الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من العقلاء قد اتفقوا على ذلك بغير مواطأة من بعضهم البعض، وذلك يبين أنه موجب العقل الصريح، بخلاف الأقوال المخالفة، فإنك لا تجد من يقولها من طوائف العقلاء، إلا من تواطأ على تلك المقالة التي تلقاها بعضهم عن بعض، وما تواطأ عليه الناس يجوز فيه الغلط والكذب ما لا يجوز فيما اتفق عليه العقلاء، من غير مواطأة ولا تشاعر، والله أعلم.
الوجه الثاني والثلاثون
أن يقال القول بتقديم غير النصوص النبوية عليها، من عقل أو كشف أو غير ذلك، يوجب أن لا يستدل بكلام الله ورسوله على شيء من المسائل العلمية، ولا يصدق بشيء من أخبار الرسول لكون الرسول أخبر به، ولا يستفاد من أخبار الله.
ورسوله هدىً ولا معرفة بشيء من الحقائق، بل ذلك مستلزم لعدم الإيمان بالله ورسوله، وذلك متضمن للكفر والنفاق والزندقة والإلحاد، وهو معلوم الفساد بالضرورة من دين الإسلام، كما أنه في نفسه قول فاسد متناقض في صريح العقل.
وهذا لازم لكل من سلك هذه الطريق، كما يجد ذلك أو اعتبره، وذلك لأنه إذا جوز أن يكون ما أخبر الله به ورسوله، وبلغه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أمته من القرآن والحديث، وما فيه من ذكر صفات الله تعالى، وصفات ملائكته وعرشه، والجنة والنار والأنبياء وأممهم، وغير ذلك مما قصه الله في كتابه، أو أمر به من التوحيد
والعبادات والأخلاق، ونهى عنه من الشرك والظلم والفواحش وغير ذلك، إذا جوز المجوز أن يكون في الأدلة العقلية القطعية، التي يجب اتباعها وتقديمها عليه عند التعارض، ما يناقض مدلول ذلك ومفهومه ومقتضاه، لم يمكنه أن يعرف ثبوت شيء مما أخبر به الرسول، إن لم يعلم انتفاء المعارض المذكور، وهو لا يمكنه العلم بانتفاء هذا المعارض إن لم يعلم بدليل آخر عقلي ثبوت ما أخبر به الرسول، وإلا فإذا لم يعلم بدليل عقلي ثبوته، وليس معه ما يدل على ثبوته إلا أخبار الله ورسوله- وهذا عنده مما يجوز أن يعارضه عقلي تقدم عليه- فلا طريق له إلى العلم بانتفاء المعارضات العقلية، إلا أن يحيط علماً بكل ما يخطر ببال بني آدم، مما يظن انه دليل عقلي.
وهذا أمر لا ينضبط، وليس له حد، فإنه لا يزال يخطر لبني آدم من الخواطر، ويقع لهم من الآراء والاعتقادات، ما يظنونه دلائل عقلية، وهذه تتولد مع بني آدم كما يتولد الوسواس وحديث النفس، فإذا جوز أن يكون فيها ما هو قاطع عقلي معارض للنصوص مستحق للتقديم عليها، لم يمكنه الجزم بانتفاء هذا المعارض أبداً، فلا يمكنه الجزم بشيء مما أخبر به الرسول - بمجرد إخباره- أبداً، فلا يؤمن بشيء مما أخبر به الرسول، لكون الرسول أخبر به أبداً، ولا يستفيد من خبر الله ورسوله علماً ولا هدىً، بل ولا يؤمن بشيء من الغيب الذي أخبر به الرسول إذا لم يعلم ثبوته بعقله أبداً.
وحقيقة هذا سلب الإيمان برسالة الرسول وعدم تصديقه.
ثم إن لم يقم عنده المعارض المقدم بقي لا مصدقاً بما جاء به الرسول ولا مكذباً به
وهذا كفر باتفاق أهل الملل، وبالاضطرار من دين الإسلام.
وإن قام عنده المعارض المقدم كان مكذباً للرسول، فهذا في الكفر الذي هو جهل مركب، وذلك في الكفر الذي هو جهل بسيط.
ويتناول كلاً منهما قوله تعالى: {ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا * يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا * لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا * وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا * وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا} [الفرقان: 27 31] .
وقال تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون * ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون} [الأنعام: 112-113] وأمثال ذلك.
ولهذا كان الأصل الفاسد مستلزماً للزندقة والإلحاد في آيات الله وأسمائه، فمن طرده أداه إلى الكفر والنفاق والإلحاد، ومن لم يطرده تناقض وفارق المعقول الصريح، وظهر ما في قوله من التناقض والفساد.
