الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وثبت في الصحيح «أنه بشر الذي كان يقرأها ويقول: إني لأحبها لأنها صفة الرحمن: بأن الله يحبه» فبين أن الله يحب من يحب ذكر صفاته سبحانه وتعالى، وهذا باب واسع.
الوجه السابع
أن يبين أن الفطرة التي فطر الله عليها عباده، والعلوم الضرورية التي جعلها في قلوبهم، توافق ما أخبر به الرسول من علو الله على خلقه ونحو ذلك، فالمعقول الضروري الذي هو أصل العلوم النظرية، موافق للأدلة الشرعية مصدق لها، لا مناقض معارض لها.
الوجه الثامن
أن يقال: الإرادات والقصود الضرورية التي تضطر العباد عندما يضطرون إلى أن يطلبوا من الله قضاء الحاجات وتفريج الكربات، موافقة لما أخبر به الرسول، لا معارضة لذلك.
الوجه التاسع
أن يقال: الأدلة العقلية البرهانية المؤلفة من المقدمات اليقينية، هي موافقة لخبر الرسول لا معارضة له، ومن كان له خبرة بالأدلة العقلية وتأليفها، وتأمل أدلة المثبتة والنفاة، رأى بينهما من الفرق أعظم مما بين القدم والفرق، فإن أدلة الإثبات أدلة صحيحة، مبنية على مقدمات يقينية خالصة من الشبهة، وأما حجج
النفاة فجميعها مبناها على ألفاظ مجملة متشابهة، ومعان متشابهة.
ولهذا متى وقع الاستفسار والتفصيل لمجمل كلامهم، ووقع البيان والتفصيل لمشتبه معانيهم، تبين لكل عاقل فاهم أن النفاة جمعوا بين المختلفات، وفرقوا بين المتماثلات، وسووا بين الشيئين اللذين هما في غاية التباين، لاشتراكهما في بعض الصفات.
ولهذا كان مآل أمرهم إلى أن جعلوا الوجود واحداً، فجعلوا وجود الخالق رب العالمين- الذي لا يماثله شيء من الموجودات بوجه من الوجوه، ومباينته لكل موجود أعظم من مباينة كل موجود لكل موجود - هو وجود أحقر المخلوقات وأصغر المخلوقات، أو مماثلا له لاتفاقهما في مسمى الوجود أو مسمى الذات أو الحقيقة، وصار أئمتهم النظار في هذه المسألة التي هي أول ما ينبغي لذي النظر أن يعرفه في حيرة عظيمة، فهذا يقول: الوجود واحد لاشتراك الموجودات في مسمى الوجود، ولا يميز بين الواحد بالعين، والواحد بالنوع أو الجنس اللغوي.
وهذا يقول: وجوده وجود مطلق: إما بشرط الاطلاق، وإما مطلقاً لا بشرط، وإما بشرط سلب جميع الأمور الثبوتية عنه، وهذا يمتنع ثبوته عنه، وهذا يمتنع ثبوته في الموجودات، وإنما يكون مثل هذا فيما تقدره الأذهان، لا فيما يوجد في الأعيان.
وغاية من يجعل ذلك ثابتاً في الخارج، أن يجعل وجود الخالق هو وجود المخلوقات، أو جزءاً منها، فيجعل افتقاره إلى المخلوقات كافتقار المخلوقات إليه، كما يقول من يفرق بين الوجود والثبوت.
وهذا يقول لفظ (الوجود) و (الذات) وغيرهما، مقول عليه وعلى الموجودات بالاشتراك اللفظي المجرد كاشتراك (المشتري) و (سهيل) فتخرج الأسماء العامة الكلية كاسم (الوجود) و (الذات) و (النفس) و (الحقيقة) و (الحي) و (العالم) و (القادر) ونحو ذلك من مسمياتها، وتسلبه العقول ما جعله الله فيها من المعاني والقضايا العامة الكلية، وهذه خاصة العقل التي تميز بها عن الحس، إلى أمثال هذه المقولات التي هي عند من فهمها وعرف حقيقة قول أصحابها، ضحكة للعاقل من وجه، وأعجوبة له من وجه، ومسخطة له من وجه.
ومثل هذه المعقولات لو تصرف بها في تجارة أو صناعة من الصناعات لأفسدت التجارة والصناعة، فكيف يتصرف بها في الأمور الإلهية وفي صفات رب البرية، ثم يعارض بها كلام الله الذي بعث به رسله وأنزل بها كتبه؟ .
فمن تبحر في المعقولات، وميز بين البينات والشبهات، تبين له أن العقل الصريح أعظم الأشياء موافقة لما جاء به الرسول، وكلما عظمت بمعرفة الرجل بذلك، عظمت موافقة الرسول.
ولكن دخلت الشبهة في ذلك بأن قوماً كان لهم ذكاء تميزوا به في أنواع العلوم: إما طبيعية كالحساب والطب، وإما شرعية كالفقه مثلا.
