الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوجه السابع والعشرون
وهو أن نقول: الذين يعارضون كلام الله وكلام رسوله بعقولهم: إن كانوا من ملاحدة الفلاسفة والقرامطة.
قالوا إن الرسل أبطنت خلاف ما أظهرت لأجل مصلحة الجمهور، حتى يؤول الأمر بهم إلى إسقاط الواجبات واستحلال المحرمات: إما للعامة.
وإما للخاصة دون العامة، ونحو ذلك مما يعلم كل مؤمن أنه فاسد مخالف لما علم بالاضطرار من دين الإسلام، وإن كانوا من أهل الفقه والكلام والتصوف الذين لا يقولون ذلك، فلا بد لهم من التأويل الذي هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح.
ولفظ (التأويل) يراد به التفسير، كما يوجد في كلام المفسرين: ابن جرير وغيره.
ويراد به حقيقة ما يؤول إليه الكلام، وهو المراد بلفظ التأويل في القرآن.
وأما بالمعنى الثاني، فمنه ما لا يعلمه إلا الله.
ولهذا كانوا يثبتون العلم بمعاني القرآن، وينفون العلم بالكيفية، كقول مالك وغيره: الاستواء معلوم، والكيف مجهول.
فالعلم بالاستواء من باب التفسير، وهو التأويل الذي نعلمه.
وأما الكيف فهو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله، وهو المجهول لنا.
ويراد بالتأويل في اصطلاح كثير من المتأخرين: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، وهذا هو الذي تدعيه نفاة الصفاة والقدر ونحو ذلك من نصوص الكتاب والسنة.
وهؤلاء قولهم متناقض، فإنهم بنوه على أصلين فاسدين: فإنهم يقولون لا بد من تأويل بعض الظواهر كما في قوله: «جعت فلم تطعمني» .
وقوله: الحجر الأسود يمين الله في الأرض، ونحو ذلك.
ثم أي نص خالف رأيهم جعلوه من هذا الباب، فيجعلون تارة المعنى الفاسد هو الظاهر، ليجعلوا في موضع آخر المعنى الظاهر فاسدا، وهم مخطئون في هذا وهذا.
ومضمون كلامهم أن كلام الله ورسوله في ظاهره كفر وإلحاد، من غير بيان من الله ورسوله للمراد.
وهذا قول ظاهر الفساد، وهو أصل قول أهل الكفر والإلحاد.
أما النصوص التي يزعمون أن ظاهرها كفر، فإذا تدبرت النصوص وجدتها قد بينت المراد، وأزالت الشبهة، فإن الحديث الصحيح لفظه: «عبدي، مرضت فلم تعدني.
فيقول: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا مرض، فلو عدته لوجدتني عنده» .
فنفس ألفاظ الحديث نصوص في أن الله نفسه لا يمرض، وإنما الذي مرض عبده المؤمن.
ومثل هذا لا يقال: ظاهره أن الله يمرض، فيحتاج إلى تأويل لأن اللفظ إذا قرن به ما يبين معناه، كان ذلك هو ظاهره كاللفظ العام، إذا قرن به استثناء أو غاية أو صفة، كقوله:{فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما} [العنكبوت: 14] وقوله: {فصيام شهرين متتابعين} [النساء: 92] ، ونحو ذلك، فإن الناس متفقون على أنه حينئذ ليس ظاهره ألفاً كاملة ولا شهرين، سواء كانا متفرقين أو متتابعين.
وأما قوله: الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فهو أولا: ليس من الحديث الصحيح الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلا نحتاج أن ندخل في هذا الباب.
ولكن هؤلاء يقرنون بالأحاديث الصحيحة أحاديث كثيرة موضوعة، ويقولون بتأول الجميع، كما فعل بشر المريسي ومحمد بن شجاع الثلجي وأبو بكر بن فورك في كتاب مشكل الحديث حتى أنهم يتأولون حديث عرق الخيل وأمثاله من الموضوعات.
هذا مع أن عامة ما فيه من تأويل الأحاديث الصحيحة هي تأويلات المريسي وأمثاله من الجهمية.
وقد يكون الحديث مناماً كحديث رؤية ربه في أحسن صورة، فيجعلونه يقظة، ويجعلونه ليلة المعراج، ثم يتأولونه.
وقد صنف القاضي أبو يعلى كتابه في إبطال التأويل رداً لكتاب ابن فورك، وهو وإن كان أسند الأحاديث التي ذكرها وذكر من رواها، ففيها عدة أحاديث موضوعة كحديث الرؤية عياناً ليلة المعراج ونحوه.
وفيها أشياء عن بعض السلف رواها بعض الناس مرفوعة، كحديث قعود الرسول صلى الله عليه وسلم على العرش، رواه بعض الناس من طرق كثيرة مرفوعة، وهي كلها موضوعة، وإنما الثابت أنه عن مجاهد وغيره من السلف، وكان السلف والأئمة يروونه ولا ينكرونه، ويتلقونه بالقبول.
وقد يقال: إن مثل هذا لا يقال إلا توفيقاً، لكن لا بد من الفرق بين ما ثبت من ألفاظ الرسول، وما ثبت من كلام غيره، سواء كان من المقبول أو المردود.
