الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ترك الاستدلال بكلام الله ورسوله على الأمور العلمية، والمطالب الخيرية، والمعارف الإلهية.
الوجه الأربعون
أن يقال: كل عاقل يعلم بالضرورة أن من خاطب الناس في الطب أو الحساب أو النحو أو السياسة والأخلاق أو الهيئة أو غير ذلك من الأمور، بكلام عظم قدره وكبر أمره، وذكر انه بين لهم به وعلم، وهدى به وأفهم، ولم يكن في ذلك الكلام بيان تلك المعلومات، ولا معرفة لتلك المطلوبات، بل كانت دلالة الكلام على نقيض الحق أكمل، وهي على غير العلم أدل- كان هذا: إما مفرطا في الجهل والضلالة أو الكذب والشيطنة والنذالة، فكيف إذا كان قد تكلم في الأمر الإلهية، والحقائق الربانية، التي هي أجل المطالب العالية، وأعظم المقاصد السامية، بكلام فضله على كل كلام، ونسبه إلى خالق الأنام، وجعل من خالفه شبيهاً بالأنعام، وجعلهم من شر الجهلة الضلال الكفار الطغام، وذلك الكلام لم يدل على الحق في الأمور الإلهية، ولا أفاد علماً في مثل هذه القضية، بل دلالته ظاهرة في نقيض الحق والعلم والعرفان، مفهمة لضد التوحيد والتحقيق الذي يرجح إليه ذوو الإيقان، فهل يكون مثل هذا المتكلم إلا في غاية الجهل والضلال، أو في غاية الإفك والبهتان والإضلال.
فهذا حقيقة قول هؤلاء الملاحدة في رسل الله، الذين هم أفضل الخلق وأعلمهم بالله، وأعظمهم هدى لخلق الله، لا سيما خاتم الأنبياء وسيد ولد آدم، الذي هو اعلم الخلق بالله، وأنصح الخلق لعباد الله، وأفصح الخلق في بيان هدى الله، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.
ومن المعلوم أن من وصف الأمر على خلاف ما هو عليه، فإما أن يكون قد أتي من علمه أو قصده أو عجزه، فإنه قد يكون جاهلاً، بالحق، وقد لا يكون جاهلاً به، بل ليس مراده تعليم المخاطبين وهداهم وبيان الأمر لهم، كما يقصده أهل الكيد والخداع والنفاق وأمثالهم، وإما أن يكون علمه تاماً وقصده البيان، لكنه عجز عن البيان والإفصاح، لقصور عبادته، وعجزه عن كمال البيان والإيضاح.
فإن الفعل يتعذر لعدم العلم، أو لعدم القدرة، أو لعدم الإرادة، فأما إذا كان الفاعل له مريداً له، وهو قادر عليه وعالم بما يريده، لزم حصول مطلوبه.
ومن المعلوم أن محمداً صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بالله وتوحيده وأسمائه وصفاته وملائكته ومعاده، وأمثال ذلك من الغيب،، وهو أحرص الخلق على تعليم الناس وهدايتهم.
كما قال تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} [التوبة: 128] .
ولهذا كان من شدة حرصه على هداهم يحصل له ألم عظيم إذا لم
يهتدوا، حتى يسليه ربه ويعزيه، كقوله تعالى:{إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل} [النحل: 37] .
وقال تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} [القصص: 56] .
وقال تعالى: {لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين} [الشعراء: 3] .
وقال تعالى: {وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين} [الأنعام: 35] .
ثم إنه سبحانه وتعالى أمره بالبلاغ المبين، فقال تعالى:{قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين} [النور: 54] .
وقال تعالى: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين} [المائدة: 92] .
وقال تعالى: {وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين} [النحل: 35] .
ومعلوم انه كان من افصح الناس وأحسنهم بياناً، واللغة التي خاطب بها أتم اللغات وأكملها بيانا، وقد امتن الله عليهم بذلك، كما في قوله تعالى:{الر تلك آيات الكتاب المبين * إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} [يوسف: 1-2] .
وقال تعالى: {إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} [الزخرف: 3] .
وقال تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم} [إبراهيم: 4] .
وقال تعالى: {نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين} [الشعراء: 193 - 195] .
وقال تعالى: {لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين} [النحل: 103] ، وأمثال ذلك.
فإذا كان المخاطب أعلم الخلق بما يخبر به عنه، ويصفه ويخبر به، وأحرص الخلق على تفهيم المخاطبين وتعريفهم، وتعليمهم وهداهم، وأقدر الخلق على البيان والتعريف لما يقصده ويريده، كان من الممتنع بالضرورة أن لا يكون كلامه مبنياً للعلم والهدى والحق، فيما خاطب به، وأخبر عنه، وبينه ووصفه، بل وجب أن يكون كلامه أحق الكلام بأن يكون دالاً على العلم والحق والهدى، وأن يكون ما ناقض كلامه من الكلام، أحق الكلام بأن يكون جهلاً وكذباً وباطلاً.