ومن هذا الباب دخلت الملاحدة والقرامطة الباطنية على كل فرقة من
الطوائف الذين وافقوهم على بعض هذا الأصل، حتى صار من استجاب لهم إلى بعضه دعوه إلى الباقي إن أمكنت الدعوة، وإلا رضوا منه بما أدخلوه فيه من الإلحاد، فإن هذا الأصل متناقض معارض لدين جميع الرسل صلوات الله عليهم وسلامه.
وقد رأيت كتاباً لبعض أئمة الباطنية سماه الأقاليد الملكوتية سلك فيه هذا السبيل، وصار يناظر كل فريق بنحو من هذا الدليل، فإنهم وافقوه على تأويل السمعيات، ووافقوه على نفي ما يسمى تشبيهاً بوجه من الوجوه فصار من أثبت شيئاً من الأسماء والصفات، كاسم (الموجود) و (الحي) و (العليم) و (القدير) ونحو ذلك يقول له: هذا فيه تشبيه، لأن الحي ينقسم إلى: قديم ومحدث، والموجود ينقسم: إلى قديم ومحدث، ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام، فيلزم التركيب وهو التجسيم ويلزم التشبيه، فإنه إذا كان هذا موجوداً وهذا موجوداً اشتبها واشتركا في مسمى الوجود، وهذا تشبيه، وإذا كان أحد الموجودين واجباً بنفسه، صار مشاركاً لغيره في مسمى الوجود ومتميزاً عنه بالوجوب، وما به الامتياز غير ما به الاشترك، فيكون الواجب بنفسه مركباً مما به الاشتراك وما به الامتياز، والمركب محدث أو ممكن لأنه مفتقر إلى جزئه، وجزؤه غيره، والمفتقر إلا غيره لا يكون واجباً بنفسه، فساق من سلم له الأصول الفاسدة إلى نفي الوجود الواجب الذي يعلم ثبوته بضرورة عقل كل عاقل، فأورد على
نفسه أنك إذا قلت: ليس بموجود ولا حي ولا ميت كان هذا تشبيهاً بالمعدوم أيضاً، فقال: لا أقول لا هذا ولا هذا، فأورد على نفسه أنك قد قررت في المنطق أنه إذا اختلفت قضيتان بالسلب والإيجاب، لزم من صدق إحداهما كذب الأخرى، فإن صدق أنه موجود، كذب أنه ليس بموجود، وإن صدق أنه ليس بموجود، كذب أنه موجود، ولا بد لك بذلك من إحداهما، فأجاب بأني لا أقول لا هذا ولا هذا، فلا أقول: موجود ولا ليس بموجود، ولا معدوم ولا ليس بمعدوم.
فهذا منتهى كلام الملاحدة، وقد حكوا مثل هذا عن الحلاج، وأشباهه من أهل الحلول والاتحاد، وأنهم لا يثبتونه ولا ينفونه، ولا يحبونه ولا يبغضونه.
فيقال لهذا الضال: كما أن الجمع بين النقيضين ممتنع، فرفع النقيضين أيضاً ممتنع، فإذا امتنع أن يكون موجوداً ليس بموجود، امتنع أن لا يكون موجوداً ولا غير موجود فقد وقعت في شر مما فررت منه.
وأما التشبيه فإنك فررت من تشبيه بموجود أو معدوم، فشبهته بالممتنع الذي لا حقيقة له، فإن ما ليس بموجود ولا معدوم لا حقيقة له أصلاً، وهذا شر مما يقال فيه: إنه موجود أو معدوم.
وقد رام طائفة من المتأخرين، كالشهرستاني، والآمدي، والرازي- في بعض كلامه - ونحوهم، أن يجيبوا هؤلاء عن هذا بأن لفظ (الموجود) و (الحي) و (العليم) و (القدير) ونحوها من الأسماء تقال على الواجب والممكن بطريق الاشتراك اللفظي، كما يقال لفظ
(المشتري) على الكوكب والمبتاع، وكما يقال لفظ (سهيل) على الكوكب والرجل المسى بسهيل، وكذلك لفظ (الثريا) على النجم والمرأة المسمات بالثريا، ومن هنا قال الشاعر:
أيها المنكح الثريا سهيلا
…
عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت
…
وسهيل إذا استقل يمان
وهؤلاء متناقضون في هذا الجواب، فإنهم وسائر العقلاء يقسمون الوجود إلى واجب وممكن، وقديم ومحدث، وأمثال ذلك، مع علمهم بأن التقسيم لا يكون في الألفاظ المشتركة، إن لم يكن المعنى مشتركاً، سواء كان متماثلاً أو متفاضلاً، ومنهم من يخص المتفاضل بتسميته مشككاً فالتقسيم لا يكون إلا في الألفاظ المتواطئة التواطؤ العام الذي يدخل فيه المشككة أو في المتواطئة التواطؤ الخاص، وفي المشككة أيضاً.
فأما مثل (سهيل) فلا يقال سهيل ينقسم إلى الكوكب والرجل، إلا أن يراد أن لفظ (سهيل) يطلق على هذا وهذا.
ومعلوم أن مثل هذا التقسيم لا يراد به الإخبار عن الإطلاق في اللغة، وإنما يراد به تقسيم المعنى المدلول عليه باللفظ.
ولهذا كان تقسيم المعاني العامة صحيحاً، ولو عبر عن تلك المعاني بعبارات متنوعة في اللغات، فإن المقسم هو المعنى الذي لا يختلف باختلاف اللغات.
وأيضاً فلو لم تكن هذه الأسماء متواطئة، لكان لا يفهم منها عند الإطلاق الثاني معنى، حتى يعرف معناها في ذلك الإطلاق الثاني، كما في الألفاظ المشتركة، فإنه إذا أطلقه في موضع ما يدل على معناه، ثم أطلقه مرة ثانية وأراد به المعنى الآخر، فإنه لا يفهم ذلك المعنى إلا بدليل يدل عليه.
ثم هم مع هذا التناقض موافقون في المعنى للملاحدة، فإنهم إذا جعلوا أسماء الله تعالى كالحي والعليم والقدير والموجود ونحو ذلك مشتركة اشتراكاً لفظياً، لم يفهم منها شيء إذا سمي بها الله، إلا أن يعرف ما هو ذلك المعنى الذي يدل عليه إذا سمي بها الله، لا سيما إذا كان المعنى المفهوم منها عند الإطلاق ليس هو المراد إذا سمي بها الله.
ومعلوم أن اللفظ المفرد إذا سمي به مسمىً لم يعرف معناه حتى يتصور المعنى أولاً، ثم يعلم أن اللفظ دال عليه، فإذا كان اللفظ مشتركاً، فالمعنى الذي وضع له في حق الله لم نعرفه بوجه من الوجوه، فلا يفهم من أسماء الله الحسنى معنى أصلاً، ولا يكون فرق بين قولنا: حي وبين قولنا ميت ولا بين قولنا موجود وبين قولنا معدوم، ولا بين قولنا عليم وبين قولنا جهول، أو (ديز) أو (كجز) بل يكون بمنزلة ألفاظ أعجمية سمعناها ولا نعلم مسماها، أو ألفاظ مهملة لا تدل على معنى، كديز وكجز ونحو ذلك.
ومعلوم أن الملاحدة يكفيهم هذا، فإنهم لا يمنعون إطلاق اللفظ إذا تظاهروا بالشرع، وإنما يمنعون منه أن نفهم معنى.
وسبب هذا الضلال أن لفظ (التشبيه) و (التركيب) لفظ فيه إجمال.
وهؤلاء أنفسهم - هم وجماهير العقلاء - يعلمون أن ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك، ونفي ذلك القدر المشترك ليس هو نفس التمثيل والتشبيه الذي قام الدليل العقلي والسمعي على نفيه، وإنما التشبيه الذي قام الدليل على نفيه ما يستلزم ثبوت شيء من خصائص المخلوقين لله سبحانه وتعالى، إذ هو سبحانه:{ليس كمثله شيء} [الشورى: 11] ، ولا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.
ولهذا اتفق جميع طوائف المسلمين وغيرهم على الرد على هؤلاء الملاحدة، وبيان أنه ليس كل ما اتفق شيئان في شيء من الأشياء، يجب أن يكون أحدهما مثلاً للآخر، ولا يجوز أن ينفي عن الخالق سبحانه كل ما يكون فيه موافقة لغيره في معنىً ما، فإنه يلزمه عدمه بالكلية، كما فعله هؤلاء الملاحدة، بل يلزم نفي وجوده ونفي عدمه، وهو غاية التناقض والإلحاد والكفر والجهل.
وكذلك لفظ (التركيب) فإن ثبوت معاني لله تعالى ليس هو مما ينفيه الدليل، وكون تلك المعاني من لوازم ذاته، وأنه لا يكون إلا متصفاً بها، ليس هو تركيباً ينفيه عقل ولا شرع، بل مثل هذا لا بد منه، كما قد بسط ذلك في مواضع كثيرة.
فهذا وأمثاله هي العقليات الفاسدة التي تطرق بها أهل الإلحاد، وكذلك ردهم للدلالة السمعية إذا عارضها عندهم ما هو عندهم