المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الوجه الثامن والعشرون - درء تعارض العقل والنقل - جـ ٥

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌الوجه العشرون

- ‌متابعة الملاحدة للنفاة في إنكار النصوص وتأويلها

- ‌كلام الأشعري في الإبانة عن متابعته للإمام أحمد

- ‌كلام ابن سينا في الرسالة الأضحوية

- ‌كلام أبي الحسين البصري في عيون الأدلة

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام أبي الحسن التميمي في جامع الأصول

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن سينا في الرسالة الأضحوية في مسألة الصفات وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌فصل

- ‌كلام ابن سينا عن الصفات الذاتية والعرضية تعليق ابن تيمية عليه

- ‌تابع كلام ابن سينا وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌قول الآمدي في الحقائق

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌قول الآمدي في الإحكام

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌قول ابن سينا في الإشارات عن الكليات

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌عدم فصل الرازي العلة من الشرط

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الإمام أحمد عن تعلق الصفات بذت الله تعالى

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌فصل

- ‌تابع كلام الإمام أحمد

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام الإمام أحمد

- ‌كلام الجويني عن صفات الله تعالى

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام الجويني

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌الوجه الحادي والعشرون

- ‌الوجه الثاني والعشرون

- ‌الوجه الثالث والعشرون

- ‌الوجه الرابع والعشرون

- ‌الوجه الخامس والعشرون

- ‌الوجه السادس والعشرون

- ‌الوجه السابع والعشرون

- ‌الوجه الثامن والعشرون

- ‌الوجه التاسع والعشرون

- ‌الوجه الثلاثون

- ‌الوجه الواحد والثلاثون

- ‌اعتراض: إن عارضت الدليل العقلي الذي يعرف صحة الشرع

- ‌الجواب عنه من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه السادس

- ‌كلام الدارمي في كتاب الرد على الجهمية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام الدارمي

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌الوجه السابع

- ‌الوجه الثامن

- ‌الوجه التاسع

- ‌الوجه العاشر

- ‌الوجه الثاني والثلاثون

- ‌كلام الرازي في نهاية المعقول عن الأدلة السمعية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌الوجه الثالث والثلاثون

- ‌الوجه الرابع والثلاثون

- ‌الوجه الخامس والثلاثون

- ‌الوجه السادس والثلاثون

- ‌فصل: كلام الغزالي عن التأويل وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌الوجه السابع والثلاثون

- ‌الوجه الثامن والثلاثون

- ‌الوجه التاسع والثلاثون

- ‌الوجه الأربعون

- ‌الوجه الحادي والأربعون

- ‌الوجه الثاني والأربعون

الفصل: ‌الوجه الثامن والعشرون

‌الوجه الثامن والعشرون

وهو أن يقال: حقيقة قول هؤلاء الذين يجوزون أن تعارض النصوص الإلهية النبوية بما يناقضها من آراء الرجال، وأن لا يحتج بالقرآن والحديث على شيء من المسائل العلمية، بل ولا يستفاد التصديق بشيء من أخبار الله ورسوله، فإنه إذا جاز أن يكون فيما أخبر الله به ورسوله في الكتاب والسنة أخبار يعارضها صريح العقل، ويجب تقديمه عليها من غير بيان من الله ورسوله للحق الذي يطابق مدلول العقل، ولا لمعاني تلك الأخبار المناقضة لصريح العقل، فالإنسان لا يخلو من حالين، وذلك لأن الإنسان إذا سمع خطاب الله ورسوله الذي يخبر فيه عن الغيب: فإما أن يقدر أن له رأياً مخالفاً للنص، أو ليس له رأي يخالفه، فإن كان عنده مما يسميه معقولاً ما يناقض خبر الله ورسوله، وكان معقوله هو المقدم، قدم معقوله وألغى خبر الله ورسوله، وكان حينئذ كل من اقتضى عقله مناقضة خير من أخبار الله ورسوله قدم عقله على خبر الله ورسوله، ولم يكن مستدلا بما أخبر الله به ورسوله على ثبوت مخبره، بل ولم يستفد من خبر الله ورسوله فائدة علمية، بل غايته أن يستفيد إتعاب قلبه فيما يحتمله ذلك اللفظ من المعاني التي لا يدل عليها الخطاب إلا دلالة بعيدة ليصرف إليها اللفظ.

ص: 242

ومعلوم أن المقصود بالخطاب والإفهام، وهذا لم يستفد من الخطاب والإفهام، فإن الحق لم يستفده من الخطاب بل من عقله، والمعنى الذي دل عليه الخطاب الدلالة المعروفة لم يكن المقصود بالخطاب إفهامه، وذلك المعنى البعيد الذي صرف الخطاب إليه، قد كان عالما بثبوته بدون الخطاب، ولم يدل عليه الخطاب الدلالة المعروفة، بل تعب تعباً عظيما حتى أمكنه احتمال الخطاب له، مع أنه لا يعلم أن المخاطب أفاده بالخطاب، فلم يكن له خطاب الله ورسوله على قول هؤلاء، لا إفهام ولا بيان، بل قولهم يقتضي أن خطاب الله ورسوله إنما أفاد تضليل الإنسان، وإتعاب الأذهان، والتفريق بين أهل الإيمان، وحصول العداوة بينهم والشنآن، وتمكين أهل الإلحاد والطغيان، من الطعن في القرآن والإيمان.

