الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقول القائل إن الحق في جهة
إن أراد به ما هو موجود مباين له فلا موجود مباين له إلا مخلوقاته فإذا كان مبايناً لمخلوقاته فكيف تكون محتوية عليه؟
وإن أراد بالجهة ما فوق العالم فلا ريب أن الله فوق العالم وليس هناك إلا هو وحده وليس فوق المخلوقات إلا خالقها هو العلي الأعلى.
فصل
وقول ابن سينا فإنه لا يخلو إما أن تكون هذه المعاني واجباً تحققها وإتقان المذهب الحق فيها أو يسع الصدوف عنها وإغفال البحث والروية فيها فإن كان البحث عنها معفواً عنه وغلط الاعتقاد الواقع فيها غير مؤاخذ به فجل مذهب هؤلاء القوم المخاطبين بهذه الجملة تكلف وعنه غنية وإن كان فرضاً محكماً فواجب أن يكون مما صرح به في الشريعة.
فهذا كله حجة على إخوانه نفاة الصفاة وهم المخاطبون بهذه الجملة واما أهل الإثبات فهم يقولون إن ذلك كله مما صرح به في الشريعة.
وكذلك قوله وليس التصريح المعمى أو الملبس أو المقتصر
فيه بالإشارة والإيماء بل بالتصريح المستقصي فيه والموفى حق البيان والإيضاح والتفهيم والتعريف.
فهذا كله حجة على إخوانه نفاة الصفات الجهمية وأما أهل الإثبات فيقولون إنه قد صرح بالتوحيد الحق التصريح المستقصي فيه الموفى حق البيان والإيضاح والتفهيم والتعريف وهذه نصوص القرآن والأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة والتابعين وغيرهم من السلف فيها من البيان للإثبات ما لا يحصيه إلا رب السماوات.
وقوله فإن المبرزين المنفقين أيامهم لسرعة الوقوف على المعاني الغامضة يحتاجون في تفهم هذه المعاني إلى فضل وشرح وعبارة فكيف غتم العبرانيين وأهل الوبر من العرب؟
فهذا الكلام حجة له على إخوانه الجهمية من المعتزلة وأتباعهم نفاة الصفات الذين يقولون إن التوحيد الحق هو قول أهل السلب نفاة الصفات ولا ريب أن فهم قولهم فيه غموض ودقة لأنه قول متناقض فاسد أعظم تناقضاً من قول النصارى كما قد بين في
موضعه فما يفهمه إلا الذكي الذي مرن ذهنه على تسليم المقدمات التي بها يفسدون ذهنه أو على تصور أقوالهم المتناقضة فإن كان من متابعيهم نقلوه من درجة إلى درجة، كما تفعل القرامطة بنقل المستجيبين لهم من درجة إلى درجة، وكذلك هؤلاء الجهمية النفاة لا يمكنهم أن يخاطبوا ذكياً ولا بليداً بحقيقة قولهم، إن لم يتقدم قبل ذلك منه تسليم لمقدمات وضعوها، تتضمن ألفاظاً مجملة، يلبسون بها لعيه الحق بالباطل، فيبقى ما سلمه لهم من المقدمات، مع ما فيه من التلبيس والإبهام، حجة لهم عليه فيما ينازعهم فيه، إلى أن يخرجوه أن تمكنوا من العقل والدين كما تخرج الشعرة من العجين، فإن من درجات دعوتهم الخلع والسلخ وأمثال هذه العبارات.
وقد رأيت كتبهم فرأيتهم يحتجون على طوائف المسلمين الذين فيهم بدعة بما وافقوهم عليه من البدعة، كما احتج ابن سينا على المعتزلة، ونحوهم من نفاة الصفات، بما وافقوه عليه من هذه الأقوال المبتدعات، وإلا فالفطر السليمة تنكر أقوال النفاة، إذ قد توافق على إنكارها الفطر والمعقول، والسمع المنقول، وإنما يخالف بنوع من الشبه الدقيقة، التي هي من أبطل الباطل في الحقيقة.
