الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَفِي الْمُسْنَدِ مِنْ حَدِيثِ أبي لبابة بن عبد المنذر، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «سَيِّدُ الْأَيَّامِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَأَعْظَمُهَا عِنْدَ اللَّهِ، وَأَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ، وَيَوْمِ الْأَضْحَى، وَفِيهِ خَمْسُ خِصَالٍ، خَلَقَ اللَّهُ فِيهِ آدَمَ، وَأَهْبَطَ اللَّهُ فِيهِ آدَمَ إِلَى الْأَرْضِ، وَفِيهِ تَوَفَّى اللَّهُ عز وجل آدَمَ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يَسْأَلُ اللَّهَ الْعَبْدُ فِيهَا شَيْئًا إِلَّا آتَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ مَا لَمْ يَسْأَلْ حَرَامًا، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، مَا مِنْ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَلَا أَرْضٍ وَلَا رِيَاحٍ وَلَا بَحْرٍ وَلَا جِبَالٍ وَلَا شَجَرٍ إِلَّا وَهُنَّ يُشْفِقْنَ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ» .
[فصل في بَيَانُ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي سَاعَةِ الْإِجَابَةِ]
فَصْلٌ
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ: هَلْ هِيَ بَاقِيَةٌ أَوْ قَدْ رُفِعَتْ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، حَكَاهُمَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ، وَالَّذِينَ قَالُوا: هِيَ بَاقِيَةٌ وَلَمْ تُرْفَعْ، اخْتَلَفُوا هَلْ هِيَ فِي وَقْتٍ مِنَ الْيَوْمِ بِعَيْنِهِ أَمْ هِيَ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ تَعْيِينِهَا: هَلْ هِيَ تَنْتَقِلُ فِي سَاعَاتِ الْيَوْمِ، أَوْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ أَيْضًا، وَالَّذِينَ قَالُوا بِتَعْيِينِهَا اخْتَلَفُوا عَلَى أَحَدَ عَشَرَ قَوْلًا.
قَالَ ابن المنذر: رُوِّينَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: هِيَ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَبَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ.
الثَّانِي: أَنَّهَا عِنْدَ الزَّوَالِ، ذَكَرَهُ ابن المنذر عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وأبي العالية.
الثَّالِثُ: أَنَّهَا إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، قَالَ ابن المنذر: رُوِّينَا ذَلِكَ عَنْ عائشة رضي الله عنها.
الرَّابِعُ: أَنَّهَا إِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ حَتَّى يَفْرُغَ، قَالَ ابن المنذر رُوِّينَاهُ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ.
الْخَامِسُ: قَالَهُ أبو بردة: هِيَ السَّاعَةُ الَّتِي اخْتَارَ اللَّهُ وَقْتَهَا لِلصَّلَاةِ.
السَّادِسُ: قَالَهُ أبو السوار العدوي وَقَالَ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الدَّعَاءَ مُسْتَجَابٌ مَا بَيْنَ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى أَنْ تَدْخُلَ الصَّلَاةُ.
السَّابِعُ: قَالَهُ أبو ذر: إِنِّهَا مَا بَيْنَ أَنْ تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ شِبْرًا إِلَى ذِرَاعٍ.
الثَّامِنُ: أَنَّهَا مَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، قَالَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، وعطاء وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَطَاوُسٌ، حَكَى ذَلِكَ كُلَّهُ ابن المنذر.
التَّاسِعُ: أَنَّهَا آخِرُ سَاعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَهُوَ قَوْلُ أحمد وَجُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
الْعَاشِرُ: أَنَّهَا مِنْ حِينِ خُرُوجِ الْإِمَامِ إِلَى فَرَاغِ الصَّلَاةِ، حَكَاهُ النووي وَغَيْرُهُ.
الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّهَا السَّاعَةُ الثَّالِثَةُ مِنَ النَّهَارِ، حَكَاهُ صَاحِبُ " الْمُغْنِي " فِيهِ. وَقَالَ كعب: لَوْ قَسَّمَ الْإِنْسَانُ جُمُعَةً فِي جُمَعٍ، أَتَى عَلَى تِلْكَ السَّاعَةِ. وَقَالَ عمر: إِنَّ طَلَبَ حَاجَةٍ فِي يَوْمٍ لَيَسِيرٌ.
وَأَرْجَحُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ: قَوْلَانِ تَضَمَّنَتْهُمَا الْأَحَادِيثُ الثَّابِتَةُ، وَأَحَدُهُمَا أَرْجَحُ مِنَ الْآخَرِ.
الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مِنْ جُلُوسِ الْإِمَامِ إِلَى انْقِضَاءِ الصَّلَاةِ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ مَا رَوَى مسلم فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى، «أَنَّ عبد الله بن عمر قَالَ لَهُ: أَسَمِعْتَ أَبَاكَ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي شَأْنِ سَاعَةِ الْجُمُعَةِ شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " هِيَ مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الْإِمَامُ إِلَى أَنْ تُقْضَى الصَّلَاةُ» ".
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عمرو بن عوف المزني، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ فِي الْجُمُعَةِ سَاعَةً لَا يَسْأَلُ اللَّهَ الْعَبْدُ فِيهَا شَيْئًا إِلَّا آتَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيَّةُ سَاعَةٍ هِيَ؟ قَالَ: " حِينَ تُقَامُ الصَّلَاةُ إِلَى الِانْصِرَافِ مِنْهَا» ".
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا بَعْدَ الْعَصْرِ، وَهَذَا أَرْجَحُ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَخَلْقٍ. وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ مَا رَوَاهُ أحمد فِي " مُسْنَدِهِ " مِنْ حَدِيثِ أبي سعيد وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «إِنَّ فِي الْجُمُعَةِ سَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا خَيْرًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ وَهِيَ بَعْدَ
الْعَصْرِ» ".
وَرَوَى أبو داود وَالنَّسَائِيُّ عَنْ جابر عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «يَوْمُ الْجُمُعَةِ اثْنَا عَشَرَ سَاعَةً، فِيهَا سَاعَةٌ لَا يُوجَدُ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ، فَالْتَمِسُوهَا آخِرَ سَاعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ» .
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي " سُنَنِهِ " عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اجْتَمَعُوا فَتَذَاكَرُوا السَّاعَةَ الَّتِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَتَفَرَّقُوا وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهَا آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ.
وَفِي " مُسْنَدِ أحمد " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:«قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَيِّ شَيْءٍ سُمِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ؟ قَالَ: لِأَنَّ فِيهَا طُبِعَتْ طِينَةُ أَبِيكَ آدَمَ، وَفِيهَا الصَّعْقَةُ وَالْبَعْثَةُ وَفِيهَا الْبَطْشَةُ، وَفِي آخِرِ ثَلَاثِ سَاعَاتٍ مِنْهَا سَاعَةٌ مَنْ دَعَا اللَّهَ فِيهَا اسْتُجِيبَ لَهُ» ".
