الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
طرق: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها ستكون فتن.
قلت فما المخرج منها يا رسول الله؟ فقال: كتاب الله: فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تختلف به الآراء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، ولا تشبع منه العلماء، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم» .
وبسط الكلام على مثل هذا يطول جدا، وإنما نبهنا هنا على أصله.
الوجه التاسع والعشرون
أن يقال: العقل ملزوم لعلمنا بالشرع ولازم له.
ومعلوم أنه إذا كان اللزوم من أحد الطرفين، لزم من وجود الملزوم وجود اللازم، ومن نفي اللازم نفي الملزوم، فكيف إذا كان التلازم من الجانبين؟
فإن هذا التلازم يستلزم أربع نتائج: فيلزم من ثبوت هذا اللازم ثبوت هذا، ومن نفيه نفيه، ومن ثبوت الملازم الآخر ثبوت ذلك، ومن نفيه نفيه.
وهذا هو الذي يسميه المنطقيون: الشرطي المتصل، ويقولون: استثناء عين المقدم ينتج عين التالي، واستثناء نقيض التالي ينتج نقيض المقدم، فإذا كان التلازم من الجانبين كان استثناء عين كل من المتلازمين ينتج عين الآخر، واستثناء نقيض كل منهما ينتج نقيض الآخر.
وبيان ذلك ها هنا: أنه إذا كان العقل هو الأصل الذي به عرف صحة الشرع، كما قد ذكروا هم ذلك، وقد تقدم أنه ليس المراد بكونه أصلاً له أنه أصل في ثبوته في نفسه، وصدقه في ذاته، بل هو أصل في علمنا به، أي دليل لنا على صحته.
فإذا كان كذلك فمن المعلوم أن الدليل يجب طرده، وهو ملزوم للمدلول عليه، فيلزم من ثبوت الدليل ثبوت المدلول عليه، ولا يجب عكسه، فلا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول عليه.
وهذا كالمخلوقات فإنها آيه للخالق، فيلزم من ثبوتها ثبوت الخالق، ولا يلزم من وجود الخالق وجودها.
وكذلك الآيات الدالات على نبوة النبي، وكذلك كثير من الأخبار والأقيسة الدالة على بعض الأحكام: يلزم من ثبوتها ثبوت الحكم، ولا يلزم من عدمها عدمه، إذ قد يكون الحكم معلوماً بدليل آخر، اللهم إلا أن يكون الدليل لازماً للمدلول عليه، فيلزم من عدم اللازم عدم الملزوم، وإذا كان لازماً له أمكن أن يكون مدلولاً له، إذ المتلازمان يمكن أن يستدل بكل منهما على الآخر، مثل الحكم الشرعي الذي لا يثبت إلا بدليل شرعي، فإنه يلزم من عدم دليله عدمه.
وكذلك ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، إذا لم ينقل لزم من عدم نقله عدمه، ونقله دليل عليه، وإذا كان من المعقول ما هو دليل على صحة الشرع، لزم من ثبوت ذلك المعقول ثبوت الشرع، ولم يلزم من ثبوت الشرع ثبوته في نفس الأمر.
لكن نحن إذا لم يكن لنا طريق إلى العلم بصحة الشرع علمنا بدليله العقلي الدال عليه، ولزم من علمنا بذلك الدليل العقلي علمنا به، فإن العلم بالدليل يستلزم العلم بالمدلول عليه.
وهذا هو معنى كون النظر يفيد العلم.
وهذا التلازم فيه قولان: قيل: إنه بطريق العادة التي يمكن خرقها.
وقيل: بطريق اللزوم الذاتي الذي لا يمكن انفصاله، كاستلزام العلم للحياة، والصفة لموصوف ما، وكاستلزام جنس العرض لجنس الجوهر، لامتناع ثبوت صفة وعرض، بدون موصوف وجوهر.
والمقصود هنا أنه إذا كان صحة الشرع لا تعلم إلا بدليل عقلي، فإنه
يلزم من علمنا بصحة الشرع، علمنا بالدليل العقلي الدال عليه، ويلزم من علمنا بذلك الدليل العقلي، علمنا بصحة الشرع.
وهكذا الأمر في كل ما لا يعلم إلا بالدليل، ويلزم أيضا من ثبوت ذلك الدليل المعقول في نفس الأمر ثبوت الشرع، ولا يلزم من ثبوت الشرع ثبوت ذلك الدليل.