ولقد حدثني بعض أصحابنا أن بعض الفضلاء، الذين فيهم نوع
من التهجم، عاتبه بعض أصحابه على إمساكه عن الانتصار لأقوال النفاة، لما ظهر قول الإثبات في بلدهم، بعد ان كان خفياً واستجاب له الناس بعد أن كان المتكلم به عندهم قد جاء شيئاً فرياً فقال هذا إذا سمعه الناس قبلوه وتلقوه بالقبول، وظهر لهم أنه الحق الذي جاء به الرسول، ونحن إذا أخذنا الشخص فربيناه وغذيناه ثلاثين سنة ثم أردنا أن ننزل قولنا في حلقه لم ينزل في حلقه إلا بكلفة.
وهو كما قال: فإن الله تعالى نصب على الحق الأدلة والأعلام الفارقة بين الحق والنور وبين الباطل والظلام، وجعل فطر عباده مستعدة لإدراك الحقائق ومعرفتها، ولولا ما في القلوب من الاستعداد لمعرفة الحقائق، لم يكن النظر والاستدلال ولا الخطاب والكلام، كما أنه سبحانه جعل الأبدان مستعدة للاغتذاء بالطعام والشراب، ولولا ذلك لما أمكن تغذيتها وتربيتها وكما ان في الأبدان قوة تفرق بين الغذاء الملائم والمنافي، ففي القلوب قوة تفرق بين الحق والباطل أعظم من ذلك.
وهذا كما أن لأرباب السحر والنيرنجيات وعمل الكيمياء وأمثالهم، ممن يدخل في الباطل الخفي الدقيق، يحتاج إلى أعمال
عظيمة، وأفكار عميقة وأنواع من العبادات والزهادات والرياضات، ومفارقة الشهوات والعادات ثم آخر امرهم الشك بالرحمن، وعبادة الطاغوت والشيطان، وعمل الذهب المغشوش، والفساد في الأرض، والقليل منهم من ينال بعض غرضه، الذي لا يزيده من الله إلا بعداً، وغالبهم محروم مأثوم، يتمنى الكفر والفسوق والعصيان وهو لا يحصل إلا على نقل الأكاذيب وتمنى الطغيان سماعون للكذب أكالون للسحت عليهم ذلة المفترين.
كما قال تعالى {إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين} الأعراف 152.
ولهذا تجد أهل هذه الأباطل الصعبة الشديدة في الغالب: إما ملحداً من أهل النفي والتكذيب، وإما جاهلاً قد أضلوه ببعض شبهاتهم.
وأما قوله: فكيف غتم العبرانيين وأهل الوبر من العرب؟ فيقال له: نحن لا ننكر أن في العبرانيين والعرب من يكون ذهنه مقصراً عن بعض دقيق العلم، لكن إذا وازنت من كان من محمد صلى الله لعيه وسلم من العرب الخاصة والعامة، ومن كان مع موسى عليه الصلاة والسلام أيضاً بمن فرضته من الأمم، وجدتهم أكمل منهم في كل
سب ينال به دقيق العلم وجليله، فإذا قدرت بعض الناقصين من ذلك القرن، فقابله بإخوانك القرامطة الباطنية، وعوام الفلاسفة الدهرية، وأمثالهم من عوام النصيرية والإسماعيلية وأمثالهم، فإنك تجد بين أدنى اولئك وخيار هؤلاء في الذهن والعلم من الفرق، أعظم مما بين القدم والفرق، أليس أصحابك هم المستجيبين لدعوة بني عبيد الذين راج عليهم مكرهم وكيدهم في الدنيا والدين، حتى اعتقدوا فيمن هو من أكفر الناس وأكذبهم: انه إمام معصوم، يعلم علم الأولين والآخرين، بل عوام النصارى، مع فرط جهلهم وضلالهم، احذق وأذكى من عوام أصحابك المستجيبين لمثل هؤلاء المنقادين لهم.
وهل وجد في العالم أمة أجهل وأضل وأبعد عن العقل والعلم من أمة يكون رؤسها فلاسفة أو لم تكن أئمتكم اليونان كأرسطو
وأمثاله مشركين يعبدون الأوثان ويشركون بالرحمن ويقربون أنواع القرابين لذرية الشيطان؟
أو ليس من أعظم علومهم السحر، الذي غايته أن يعبد الإنسان شيطاناً من الشياطين، ويصوم ويصلي، ويقرب له القرابين، حتى ينال بذلك عرضاً من الدنيا، فساده أعظم من صلاحه، وأثمه أكبر من نفعه؟
أو ليس أضل الشرك في العالم هو من بعض هؤلاء المتفلسفة؟ أو ليس كل من كان أقرب إلى الشرائع ولو بدقيقة كان أقرب إلى العقل ومعرفة الحقيقة؟ وهل رأيت فيلسوفا أقام مصلحة قرية من القرى فضلاً عن مدينة من المدائن؟ وهل يصلح دينه ودنياه إلا بأن يكون من غمار أهل الشرائع؟
ثم يقال له: أنت وأمثالك أئمة أتباعكم، وهذا قولك وقول أرسطو وأمثالكم من أئمة الفلاسفة في واجب الوجود وصفاته وأفعاله مع دعواكم نهاية التوحيد والتحقيق والعرفان في واجب الوجود وصفاته وأفعاله مع دعواهم نهاية التوحيد والتحقيق والعرفان قول لا يقوله إلا من هو من أجهل الناس وأضلهم وأشبههم بالبهائم من الحيوان.
وكون الواحد منكم حاذقاً في طب أو نجوم أو غرس أو بناء، هو لقلة معرفتكم بالله وأسمائه وصفاته وافعاله وعبادته، وقلة نصيبكم وحظكم من هذا المطلب، الذي هو أجل المطالب، وأرفع المواهب،
فاعتضتم بالأدنى عن الأعلى: إما عجزاً وغما تفريطاً.
ولا ريب أن أئمة اليهود والنصارى، بعد أن بدلوا الكتاب، ودخلوا فيما نهوا عنه احذق وأعرف بالله من أئمتكم، وعوام اليهود والنصارى الذين هم ضالون ومغضوب عليهم أصح عقلاً وإدراكاً وأصوب كلاما في هذا الباب من عوام أصحابكم، وهذا مما لا يشك فيه من له عقل وإنصاف.
واعتبر ذلك بعوام النصيرية والإسماعيلية والدرزية والطرقية
والعرباء وعوام التتر المشركين، الذين كان علماؤهم المشركون السحرة من البخشية والطوينية وأمثالهم، وكان خيار علمائهم رؤوس الملاحدة، فاعتبر عوام هؤلاء مع عوام اليهود والنصارى، تجد عوام اليهود والنصارى أقل فساداً في الدنيا والدين من أولئك، وتجد أولئك أفسد عقلاً وديناً.
وأما متوسطوكم كالمنجمين والمعزمين وأمثالهم، ففيهم من الجهل والضلال والكذب والمحال مالا يحصيه إلا ذو الجلال، وهل كان
الطوسي وامثاله ينفقون عند المشركين من التتر إلا بأكاذيب المنجمين، ومكايد المحتالين، المنافية للعقل والدين؟
وأما أئمتكم البارعون كأرسطو وذويه فغايته ان يكون مشركاً سحاراً وزيراً لملك مشرك سحار كالإسكندر بن فيلبس وأمثاله من ملوك اليونان الذين كانوا أهل شرك يعبدون الأوثان وإنما صار فيهم ما صار من الهدى والفلاح لما دخلت فيهم النصرانية بعد أرسطو بنحو ثلاثمائة سنة وتسع وعشرة سنة او اكثر منها وقد قيل إن ذلك كان على عهد آخر ملوكهم بطليموس صاحب المجسطي، فناهيك ممن تكون النصارى أعقل منهم وأعلم وأهدى إلى الدين الأقوم.
ومن الضلال أن من يظن ذا القرنين المذكور في القرآن العزيز هو الإسكندر بن فيلبس الذي يقال إن أرسطو كان وزيره، وهذا
جهل فإن ذا القرنين قديم متقدم على هذا بكثير، وكان مسلماً موحداً حنيفاً وقد قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة أو ما يقارب ذلك.
وهذا الكلام وأمثاله إنما قيل لمقابلة لما في كلام هؤلاء من الاستخفاف بأتباع الأنبياء وأما أئمة العرب وغيرهم من أتباع الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، كفضلاء الصحابة، مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وأبي الدرداء وعبد الله بن عباس، ومن لا يحصى عدده إلا الله تعالى، فهل سمع في الأولين والآخرين بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بقوم كانوا أتم عقولاً وأكمل أذهاناً وأصح معرفة وأحسن علماً من هؤلاء؟
فهم كما قال فيهم عبد الله بن مسعود: من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد أبر هذه الأمة قلوباً وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.
وما طمع أهل الإلحاد في هؤلاء إلا بجهل أهل البدع، كالرافضة والمتكلمين من المعتزلة ونحوهم.
وابن سينا وأمثاله من ملاحدة الفلاسفة لما كانوا إنما يخاطبون من المسلمين من هو ناقص في العلم والدين: إما رافضي وإما معتزلي وإما غيرهما صاروا يتكلمون في خيار القرون بمثل هذا الكلام.
وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم.
ثم يقال لهذا الأحمق: أن كل أمة فيها ذكي وبليد
بالنسبة إليها، لكن هل رأى في أجناس الأمم امة أذكى من العرب؟
واعتبر ذلك باللسان العام، وما فيه من تفصيل المعاني، والتمييز بين دقيقها وجليلها بالألفاظ الخاصة الناصة على الحقيقة ويليه في الكمال اللسان العبراني، فأين هذا من لسان أصحابك الطماطم، الذين يسردون ألفاظاً طويلة والمعنى خفيف؟ ولولا أن مثلك وأمثالك ممن شملته بعض سعادة المسلمين والعرب، فصار فيكم بعض كمال الإنسان في العقل واللسان، فعربتم تلك الكتب وهذبتموها وقربتموها إلى العقول، وإلا لكان فيها من التطويل والهذيان ما يشح بمثله على الزمان، وهي كما قال فيها ابو حامد الغزالي هي بين علوم صادقة لا منفعة فيها ونعوذ بالله من علم لا ينفع وبين ظنون كاذبة لا ثقة بها، وإن بعض الظن أثم فإن ما يقوم عليه الدليل من الرياضي ونحوه كثير التعب قليل الفائدة، لحم جمل غث، على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقى، وما لم يقم عليه الدليل فظنون وأباطيل.
ثم يقال له: هب أن ما ذكرته من غتم العرانيين والعرب أهل الوبر لا يمكنهم معرفة الدقيق، فهل يمكنك أن تقول ذلك في أذكياء
العرب والعبرانيين وكل أحد يعلم أن عقول الصحابة والتابعين وتابعيهم أكمل عقول الناس.
واعتبر ذلك بأتباعهم فإن كنت تشك في ذكاء مثل مالك والأوزاعي والليث بن سعد وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وزفر بن الهذيل والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم وأبي عبيد وإبراهيم الحربي وعبد الملك بن حبيب الأندلسي والبخاري ومسلم وأبي داود وعثمان بن سعد الدارمي بل ومثل أبي العباس بن سريج وأبي جعفر الطحاوي وأبي القاسم الخرقي وإسماعيل بن إسحاق القاضي وغيرهم من امثالهم فإن شككت في ذلك فأنت مفرط في الجهل أو مكابر، فانظر خضوع هؤلاء للصحابة وتعظيمهم لعقلهم وعملهم، حتى انه لا يجترئ الواحد منهم أن يخالف لواحد من الصحابة إلا أن يكون قد خالفه صاحب آخر.
وقد قال الشافعي رحمة الله عليه في الرسالة أنهم فوقنا في كل عقل وعلم، وفضل وسب ينال به علم، أو يدرك به صواب، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا أو كما قال رحمة الله عليه.
وأما قوله لو كلف الله رسولاً من الرسل أن يلقي حقائق هذه الأمور إلى الجمهور من العامة الغليظة طباعهم المتعلقة بالمحسوسات الصرفة أذهانهم إلى آخر كلامه.
فيقال: لا ريب أن فيما غاب عن المشاهدة أموراً من الغيب، بعضها يمكن التعريف به مطلقاً، وبعضها لا يمكن التعريف به إلا بعد شروط واستعداد وبعضها لا يمكن التعريف به في الدنيا إلا على وجه مجمل، وبعضها لا يمكن التعريف به في الدنيا بحال وبعضها لا يمكن مخلوقاً أن يعلمه.
ولهذا قال تعالى {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} السجدة 17.
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فما لا يخطر بالقلوب إذا عرفت به لم تعرفه إلا إذا كان له نظير، وإلا لم يمكن التعريف على وجهه.
وفي الدعاء المشهور: اللهم إني أسألك اسم هو لم سميت به نفسك، أو انزلته في كتابك، او علمته أحداً من خلقك، أو أستأثرت به في علم الغيب عندك فإذا كان من أسمائه ما استأثر بعلمه لم يعلمه غيره، ذلك وما خص به بعض عباده لم يعلمه غيره.
وفي الحديث الصحيح انه صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
وفي حديث الشفاعة ينفتح على محامد أحمده بها لا احسنها الآن.
فإذا كان اعلم الخلق بالله لا يحصى ثناء عليه، فكيف غيره؟ وإذا كان يفتح عليه في الآخرة بمحامد لم يعرفها في الدنيا فكيف حال غيره؟
ونذكر في هذا قصة موسى والخضر عليهما السلام ونقر العصفور من البحر.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيما ذكره البخاري حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتحبون ان يكذب الله ورسوله؟
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ما من رجل يحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سأل رجل تفسير أية فقال: ما يؤمنك أني لو أخبرتك بها لكفرت بها وكفرك بها تكذيبك بها فتبين انه ليس كل أحد يليق بمعرفة جميع العلوم.
ولهذا قال تعالى {أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها} إلى قوله {يضرب الله الأمثال} الرعد 17، فإن هذا مثل ضربة الله فشبه فيه ما ينزله من السماء من العلم والإيمان بالمطر، وشبه القلوب بالأودية، والأودية منها صغار وكبار، فكل واد يسيل بقدره.
فهذا ونحوه حق، ولكن حقائق الأمور التي يدعيها هؤلاء الملاحدة، هي في الحقيقة نفي وتعطيل تنكرها القلوب العارفة الذكية، أعظم مما تنكرها قلوب العامة، وكلما قوي عقل الرجل وعلمه زاد معرفة بفسادها، ولهذا لا يستجيب لهم الرجل إلا بقدر نقص عقله ودينه.
وقوله: هبك الكتاب العزيز جاء على لغة العرب في الاستعارة والمجاز، فما قولهم في الكتاب العبراني، هو من أوله إلى آخره تشبيه صرف؟ إلى آخر كلامه.
فيقال: هذا من أعظم حجج أهل الإثبات على نفاة الصفات،
ومن أعظم الحجج على صدق الرسولين العظيمين، وصدق الكتابين الكريمين، اللذين لم يأت من عند الله كتاب أهدى منهما.
قال تعالى {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى} القصص 43، إلى قوله:{قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا} القصص 48، إلى قوله {قل فاتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين} الآيات القصص 49.
وقال تعالى حكاية عن الجن {قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم} الأحقاف 30.
وقال تعالى: {ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون * وهذا
كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون} الأنعام 154 - 155.
فقد قرن الله تعالى بين الكتابين العربي والعبري في غير موضع.
ومن المعلوم ان موسى كان قبل محمد صلوات الله عليهما وسلامه.