وَفِي " سُنَنِ أبي داود " وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ؛ فِيهِ خُلِقَ آدَمُ وَفِيهِ أُهْبِطَ وَفِيهِ تِيبَ عَلَيْهِ وَفِيهِ مَاتَ وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا وَهِيَ مُصِيخَةٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ حِينِ تُصْبِحُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ شَفَقًا مِنَ السَّاعَةِ إِلَّا الْجِنَّ وَالْإِنْسَ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ عز وجل حَاجَةً إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهَا» " قَالَ كعب: ذَلِكَ فِي كُلِّ سَنَةٍ يَوْمٌ؟ فَقُلْتُ: بَلْ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ قَالَ: فَقَرَأَ كعب التَّوْرَاةَ فَقَالَ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: ثُمَّ لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ فَحَدَّثْتُهُ بِمَجْلِسِي مَعَ كعب فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: وَقَدْ عَلِمْتُ أَيَّةَ سَاعَةٍ هِيَ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ أَخْبِرْنِي بِهَا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: هِيَ آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَقُلْتُ: كَيْفَ هِيَ آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ يُصَلِّي» " وَتِلْكَ السَّاعَةُ لَا يُصَلَّى فِيهَا؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " «مَنْ جَلَسَ مَجْلِسًا يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ فَهُوَ فِي صَلَاةٍ حَتَّى يُصَلِّيَ» "؟ قَالَ: فَقُلْتُ: بَلَى. فَقَالَ: هُوَ ذَاكَ.
قَالَ الترمذي: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " بَعْضُهُ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّهَا مِنْ حِينِ يَفْتَتِحُ الْإِمَامُ الْخُطْبَةَ إِلَى فَرَاغِهِ مِنَ الصَّلَاةِ، فَاحْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ مسلم فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: قَالَ عبد الله بن عمر: «أَسَمِعْتَ أَبَاكَ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي شَأْنِ سَاعَةِ الْجُمُعَةِ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " هِيَ مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الْإِمَامُ إِلَى أَنْ يَقْضِيَ الْإِمَامُ الصَّلَاةَ» .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: هِيَ سَاعَةُ الصَّلَاةِ، فَاحْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ الترمذي وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عمرو بن عوف المزني، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «إِنَّ فِي الْجُمُعَةِ لَسَاعَةً لَا يَسْأَلُ اللَّهَ الْعَبْدُ فِيهَا شَيْئًا إِلَّا آتَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيَّةُ سَاعَةٍ هِيَ؟ قَالَ: " حِينَ تُقَامُ الصَّلَاةُ إِلَى الِانْصِرَافِ مِنْهَا» ". وَلَكِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ، قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هُوَ حَدِيثٌ لَمْ يَرْوِهِ فِيمَا عَلِمْتُ إِلَّا كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَلَيْسَ هُوَ مِمَّنْ يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ.
وَقَدْ رَوَى رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ عَنْ عوف عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أبي بردة عن أبي موسى أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: هِيَ السَّاعَةُ الَّتِي يَخْرُجُ فِيهَا الْإِمَامُ إِلَى أَنْ تُقْضَى الصَّلَاةُ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَصَابَ اللَّهُ بِكَ.
وَرَوَى عبد الرحمن بن حجيرة، عَنْ أبي ذر أَنَّ امْرَأَتَهُ سَأَلَتْهُ عَنِ السَّاعَةِ الَّتِي يُسْتَجَابُ فِيهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِلْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ، فَقَالَ لَهَا: هِيَ مَعَ رَفْعِ الشَّمْسِ بِيَسِيرٍ، فَإِنْ سَأَلْتِنِي بَعْدَهَا فَأَنْتِ طَالِقٌ.
وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ " وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي " وَبَعْدَ الْعَصْرِ لَا صَلَاةَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَالْأَخْذُ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ أَوْلَى. قَالَ أبو عمر: يَحْتَجُّ أَيْضًا مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا بِحَدِيثِ علي، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: " «إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ وَفَاءَتِ الْأَفْيَاءُ وَرَاحَتِ الْأَرْوَاحُ، فَاطْلُبُوا إِلَى اللَّهِ حَوَائِجَكُمْ فَإِنَّهَا
سَاعَةُ الْأَوَّابِينَ، ثُمَّ تَلَا:{فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء: 25] » [الْإِسْرَاءِ: 25] ".
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: السَّاعَةُ الَّتِي تُذْكَرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إِذَا صَلَّى الْعَصْرَ لَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَهَذَا هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ السَّلَفِ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ. وَيَلِيهِ الْقَوْلُ بِأَنَّهَا سَاعَةُ الصَّلَاةِ، وَبَقِيَّةُ الْأَقْوَالِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا.
وَعِنْدِي أَنَّ سَاعَةَ الصَّلَاةِ سَاعَةٌ تُرْجَى فِيهَا الْإِجَابَةُ أَيْضًا، فَكِلَاهُمَا سَاعَةُ إِجَابَةٍ، وَإِنْ كَانَتِ السَّاعَةُ الْمَخْصُوصَةُ هِيَ آخِرَ سَاعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَهِيَ سَاعَةٌ مُعَيَّنَةٌ مِنَ الْيَوْمِ لَا تَتَقَدَّمُ وَلَا تَتَأَخَّرُ، وَأَمَّا سَاعَةُ الصَّلَاةِ فَتَابِعَةٌ لِلصَّلَاةِ، تَقَدَّمَتْ أَوْ تَأَخَّرَتْ؛ لِأَنَّ لِاجْتِمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَصَلَاتِهِمْ وَتَضَرُّعِهِمْ وَابْتِهَالِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى تَأْثِيرًا فِي الْإِجَابَةِ، فَسَاعَةُ اجْتِمَاعِهِمْ سَاعَةٌ تُرْجَى فِيهَا الْإِجَابَةُ، وَعَلَى هَذَا تَتَّفِقُ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا، وَيَكُونُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ حَضَّ أُمَّتَهُ عَلَى الدُّعَاءِ وَالِابْتِهَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي هَاتَيْنِ السَّاعَتَيْنِ.
وَنَظِيرُ هَذَا «قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى فَقَالَ: " هُوَ مَسْجِدُكُمْ هَذَا " وَأَشَارَ إِلَى مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ» . وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ مُؤَسَّسًا عَلَى التَّقْوَى، بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا مُؤَسَّسٌ عَلَى التَّقْوَى.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي سَاعَةِ الْجُمُعَةِ " «هِيَ مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الْإِمَامُ إِلَى أَنْ تَنْقَضِيَ الصَّلَاةُ» " لَا يُنَافِي قَوْلَهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ " «فَالْتَمِسُوهَا آخِرَ سَاعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ» ".