وأما إن لم يكن عنده ما يعارض النص، مما يسمى رأياً ومعقولا وبرهاناً ونحو ذلك، فإنه لا يجزم بأنه ليس في عقول جميع الناس ما يناقض ذلك الخبر الذي أخبر الله به رسوله، ومن المعلوم أن الدلالات التي تسمى عقليات، ليس لها ضابط، ولا هي منحصرة في نوع معين، بل ما من أمة إلا ولهم ما يسمونه معقولات.

واعتبر ذلك بأمتنا، فإنه ما من مده إلا وقد يبتدع بعض الناس بدعاً، يزعم أنها معقولات.

ص: 243

ومعلوم أن عصر الصحابة وكبار التابعين لم يكن فيه من يعارض النصوص بالعقليات، فإن الخوارج والشيعة حدثوا في آخر خلافة علي المرجئة والقدرية حدثوا في أواخر عصر الصحابة، وهؤلاء كانوا ينتحلون النصوص ويستدلون بها على قولهم، لا يدعون أنهم عندهم عقليات تعارض النصوص.

ولكن لما حدثت الجهمية في أواخر عصر التابعين، كانوا هم المعارضين للنصوص برأيهم ومع هذا فكانوا قليلين مقموعين في الأمة.

وأولهم الجعد بن درهم، ضحى به خالد بن عبد الله القسري يوم الأضحى بواسط، وقال: أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، انه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً ثم نزل فذبحه.

وإنما صار لهم ظهور شوكة في أوائل المائة الثالثة، لما قواهم من

ص: 244

قواهم من الخلفاء، فامتحن الناس ودعاهم إلى قولهم، ونصر الله الإيمان والسنة بمن أقامه من أئمة الهدى، الذي جعلهم الله أئمة في الدين بما آتاهم الله من الصبر واليقين كما قال الله تعالى:{وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} [السجدة: 24] .

والمقصود هنا أن ما تذكره الجهمية نفاة الصفات العقلية المناقضة للنصوص لم يكن معروفا فيها عند الأمة إذ ذاك، ولما ابتدعوه لم يسمعه أكثر الأمة.

ثم قد وضعت الجهمية من المعتزلة وغيرهم من ذلك في الكتب ما شاء الله وأكثر المؤمنين لا يعلمون ذلك، وما من أحد من النفاة إلا وقد يذكر على النفي من حججه العقلية ما لا يذكره الآخر، ولا تجد طائفتين يتفقان على طريقة واحدة عقلية، بل المعتزلة عمدتهم في النفي، أما الصفات أعراض، والأعراض لا تقوم إلا بجسم، وعمدتهم في نفي الجسم كونه لا ينفك من الحوادث، أو كونه مركباً من الأجزاء المفردة، فهم يستدلون بالأكوان الأربعة التي للجسم - وهي الاجتماع، والافتراق، والحركة والسكون - على حدوثه.

وأما ابن كلاب وأتباعه فينازعونهم في أن الصفات لا تقوم إلا بمحدث، ويسلمون لهم أن الأفعال ونحوها من الأمور الاختيارية لا

ص: 245

تقوم إلا بمحدث.

وكذلك الأشعري وأتباعه ينازعونهم في أن الصفات لا تقوم إلا بجسم، وتوافقهم على أن الأفعال لا تقوم إلا بجسم.

ومن أتباعهم المتفلسفة من نازعهم في أن الأفعال لا تقوم إلا بجسم.

وطوائف غير هؤلاء من الهاشمية والكرامية وغيرهم يسلمون لهم أن الصفات والأفعال لا تقوم إلا بجسم، وينازعونهم في كون الجسم لا يخلو من الحوادث، ويجوزون وجود جسم ينفك من قيام الحوادث به، ثم يحدث فتقوم به بعد ذلك.

وقد ينازعونهم في كون كل جسم مركباً من الأجزاء المنفردة.

وهذه الطوائف وأمثالها من طوائف أهل الكلام، من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم، كلهم متفقون على أن الممكن لا يكون إلا جسماً، أو قائماً بجسم، ومتنازعون في الواجب.

والمتفلسفة المشاءون الذين يثبتون ممكناً ليس بجسم ولا قائم بجسم، يقولون: إن الجسم الممكن قد يكون قديماً أزلياً أبدياً تحله الحوادث والأعراض وأن الجسم الممكن لا ينفك من الحوادث، وليس هو عندهم بمحدث، وهو مركب كتركيب الأجسام، وهو عندهم قديم أزلي، فهذا عندهم لا ينافي القدم والأزلية، وإنما ينفون ذلك عن واجب الوجود بناءً على أن إثبات الصفات تركيب، وواجب الوجود ليس بمركب.

ص: 246

والتركيب الذي يعنيه هؤلاء أعم من التركيب الذي يعنيه أولئك، فإن هؤلاء يزعمون أن هنا خمسة أنواع من التركيب يجب نفيها عن الواجب، فيقولون ليس له حقيقة سوى الوجود المطلق، إذ لو كان له حقيقة سوى ذلك لكان مركباً من تلك الحقيقة.