ولهذا وغيره تكلم رزق الله التميمي وغيره مكن أصحاب أحمد في تصنيف القاضي أبي يعلى لها الكتاب بكلام غليظ وشنع عليه أعداؤه بأشياء هو منها بريء، كما ذكر هو ذلك في آخر الكتاب.
وما نقله عنه أبو بكر بن العربي في العواصم كذب عليه عن مجهول لم يذكره أبو بكر، وهو من الكذب عليه، مع أن هؤلاء - وإن كانوا نقلوا عنه ما هو كذب عليه، ففي كلامه ما هو مردود نقلاً وتوجيهاً، وفي كلامه من التناقض من جنس ما يوجد في كلام الأشعري، والقاضي أبي بكر الباقلاني، وأبي المعالي، وأمثالهم ممن يوافق النفاة على نفيهم، ويشارك أهل الإثبات على وجه، يقول الجمهور: إنه جمع بين النقيضين.
ويقال: إن أبا جعفر السمناني، شيخ أبي الوليد الباجي قاضي
الموصل، كان يقول عليه ما لم يقله: ويقال عن السمناني إنه كان مسمحا في حكمه وقوله.
والمقصود هنا أن ما لم يكن ثابتاً عن الرسول، لا نحتاج أن ندخله في هذا الباب، سواء احتيج إلى تأويل أو لم يحتج.
وحديث الحجر الأسود يمين الله في الأرض هو معروف من كلام ابن عباس، وروي مرفوعاً، وفي رفعه نظر.
ولفظ الحديث: الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن صافحه أو قبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه.
ففي لفظ هذا الحديث أنه يمين الله في الأرض، وأن المصافح له كأنما صافح الله وقبل يمينه.
ومعلوم أن المشبه ليس هو المشبه به، فهذا صريح في أنه ليس هو نفس صفة الله، فلا يمكن أحد أن يأتي بنص صحيح صريح يدل على معنى فاسد، من غير بيان للنص أصلا، فالحمد لله الذي سلم كلامه وكلام رسوله من كل نقص وعيب، وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، لسلامة ما قالوه من النقص والعيب، والحمد لله رب العالمين.
وأما الخطأ الثاني فيأتون إلى نصوص صحيحة دالة على معان دلالة بينة، بل صريحة قطعية، كأحاديث الرؤية ونحوها، مما فيه إثبات الصفات، فيقولون هذه تحتاج إلى التأويل كتلك، وقد تبين استغناء كل من الصنفين عن التحريف، وأن التفسير الذي به يعرف الصواب
قد ذكر ما يدل عليه في نفس الخطاب: إما مقرونا به، وإما في نص آخر.
ولهذا لما لم يكن لهم قانون قويم، وصراط مستقيم، في النصوص لم يوجد أحد منهم يمكنه التفريق بين النصوص التي تحتاج إلى تأويل والتي لا تحتاج إليه، إلا بما يرجع إلى نفس المتأول المستمع للخطاب، لا بما يرجع إلى نفس المتكلم بالخطاب، فنجد من ظهر له تتناقض أقوال أهل الكلام والفلاسفة، كأبي حامد وأمثاله، ممن يظنون أن في طريقة التصفية نيل مطلوبهم، يعولون في هذا الباب على ذوقهم وكشفهم، فيقولون: إن ما عرفته بنور بصيرتك فقرره، وما لم تعرفه فأوله.
ومن ظن أن في كلام المتكلمين ما يهدي إلى الحق، يقول: ما ناقض دلالة العقل وجب تأويله، وإلا فلا.
ثم المعتزلي - والمتفلسف الذي يوافقه - يقول: إن العقل يمنع إثبات الصفات وإمكان الرؤية.
ويقول المتفلسف الدهري: إنه يمنع إثبات معاد الأبدان وإثبات أكل وشرب في الآخرة، ونحو ذلك.
فهؤلاء مع تناقضهم لا يجعلون الرسول نفسه نصب في خطابه
دليلاً يفرق به بين الحق والباطل، والهدى والضلال، بل يجعلون الفارق هو ما يختلف باختلاف الناس من أذواقهم وعقولهم.
ومعلوم أن هذا نسبة للرسول إلى التلبيس وعدم البيان، بل إلى كتمان الحق وإضلال الخلق، بل إلى التكلم بكلام لا يعرف حقه من باطله، ولهذا كان حقيقة أمرهم الإعراض عن الكتاب والرسول، فلا يستفيدون من كتاب الله وسنة رسوله شيئاً من معرفة صفات الله تعالى، بل الرسول معزول عندهم عن الإخبار بصفات الله تعالى نفياً وإثباتاً، وإنما ولايته عندهم في العمليات - أو بعضها - مع أنهم متفقون على أن مقصوده العدل بين الناس وإصلاح دنياهم.
ثم يقولون مع ذلك: إنه أخبرهم بكلام عن الله وعن اليوم الآخر: صار ذلك الكلام سبباً للشر بينهم والفتن والعداوة والبغضاء، مع ما فيه عندهم من فساد العقل والدين، فحقيقة أمرهم أنه أفسد دينهم ودنياهم.
وهذا مناقض لقولهم: إنه أعقل الخلق وأكملهم، أو من أعقلهم وأكملهم، وأنه قصد العدل ومصلحة دنياهم.
فهم مع قولهم المتضمن للكفر والإلحاد، يقولون قولاً مختلفا، يؤفك عنه من أفك، متناقض غاية التناقض، فاسد غاية الفساد.
وهذا ينكشف: