الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فصل فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْجَنَائِزِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهَا وَاتِّبَاعِهَا وَدَفْنِهَا]
، وَمَا كَانَ يَدْعُو بِهِ لِلْمَيِّتِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَبَعْدَ الدَّفْنِ وَتَوَابِعِ ذَلِكَ
كَانَ هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْجَنَائِزِ أَكْمَلَ الْهَدْيِ مُخَالِفًا لِهَدْيِ سَائِرِ الْأُمَمِ، مُشْتَمِلًا عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَى الْمَيِّتِ وَمُعَامَلَتِهِ بِمَا يَنْفَعُهُ فِي قَبْرِهِ وَيَوْمَ مَعَادِهِ، وَعَلَى الْإِحْسَانِ إِلَى أَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ وَعَلَى إِقَامَةِ عُبُودِيَّةِ الْحَيِّ لِلَّهِ وَحْدَهُ فِيمَا يُعَامِلُ بِهِ الْمَيَّتَ. وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ فِي الْجَنَائِزِ إِقَامَةُ الْعُبُودِيَّةِ لِلرَّبِّ تبارك وتعالى عَلَى أَكْمَلِ الْأَحْوَالِ وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْمَيِّتِ، وَتَجْهِيزُهُ إِلَى اللَّهِ عَلَى أَحْسَنِ أَحْوَالِهِ وَأَفْضَلِهَا، وَوُقُوفُهُ وَوُقُوفُ أَصْحَابِهِ صُفُوفًا يَحْمَدُونَ اللَّهَ وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ، وَيَسْأَلُونَ لَهُ الْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ وَالتَّجَاوُزَ عَنْهُ، ثُمَّ الْمَشْيُ بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى أَنْ يُودِعُوهُ حُفْرَتَهُ، ثُمَّ يَقُومُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى قَبْرِهِ سَائِلِينَ لَهُ التَّثْبِيتَ أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهِ، ثُمَّ يَتَعَاهَدُهُ بِالزِّيَارَةِ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ، وَالدُّعَاءِ لَهُ كَمَا يَتَعَاهَدُ الْحَيُّ صَاحِبَهُ فِي دَارِ الدُّنْيَا.
فَأَوَّلُ ذَلِكَ: تَعَاهُدُهُ فِي مَرَضِهِ، وَتَذْكِيرُهُ الْآخِرَةَ وَأَمْرُهُ بِالْوَصِيَّةِ، وَالتَّوْبَةِ، وَأَمْرُ مَنْ حَضَرَهُ بِتَلْقِينِهِ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لِتَكُونَ آخِرَ كَلَامِهِ، ثُمَّ النَّهْيُ عَنْ
عَادَةِ الْأُمَمِ الَّتِي لَا تُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، مِنْ لَطْمِ الْخُدُودِ، وَشَقِّ الثِّيَابِ، وَحَلْقِ الرُّءُوسِ، وَرَفْعِ الصَّوْتِ بِالنَّدْبِ، وَالنِّيَاحَةِ وَتَوَابِعِ ذَلِكَ.
وَسَنَّ الْخُشُوعَ لِلْمَيِّتِ، وَالْبُكَاءَ الَّذِي لَا صَوْتَ مَعَهُ، وَحُزْنَ الْقَلْبِ، وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَيَقُولُ:( «تَدْمَعُ الْعَيْنُ وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يُرْضِي الرَّبَّ» )
وَسَنَّ لِأُمَّتِهِ الْحَمْدَ وَالِاسْتِرْجَاعَ، وَالرِّضَى عَنِ اللَّهِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُنَافِيًا لِدَمْعِ الْعَيْنِ وَحُزْنِ الْقَلْبِ، وَلِذَلِكَ كَانَ أَرْضَى الْخَلْقِ عَنِ اللَّهِ فِي قَضَائِهِ، وَأَعْظَمَهُمْ لَهُ حَمْدًا، وَبَكَى مَعَ ذَلِكَ يَوْمَ مَوْتِ ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ رَأْفَةً مِنْهُ، وَرَحْمَةً لِلْوَلَدِ، وَرِقَّةً عَلَيْهِ، وَالْقَلْبُ مُمْتَلِئٌ بِالرِّضَى، عَنِ اللَّهِ عز وجل وَشُكْرِهِ، وَاللِّسَانُ مُشْتَغِلٌ بِذِكْرِهِ وَحَمْدِهِ.
وَلَمَّا ضَاقَ هَذَا الْمَشْهَدُ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ عَلَى بَعْضِ الْعَارِفِينَ يَوْمَ مَاتَ وَلَدُهُ، جَعَلَ يَضْحَكُ، فَقِيلَ لَهُ: أَتَضْحَكُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؟ قَالَ: ( «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَضَى بِقَضَاءٍ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَرْضَى بِقَضَائِهِ» ) فَأَشْكَلَ هَذَا عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَقَالُوا: كَيْفَ يَبْكِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ مَاتَ ابْنُهُ إِبْرَاهِيمُ وَهُوَ أَرْضَى الْخَلْقِ عَنِ اللَّهِ، وَيَبْلُغُ الرِّضَى بِهَذَا الْعَارِفِ إِلَى أَنْ يَضْحَكَ، فَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابن تيمية يَقُولُ: هَدْيُ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم كَانَ أَكْمَلَ مِنْ هَدْيِ هَذَا الْعَارِفِ، فَإِنَّهُ أَعْطَى الْعُبُودِيَّةَ حَقَّهَا، فَاتَّسَعَ قَلْبُهُ لِلرِّضَى عَنِ اللَّهِ، وَلِرَحْمَةِ الْوَلَدِ، وَالرِّقَّةِ عَلَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ، وَرَضِيَ عَنْهُ فِي قَضَائِهِ، وَبَكَى رَحْمَةً وَرَأْفَةً، فَحَمَلَتْهُ الرَّأْفَةُ عَلَى الْبُكَاءِ، وَعُبُودِيَّتُهُ لِلَّهِ، وَمَحَبَّتُهُ لَهُ عَلَى الرِّضَى وَالْحَمْدِ، وَهَذَا الْعَارِفُ ضَاقَ قَلْبُهُ عَنِ اجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ، وَلَمْ يَتَّسِعْ بَاطِنُهُ لِشُهُودِهِمَا وَالْقِيَامِ بِهِمَا، فَشَغَلَتْهُ عُبُودِيَّةُ الرِّضَى عَنْ عُبُودِيَّةِ الرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ.