الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فأضل بكلامه بشراً كثيراً وأتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة ووضع دين الجهمية.
تعليق ابن تيمية
قلت: فهذا الذي ذكره الإمام أحمد من مناظرة جهم لأولئك السمينة، هم الذين يحكى أهل المقالات عنهم أنهم أنكروا من العلم ما سوى الحسيات، ولهذا سألوا جهماً: هل عرفه بشيء من الحواس الخمس؟ فقال: لا.
قالوا: فما يدريك أنه إلاه؟ فإنهم لا يعرفون إلا المحسوس، وليس مرادهم أن الرجل لا يعلم إلا ما أحسه، بل لا يثبتون إلا ما هو محسوس للناس في الدنيا.
وهؤلاء كالمعطلة الدهرية الطبائعية من فلاسفة اليونان ونحوهم، الذين ينكرون سوى هذا الوجود الذي يشاهده الناس ويحسونه، وهو وجود الأفلاك وما فيها.
هؤلاء الذين ذكر ابن سينا قولهم في إشاراته حيث قال قال: إن هذا الشيء المحسوس موجود لذاته واجب لنفسه لكنك إذا تذكرت ما قيل في شرط واجب الوجود لم تجد هذا المحسوس واجباً.
وهذا هو القول الذي أظهره فرعون، وإليه يعود عند التحقيق قول أهل الوحدة.
لكن هؤلاء يعتقدون أنهم يثبتون الخالق، وأن وجوده
وجود المخلوق، فهم متناقضون.
ثم إن جهم بن صفوان رد عليهم كرد أرسطو وابن سينا وأمثالهم من المشائين على الطبيعيين منهم، وهؤلاء يثبتون وجوداً عقلياً غير الوجود المحسوس، ويعتقدون أنهم بهذا الرد أبطلوا قول أولئك، كما تقدم حكاية قول ابن سينا لما تكلم على الوجود وعلله، وقال: قد يغلب على أوهام الناس أن الموجود هو المحسوس وأبطل هذا القول بإثبات الكليات وقد تقدم التنبيه على فساد هذه الحجة، وأن الكليات تكون في الأذهان لا في الأعيان.
ومن لم يقر إلا بالمحسوس إنما نازع في الموجودات الخارجية، لم ينازع في المعقولات الذهنية، وإن نازع في ذلك حصلت الحجة عليه بإثبات المعقولات الذهنية فتبقى الوجودات الخارجية وهي الأصل.
والحجة التي ذكرها أحمد عن الجهم انه احتج بها على السمنية، هي من أعظم حجج هؤلاء الثقاة الحلولية منهم ونفاة الحلول والمباينة جميعاً فإن النفاة تارة يقولون بالحلول والاتحاد أو نحو ذلك وتارة يقولون لا مباين للعالم ولا داخل فيه.
والشخص الواحد منهم يقول هذا تارة، وهذا تارة فإنهم في حيرة، والغالب على متكلميهم نفي الأمرين، والغالب على عبادهم وفقهائهم وصوفيتهم وعامتهم الحلول، فمتكلموهم لا يعبدون شيئاً ومتصوفتهم يعبدون كل شيء.
والحلول نوعان: حلول مقيد وحلول مطلق.
فالحلول المقيد هو قول النصارى ونحوهم من غلاة الرافضة وغلاء العبادة، وغيرهم يقولون إنه حل في المسيح أو اتحد به وحل بعلي أو أتحد به وأنه يتحد بالعارفين حتى يصير الموحد هو الموحد، ويقولون:
ما وحد الواحد من واحد
…
إذ كل من وجده جاحد
توحيد من يخبر عن نعته
…
عارية أبطلها الواحد
توحيده إياه توحيد
…
ونعت من ينفعه لاحد
وهؤلاء الذين حكى أحمد قولهم أنهم: إذا أراد الله أن يحدث أمر دخل فيه بعض خلقه، فتكلم على لسانه وقد رأيت من هؤلاء غير واحد ممن خاطبني وتكلم معي في هذا المذهب وبينت له فساده.
وأما أهل الحلول المطلق الذين يقولون إنه حال في كل شيء أو متحد بكل شيء أو الوجود واحد، كأصحاب فصوص الحكم وأمثالهم فهؤلاء يقولون: أخطأ النصارى من جهة أنهم خصصوا وكذلك يقولون في عباد الأصنام خطؤهم من جهة انهم خصصوا بعض الأشياء فعبدوها.
وقد رأيت من هؤلاء أيضاً غير واحد وجرت بيننا وبينهم محنة معروفة.
وجعل الإمام أحمد حجة جهم من جنس حجة أولئك الذين يقولون بالحلول المقيد لأن هؤلاء يقولون إنه حل في بعض خلقه.
وهؤلاء الجهمية فيهم من يقول: إن اللاهوت في الناسوت من غير حلول فيه.
وهكذا الجهم وأتباعه جعلوا وجود الخالق في المخلوقات، من جنس اللاهوت في الناسوت، ويجمعون بين القولين المتناقضين كما جمعت النصارى.
واحتجاج الجهم بهذا على السمنية، كاحتجاج نفاة الصفات بذلك على أهل الإثبات، فإن الرازي وأمثاله احتجوا على إمكان وجود موجود لا مباين للعالم ولا داخل فيه بالنفس الناطقة، على قول هؤلاء المتفلسفة، الذين يقولون: إنها لا داخلة في هذا العالم ولا خارجة من هذا العالم إنها تشبه الإله وإن الفلسفة التشبه بالإله على قدر الطاقة.