وإذا كان العلم بصحة الشرع لازماً للعلم بالمعقول الدال عليه، وملزوماً له، ولازما لثبوت ذلك المعقول في نفس الأمر، كما أن ثبوت ذلك المعقول في نفس الأمر، مستلزم لثبوت الشرع في نفس الأمر، فمن الممتنع تناقض اللازم والملزوم، فضلاً عن تعارض المتلازمين.
فإن المتعارضين هما المتنافيان اللذان يلزم من ثبوت أحدهما انتفاء الآخر، كالضدين والنقيضين.
والمتلازمان يلزم من ثبوت كل منهما ثبوت الآخر، ومن انتفائه انتفاؤه، فكيف يمكن أن يكون المتلازمان متعارضين متنافيين متناقضين، أو متضادين؟
ولفظ التنافي والتضاد والتناقض والتعارض ألفاظ (متقاربة) في أصل اللغة، وإن كانت تختلف فيها الاصطلاحات، فكل مضاد فهو مستلزم للتناقض اللغوي.
ولهذا يسمي أهل اللغة أحد الضدين نقيض الآخر، وكل تعارض فهو
مستلزم للتناقض اللغوي، لأن أحد الضدين ينقض الآخر، أي يلزم من ثبوته عدم الآخر، كما يلزم من ثبوت السواد انتفاء البياض.
والنقيضان في اصطلاح كثير من أهل النظر هما اللذان لا يجتمعان ولا يرتفعان والضدان لا يجتمعان لكن قد يرتفعان.
وفي اصطلاح آخرين منهم هما: النفي والإثبات فقط، كقولك، إما أن يكون، وإما أن لا يكون.
ولهذا يقولون: التناقض اختلاف قضيتين بالسلب والإيجاب، على وجه يلزم من صدق إحداهما كذب الأخرى، فالتناقض في عرف أولئك أعم منه في عرف هؤلاء، فإن ما لا يجتمعان ولا يرتفعان قد يكونان ثبوتيين، وقد يكونان عدميين، وقد يكونان ثبوتاً وانتفاءً، ولو كان أحدهما وجوداً والآخر عدماً، فقد يعبر عنهما بصيغة الإثبات التي لا تدل بنفسها على التناقض الخاص، كما إذا قيل للموجود: إما أن يكون قائماً بنفسه، وإما أن يكون قائماً بغيره، وإما أن يكون واجباً بنفسه، وإما أن يكون ممكناً بنفسه، وإما أن يكون قديماً، وإما أن يكون محدثاً، ونحو ذلك.
فمن المعلوم أن تقسم الموجود إلى قائم بنفسه وغيره، وواجب وممكن، وقديم ومحدث، تقسيم حاصر كتقسيم المعلوم إلى الثابت والمنفي.
وهذان القسمان لا يجتمعان ولا يرتفعان كما أن الوجود والعدم لا يجتمعان ولا يرتفعان.
وأما أهل اللغة فالنقيضان عندهم أعم من هذا كله، كالمتنافيين، فكل ما نفى أحدهما الآخر فقد نقضه وأزاله وأبطله، فيسمونه نقيضه.
وللمتفلسفة المشائين اصطلاح آخر في المتقابلين بالسلب والإيجاب، يسمونه تقابل العدم والملكة، وهو نفي الشيء عما من شأنه أن يكون قابلاً له، كنفي السمع والبصر والكلام عن الحيوان، فإنه يسمى عمىً وصمماً وبكماً، لأن الحيوان يقبل هذا وهذا، بخلاف نفي ذلك عن الجماد كالجدار، فإنه لا يسمى في اصطلاحهم عمىً ولا صمماً ولا بكماً، لأن الجدار لا يقبل ذلك.
ثم إنهم تذرعوا بذلك إلى سلب النقيضين عن الخالق تعالى، فاحتج السلف والأئمة وأهل الإثبات بأن الخالق سبحانه لو لم يوصف بالسمع والبصر والكلام، ونحو ذلك من صفات الكمال، لوجب أن يوصف بما يقابل ذلك من الصمم والعمى والبكم ونحو ذلك من صفات النقص.
فقال لهم هؤلاء: العمى والبصر والبكم والكلام متقابلان تقابل العدم والملكه، وهو سلب الشيء عما من شأنه أن يكون قابلاً له كالحيوان، فأما ما لا يقبل ذلك كالجماد، فلا يوصف بعمى ولا بصر ولا كلام ولا بكم ولا سمع ولا صمم، ولا حياة ولا موت.
والجواب عن هذا من وجوه:
أحدها: أن يقال: هذا اصطلاح لكم، وإلا فما ليس بحي يسمى ميتا، كما قال تعالى:{والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون * أموات غير أحياء} [النحل: 20-21]، وقال تعالى:{وآية لهم الأرض الميتة أحييناها} [يس: 33]، وقال:{اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها} [الحديد: 17] .
والثاني: أن ما لا يقبل صفات الكمال أنقص مما يقبلها ولم يتصف بها، فإن الجماد أنقص من الحيوان الأعمى والأصم والأبكم، فإذا كان اتصافه بصفات النقص، مع إمكان اتصافه بصفات الكمال، نقصاً وعيباً يجب تنزيهه عنه، فعدم قبوله لصفات الكمال أعظم نقصاً وعيباً.
ولهذا كان منتهى أمر هؤلاء تشبيهه بالجمادات ثم بالمعدومات، ثم بالممتنعات.
الثالث: أن نفس عدم الحياة والعلم والقدرة نقص لكل ما عدم عنه ذلك، سواء فرض قابلاً أو غير قابل، بل ما لا يقبل ذلك أنقص مما يقبله، كما أن نفس الحياة والعلم والقدرة صفات كمال.
فنفس وجود هذه الصفات كمال، ونفس عدمها نقص، سواء سمي موتاً وجهلاً وعجزاً أو لم يسم، وكذلك السمع والبصر والكلام كمال، وعدم ذلك نقص.
وقد بسط الكلام على ذلك في مواضع بسيطاً لا يليق بهذا الموضوع.
وإذا تبين أن الدليل العقلي الذي به يعلم صحة الشرع مستلزم للعلم بصحة الشرع، ومستلزم لثبوت الشرع في نفس الأمر، وعلمنا بالشرع يستلزم العلم بالدليل العقلي الذي قيل: أنه أصل للشرع، وإن العلم بصحة الشرع موقوف عليه، وليس ثبوت الشرع في نفسه مستلزماً لثبوت ذلك الدليل العقلي في نفس الأمر - علم أن ثبوت الشرع في نفس الأمر أقوى من ثبوت دليله العقلي في نفس الأمر، وأن ثبوت الشرع علمنا أقوى من ثبوت دليله العقلي، إن قيل: إنه ممكن أن تعلم صحته بغير ذلك الدليل، إلا كان العلم بهذا والعلم بهذا متلازمين.
وإذا كان كذلك، كان القدح في الشرع قدحاً في دليله العقلي الدال على صحته بخلاف العكس، فكان القدح في الشرع قدحاً في هذا العقل، وليس القدح في هذا العقل مستلزماً للقدح في الشرع مطلقاً.
وأما ما سوى المعقول الدال على صحة الشرع، فكذلك لا يلزم من بطلانه بطلان الشرع، كما لا يلزم من صحته صحة الشرع.
فتبين أنه ليس في المعقولات ما يجب تقديمه على الشرع لكونه أصلاً للشرع، لأن المقدم عليه إن لم يكن هو المعقول الدال عليه، فليس هو أصلاً له، فلا يجب تقديمه عليه بهذا الاعتبار، وغن كان هو المعقول الدال عليه، امتنع أن يكون صحيحاً مع بطلان الشرع، لأن صحته مستلزمة لصحة الشرع، وإلا لم يكن دليلاً عليه.
وثبوت الملزوم بدون الإلزام محال، فمن قدم العقل على الشرع، فقد
قدح في العقل والشرع جميعاً، وهو حال الذين قالوا:{لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} [الملك: 10] .
وإذا قال القائل: نحن إنما قدحنا في القدر الذي خالف العقل من الشرع، لم نقدح في كل الشرع.
قيل: ومن قدم الشرع إنما قدح في ذلك القدر مما يقال إنه عقل، لم يقدح في كل عقل، ولا في العقل الذي هو أصل يعلم به صحة الشرع.
وإنما قلنا (مما يقال إنه عقل) لأنه ليس بمعقول صحيح، وإن سماه أصحابه معقولاً.
فإن من خالف الرسل عليهم الصلاة والسلام، ليس معه لا عقل صريح ولا نقل صحيح، وإنما غايته أن يتمسك بشبهات عقلية أو نقليه، كما يتمسك المشركون والصابئون من الفلاسفة وغيرهم بشبهات عقلية فاسدة، وكما يتمسك أهل الكتاب المبدل المنسوخ بشبهات نقليه فاسدة.
قال الله تعالى: {والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات} [الأنعام: 39]، وقال تعالى:{أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا} [الفرقان: 44] .
ولهذا كان من قدم العقل على الشرع لزمه بطلان العقل والشرع، ومن قدم الشرع لم يلزمه بطلان الشرع بل سلم له الشرع.
ومعلوم أن سلامة الشرع للإنسان، خير له من أن يبطل عليه العقل والشرع جميعا.
وذلك لأن القائل الذي قال: العقل أصل الشرع، بل علمت صحته، فلولا قدمنا عليه الشرع للزم القدم في أصل الشرع.
يقال له: ليس المراد بكونه أصلاً له: إنه أصل في ثبوته في نفس الأمر، بل هو أصل في علمنا به، لكونه دليلاً لنا على صحة الشرع.
ومعلوم أن الدليل مستلزم لصحة المدلول عليه، فإذا قدر بطلان المدلول عليه لزم بطلان الدليل، فإذا قدر عند التعارض أن يكون العقل راجحاً والشرع مرجوحاً، بحيث لا يكون خبره مطابقاً لمخبره، لزم أن يكون الشرع باطلاً، فيكون العقل الذي دل عليه باطلاً، لأن الدليل مستلزم للمدلول عليه، فإذا انتفى المدلول اللازم وجب انتفاء الدليل الملزوم قطعاً.
ولهذا يمتنع أن يقوم دليل صحيح على باطل، بل حيث كان المدلول باطلاً لم يكن الدليل عليه إلا باطلا.
أما إذا قدم الشرع، كان المقدم له قد ظفر بالشرع، ولو قدر مع ذلك بطلان الدليل العقلي، لكان غايته أن يكون الإنسان قد صدق بالشرع بلا دليل عقلي، وهذا مما ينتفع به الإنسان، بخلاف من لم يبق عنده لا عقل ولا شرع، فإن هذا قد خسر الدنيا والآخرة.
فكيف والشرع يمتنع أن يناقض العقل المستلزم لصحته؟ وإنما يناقض شيئاً آخر ليس هو دليل صحته بل، ولا يكون صحيحا في نفس الأمر.
وأيضاً فلو قدر أنه ناقض دليلاً خاصاً عقلياً يدل على صحته، فالأدلة العقلية الدالة على صحة الشرع متنوعة متعددة، فلا يلزم من بطلان واحد منها بطلان غيره، بخلاف الشرع المدلول عليه، فإن قد قدر بطلانه لزم بطلان جميع ما يدل عليه من المعقولات.
وأيضاً فإن هؤلاء المعارضين للشرع بالعقل، يدعون في معقولات معينة أنه عرفوا بهذا الشرع كدعوى الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم أن الشرع إنما تعلم صحته بالدليل الدال على حدوث الأجسام، المبني على أن الأجسام مستلزمة للأعراض، والأعراض حادثة لامتناع حوادث لا أول لها.
وهذا الدليل يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن العلم بصدق الرسول ليس موقوفاً عليه، لأن الذين أمنوا بالله ورسوله، وشهد لهم القرآن بالإيمان من السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، لم يستدلوا على صدق الرسول بهذا الدليل.
وحينئذ فلو قدر أن هذا الدليل صحيح، لم يلزم من عدم الاستدلال به بطلان الإيمان بالرسول، بل يمكن الاستدلال على صدق الرسول بالأدلة الأخرى، كالأدلة التي استدل بها السلف وجماهير الأمة.
وحينئذ فإذا قدر أن هذا المعقول المعين مناقض لخبر الرسول، لم يلزم من تقديم خبر الرسول عليه، القدح في أصل السمع الذي لا يعلم إلا به، فكيف إذا كان هذا الدليل باطلا؟ .
فإنه حينئذ لا يجوز أن يعتمد عليه في إثبات شيء ولا نفيه، فثبت أنه على كل تقدير لا يجب تقديمه على الشرع.
ومن زعم من أهل الكلام أنه لا طريف إلى معرفة الصانع وصدق رسوله إلا هذا، فإن من اجهل الناس شرعاً وعقلاً.
أما الشرع فقد علم أن السابقين الأولين لم يستدلوا به.