ولم يأخذ عنه شيئاً، وكل من عرف حال محمد صلى الله عليه وسلم يعلم أنه لم يأخذ عن أهل الكتاب شيئاً، فإذا أخبر هذا بمثل ما أخبر به مرسل واحد من غير تواطؤ ولا تشاعر فيما يمتن في العادة التوافق فيه من غير تواطؤ، كان هذا مما يدل على صدق كل من الرسولين في أصل الرسالة، وعلى صدق خبر كل من الرسولين فيما أخبر به صفات ربه، إذا كان كل منهما أخبر بمثل ما أخبر به الآخر.
وهب أن بعض ألفاظ أحد الكتابين قد يحرفها المحرف، فالكتاب الآخر المصدق له يبطل ذلك التحريف، ويبين أن المقصود واحد.
وما ذكره من امتناع التحريف على كلية الكتاب العبري حق كما قال، ويبين ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بين من تحريف أهل الكتاب ما شاء الله، وذمهم على ما وصفوا الله تتعالى به من النقائص، كقولهم: إن الله فقير، وإن الله بخيل، وإنه تعب لما خلق
السماوات والأرض فاستراح فقال تعالى {وما مسنا من لغوب} ق 38.
فلو كان ما في التوراة من إثبات الصفات مما بدلوه وافتروه، لكان إنكار هذا من أعظم الواجبات، ولكان الرسول يعيبهم بما ينكره النفاة متن التشبيه والتجسيم، وأمثال هذه العبارات، فلما كان الرسول العربي مقراً لما في التوراة من الصفات ومخبراً بمثل ما في التوراة، كان ذلك من أعظم دليل على أن ما في التوراة من الصفات التي أخبر بها الرسول العربي أيضاً، ليس مما كذبه أهل الكتاب.
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود أن خبراً من اليهود لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يوم القيامة يمسك السماوات على اصبع والأرضين على أصبع، والجبال على اصبع، والشجر والثرى على اصبع وسائر الخلق على أصبع ثم يهزهن، ثم يقول: أنا الملك أنا الملك ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجباً وتصديقاً لقول الخبر ثم قرأ قوله تعالى {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه} الزمر 67.
وهذا الحديث رواه من هو من أعلم الصحابة وأعظمهم اختصاصاً
بالنبي صلى الله عليه وسلم: عبد الله بن مسعود ورواه عنه وعن أصحابه من هو أجل التابعين وأتباع التابعين قدراً، ورواه أيضاً عبد الله بن عباس الذي هو من أعلم الصحابة في زمانه، وأصحاب ابن مسعود وابن عباس من اعظم التباعين علماً وقدراً عند الأمة.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيهما أيضاً من حديث ابن عمر في تفسير هذه الآية {وما قدروا الله حق قدره} الزمر 67، ما يناسب هذا الحديث
ويوافق قول أهل الإثبات، ويبين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ينكر على أهل الكتاب ما يخبرون به من الصفات التي تسميها النفاة تجسيماً وتشبيهاً، وإنما أنكر عليهم ما وصفوا الله تعالى به من النقائص والعيوب.
ولهذا لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين أنهم ذموا أهل الكتاب بما يذمهم به نفاة الصفات، ولا يذكرون لفظ التجسيم ونحوه من الألفاظ التي أحدثها المحدثون: لا بمدح ولا ذم، ولا يقولون ما تقوله النفاة إن التوراة فيها تشبيه، كما قال ابن سينا الكتاب العبراني كله من أوله إلى آخره تشبيه صرف.
فإنه يقال له: ما تعني بقولك: إنه تشبيه، أتعني أنه متضمن للإخبار بأن صفات الرب مثل صفات العباد، أو متضمن لإثبات الصفات التي يوصف الخلق بما هو بالنسبة إليهم كتلك الصفات بالنسبة إلى الله؟
فإن أردت الأول، فهذا كذب على التوراة، فليس فيها الإخبار بأن صفات كصفات عباده، بل فيها نفي التمثيل بالله.
وإن أردت الثاني فهذا أمر لا بد منه لك ولكل أحد، فإنك وأمثالك تقولون: إن الله موجود، مع قولكم: إن الموجود ينقسم إلى واجب وممكن، وتقولون، وتقولون إنه عقل وعاقل ومعقول.
مع قولكم: إن اسم العقل يقع على العقول العشرة، وتقولون: إنه علة للعالم، مع
قولكم: إن العلة تنقسم إلى واجب وممكن، وقديم ومحدث، وتقولون: إن له عناية، مع أن لفظ العناية يقال على صفات العباد، وتقولون: إنه مبدأ ومبدع ونحو ذلك من العبارات التي تسمون بها غيره، فإنكم تطلقون اسم المبادئ على العقول، وتطلقون الإبداع على العقول، وتقولون: إن كل عقل أبدع ما دونه، والعقل العاشر أبدع ما تحت فلك القمر، وتقولون: إنه موجب بالذات مع أن لفظ الإيجاب يطلق على غيره.
ويقولون: إنه عاشق ومعشوق وعشق، مع أن لفظ العشق فيه من التشبيه واحتمال النقص مالا يخفى على عاقل، وليس في الكتب الإلهية تسميته بعقل ولا عاشق ولا معقول ولا معشوق.
ويقولون أيضاً: إنه يلتذ ويبتهج، ولفظ اللذة فيها من التشبيه واحتمال النقص ما لا يخفى على عاقل، ويقولون إنه مدرك وأن اللذة أفضل إدراك لأفضل مدرك فيسمونه مدركاً ومدركاً.
ثم أعجب من هذا كله انكم تقولون: الفلسفة هي التشبه بالإله على قدر الطاقة، ومن هنا دخل من وافقكم في إثبات تشبه العبد بالرب، في الذات والصفات والأفعال، كصاحب الكتب المضنون بها على غير أهلها، ومن مشى خلفه من القائلين بالوحدة المطلقة
والاتحاد، وقالوا: إن الإنسان مثل الله، وأن قوله:{ليس كمثله شيء} الشورى: 11 المراد أنه ليس كالإنسان الذي هو مثل الله شيء ويقولون إن الفلك إنما يتحرك تشبهاً بما فوقه، فيجعلون العبد قادراً على أن يتشبه بالله وأن الفلك يتشبه بالله، أو يتشبه بالعقل المشبه لله.
فإذا كان في التوراة: أنا سنخلق بشراً على صورتنا يشبهنا، أو نحو هذا فغايته أن يكون الله خالقاً لمن يشبهه بوجه وأنتم قد جعلتم العبد قادراً على أن يتشبه بالله بوجه، فإن كان التشبه بالله باطلاً من كل وجه، ولا يمكن الموجود أن يشبهه بوجه من الوجوه، فتشبيهكم أنكر من تشبيه أهل الكتاب، لأنكم جعلتم العبد قادراً على ان يتشبه بالرب وأولئك أخبروا عن الرب أنه قادر على أن يخلق ما يشبهه.
فكان في قولكم إثبات التشبيه وجعله مقدوراً للعبد، وأولئك مع إثبات التشبيه إنما جعلوه مقدوراً للرب، فأي الفريقين أحق بالذم والملام؟ أنتم أم أهل الكتاب؟ إن كان مثل هذا التشبيه منكراً من القول وزورا، وإن لم يكن منكراً من القول وزورا، فأهل الكتاب أقوم منكم، لأنهم تبعوا ألفاظ النصوص الإلهية، التي أثبتت مقدوراً لرب البرية، وانتم ابتدعتم ما ابتدعتم بغير سلطان من الله.
وأيضاً فيقال: إنه ما من موجودين إلا بينهما قدر مشترك وقدر مميز، فإنهما لا بد أن يشتركا في أنهما موجودان ثابتان حاصلان، وأن
كلا منهما له حقيقة: هي ذاته ونفسه وماهية، حتى لو كان الموجودان مختلفين اختلافاً ظاهراً كالسواد والبياض فلا بد أن يشتركا في مسمى الوجود والحقيقة ونحو ذلك، بل وفيما هو أخص من ذلك، مثل كون كل منهما لوناً وعرضاً وقائماً بغيره ونحو ذلك، وهما مع هذا مختلفان.