وَيُشْبِهُ هَذَا فِي الْأَسْمَاءِ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم: " «مَا تَعُدُّونَ الرَّقُوبَ فِيكُمْ؟ قَالُوا: مَنْ لَمْ يُولَدْ لَهُ قَالَ " الرَّقُوبُ مَنْ لَمْ يُقَدِّمْ مِنْ وَلَدِهِ شَيْئًا» ".
فَأَخْبَرَ أَنَّ هَذَا هُوَ الرَّقُوبُ إِذْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِنْ وَلَدِهِ مِنَ الْأَجْرِ مَا حَصَلَ لِمَنْ قَدَّمَ مِنْهُمْ فَرَطًا، وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنْ يُسَمَّى مَنْ لَمْ يُولَدْ لَهُ رَقُوبًا.
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَا تَعُدُّونَ الْمُفْلِسَ فِيكُمْ؟ قَالُوا: مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ. قَالَ " الْمُفْلِسُ مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ الْجِبَالِ، وَيَأْتِي وَقَدْ لَطَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، فَيَأْخُذُ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ» " الْحَدِيثَ.
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: " «لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَا يَسْأَلُ النَّاسَ وَلَا يُتَفَطَّنُ لَهُ. فَيُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ» ".
وَهَذِهِ السَّاعَةُ هِيَ آخِرُ سَاعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، يُعَظِّمُهَا جَمِيعُ أَهْلِ الْمِلَلِ. وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ هِيَ سَاعَةُ الْإِجَابَةِ وَهَذَا مِمَّا لَا غَرَضَ لَهُمْ فِي تَبْدِيلِهِ وَتَحْرِيفِهِ، وَقَدِ اعْتَرَفَ بِهِ مُؤْمِنُهُمْ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِتَنَقُّلِهَا، فَرَامَ الْجَمْعَ بِذَلِكَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ كَمَا قِيلَ ذَلِكَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَهَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ، فَإِنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ قَدْ قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:" «فَالْتَمِسُوهَا فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى» ". وَلَمْ يَجِئْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي سَاعَةِ الْجُمُعَةِ.
وَأَيْضًا فَالْأَحَادِيثُ الَّتِي فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ لَيْسَ فِيهَا حَدِيثٌ صَرِيحٌ بِأَنَّهَا لَيْلَةُ كَذَا وَكَذَا، بِخِلَافِ أَحَادِيثِ سَاعَةِ الْجُمُعَةِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا.
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا رُفِعَتْ فَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ رُفِعَتْ، وَهَذَا الْقَائِلُ إِنْ أَرَادَ أَنَّهَا كَانَتْ مَعْلُومَةً، فَرُفِعَ عِلْمُهَا عَنِ الْأُمَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: لَمْ يُرْفَعْ عِلْمُهَا عَنْ كُلِّ الْأُمَّةِ وَإِنْ رُفِعَ عَنْ بَعْضِهِمْ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ حَقِيقَتَهَا وَكَوْنَهَا سَاعَةَ إِجَابَةٍ رُفِعَتْ، فَقَوْلٌ بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ، فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ فِيهِ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ الَّتِي خُصَّتْ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ بِخَصَائِصَ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهَا مِنَ الِاجْتِمَاعِ وَالْعَدَدِ الْمَخْصُوصِ وَاشْتِرَاطِ الْإِقَامَةِ، وَالِاسْتِيطَانِ، وَالْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ. وَقَدْ جَاءَ مِنَ
التَّشْدِيدِ فِيهَا مَا لَمْ يَأْتِ نَظِيرُهُ إِلَّا فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ، فَفِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ حَدِيثِ أبي الجعد الضمري - وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ - إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:( «مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ» ) قَالَ الترمذي: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَسَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ عَنِ اسْمِ أبي الجعد الضمري فَقَالَ: لَمْ يُعْرَفِ اسْمُهُ، وَقَالَ: لَا أَعْرِفُ لَهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا هَذَا الْحَدِيثَ.
وَقَدْ جَاءَ فِي السُّنَنِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «الْأَمْرُ لِمَنْ تَرَكَهَا أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِينَارٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَنِصْفُ دِينَارٍ» . رَوَاهُ أبو داود وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ قدامة بن وبرة عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ. وَلَكِنْ قَالَ أحمد: قدامة بن وبرة لَا يُعْرَفُ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: ثِقَةٌ، وَحُكِيَ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ سَمَاعُهُ مِنْ سمرة.
وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ فَرْضُ عَيْنٍ إِلَّا قَوْلًا يُحْكَى عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَهَذَا غَلَطٌ عَلَيْهِ مَنْشَؤُهُ أَنَّهُ قَالَ: وَأَمَّا صَلَاةُ الْعِيدِ فَتَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ، فَظَنَّ هَذَا الْقَائِلُ أَنَّ الْعِيدَ لَمَّا كَانَتْ فَرْضَ كِفَايَةٍ كَانَتِ الْجُمُعَةُ كَذَلِكَ. وَهَذَا فَاسِدٌ، بَلْ هَذَا نَصٌّ مِنَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْعِيدَ وَاجِبٌ عَلَى الْجَمِيعِ، وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ
يَكُونَ فَرْضَ عَيْنٍ كَالْجُمُعَةِ، وَأَنْ يَكُونَ فَرْضَ كِفَايَةٍ، فَإِنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ يَجِبُ عَلَى الْجَمِيعِ، كَفَرْضِ الْأَعْيَانِ سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ بِسُقُوطِهِ عَنِ الْبَعْضِ بَعْدَ وُجُوبِهِ بِفِعْلِ الْآخَرِينَ.
الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ فِيهِ الْخُطْبَةَ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ وَتَمْجِيدِهِ، وَالشَّهَادَةُ لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَلِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم بِالرِّسَالَةِ، وَتَذْكِيرِ الْعِبَادِ بِأَيَّامِهِ، وَتَحْذِيرِهِمْ مِنْ بَأْسِهِ وَنِقْمَتِهِ، وَوَصِيَّتِهِمْ بِمَا يُقَرُّبُهُمْ إِلَيْهِ وَإِلَى جِنَانِهِ، وَنَهْيِهِمْ عَمَّا يُقَرِّبُهُمْ مِنْ سُخْطِهِ وَنَارِهِ، فَهَذَا هُوَ مَقْصُودُ الْخُطْبَةِ وَالِاجْتِمَاعِ لَهَا.
الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي يُسْتَحَبُّ أَنْ يُتَفَرَّغَ فِيهِ لِلْعِبَادَةِ، وَلَهُ عَلَى سَائِرِ الْأَيَّامِ مَزِيَّةٌ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَاجِبَةٍ وَمُسْتَحَبَّةٍ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ لِأَهْلِ كُلِّ مِلَّةٍ يَوْمًا يَتَفَرَّغُونَ فِيهِ لِلْعِبَادَةِ وَيَتَخَلَّوْنَ فِيهِ عَنْ أَشْغَالِ الدُّنْيَا، فَيَوْمُ الْجُمُعَةِ يَوْمُ عِبَادَةٍ، وَهُوَ فِي الْأَيَّامِ كَشَهْرِ رَمَضَانَ فِي الشُّهُورِ، وَسَاعَةُ الْإِجَابَةِ فِيهِ كَلَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي رَمَضَانَ. وَلِهَذَا مَنْ صَحَّ لَهُ يَوْمُ جُمُعَتِهِ وَسَلِمَ سَلِمَتْ لَهُ سَائِرُ جُمْعَتِهِ، وَمَنْ صَحَّ لَهُ رَمَضَانُ وَسَلِمَ سَلِمَتْ لَهُ سَائِرُ سَنَتِهِ، وَمَنْ صَحَّتْ لَهُ حَجَّتُهُ وَسَلِمَتْ لَهُ، صَحَّ لَهُ سَائِرُ عُمْرِهِ، فَيَوْمُ الْجُمُعَةِ مِيزَانُ الْأُسْبُوعِ، وَرَمَضَانُ مِيزَانُ الْعَامِ، وَالْحَجُّ مِيزَانُ الْعُمْرِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي الْأُسْبُوعِ كَالْعِيدِ فِي الْعَامِ، وَكَانَ الْعِيدُ مُشْتَمِلًا عَلَى صَلَاةٍ وَقُرْبَانٍ، وَكَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ يَوْمَ صَلَاةٍ، جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ التَّعْجِيلَ فِيهِ إِلَى الْمَسْجِدِ بَدَلًا مِنَ الْقُرْبَانِ، وَقَائِمًا مَقَامَهُ فَيَجْتَمِعُ لِلرَّائِحِ فِيهِ إِلَى الْمَسْجِدِ الصَّلَاةُ، وَالْقُرْبَانُ كَمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:( «مَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ» ) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا أَجْزَاءٌ مِنَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي مَذْهَبِ مالك، وَاخْتَارَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِحُجَّتَيْنِ. إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الرَّوَاحَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ، وَهُوَ مُقَابِلُ الْغُدُوِّ الَّذِي لَا يَكُونُ إِلَّا قَبْلَ الزَّوَالِ قَالَ تَعَالَى:{وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ: 12][سَبَأٍ: 12] . قَالَ الجوهري: وَلَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا أَحْرَصَ شَيْءٍ عَلَى الْخَيْرِ، وَلَمْ يَكُونُوا يَغْدُونَ إِلَى الْجُمُعَةِ مِنْ وَقْتِ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَأَنْكَرَ مالك التَّبْكِيرَ إِلَيْهَا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، وَقَالَ لَمْ نُدْرِكْ عَلَيْهِ أَهْلَ الْمَدِينَةِ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِحَدِيثِ جابر رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " ( «يَوْمُ الْجُمُعَةِ ثِنْتَا عَشْرَةَ سَاعَةً» ) ". قَالُوا: وَالسَّاعَاتُ الْمَعْهُودَةُ هِيَ السَّاعَاتُ الَّتِي هِيَ ثِنْتَا عَشْرَةَ سَاعَةً، وَهِيَ نَوْعَانِ: سَاعَاتٌ تَعْدِيلِيَّةٌ وَسَاعَاتٌ زَمَانِيَّةٌ، قَالُوا: وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا بَلَغَ
بِالسَّاعَاتِ إِلَى سِتٍّ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهَا، وَلَوْ كَانَتِ السَّاعَةُ أَجْزَاءً صِغَارًا مِنَ السَّاعَةِ الَّتِي تُفْعَلُ فِيهَا الْجُمُعَةُ لَمْ تَنْحَصِرْ فِي سِتَّةِ أَجْزَاءٍ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهَا السَّاعَاتِ الْمَعْهُودَةَ، فَإِنَّ السَّاعَةَ السَّادِسَةَ مَتَى خَرَجَتْ وَدَخَلَتِ السَّابِعَةُ خَرَجَ الْإِمَامُ وَطُوِيَتِ الصُّحُفُ وَلَمْ يُكْتَبْ لِأَحَدٍ قُرْبَانٌ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي " سُنَنِ أبي داود " مِنْ حَدِيثِ علي رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:( «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ غَدَتِ الشَّيَاطِينُ بِرَايَاتِهَا إِلَى الْأَسْوَاقِ فَيَرْمُونَ النَّاسَ بِالتَّرَابِيثِ أَوِ الرَّبَائِثِ، وَيُثَبِّطُونَهُمْ عَنِ الْجُمُعَةِ، وَتَغْدُو الْمَلَائِكَةُ فَتَجْلِسُ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ فَيَكْتُبُونَ الرُّجُلَ مِنْ سَاعَةٍ، وَالرُّجُلَ مِنْ سَاعَتَيْنِ حَتَّى يَخْرُجَ الْإِمَامُ» ) .
قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي تِلْكَ السَّاعَاتِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: أَرَادَ السَّاعَاتِ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَفَائِهَا، وَالْأَفْضَلُ عِنْدَهُمُ التَّبْكِيرُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وأبي حنيفة وَالشَّافِعِيِّ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ بَلْ كُلُّهُمْ يَسْتَحِبُّ الْبُكُورَ إِلَيْهَا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: وَلَوْ بَكَّرَ إِلَيْهَا بَعْدَ الْفَجْرِ وَقَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ كَانَ حَسَنًا. وَذَكَرَ الأثرم قَالَ: قِيلَ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: كَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يَقُولُ: لَا يَنْبَغِي التَّهْجِيرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَاكِرًا، فَقَالَ: هَذَا خِلَافُ حَدِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ ذَهَبَ فِي هَذَا، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:" كَالْمُهْدِي جَزُورًا ". قَالَ: وَأَمَّا مالك فَذَكَرَ يحيى بن عمر عَنْ حرملة أَنَّهُ سَأَلَ ابن وهب عَنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ السَّاعَاتِ: أَهْوَ الْغُدُوُّ مِنْ أَوَّلِ سَاعَاتِ النَّهَارِ، أَوْ إِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا الْقَوْلِ سَاعَاتِ الرَّوَاحِ؟ فَقَالَ ابن وهب: سَأَلْتُ مالكا عَنْ
هَذَا فَقَالَ: أَمَّا الَّذِي يَقَعُ بِقَلْبِي فَإِنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ سَاعَةً وَاحِدَةً تَكُونُ فِيهَا هَذِهِ السَّاعَاتُ، مَنْ رَاحَ مَنْ أَوَّلِ تِلْكَ السَّاعَةِ أَوِ الثَّانِيَةِ أَوِ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ أَوِ الْخَامِسَةِ أَوِ السَّادِسَةُ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، مَا صُلِّيَتِ الْجُمُعَةُ حَتَّى يَكُونَ النَّهَارُ تِسْعَ سَاعَاتٍ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ.