والوجود يثبتونه وجوداً مطلق بشرط الإطلاق، أو بشرط النفي، أو لا بشرط، مع علم كل عاقل أن هذا لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان، ويقولون: ليس له صفة ثبوتية: لا علم، ولا قدرة، إذ لو كان كذلك لكان مركباً من ذات الصفات.

ثم يقولون: هو عاقل ومعقول وعقل، وعاشق ومعشوق وعشق، وهو ملتذ ومبتهج، وملتذ به مبتهج به، وذلك كله شيء واحد، فيجعلون الصفة هي الموصوف، وهذه الصفة هي الأخرى.

ومعلوم أن هذا أكثر تناقضاً من قول النصارى، ويقولون لا يدخل هو وغيره تحت عموم، لئلا يكون مركباً من صفة عامة وخاصة، كتركيب النوع من الجنس والفصل، أو من الخاصة والعرض العام، مع أنهم يقولون: الموجود ينقسم إلى واجب وممكن، والواجب يتميز عن الممكن بما يختص به، ويقولون ليس فوق العالم، لنه لو كان كذلك لكان له جانبان، فيكون جسماً مركباً من الأجزاء المفردة، أو المادة والصورة.

ثم أتباع هذه الطوائف يحدثون من الحجج العقلية على قول متبوعهم

ص: 247

ما لم تكن عند متبوعهم، فيكونون - بزعمهم - قد تبين لهم من العقليات النافية ما لم يتبين لمتبوعهم.

واعتبر ذلك بما تجده من الحجج لأبي الحسين البصري وأمثاله مما لم يسبقه إليها شيوخه، وما تجده لأبي هاشم، ولأبي على الجبائي، وعبد الجبار بن أحمد مما لم يسبقهم إليها شيوخهم.

بل أبو المعالي الجويني، ونحوه ممن انتسب إلى الأشعري، ذكروا في كتبهم من الحجج العقليات النافية للصفات الخبرية ما لم يذكره ابن كلاب والأشعري وأئمة أصحابهما، كالقاضي أبي بكر بن الطيب وأمثاله، فإن هؤلاء متفقون على إثبات الصفات الخبرية، كالوجه واليد والاستواء.

وليس للأشعري في ذلك قولان، بل لم يتنازع الناقلون لنذهبه نفسه في أنه يثبت الصفات الخبرية التي في القرآن، وليس في كتبه المعروفة إلا إثبات هذه الصفات، وإبطال قول من نفاها وتأول النصوص.

وقد رد في كتبه على المعتزلة - الذين ينفون صفة اليد والوجه والاستواء، ويتأولون ذلك بالاستيلاء - ما هو معروف في كتبه لمن يتبعه، ولم ينقل عنه أحد نقيض ذلك، ولا نقل أحد عنه في تأويل هذه الصفات قولين.

ولكن لأتباعه فيها قولان: فأما هو وأئمة أصحابه فمذهبهم إثبات هذه الصفات الخبرية، وإبطال ما ينفيها من الحجج العقلية، وإبطال تأويل نصوصها.

ص: 248

وأبو المعالي وأتباعه نفوا هذه الصفات موافقة للمعتزلة والجهمية.

ثم لهم قولان: أحدهما تأويل نصوصها، وهو أول قولي أبي المعالي، كما ذكره في الإرشاد.

والثاني تفويض معانيها إلى الرب، وهو آخر قولي أبي المعالي كما ذكره في الرسالة النظامية وذكر ما يدل على أن السلف كانوا مجمعين على أن التأويل ليس بسائغ ولا واجب.

ثم هؤلاء منهم من ينفيها ويقول: إن العقل الصريح نفى هذه الصفات، ومنهم من يقف ويقول: ليس لنا دليل سمعي ولا عقلي لا على إثباتها ولا على نفيها، وهي طريقة الرازي والآمدي.

وأبو حامد تارة يثبت الصفات العقلية، متابعة للأشعري وأصحابه، وتارة ينفيها أو يردها إلى العلم موافقة للمتفلسفة، وتارة يقف وهو آخر أحواله، ثم يعتصم بالسنة ويشتغل بالحديث، وعلى ذلك مات.

وكذلك أبو محمد بن حزم، مع معرفته بالحديث، وانتصاره

ص: 249

لطريقة داود وأمثاله من نفاة القياس أصحاب الظاهر، قد بالغ في نفي الصفات وردها إلى العلم، مع أنه لا يثبت علماً هو صفة، ويزعم أن أسماء الله، كالعليم والقدير ونحوهما، لا تدل على العلم والقدرة، وينتسب إلى الأمام أحمد وأمثاله من أئمة السنة، ويدعي أن قوله هو قول أهل السنة والحديث، ويذم الأشعري وأصحابه ذماً عظيما، ويدعي أنهم خرجوا عن مذهب السنة والحديث في الصفات.

ومن المعلوم الذي لا يمكن مدافعته أن مذهب الأشعري وأصحابه في مسائل الصفات أقرب إلى مذهب أهل السنة والحديث من مذهب ابن حزم وأمثاله في ذلك.