ومقصود الجهم بهذه الحجة بيان إمكان وجود موجود لا سبيل إلى إحساسه، فاحتج عليهم بالنفس الناطقة، إذ لا سبيل إلى إحساسها وهذه حجة المشائين من المتفلسفة على الطبيعيين منهم.
وهؤلاء يجعلون ما يثبتونه من الأمور المعقولة، حجة على إثبات موجود ليس بمحسوس، ثم يزعمون أن ما أخبرت به الرسل من الغيب، هو الوجود العقلي الذي يثبتونه.
وهذا الموضع حارت فيه أحلام وضلت فيه أفهام، وهم
مخطئون شرعاً وعقلاً.
أما الشرع فإن الرسل أخبرت عما لم نشهده ولم نحسه في الدنيا وسمت ذلك غيباً لمغيبه عن الشهادة، كقوله {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة} البقرة 3، ومنه قوله تعالى {عالم الغيب والشهادة} الرعد 9، فالغيب ما غاب من شهود العباد والشهادة ما شهدوها.
وهذا الفرق لا يوجب أن الغيب ليس مما يمكن إحساسه بل من المعلوم بالاضطرار أن ما أخبرت به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، من الثواب والعقاب كله مما يمكن إحساسه، بل وكذلك ما أخبرت به الملائكة، والعرش والكرسي، والجنة والنار، وغير ذلك، لكنا نشهده الآن.
ولهذا أعظم ما أخبرت به من الغيب هو الله سبحانه وتعالى، مع إخبار الرسول لنا انا نراه كما نرى الشمس والقمر، فأي الإحساس أعظم من إحساسنا بالشمس والقمر؟
وما أخبرت به من الغيب كالجنة والنار والملائكة والعرش والكرسي وغير ذلك مما يمكن إحساسه فليس الفرق بين الغيب والشهادة هو الفرق بين المحسوس والمعقول.
فهذا أصل ينبغي معرفته، فإنه بسبب هذا وقع من الخلل في كلام طوائف مالا يحصيه إلا الله تعالى، كصاحب الكتب المضنون بها وصاحب الملل والنحل وطوائف غيرهم.
ولهذا وقع في كلام صاحب الكتب المضنون بها على غير أهلها وصاحب نهاية الإقدام ونحوهما من كلام هؤلاء الذين يجعلون الفرق بين الغيب والشهادة هو الفرق بين المحسوس وبين المعقول أنواع من جنس كلام الملاحدة الباطنية إما ملاحدة الشيعة، كما يوجد في كلام صاحب الملل والنحل ونهاية الإقدام وقد قيل إنه صنف تفسيره سورة يوسف على مذهب الإسماعيلية: ملاحدة الشيعة وإما ملاحدة الباطنية المنسوبين إلى الصوفية.
ومن هنا دخل أهل وحدة الوجود وأمثالهم من ملاحدة النساك المنتسبين إلى التصوف وكل من هؤلاء هؤلاء يؤول به الأمر إلى مخالفة صريح العقل والنقل.
لكن هذا يحيل على علم الإمام المعصوم، وهذا يحيل على معرفة الشيخ المحفوظ، حتى يدعي كل منهما فيمن يحيل عليه ما هو أعظم من مقام الأنبياء، مع أن الذي يحيل عليه لا بد أن يكون فيه من الكذب والجهل والظلم مالا يعلمه إلا الله وأحسن أحواله أن يكون كثير من كذبه جهلاً منه وضلالاً، لم يعتمد فيه خلاف ما يعلمه من الحق كضلال كثير من النصارى أهل الأهواء.
والمقصود انه بهذا يتبين أن خطأهم في العقل، وما يسمونه معقولات، ودعواهم وجود أمور معقولات خارجة عن العاقل، لا
يمكن الإشارة إليها ولا الإحساس بها بوجه من الوجوه، وليست داخل شيء من العالم ولا خارجة ولا مباينة له ولا حالة فيه فإنه من المعلوم أن المعقولات ما عقلها الإنسان، فهي معقولة العقل، وأظهر ذلك الكليات المجردة: كالإنسانية المطلقة، والحيوانية المطلقة، والجسم المطلق، والوجود المطلق، ونحو ذلك، فإن هذه من وجوده في العقل، وليس في الخارج شيء مطلق غير معين، بل لا يوجد إلا وهو معين مشخص، وهو المحسوس، وإنما يثبت العقليات المجردة في الخارج الغالطون من المتفلسفة كالفيثاغورية الذين يثبتون العدد المجرد، والأفلاطونية الذين يثبتون المثل الأفلاطونية، وهي الماهيات المجردة، والهيولى المجردة، والمدة المجردة، والخلاء المجرد.
وأما أرسطو وأصحابه كالفارابي وابن سينا فأبطلوا قول سلفهم في إثبات مجردة عن الأعيان ولكن أثبتوها مقارنة للأعيان فجعلوا مع الأجسام المحسوسة جواهر معقولة كالمادة والصورة، وإذا حقق الأمر عليهم، لم يوجد في الخارج إلا الجسم وأعراضه، وأثبتوا في الخارج أيضاً الكليات مقارنة للأعيان، وإذا حقق الأمر عليهم لم يوجد في الخارج إلا الأعيان بصفاتها القائمة بها.
وكذلك ما أثبتوه من العقول العشرة المفارقات، إذا الأمر عليهم لم يوجد لها وجود إلا في العقل لا في الخارج، كما قد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع.
فهذا الذي ذكره الإمام أحمد من احتجاج جهم على السمنية الطبيعية بإثبات موجود عقلي، هو كحجة المشائين على الطبيعية، وما في