وَكَانَ ابن حبيب يُنْكِرُ مالكا هَذَا وَيَمِيلُ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَقَالَ: قَوْلُ مالك هَذَا تَحْرِيفٌ فِي تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ وَمُحَالٌ مِنْ وُجُوهٍ. وَقَالَ: يَدُلُّكَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ سَاعَاتٌ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ: أَنَّ الشَّمْسَ إِنَّمَا تَزُولُ فِي السَّاعَةِ السَّادِسَةِ مِنَ النَّهَارِ، وَهُوَ وَقْتُ الْأَذَانِ وَخُرُوجُ الْإِمَامِ إِلَى الْخُطْبَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ السَّاعَاتِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ هِيَ سَاعَاتُ النَّهَارِ الْمَعْرُوفَاتِ، فَبَدَأَ بِأَوَّلِ سَاعَاتِ النَّهَارِ فَقَالَ:( «مَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً» ) ثُمَّ قَالَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ بَيْضَةً، ثُمَّ انْقَطَعَ التَّهْجِيرُ وَحَانَ وَقْتُ الْأَذَانِ، فَشَرْحُ الْحَدِيثِ بَيِّنٌ فِي لَفْظِهِ وَلَكِنَّهُ حُرِّفَ عَنْ مَوْضِعِهِ وَشُرِحَ بِالْخُلْفِ مِنَ الْقَوْلِ، وَمَا لَا يَكُونُ، وَزَهَّدَ شَارِحُهُ النَّاسَ فِيمَا رَغَّبَهُمْ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ التَّهْجِيرِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، وَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ إِنَّمَا يَجْتَمِعُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ قُرْبَ زَوَالِ الشَّمْسِ، قَالَ وَقَدْ جَاءَتِ الْآثَارُ بِالتَّهْجِيرِ إِلَى الْجُمُعَةِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، وَقَدْ سُقْنَا ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كِتَابِ وَاضِحِ السُّنَنِ بِمَا فِيهِ بَيَانٌ وَكِفَايَةٌ.
هَذَا كُلُّهُ قَوْلُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ أبو عمر وَقَالَ: هَذَا تَحَامُلٌ مِنْهُ عَلَى مالك رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَهُوَ الَّذِي قَالَ الْقَوْلَ الَّذِي أَنْكَرَهُ وَجَعَلَهُ خُلْفًا وَتَحْرِيفًا مِنَ التَّأْوِيلِ، وَالَّذِي قَالَهُ مالك تَشْهَدُ لَهُ الْآثَارُ الصِّحَاحُ مِنْ رِوَايَةِ الْأَئِمَّةِ، وَيَشْهَدُ لَهُ أَيْضًا الْعَمَلُ بِالْمَدِينَةِ عِنْدَهُ، وَهَذَا مِمَّا يَصِحُّ فِيهِ الِاحْتِجَاجُ بِالْعَمَلِ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ يَتَرَدَّدُ كُلَّ جُمُعَةٍ لَا يَخْفَى عَلَى عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.
فَمِنَ الْآثَارِ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا مالك: مَا رَوَاهُ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ قَامَ عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ مَلَائِكَةٌ يَكْتُبُونَ النَّاسَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، فَالْمُهَجِّرُ إِلَى الْجُمُعَةِ
كَالْمُهْدِي بَدَنَةً، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ كَالْمُهْدِي بَقَرَةً، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ كَالْمُهْدِي كَبْشًا، حَتَّى ذَكَرَ الدَّجَاجَةَ وَالْبَيْضَةَ، فَإِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ طُوِيَتِ الصَّحُفُ وَاسْتَمَعُوا الْخُطْبَةَ» ) قَالَ: أَلَا تَرَى إِلَى مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ قَالَ: «يَكْتُبُونَ النَّاسَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، فَالْمُهَجِّرُ إِلَى الْجُمُعَةِ كَالْمُهْدِي بَدَنَةً ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ» ، فَجَعَلَ الْأَوَّلَ مُهَجِّرًا، وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ إِنَّمَا هِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْهَاجِرَةِ وَالتَّهْجِيرِ، وَذَلِكَ وَقْتُ النُّهُوضِ إِلَى الْجُمُعَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ لَيْسَ بِهَاجِرَةٍ وَلَا تَهْجِيرٍ، وَفِي الْحَدِيثِ:" «ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ» ". وَلَمْ يَذْكُرِ السَّاعَةَ. قَالَ وَالطُّرُقُ بِهَذَا اللَّفْظِ كَثِيرَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي " التَّمْهِيدِ " وَفِي بَعْضِهَا ( «الْمُتَعَجِّلُ إِلَى الْجُمُعَةِ كَالْمُهْدِي بَدَنَةً» ) ".
وَفِي أَكْثَرِهَا " «الْمُهَجِّرُ كَالْمُهْدِي جَزُورًا» " الْحَدِيثَ. وَفِي بَعْضِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ جَعَلَ الرَّائِحَ إِلَى الْجُمُعَةِ فِي أَوَّلِ السَّاعَةِ كَالْمُهْدِي بَدَنَةً وَفِي آخِرِهَا كَذَلِكَ، وَفِي أَوَّلِ السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ كَالْمُهْدِي بَقَرَةً وَفِي آخِرِهَا كَذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: لَمْ يُرِدْ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ: ( «الْمُهَجِّرُ إِلَى الْجُمُعَةِ كَالْمُهْدِي بَدَنَةً» ) النَّاهِضَ إِلَيْهَا فِي الْهَجِيرِ وَالْهَاجِرَةِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ التَّارِكَ لِأَشْغَالِهِ وَأَعْمَالِهِ مِنْ أَغْرَاضِ أَهْلِ الدُّنْيَا لِلنُّهُوضِ إِلَى الْجُمُعَةِ كَالْمُهْدِي بَدَنَةً، وَذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْهِجْرَةِ وَهُوَ تَرْكُ الْوَطَنِ، وَالنُّهُوضُ إِلَى غَيْرِهِ وَمِنْهُ سُمِّيَ الْمُهَاجِرُونَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: أُحِبُّ التَّبْكِيرَ إِلَى الْجُمُعَةِ وَلَا تُؤْتَى إِلَّا مَشْيًا. هَذَا كُلُّهُ كَلَامُ أبي عمر.