ثم المتفلسفة الدهرية، كالفارابي وابن سينا يزعمون أن العقل يحيل معاد الأبدان، فيجب تقديم العقليات على دلالة السمع، ويخاطبون من أقر بالمعاد من المعتزلة وموافقيهم في نفي ذلك، بما تخاطب به المعتزلة المثبتة الصفات، ويقولون لهم: قولنا في نصوص المعاد كقولكم في نصوص الصفات.

ص: 250

وهكذا خاطبت القدرية من المعتزلة والشيعة وغيرهما لمتكلمة الإثبات في مسألة القدر، وقالت: القول في النصوص المثبتة للقدر، وأن الله خالق أفعال العباد، كالقول في نصوص الصفات.

وبهذا أجاب من أجاب من المعتزلة والشيعة لهؤلاء فقالوا في الجواب عما يحتج به هؤلاء من الحجج السمعية، على أن الله خالق أفعال العباد، من جهة الجملة ومن جهة التفصيل.

أما من جهة الجملة فمن وجوه:

أحدها: أنه إذا ثبت كونه تعالى عادلاً، لا يفعل قبيحا، ولا يخل بواجب في حكمته، وجب أن يكون للآيات التي يتعلقون بها وجوه لا تنافي ما ثبت من الدلالة، وإن لم تعلم الوجوه على سبيل التفصيل.

وقالوا: هذا كما نقول نحن وهم في الآيات التي تتعلق بها المشبهة في كون الله تعالى جسما، نحو قوله تعالى:{بل يداه مبسوطتان} [المائدة: 64] ، وما يجري مجرى ذلك من الآيات التي تفيد ظاهرها التشبيه، من أنه إذا ثبت أنه تعالى لا يشبه الأشياء وجب أن يكون لهذه الآيات وجوه تطابق أدلة العقول، وإن لم نعلمها على سبيل التفصيل.

فهذه الطريق التي سلكها هؤلاء القدرية، هي الطريق التي سلكها من وافقهم على نفي الصفات أو بعضها، من الجهمية، كجهم بن

ص: 251

صفوان، وحسين النجار، وضرار بن عمرو، وغيرهم، فإن هؤلاء يثبتون القدر، ويوافقون المعتزلة على نفي الصفات.

ومن المعلوم أن الحجج العقلية التي يحتج بها المعتزلة والشيعة ليس لها ضابط بل، قد سلك أبو الحسين البصري مسلكاً خالف فيه شيوخه، وادعى أن العلم بإحداثها ضروري.

فهذه وأضعافه مما يبين أنه ليس لما يدعى من العقليات التي يقال إنها تناقض النصوص ضابط، بل ذلك من باب الوساوس والخطرات التي لا تزال تحدث في النفوس.

فإذا جوز المجوز أن يكون لبعض ما أخبر الله به ورسوله معقول صريح يناقضه ويقدم عليه، لم يأمن أن يكون كل ما يسمعه من أخبار الله ورسوله من هذا الباب غايته أن يقول: ليس عندي من العقليات ما يناقض ذلك، أو لم أسمع، أو لم أجد، ونحو ذلك.

وهذا القدر لا ينفي أن يكون في نفس الأمر قضايا عقلية لم تصل إليه بعد، وإذا قال: العقل لا ينفي ما أقر به.

قيل له: أتريد بذلك أنك لم تعلم معقولاً ينافي ذلك، أو تعلم أنه ليس يمكن أن يكون في المعقول ما ينافي ذلك، إذا جوزت أن يقول في المعقول ما يناقض أخبار الرسول؟

فإن قلت بالأول، لم ينفعك ذلك.

وإن قلت بالثاني لم يكن كلامك صحيحا، لأنك جوزت أن يكون في المعقول ما يناقض أخبار الرسول.

ص: 252

ومع هذا فالجزم ينفي كل معقول جزم بلا علم، بخلاف المؤمن بجميع ما أخبر الله به، الذي يجزم بأنه ليس في المعقول ما يناقض منصوص الرسول، فإن هذا قد علم ذلك علماً يقيناً عاماً مطلقاً.

وإذا قال الذي يقر ببعض النصوص دون البعض، المضاهي لمن آمن ببعض الكتاب دون بعض: الذي نفيته يحيله العقل، والذي أقررته لا يحيله العقل، بل هو ممكن في العقل.

قيل له: أتعني بقولك: لا يحيله العقل، وهو ممكن في العقل: الإمكان الذهني أو الخارجي؟

فإن عنيت الإمكان الذهني: بمعنى أنه لم يقم دليل عقلي يحيله، فهذا لا ينفي أن يكون في نفس الأمر ما يحيله ولم تعلمه.

وإن عنيت به الإمكان الخارجي، وهو أنك علمت بعقلك أنه يمكن ذلك في الخارج، فهذا لا يتأتى لك في كثير من الأخبار.

وهؤلاء الذين يدعون أنهم يقررون إمكان ذلك بالعقل، يقول أحدهم: هذا لو فرضناه لم يلزم منه محال، كما يقول ذلك الآمدي ونحوه، أو يقول: هذا لا يفضي إلى قلب الأجناس، ولا تجوير الرب، ولا كذا ولا كذا، فيعددون أنواعاً محصورة من الممتنعات.

ومعلوم أن نفي محالات معدودة لا يستلزم نفي كل محال.

وقول القائل: لو فرضناه لم يلزم منه محال: إن أراد به: لا أعلم انه يلزم منه محال، لم ينفعه.

ص: 253

وإن قال: أعلم أنه لا يلزم منه محال، فهو لم يذكر دليلا على هذا العلم، فما الدليل على انه علم أنه لا يلزم منه محال؟

فتبين أن من جوز على خبر الله، أو خبر رسوله، أن يناقضه شيء من المعقول الصريح، لم يمكنه أن يصدق بعامة ما أخبر الله به ورسوله من الغيب، لا سيما والأمور الغائبة ليس للمخبرين بها خبرة يمكنهم أن يعلموا بعقولهم ثبوت ما أخبر به، أو انتفاء جميع ما تتخيله النفوس من المعارضات له.

بل إذا كانت الأمور المشاهدة الحسية، وما يبنى عليها من المعلوم العقلية، قد وقع فيها شبهات كثيرة عقلية تعارض ما علم بالحس أو العقل، وكثير من هذه الشبه السوفسطائية يعسر على كثير من الناس - أو أكثرهم - حلها، وبيان وجه فسادها، وإنما يعتصمون في ردها بأن هذا قدح فيما فيما علم بالحس أو الضرورة فلا يستحق الجواب، فيكون جوابهم عنها أنها معارضة للأمر المعلوم الذي لا ريب فيه، فيعلم أنها باطلة من حيث الجملة، وإن لم يذكر بطلانها على وجه التفصيل.

ولو قال قائل: هذه الأمور المعلومة لا تثبت إلا بالجواب عما يعارضها من الحجج السوفسطائية، لم يثبت لأحد علم بشيء من الأشياء، إذ لا نهاية لما يقوم بنفوس بعض الناس من الحجج السوفسطائية.

فهكذا تصديق خبر الله ورسوله، قد علم علماً يقينياً أنه صدق

ص: 254

مطابق لمخبره، وعلمنا بثبوت جميع ما أخبر به أعظم من علمنا بكل فرد من علومنا الحسية والعقلية، وإن كنا جازمين بجنس ذلك، فإن حسنا وعقلنا قد يعرض له من الغلط ما يقدح في بعض إدراكاته كالشبه السوفسطائية.

وأما خبر الله ورسوله فهو صدق، موافق لما الأمر عليه في نفسه، لا يجوز أن يكون شيء من أخبار باطلاً، ولا مخالفاً لما هو الأمر عليه في نفسه، ويعلم من حيث الجملة أن كل ما عارض شيئاً من أخباره وناقضه، فإنه باطل من جنس حجج السوفسطائية، وإن كان العالم بذلك قد لا يعلم وجه بطلان تلك الحجج المعارضة لأخباره.

وهذه حال المؤمنين للرسول، الذين علموا أنه رسول الله الصادق فيما يخبر به، يعلمون من حيث الجملة أن ما ناقض خبره فهو باطل، وأنه لا يجوز أن يعارض خبره دليل صحيح: لا عقلي ولا سمعي، وأن ما عارض أخباره من الأمور التي يحتج بها المعارضون ويسمونها عقليات، أو برهانيات، أو وجديات، أو ذوقيات، أو مخاطبات، أو مكاشفات، أو مشاهدات، أو نحو ذلك من الأمور الدهاشات، أو يسمون ذلك تحقيقاً، أو توحيداً، أو عرفاناً، أو حكمة حقيقية، أو فلسفة أو معارف يقينية، ونحو ذلك من الأسماء التي يسميها بها أصحابها، فنحن نعلم علماً يقينيا لا يحتمل النقيض أن تلك جهليات،

ص: 255

وضلالات، وخيالات وشبهات مكذوبات، وحجج سوفسطائية، وأوهام فاسدة، وأن تلك الأسماء ليست مطابقة لمسماها، بل هي من جنس تسمية الأوثان آلهة وأرباباً، وتسمية مسيلمة الكذاب وأمثاله أنبياء:{إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى} [النجم: 23] .

والمقصود أنه من جوز أن يكون فيما علمه بحسه وعقله حجج صحيحة تعارض ذلك، لم يثق بشيء من علمه، ولم يبقى له طريق إلى التصديق بشيء من ذلك.

فهكذا من جوز أن يكون فيما أخبر الله به ورسوله حجج صحيحة تعارض ذلك لم يثق بشيء من خبر الله ورسوله ولم يبق له طريق إلى التصديق بشيء من أخبار الله ورسوله.

ولهذا كان هؤلاء المعرضين عن الكتاب، المعارضين له، سوفسطائية منتهاهم السفسطة في العقليات، والقرمطة في السمعيات، يتأولون كلام الله وكلام رسوله بتأويلات يعلم بالاضطرار أن كلام الله ورسوله لم يردها بكلام، وينتهون في أدلتهم العقلية إلى ما يعلم فساده بالحس والضرورة العقلية.

ثم إن فضلاءهم يتفطنون لما بهم من ذلك فيصيرون في الشك والحيرة والارتياب، وهذا منتهى كل من عارض نصوص الكتاب.

ص: 256

وإذا كان قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن التصديق الجازم بما أخبر به الرسول حق واجب، وطريق هؤلاء تناقضه علم بالضرورة من دين الإسلام إن طريق هؤلاء فاسدة في دين الإسلام، وهذه هي طريقة أهل الإلحاد في أسماء الله وآياته.