وإذا كان بين كل موجودين جامع وفارق، فمعلوم أن الله تعالى ليس كمثله شيء: لا في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله فلا يجوز ان يثبت له شيء من خصائص المخلوقين ولا يمثل بها، ولا أن يثبت لشيء من الموجودات مثل شيء من صفاته، ولا مشابهة في شيء من خصائصه سبحانه عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
وإذا كان المثل هو الموافق لغيره فيما يجب ويجوز ويمتنع فهو، سبحانه لا يشاركه شيء فيما يجب له ويمتنع عليه ويجوز له، وإذا أخذ القدر المطلق الذي يتفق فيه الخالق والمخلوق مثل: مسمى الوجود، والحقيقة، والعالم والقادر، ونحو ذلك فهذا لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان.
والمخلوق لا يشارك مخلوقاً في شيء من صفاته، فكيف يكون للخالق شريك في ذلك؟ لكن المخلوق قد يكون له من يماثله في صفاته، والله تعالى لا مثل له أصلاً، والقدر المشترك المطلق كالوجود والعلم والحقيقة ونحو ذلك، لا يلزمه شيء من صفات النقص الممتنعة على الله تعالى، فما وجب للقدر المطلق المشترك، لا نقص فيه ولا عيب، وما نفي عنه فلا كمال فيه، وما جاز له فلا محذور في جوازه.
وأما ما يتقدس الرب تعالى ويتنزه عنه من النقائص والافات فهي ليست من لوازم ما يختص به، ولا من لوازم القدر المشترك الكلي المطلق أصلا، بل هي من خصائص المخلوقات الناقصة، والله تعالى منزه عن كل نقص وعيب، وهذه معاني شريفة بسطت في غير هذا الموضع.
وما يذكره هؤلاء من تعظيم علوم الأسرار، والأمر بكتمانها عن الجمهور، وقصور الجمهور عن إدراك حقائق، هو كلام مجمل يقوله الصديق والزنديق.
والمخالفون من نفاة الصفات الخبرية، أو نفي الأوامر الشرعية، من المتفلسفة ومن دخل معهم من متصوفة النفاة ونحوهم، يشيرون إلى ذلك، ويحملون ما يروى من الآثار الصحيحة والسقيمة على ذلك، فالأثر المروي: إن من العلم كهيئة المكنون لا يعرفه إلا أهل العلم بالله، فإذا ذكروه لم ينكروه إلا أهل الغرة بالله تعالى.
وهذا الحديث وإن لم يكن له إسناد صحيح، فقد ذكره شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي وأبو حامد الغزالي وغيرهما.
لكن ذكر شيخ الإسلام عن شيخه يحيى بن عمار أن من هذا أحاديث الصفات الموافقة لقول أهل الإثبات.
وأبو حامد قد يحمل هذا إذا تفلسف على ما يوافق أقوال الفلاسفة النفاة.
وكذلك ما في البخاري عن علي حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتحبون أن يكذب الله ورسوله وقد حمله ابن رشد الحفيد على أقوال الفلاسفة الباطنية النفاة.
ومن المعلوم ان أقوال النفاة لا توجد في كلام الله ورسوله، وإنما لا يحملها عقله أفضى إلى تكذيب الله ورسوله.
والأمور الباطنة فيها إجمال، فالملاحدة يدعون الباطن المخالف للظاهر، وأما أهل الإيمان فالباطن الحق عندهم موافق للظاهر الحق، فما في بواطنهم من المعارف والأحوال وتحقيق التوحيد ومقامات أهل العرفان، موافق لما جاء به الكتاب والرسول، يزداد صاحبها بأخبار الأنبياء إيماناً بخلاف الملاحدة كلما امعن الواحد منهم فيه بعد عن الله ورسوله.