قُلْتُ: وَمَدَارُ إِنْكَارِ التَّبْكِيرِ أَوَّلَ النَّهَارِ عَلَى ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: عَلَى لَفْظَةِ الرَّوَاحِ، وَإِنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ، وَالثَّانِي: لَفْظَةُ التَّهْجِيرِ وَهِيَ إِنَّمَا تَكُونُ
بِالْهَاجِرَةِ وَقْتَ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَالثَّالِثُ: عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَإِنِّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَأْتُونَ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ.
فَأَمَّا لَفْظَةُ الرَّوَاحِ فَلَا رَيْبَ أَنَّهَا تُطْلَقُ عَلَى الْمُضِيِّ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَكْثَرِ إِذَا قُرِنَتْ بِالْغُدُوِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ: 12][سَبَأٍ: 12] وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: ( «مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَرَاحَ، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ نُزُلًا فِي الْجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ» ) . وَقَوْلُ الشَّاعِرِ.
نَرُوحُ وَنَغْدُو لِحَاجَاتِنَا
…
وَحَاجَةُ مَنْ عَاشَ لَا تَنْقَضِي.
وَقَدْ يُطْلَقُ الرَّوَاحُ بِمَعْنَى الذَّهَابِ وَالْمُضِيِّ، وَهَذَا إِنَّمَا يَجِيءُ إِذَا كَانَتْ مُجَرَّدَةً عَنِ الِاقْتِرَانِ بِالْغُدُوِّ.
وَقَالَ الأزهري فِي " التَّهْذِيبِ ": سَمِعْتُ بَعْضَ الْعَرَبِ يَسْتَعْمِلُ الرَّوَاحَ فِي السَّيْرِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، يُقَالُ: رَاحَ الْقَوْمُ إِذَا سَارُوا، وَغَدَوْا كَذَلِكَ، وَيَقُولُ أَحَدُهُمْ لِصَاحِبِهِ: تَرَوَّحْ، وَيُخَاطِبُ أَصْحَابَهُ فَيَقُولُ: رُوحُوا أَيْ سِيرُوا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: أَلَا تَرُوحُونَ؟ وَمِنْ ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ الثَّابِتَةِ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْمُضِيِّ إِلَى الْجُمُعَةِ وَالْخِفَّةِ إِلَيْهَا لَا بِمَعْنَى الرَّوَاحِ بِالْعَشِيِّ.
وَأَمَّا لَفْظُ التَّهْجِيرِ وَالْمُهَجِّرُ فَمِنَ الْهَجِيرِ وَالْهَاجِرَةِ، قَالَ الجوهري: هِيَ نِصْفُ النَّهَارِ عِنْدَ اشْتِدَادِ الْحَرِّ، تَقُولُ مِنْهُ: هَجَّرَ النَّهَارُ، قَالَ امرؤ القيس:
فَدَعْهَا وَسَلِّ الْهَمَّ عَنْهَا بِجَسْرَةٍ
…
ذَمُولٍ إِذَا صَامَ النَّهَارُ وَهَجَّرَا
وَيُقَالُ: أَتَيْنَا أَهْلَنَا مُهَجِّرِينَ أَيْ فِي وَقْتِ الْهَاجِرَةِ. وَالتَّهْجِيرُ، وَالتَّهَجُّرُ: السَّيْرُ فِي الْهَاجِرَةِ، فَهَذَا مَا يُقَرَّرُ بِهِ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.
قَالَ الْآخَرُونَ: الْكَلَامُ فِي لَفْظِ التَّهْجِيرِ كَالْكَلَامِ فِي لَفْظِ الرَّوَاحِ، فَإِنَّهُ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ التَّبْكِيرُ.
قَالَ الأزهري فِي " التَّهْذِيبِ ": رَوَى مالك عَنْ سمي عَنْ أبي صالح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ» ) .
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ مَرْفُوعٍ ( «الْمُهَجِّرُ إِلَى الْجُمُعَةِ كَالْمُهْدِي بَدَنَةً» ) . قَالَ: وَيَذْهَبُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِلَى أَنَّ التَّهْجِيرَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ تَفْعِيلٌ مِنَ الْهَاجِرَةِ وَقْتَ الزَّوَالِ وَهُوَ غَلَطٌ، وَالصَّوَابُ فِيهِ مَا رَوَى أبو داود المصاحفي عَنِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ أَنَّهُ قَالَ: التَّهْجِيرُ إِلَى الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا: التَّبْكِيرُ وَالْمُبَادَرَةُ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ. قَالَ: سَمِعْتُ الخليل يَقُولُ ذَلِكَ، قَالَهُ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ.
قَالَ الأزهري: وَهَذَا صَحِيحٌ وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَمَنْ جَاوَرَهُمْ مِنْ قَيْسٍ، قَالَ لبيد:
رَاحَ الْقَطِينُ بِهَجْرٍ بَعْدَ مَا ابْتَكَرُوا
…
فَمَا تُوَاصِلُهُ سَلْمَى وَمَا تَذَرُ.
فَقَرَنَ الْهَجْرَ بِالِابْتِكَارِ، وَالرَّوَاحُ عِنْدَهُمُ الذَّهَابُ وَالْمُضِيُّ، يُقَالُ: رَاحَ الْقَوْمُ إِذَا خَفُّوا وَمَرُّوا أَيَّ وَقْتٍ كَانَ.
وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: ( «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ» ) أَرَادَ بِهِ التَّبْكِيرَ إِلَى جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ، وَهُوَ الْمُضِيُّ إِلَيْهَا فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِهَا، قَالَ الأزهري: وَسَائِرُ الْعَرَبِ يَقُولُونَ: هَجَّرَ الرَّجُلُ: إِذَا خَرَجَ وَقْتَ الْهَاجِرَةِ، وَرَوَى أبو عبيد عَنْ أبي زيد: هَجَّرَ الرَّجُلُ إِذَا خَرَجَ بِالْهَاجِرَةِ. قَالَ: وَهِيَ نِصْفُ النَّهَارِ.
ثُمَّ قَالَ الأزهري: أَنْشَدَنِي المنذري فِيمَا رَوَى لثعلب عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ فِي " نَوَادِرِهِ " قَالَ: قَالَ جعثنة بن جواس الربعي فِي نَاقَتِهِ:
هَلْ تَذْكُرِينَ قَسَمِي وَنَذْرِي
…
أَزْمَانَ أَنْتِ بِعُرُوضِ الْجَفْرِ.