وإذا كان ما أوجب الشك والريب ليس بدليل صحيح، وإنما الدليل ما أفاد العلم واليقين، وطريق هؤلاء لا يفيد العلم واليقين، بل يفيد الشك والحيرة، علم أنها فاسدة في العقل، كما أنها إلحاد ونفاق في الشرع.

وهذا كله بين لمن تدبره، والأمر فوق ما أصفه وأبينه، وهذا الموضع لا يحتمل البسط والإطناب، ولا ريب أن موجب الشرع أن من سلك هذه السبيل فإنه بعد قيام الحجة عليه كافر بما جاء به الرسول.

ولهذا كان السلف والأئمة يتكلمون في تكفير الجهمية النفاة بما لا يتكلمون به في تكفير غيرهم من أهل الأهواء والبدع، وذلك لأن الإيمان إيمان بالله وإيمان للرسول، فإن الرسول أخبر عن الله بما أخبر به عن أسماء الله وصفاته، ففي الإيمان خبر ومخبر به فالإيمان للرسول تصديق خبره، والإيمان بما أخبر به والإقرار بذلك والتصديق به.

ولهذا كان من الناس من يجعل الكفر بإزاء المخبر به كجحد الخالق وصفاته، ومنهم من يجعله بإزاء الخبر، وهو تكذيب الرسول.

وكلا الأمرين حق، فإن الإيمان والكفر يتعلق بهذا وبهذا، وكلام

ص: 257

الجهمية نفاة الصفات مناقض لخبر الرسول الصادق، ونفي لما هو ثابت لله من صفات كماله.

ومما يوضح الأمر في ذلك أنك لا تجد من سلك هذه السبيل وجوز على الأدلة السمعية أن يعارضها معقول صريح ينافيها إلا وعنده ريب في جنس خبر الله ورسوله، وليس لكلام الله ورسوله في قلبه من الحرمة ما يوجب تحقيق مضمون ذلك، فعلم أن هذا طريق إلحاد ونفاق، لا طريق علم وإيمان.

ونحن نبين فساد طريق هؤلاء بالطرق الإيمانية والقرآنية تارة، وبالأدلة التي يمكن أن يعقلها من لا يستدل بالقرآن والإيمان.

وذلك لأنا في مقام الخاطبة لمن يقر بأن ما أخبر به الرسول حق، ولكن قد يعارض ما جاء عنه عقليات يجب تقديمها عليه، وإذا كنا في مقام بيان فساد ما يعارضون به من العقليات على وجه التفصيل، فذلك- ولله الحمد- هو علينا من أيسر الأمور.

ونحن-ولله الحمد- قد تبين لنا بياناً لا يحتمل النقيض، فساد الحجج المعروفة للفلاسفة والجهمية والقدرية ونحوهم، التي يعارضون بها كتاب الله، وعلمنا بالعقل الصريح فساد أعظم ما يعتمدون عليه من ذلك، وهذا- ولله الحمد - مما زادنا الله به هدى وإيمانا، فإن فساد المعارض مما يؤيد معرفة الحق ويقويه، وكل من كان أعرف بفساد الباطل كان أعرف بصحة الحق.

ص: 258

ويروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انه قال: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية.

وهذا حال كثير ممن نشأ في عافية الإسلام وما عرف ما يعارضه ليتبين له فساده، فإن لا يكون في قلبه من تعظيم الإسلام مثل ما في قلب من عرف الضدين.

ومن الكلام السائر: (الضد يظهر حسنه الضد) ، (وبضدها تتبين الأشياء) .

والاعتبار والقياس نوعان: قياس الطرد وقياس العكس.

فقياس الطرد اعتبار الشيء بنظيره، حتى يجعل حكمه مثل حكمه.

وقياس العكس اعتبار الشيء بنقيضه، حتى يعلم أن حكمه نقيض حكمه.

وقوله تعالى: {فاعتبروا يا أولي الأبصار} [الحشر: 2] ، يتناول الأمرين، فيعتبر العاقل بتعذيب الله لمن كذب رسله، كما فعل ببني النضير، حتى يرغب في نقيض ذلك، ويرهب من نظير ذلك، فيستعمل قياس الطرد في الرهبة، وقياس العكس في الرغبة.

ومن أمثلة قياس العكس: قياس من يحتج على أن الوتر ليس بواجب، «فإنه يفعل على الراحلة بسنة النبي صلى الله عليه وسلم» .

ص: 259

والواجبات لا تفعل على الراحلة، والنوافل تفعل على الراحلة، فلما كان مفعولاً على الراحلة، كان حكمه عكس حكم الفرائض، ونقيض حكم الفرائض، ومثل حكم النوافل، فيقاس بالواجبات قياس العكس، وبالنوافل قياس الطرد.

وكذلك إذا قيل: دم السمك طاهر، لأنه لو كان نجساً لوجب سفحه بالتذكية، لأن الدماء النجسة يجب سفحها بالتذكية، فلما لم يجب سفحه، كان حكمه نقيض حكمها، وكان ملحقاً بالرطوبات الطاهرة التي لا تسفح.

وفي الحقيقة فكل قياس يجتمع في قياس الطرد والعكس، فقياس الطرد هو الجمع والتسوية بينه وبين نظيره، وقياس العكس هو الفرق والمخالفة بينه وبين مخالفه.

فالقايس المعتبر ينظر في الشيء فيلحقه بما يماثله لا بما يخالفه، ويبين له حكمه في اعتباره بهذا وهذا.

والمقصود هنا أن معرفة ما يعارض الكتاب والمرسلين، كنبوة مسيلمة ونحوه من الكذابين، وأقاويل أهل الإلحاد الذين يعارضون بعقولهم وذوقهم ما جاء به الرسول، كلما ازداد العارف معرفة بها وبما جاء به الرسول، تبين له صدق ما جاء به الرسول وبيانه وبرهانه، وبطلان هذه وفسادها وكذبها، كما إذا قدر مفتيان أو قاضيان أو محدثان أحدهما يتكلم بعلم وعدل، والآخر بجهل وظلم، فإنه كلما اعتبرت أحدهما بالآخر ظهرت

ص: 260

الحقيقة الفارقة بينهما، وكذلك الصانعان اللذان أحدهما قادر ناصح، والآخر عاجز غاش، وكذلك التاجران اللذان أحدهما صادق أمين، والآخر كاذب خؤون، وكذلك المتوليان اللذان أحدهما قوى أمين، والآخر عاجز خائن، وأمثاله ذلك.

فنحن - ولله الحمد - قد تبين لنا من فساد الأقاويل المعارضة لقول الرسول ما ليس هذا المقام مقام تفصيله، فإنه يحتاج أن نتكلم في كل مسألة من مسائل الدين، ونستوفي حجج المبطلين فيها، ونتبين فسادها، وليس هذا الموضع استيفاء ذلك.

وإنما المقصود بيان فساد القانون الزائغ الذي يقدمون به مذاهبهم المبتدعة على النصوص من كلام الله ورسوله، وهم قد وضعوا عبارات مجملة مشتبهة، لبسوا بها على كثير ممن عنده إيمان بالله ورسوله، من كبار أهل العلم والدين، وأولئك لم يعرفوا حقيقة ما في تلك الأقوال من الإلحاد، فقبلوها ممن ابتدعها من أهل النفاق.

كما قاتل الله تعالى عن المنافقين: {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم} [التوبة: 47] بين سبحانه أن المنافقين لو خرجوا في غزوة ما زادوا المؤمنين إلا خبالا، ولأوضعوا - أي أسرعوا- خلالهم، أي بينهم، يطلبون لهم الفتنة، وفي المؤمنين من يقبل منهم- وهم السماعون لهم - أي يستجيبون لهم، ليس المراد من ينقل الأخبار إليهم، كما يظنه بعض الناس.

بل هذا نظير قوله: {سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم

ص: 261

يأتوك} [المائدة: 41] ، أي يسمعون الكذب فيقبلونه ويصدقونه، ويسمعون لقوم آخرين لم يأتوك فيستجيبون لهم، فبين أنهم يصدقون الكذب، ويستجيبون لمن يخالف الرسول.

وأما من ظن أن المراد بقوله: {سماعون لهم} أنهم جواسيس لمن غاب وأخذ حكم الجاسوس من هذه الآية، فقد غلط، فإن ما كان يظهره النبي صلى الله عليه وسلم حتى يسمعه المنافقون واليهود لم يكن مما يكتمه حتى يكون نقله جساً عليه، وإنما المراد انهم سماعون الكذب، أي يصدقون به، سماعون: أي مستجيبون لقوم آخرين مخالفين للرسول، وهذه حال كل من خرج عن الكتاب والسنة، فإن لا بد أن يصدق الكذب، فيكون من السماعين للكذب، ولا بد أي يستجيب لغير الله والرسول، فيكون سماعاً لقوم آخرين لم يتبعوا الرسول.

وهؤلاء لهم نصيب من قوله تعالى: {ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا * يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا * لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا} [الفرقان: 27-29]، وقوله:{يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا * وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا} [الأحزاب: 66-68] .

فتبين أن أصل طريق من يعارض النصوص النبوية برأيه

ص: 262

وعقله، هي طريق أهل النفاق والإلحاد وطريق أهل الجهل والارتياب، لا طريق ذي عقل ولا ذي دين.

كما قال تعالى: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير} [الحج: 8] .

وقال تعالى: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد * كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير} [الحج: 3-4] .

فإنه قد يقال: هذه حال كل من عارض آيات الله بمعقوله، فإنه لا علم عنده، إذ ذلك المعارض، وإن سماه معقولا، فإنه جهل وضلال، فليس بعلم ولا عقل ولا هدى، إذ لا إيمان عنده ليكون مهتدياً، فإن المهتدين الذين على هدى من ربهم هم مؤمنون بما جاء به الرسول، ولا كتاب منير، فإن الكتاب المنير لا يناقض كتاب الله.

وهؤلاء المعارضون ليس عندهم لا علم ولا إيمان ولا قرآن فهم يجادلون في آيات الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.

واسم (العلم) يتناول هذا وهذا، ولكن هو من باب عطف الخاص على العام، ولهذا ذكر تارة وحذف أخرى.

وذلك أنه قد يقال: إنه سبحانه ذكر ثلاثة أصناف: صنف يجادل

ص: 263

في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد، مكتوب عليه إضلال من تولاه.

وهذه حال المتبع لمن يضله.

وصنف يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله، وهذه حال المتبوع المستكبر الضال عن سبيل الله.

ثم ذكر حال من يعبد الله على حرف، وهذه حال المتبع لهواه، الذي إن حصل له ما يهواه من الدنيا عبد الله، وإن أصابه ما يمتحن به في دنياه ارتد عن دينه، فهذه حال من كان مريضاً في إرادته وقصده، وهي حال أهل الشهوات والأهواء.

ولهذه ذكر الله ذلك في العبادة التي أصلها القصد والإرادة، وأما الأولان: فحال الضال والمضل، وذلك مرض في العلم والمعرفة، وهي حال أهل الشبهات والنظر الفاسد والجدال بالباطل.

فإنه تعالى يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات، ولا بد للعبد من معرفة الحق وقصده.

كما قال: {اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} [الفاتحة: 6-7] فمن لم يعرفه كان ضالاً، ومن علم ولم يتبعه كان مغضوباً عليه.

كما أن أول الخير الهدى، ومنتهاه الرحمة والرضوان، فذكر سبحانه ما

ص: 264

يعرض في العلم من الضلال والإضلال، وما يعرض في الإرادة من اتباع الشهوات، كما جمع بينهما في قوله:{إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى} [النجم: 23] .

فقال أولا: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم} [الحج: 3] ، وكل من جادل في الله بغير هدى ولا كتاب منير، فقد جادل بغير علم أيضا، فنفي العلم يقتضي نفي كل ما يكون علماً بأي طريق حصل، وذلك ينفي أن يكون مجادلاً بهدىً أو كتاب منير، ولكن هذه حال الضال المتبع لمن يضله، فلم يحتج إلى تفصيل، فبين أنه يجادل بغير علم ويتبع كل شيطان مريد، كتب على ذلك الشيطان أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير.

وهذه حال مقلد أئمة الضلال بين أهل الكتاب وأهل البدع، فإنهم يجادلون في الله بغير علم، ويتبعون من شياطين الجن والإنس من يضلهم.

ثم ذكر حال المتبوع الذي يثنى عطفيه تكبراً كما قال: {وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها} [لقمان: 7] .

وقال: {فلا صدق ولا صلى * ولكن كذب وتولى * ثم ذهب إلى أهله يتمطى} [القيامة: 31 -33] .

وهذا النوع يجادل ليضل عن سبيل الله، وجداله بغير علم أيضا، ولكن فصل حاله، فبين أنه لا يجادل بهدىً كأيمان المؤمن، ولا بكتاب

ص: 265

منير كالجدال بكتاب منزل من السماء، فليس معه علم من هذا الطريق ولا من غيرها.

كما قال تعالى: {فلا صدق ولا صلى} [القيامة: 31] وكل من لم يصدق لم يصل.

وقال تعالى: {لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخائضين * وكنا نكذب بيوم الدين} [المدثر: 43-46] .

وقال تعالى: {إنه كان لا يؤمن بالله العظيم * ولا يحض على طعام المسكين} [الحاقة: 33-34] .

ومثل هذا كثير، قد ينفي الشيء الذي نفيه يستلزم نفي غيره، لكن تذكر تلك اللوازم على سبيل التصريح للفرق بين دلالة اللوازم ودلالة المطابقة، كما قد ذكرنا نحو ذلك في قوله تعالى:{ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق} [البقرة: 42] ، وأن كل من لبس بالباطل فلا بد أن يكتم بعض الحق، وبينا أن هذا ليس من باب النهي عن المجموع المقتضي لجواز أحدهما، ولا من باب النهي عن فعلين متباينين، حتى لا يعاد فيه حرف النفي، بل هو من باب النهي عن المتلازمات.

كما يقال لا تكفر وتكذب بالرسول، ولا تجادل في الله بغير علم ولا هدىً ولا كتاب منير.

والمقصود أن كل من عارض كتاب الله بمعقوله أو وجده، أو ذوقه،

ص: 266

وناظر على ذلك، فقد جادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ليضل عن سبيل الله، فإن كتاب الله هو سبيل الله.

ولهذا فسر النبي صلى الله عليه وسلم الصراط المستقيم بكتاب الله، وفسره بالإسلام، كلاهما مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففي حديث النواس بن سمعان، النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «ضرب الله مثلاً صراطا مستقيما، وعلى جنبتي الصراط سوران، وفي السورين أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وداع من فوق الصراط، وداع على رأس الصراط.

فالصراط المستقيم هو الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، والداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم، فإذا أراد العبد أن يفتح باباً من تلك الأبواب دعاه الداعي،: يا عبد الله لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه» رواه الإمام أحمد، والترمذي وصححه.

ومن المعلوم أن من أعظم المحارم معارضة كتاب الله بما يناقضه ويقدم ذلك عليه.

وفي حديث علي رضي الله عنه الذي رواه الترمذي، وأبو نعيم من عدة

ص: 267