وأما العقل، فإن قول القائل: إنه لا دليل إلا هذا، قضية كلية سالبة، وشهادة على النفي العام، وإنه ليس لأحد من بني آدم علم يعلم به صدق الرسول إلا هذا، وهذا مما لم يقيموا عليه دليلاً، بل لا يمكن أحد العلم بهذا النفي لو كان حقاً، فكيف إذا كان باطلاً.
وكذلك جميع ما يعارضون به الشرع من العقليات، فإنه لا تخلو من أمرين: إن كانت صحيحة فلم تصح الدلالة في ذلك المسلك العقلي، ولا يلزم من بطلانه بطلان دليل الشرع، إذ كان للشرع أدلة عقلية تدل عليه غير ذلك المعين العقلي، وإن كانت باطلة فهي من العقليات الباطلة، وليست أصلاً للشرع، فيجب أن يعرف معنى كون العقل أصلاً للشرع: أن المراد به أنه دليل.
ونحن قد بينا أن كل ما عارض الشرع من العقليات فليس هو دليلاً صحيحا، فضلا عن أن يكون هو الدليل على صحة الشرع، ولكن قبل أن نبين ذلك نقول: معلوم انه لا ينحصر الدال على صحة الشرع
وفي دليل عقلي خاص، بل غيره من الأدلة العقلية يدل على الشرع، وحينئذ فلا يلزم من بطلان ذلك الدليل العقلي بطلان أصل الشرع، فكيف إذا كان ذلك الدليل باطلا؟ .
فإن قيل: نحن إذا قدمنا العقل لم يبطل الشرع، بل نفوضه أو نتأوله.
قيل: إن لم يكن الشرع دال على نقيض ما سميتموه معقولاً، فليس هو محال النزاع، وإن كان الشرع دالاً فتفويضه تعطيل لدلالة الشرع، وذلك إبطال له، وإذا دل الشرع على شيء، فالأعراض عن دلالته كالأعراض عن دلالة العقل.
فلو قال القائل: أنا قد علمت مراد الشارع، وأما المعقول فأفوضه لأني لم أفهم صحته ولا بطلاته، فما أنا جازم بمخالفته لما دل عليه الشرع، وقد رأيت المدعين للمعقولات مختلفين، فما أنا واثق بهذا المعقول المناقض للشرع - كان هذا أقرب من قول من يقول: إن الله ورسوله لم يبين الحق، بل تكلم بباطل يدل على الكفر، ولم يبين مراده فإن المقدم للمعقول عند التعارض لا بد أن يقول: إن الشرع يدل على خلاف العقل: إما نصاً وإما ظاهرا.
وإلا فإذا لم يكن له دلالة بحال تخالف العقل امتنعت المعارضة وحينئذ فحقيقة قوله: إن الله - ورسوله- أظهر ما هو باطل وضلال
وكفر ومحال، ولم يبين الحق ولا هدى الخلق، وإنما الخلق عرفوا الحق بعقولهم.
والمقدم للشرع يقول: إن الله - ورسوله- بين المراد، وهدى العباد، وأظهر سبيل الرشاد، ولكن هؤلاء المخالفون له ضلوا وأضلوا، وهم الذين قال الله فيهم:{وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد} [البقرة: 176] ، فأنا أطعن فيما خالفوا به الرسول، ونبذوا به كتاب الله وراء ظهورهم، وخالفوا به الكتاب والسنة والإجماع، لا اطعن في العقليات الصحيحة الصريحة، الدالة على أن الرسول صادق بلغ البلاغ المبين، فإن هذه المعقولات يمتنع معها أن يكون الرسول هو الرسول الذي وصفوه.
فهذا القائل قد صدق بالمعقول الصريح والمنقول الصحيح وصدق بموجب الأدلة العقلية والنقلية.
وأما ذاك القائل فإنه لم يتقبل بموجب الدليل العقلي الدال على صدق الرسول وتبليغه وبيانه وهداه للخلق، ولا قام بموجب الدليل الشرعي الذي دل عليه ما دل عليه نصاً أو ظاهراً، بل طعن في دلالة الشرع وفي دلالة العقل، الذي يدل على صحة الشرع.
فتبين أن ذلك المقدم للشرع هو المتبع للشرع وللعقل الصحيح دون هذا الذي ليس معه لا سمع ولا عقل.
ومما يوضح هذا: أن ما به عرف صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن الله تعالى، وأنه لا يكون فيه كذب ولا خطأ يدل على
ثبوت ذلك كله، لا يميز بين خبر وخبر، بل الدليل الدال على صدقه يقتضي ثبوت جميع ما أخبر به.