وأما الأمور الإلهية فلم يكن لهم بها خبرة كخبرتهم بذلك، وهي أعظم المطالب، وأجل المقاصد، فخاضوا فيها بحسب أحوالهم، وقالوا
فيها مقالات بعبارات طويلة مشتبهة، لعل كثيراً من أئمة المتكلمين بها لا يحصلون حقائق تلك الكلمات، ولو طالبتهم بتحقيقها لم يكن عندهم إلا الرجوع إلى تقليد أسلافهم.
وهذا موجود في منطق اليونان وإلهياتهم، وكلام أهل الكلام من هذه الأمة وغيرهم، يتكلم رأس الطائفة كأرسطو مثلا بكلام، وأمثاله من اليونان بكلام، وأبي الهذيل والنظام وأمثالهما من متكلمة أهل الإسلام بكلام، ويبقى ذلك الكلام دائراً في الأتباع، يدرسونه كما يدرس المؤمنون كلام الله، وأكثر من يتكلم به لا يفهمه.
وكلما كانت العبارة أبعد عن الفهم كانوا لها أشد تعظيماً، وهذا حال الأمم الضالة، كلما كان الشيء مجهولاً كانوا أشد له تعظيما، كما يعظم الرافضة المنتظر، الذي ليس لهم منه حس ولا خبر ولا وقعوا له على عين ولا أثر.
وكذلك تعظيم الجهال من المتصوفة ونحوهم للغوث وخاتم الأولياء، ونحو ذلك مما لا يعرفون له حقيقة.
وكذلك النصارى تعظم ما هو من هذا الباب وهكذا الفلاسفة تجد أحدهم إذا سمع أئمته يقولون: الصفات الذاتية والعرضية والمقوم والمقسم والمادة والهيولى، والتركيب من الكم والكيف، وأنواع ذلك من العبارات، عظمها قبل أن يتصور معانيها، ثم إذا طلب معرفتها لم يكن عنه في كثير منها إلا التقليد لهم.
ولهذا كان فيها من الكلام الباطل المقرون بالحق ما شاء الله، ويسمونها عقليات، وإنما هي عندهم تقليديات، قلدوا فيها ناساً يعلمون أنهم ليسوا معصومين، إذا بين لأحدهم فسادها لم يكن عنده ما يدفع ذلك، بل ينفي تعظيمه المطلق لرؤوس تلك المقالة، ثم يعارض ما تبين لعقله فيقول: كيف يظن بأرسطو وابن سينا وأبي الهذيل، أو أبي علي الجبائي ونحو هؤلاء أن يخفي عليه مثل هذا؟ أو أن يقول مثل هذا؟ .
وهو مع هذا يرى أن الذين قلدوا المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى: {إن هو إلا وحي يوحى} [النجم: 4] ، قد بخسوا أنفسهم حظها من العقل والمعرفة والتمييز، ورضوا بقبول قول لا يعلمون
حقيقته، وهو مع هذا يقبل أقوالاً لا يعلم حقيقتها، وقائلين يعلم أنهم يخطئون ويصيبون.
وهذا القدر قد تبينته من الطوائف المخالفين للكتاب والسنة-ولو في أدنى شيء ممن رأيت كتبهم، وممن خاطبتهم، وممن بلغني أخبارهم -إذا أقيمت على أحدهم الحجة العقلية التي يجب على طريقته قبولها، ولم يجد له ما يدفعها به، فر إلى التقليد، ولجأ إلى قول شيوخه، وقد كان في أول الأمر يدعوا إلى النظر والمناظرة والاعتصام بالعقليات، والإعراض عن الشرعيات.
ثم إنه في آخر الأمر لا حصل له علم من الشرعيات ولا من العقليات، بل هو كما قال الله تعالى:{ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد} [الحج: 3] .
وكما قال تعالى: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير} [الحج: 8] .
وكما قال تعالى: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون} [الأنعام: 110] .
وكما قال: {أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا} [الفرقان: 44] .
وكما قال تعالى: {ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني
اتخذت مع الرسول سبيلا * يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا * لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا} [الفرقان: 27-29] .
وكما قال: {يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا * وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا} [الأحزاب: 66-68] .
وهذه النصوص فيها نصيب لكل من اتبع أحداً من الرؤوس فيما يخالف الكتاب والسنة، سواء كانوا من رؤوس أهل النظر والكلام والمعقول والفلسفة، أو رؤوس أهل الفقه والكلام في الأحكام الشرعية، أو من رؤوس أهل العبادة والزهادة والتأله والتصوف، أو من رؤوس أهل الملك والإمارة والحكم والولاية والقضاء.
ولست تجد أحداً من هؤلاء إلا متناقضاً، وهو نفسه يخالف قول ذلك المتبوع الذي عظمه في موضع آخر، إذ لا يصلح أمر دنياه ودينه، بموافقة ذلك المتبوع، لتناقض أوامره.
بخلاف ما جاء من عند الله، فإنه متفق مؤتلف، فيه صلاح أحوال العباد، في المعاش والمعاد.
قال تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} [النساء: 82] ، وهذه الجمل مبسوطة في مواضع غير هذا.