كما ظهرت الخرمية أصحاب بابك الخرمي وهذا احد ألقاب الباطنية.
ويقال إنه سنة عشرين، وهي السنة التي ضرب فهذا فيها أحمد، ظهرت أوائل القرامطة الذين ظهروا بالعراق، ثم صارت لهم شوكة بهجر مع الجناني وأتباعه، ثم ظهرت دعوتهم الكبرى بأرض المغرب ثم مصر، إلى أن فتحها أهل السنة بعد ذلك وبقاياهم في الأرض متفرقون.
وهؤلاء لهم أنواع من الإلحاد في غير الأسماء والصفات وإنما