إِذْ أَنْتِ مِضْرَارٌ جَوَادُ الْحُضْرِ
عَلَيَّ إِنْ لَمْ تَنْهَضِي بِوِقْرِي.
بِأَرْبَعِينَ قُدِّرَتْ بِقَدْرِ
…
بِالْخَالِدِيِّ لَا بِصَاعِ حَجْرِ.
وَتَصْحَبِي أَيَانِقًا فِي سَفْرِ
يُهَجِّرُونَ بِهَجِيرِ الْفَجْرِ
…
ثُمَّتَ تَمْشِي لَيْلَهُمْ فَتَسْرِي
يَطْوُونَ أَعْرَاضَ الْفِجَاجِ الْغُبْرِ.
طَيَّ أَخِي التَّجْرِ بُرُودَ التَّجْرِ.
قَالَ الأزهري: يُهَجِّرُونَ بِهَجِيرِ الْفَجْرِ أَيْ يُبَكِّرُونَ بِوَقْتِ السَّحَرِ.
وَأَمَّا كَوْنُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَمْ يَكُونُوا يَرُوحُونَ إِلَى الْجُمُعَةِ أَوَّلَ النَّهَارِ فَهَذَا غَايَةُ عَمَلِهِمْ فِي زَمَانِ مالك رحمه الله، وَهَذَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَلَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إِجْمَاعُ
أَهْلِ الْمَدِينَةِ حُجَّةٌ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ فِيهِ إِلَّا تَرْكُ الرَّوَاحِ إِلَى الْجُمُعَةِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، وَهَذَا جَائِزٌ بِالضَّرُورَةِ.
وَقَدْ يَكُونُ اشْتِغَالُ الرَّجُلِ بِمَصَالِحِهِ وَمَصَالِحِ أَهْلِهِ وَمَعَاشِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ أَفْضَلَ مِنْ رَوَاحِهِ إِلَى الْجُمُعَةِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ انْتِظَارَ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَجُلُوسَ الرَّجُلِ فِي مُصَلَّاهُ حَتَّى يُصَلِّيَ الصَّلَاةَ الْأُخْرَى أَفْضَلُ مِنْ ذَهَابِهِ وَعَوْدِهِ فِي وَقْتٍ آخَرَ لِلثَّانِيَةِ، كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:( «وَالَّذِي يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ ثُمَّ يُصَلِّيهَا مَعَ الْإِمَامِ أَفْضَلُ مِنَ الَّذِي يُصَلِّي ثُمَّ يَرُوحُ إِلَى أَهْلِهِ» ) وَأَخْبَرَ " أَنَّ «الْمَلَائِكَةَ لَمْ تَزَلْ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ» وَأَخْبَرَ "(أَنَّ انْتِظَارَ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ مِمَّا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ وَأَنَّهُ الرِّبَاطُ)" وَأَخْبَرَ " أَنَّ اللَّهَ يُبَاهِي مَلَائِكَتَهُ بِمَنْ قَضَى فَرِيضَةً وَجَلَسَ يَنْتَظِرُ أُخْرَى " وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ ثُمَّ جَلَسَ يَنْتَظِرُ الْجُمُعَةَ فَهُوَ أَفْضَلُ مِمَّنْ يَذْهَبُ ثُمَّ يَجِيءُ فِي وَقْتِهَا، وَكَوْنُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمْ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَكْرُوهٌ، فَهَكَذَا الْمَجِيءُ إِلَيْهَا وَالتَّبْكِيرُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ لِلصَّدَقَةِ فِيهِ مَزِيَّةٌ عَلَيْهَا فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ، وَالصَّدَقَةُ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَائِرِ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ كَالصَّدَقَةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَائِرِ
الشُّهُورِ.
وَشَاهَدْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ إِذَا خَرَجَ إِلَى الْجُمُعَةِ يَأْخُذُ مَا وَجَدَ فِي الْبَيْتِ مِنْ خُبْزٍ أَوْ غَيْرِهِ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ فِي طَرِيقِهِ سِرًّا، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ بَيْنَ يَدَيْ مُنَاجَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَالصَّدَقَةُ بَيْنَ يَدَيْ مُنَاجَاتِهِ تَعَالَى أَفْضَلُ وَأَوْلَى بِالْفَضِيلَةِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا جرير عَنْ منصور عَنْ مجاهد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اجْتَمَعَ أَبُو هُرَيْرَةَ وكعب فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنَّ فِي الْجُمُعَةِ لَسَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي صَلَاةٍ يَسْأَلُ اللَّهَ عز وجل شَيْئًا إِلَّا آتَاهُ إِيَّاهُ، فَقَالَ كعب: أَنَا أُحَدِّثُكُمْ عَنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، إِنَّهُ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فَزِعَتْ لَهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْبَرُّ وَالْبَحْرُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالْخَلَائِقُ كُلُّهَا إِلَّا ابْنَ آدَمَ وَالشَّيَاطِينَ، وَحَفَّتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَبْوَابِ الْمَسْجِدِ فَيَكْتُبُونَ مَنْ جَاءَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ حَتَّى يَخْرُجَ الْإِمَامُ، فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ طَوَوْا صُحُفَهُمْ فَمَنْ جَاءَ بَعْدُ جَاءَ لِحَقِّ اللَّهِ لِمَا كُتِبَ عَلَيْهِ، وَحَقٌّ عَلَى كُلِّ حَالِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ يَوْمَئِذٍ كَاغْتِسَالِهِ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَالصَّدَقَةُ فِيهِ أَعْظَمُ مِنَ الصَّدَقَةِ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ، وَلَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ وَلَمْ تَغْرُبْ عَلَى مِثْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا حَدِيثُ كعب وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَا أَرَى إِنْ كَانَ لِأَهْلِهِ طِيبٌ يَمَسُّ مِنْهُ.
السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهُ يَوْمُ يَتَجَلَّى اللَّهُ عز وجل فِيهِ لِأَوْلِيَائِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ، وَزِيَارَتُهُمْ لَهُ، فَيَكُونُ أَقْرَبُهُمْ مِنْهُمْ أَقْرَبَهُمْ مِنَ الْإِمَامِ، وَأَسْبَقُهُمْ إِلَى الزِّيَارَةِ أَسْبَقَهُمْ إِلَى الْجُمُعَةِ. وَرَوَى يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ عَنْ شريك عَنْ أبي اليقظان، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه فِي قَوْلِهِ عز وجل {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35] [ق: 35] قَالَ: ( «يَتَجَلَّى لَهُمْ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ» ) .