وإذا كان ذلك الدليل عقلياً، فهذا الدليل العقلي يمنع ثبوت بعض أخباره دون بعض، فمن أقر ببعض ما أخبر به الرسول دون بعض، فقد أبطل الدليل العقلي الدال على صدق الرسول وقد أبطل الشرع، فلم يبق معه لا عقل ولا شرع.
وهذا الحال من آمن ببعض الكتاب دون بعض.
قال تعالى: {إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا} [النساء: 150-151] .
ولا ريب من أن قدم على كلام الله ورسوله وما يعارضه من معقول أو غيره، وترك ما يلزمه من الإيمان به، كما آمن بما يناقضه، فقد آمن ببعض وكفر ببعض.
وهذا حقيقة حال أهل البدع، كما في كتاب الرد على الزنادقة والجهمية، لأحمد بن حنبل وغيره من وصفهم بأنهم:(مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون على مخالفة الكتاب) .
وقوله: (مختلفون في الكتاب) يتضمن الاختلاف المذموم
المذكور في قوله تعالى: {إن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد} [البقرة 176] .
وأما الاختلاف في قوله تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد} [البقرة: 253] ، فهذا الاختلاف يحمد فيه المؤمنون ويذم فيه الكافرون.
وأما الاختلاف في الكتاب الذي يذم فيه المختلفون كلهم، فمثل أن يؤمن هؤلاء ببعض دون بعض، وهؤلاء ببعض دون بعض، كاختلاف اليهود والنصارى، كاختلاف الثنتين وسبعين فرقة.
وهذا هو الاختلاف المذكور في قوله تعالى: {ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك} [هود: 118-119]، وفي قوله تعالى:{ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء} [المائدة: 14] ، فأغرى بينهم العداوة والبغض، بسبب ما تركوه من الإيمان بما أنزل عليهم.
وهذا هو الوصف الثاني فيما تقدم من قول أحمد: (مخالفون للكتاب) فإن كلاً منهم يخالف الكتاب.
وأما قوله بأنهم (متفقون على مخالفة الكتاب) فهذا إشارة إلى تقديم غير الكتاب على الكتاب، كتقديم معقولهم وأذواقهم وآرائهم ونحو ذلك على الكتاب، فإن هذا اتفاق منهم على مخالفة الكتاب.
ومتى تركوا الإعتصام بالكتاب والسنة فلا بد أن يختلفوا، فإن الناس لا يفصل بينهم إلا كتاب منزل من السماء، كما قال تعالى:{كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} [البقرة: 213] .
وكما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} [النساء: 59] .
وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون * واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها} [آل عمران: 102، 103] .
ومن العجائب أنك تجد أكثر الغلاة في عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم أبعد الطوائف عن تصديق خبره وطاعة أمره، ذلك مثل الرافضة والجهمية ونحوهم، ممن يغلون في عصمتهم، وهم مع ذلك يردون أخباره، وقد اجتمع كل من آمن بالرسول على أنه معصوم فيما يبلغه عن الله، فلا يستقر في خبره خطأ، كما لا يكون فيه كذب، فإن وجود هذا وهذا في خبره يناقض مقصود الرسالة، ويناقض الدليل الدال على أنه رسول.
وأما ما لا يتعلق بالتبليغ عن الله من أفعاله، فللناس في العصمة منه نزاع وتفصيل، ليس هذا موضعه، ومتنازعون في أن العصمة من ذلك: هل تعلم بالعقل أو السمع؟ بخلاف العصمة في التبليغ، فإنه متفق عليه، معلوم بالسمع والعقل، ومقصود التبليغ تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر، فمن كان من أصله أن الدلالة السمعية لا تفيد اليقين، أو أنه يقدم رأيه وذوقه على خبر الرسول، لم ينتفع بإثبات عصمته المتفق عليها، فضلا عن موارد النزاع من العصمة، بل هم، معظمون للرسول في غير مقصود الرسالة، وأما مقصود الرسالة فلم يأخذوه عنه، وصاروا في ذلك كالنصارى مع المسيح عليه السلام الذي أرسل إليهم، فلم يتلقوا عنه الدين الذي بعث به، بل غلوا فيه غلواً صاروا مشركين به لا مؤمنين به.
وكذلك الغالية في الأنبياء وأهل البيت والمشايخ، تجدهم مشركين بهم، لا متبعين لهم في خبرهم وأمرهم، فخرجوا عن حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.