وَذَكَرَ الطَّبَرَانِيُّ فِي " مُعْجَمِهِ " مِنْ حَدِيثِ أبي نعيم المسعودي عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أبي عبيدة قَالَ: قَالَ عبد الله: (سَارِعُوا إِلَى الْجُمُعَةِ فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل يَبْرُزُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ فِي كَثِيبٍ مِنْ كَافُورٍ فَيَكُونُونَ مِنْهُ فِي
الْقُرْبِ عَلَى قَدْرِ تَسَارُعِهِمْ إِلَى الْجُمُعَةِ، فَيُحْدِثُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ شَيْئًا لَمْ يَكُونُوا قَدْ رَأَوْهُ قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ، فَيُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا أَحْدَثَ اللَّهُ لَهُمْ. قَالَ: ثُمَّ دَخَلَ عبد الله الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ، فَقَالَ عبد الله: رَجُلَانِ وَأَنَا الثَّالِثُ، إِنْ يَشَأِ اللَّهُ يُبَارِكْ فِي الثَّالِثِ) وَذَكَرَ البيهقي فِي " الشُّعَبِ " عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: رُحْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه إِلَى جُمُعَةٍ فَوَجَدَ ثَلَاثَةً قَدْ سَبَقُوهُ، فَقَالَ رَابِعُ أَرْبَعَةٍ وَمَا رَابِعُ أَرْبَعَةٍ بِبَعِيدٍ. ثُمَّ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " ( «إِنَّ النَّاسَ يَجْلِسُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ اللَّهِ عَلَى قَدْرِ رَوَاحِهِمْ إِلَى الْجُمُعَةِ، الْأَوَّلُ ثُمَّ الثَّانِي ثُمَّ الثَّالِثُ ثُمَّ الرَّابِعُ. ثُمَّ قَالَ وَمَا أَرْبَعُ أَرْبَعَةٍ بِبَعِيدٍ» ) .
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي كِتَابِ " الرُّؤْيَةِ ": حَدَّثَنَا أحمد بن سلمان بن الحسن، حَدَّثَنَا محمد بن عثمان بن محمد، حَدَّثَنَا مروان بن جعفر حَدَّثَنَا نافع أبو الحسن مولى بني هاشم، حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ أَبِي مَيْمُونَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ رَأَى الْمُؤْمِنُونَ رَبَّهُمْ فَأَحْدَثُهُمْ عَهْدًا بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ مَنْ بَكَّرَ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ، وَتَرَاهُ الْمُؤْمِنَاتُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ النَّحْرِ» ) .
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نُوحٍ حَدَّثَنَا محمد بن موسى بن سفيان السكري، حَدَّثَنَا عبد الله بن الجهم الرازي، حَدَّثَنَا عمرو بن أبي قيس عَنْ أبي طيبة عَنْ عاصم عَنْ عثمان بن عمير أبي اليقظان، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( «أَتَانِي جِبْرِيلُ وَفِي يَدِهِ كَالْمِرْآةِ الْبَيْضَاءِ فِيهَا كَالنُّكْتَةِ السَّوْدَاءِ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذِهِ الْجُمُعَةُ يَعْرِضُهَا اللَّهُ عَلَيْكَ لِتَكُونَ
لَكَ عِيدًا وَلِقَوْمِكَ مِنْ بَعْدِكَ، قُلْتُ وَمَا لَنَا فِيهَا؟ قَالَ: لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ، أَنْتَ فِيهَا الْأَوَّلُ، وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنْ بَعْدِكَ، وَلَكَ فِيهَا سَاعَةٌ لَا يَسْأَلُ اللَّهَ عز وجل عَبْدٌ فِيهَا شَيْئًا هُوَ لَهُ قَسْمٌ إِلَّا أَعْطَاهُ، أَوْ لَيْسَ لَهُ قَسْمٌ إِلَّا أَعْطَاهُ أَفْضَلَ مِنْهُ، وَأَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ شَرِّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ، وَإِلَّا دَفَعَ عَنْهُ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: قُلْتُ: وَمَا هَذِهِ النُّكْتَةُ السَّوْدَاءُ؟ قَالَ: هِيَ السَّاعَةُ تَقُومُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ عِنْدَنَا سَيِّدُ الْأَيَّامِ، وَيَدْعُوهُ أَهْلُ الْآخِرَةِ يَوْمَ الْمَزِيدِ. قَالَ: قُلْتُ يَا جِبْرِيلُ! وَمَا يَوْمُ الْمَزِيدِ؟ قَالَ: ذَلِكَ أَنَّ رَبَّكَ عز وجل اتَّخَذَ فِي الْجَنَّةِ وَادِيًا أَفْيَحَ مِنْ مِسْكٍ أَبْيَضَ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ نَزَلَ عَلَى كُرْسِيِّهِ ثُمَّ حُفَّ الْكُرْسِيُّ بِمَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، فَيَجِيءُ النَّبِيُّونَ حَتَّى يَجْلِسُوا عَلَيْهَا، ثُمَّ حُفَّ الْمَنَابِرُ بِمَنَابِرَ مِنْ ذَهَبٍ، فَيَجِيءُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ حَتَّى يَجْلِسُوا عَلَيْهَا، وَيَجِيءُ أَهْلُ الْغُرَفِ حَتَّى يَجْلِسُوا عَلَى الْكُثُبِ، قَالَ ثُمَّ يَتَجَلَّى لَهُمْ رَبُّهُمْ عز وجل، قَالَ فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَيَقُولُ: أَنَا الَّذِي صَدَقْتُكُمْ وَعْدِي وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، وَهَذَا مَحَلُّ كَرَامَتِي فَسَلُونِي، فَيَسْأَلُونَهُ الرِّضَى. قَالَ: رِضَايَ أَنْزَلَكُمْ دَارِي وَأَنَا لَكُمْ كَرَامَتِي، فَسَلُونِي فَيَسْأَلُونَهُ الرِّضَى. قَالَ: فَيَشْهَدُ لَهُمْ بِالرِّضَى، ثُمَّ يَسْأَلُونَهُ حَتَّى تَنْتَهِيَ رَغْبَتُهُمْ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. قَالَ: ثُمَّ يَرْتَفِعُ رَبُّ الْعِزَّةِ وَيَرْتَفِعُ مَعَهُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ، وَيَجِيءُ أَهْلُ الْغُرَفِ إِلَى غُرَفِهِمْ. قَالَ: كُلُّ غُرْفَةٍ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ لَا وَصْلَ فِيهَا وَلَا فَصْمَ، يَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ وَغُرْفَةٌ مِنْ زَبَرْجَدَةٍ خَضْرَاءَ، أَبْوَابُهَا وَعَلَالِيُّهَا وَسَقَائِفُهَا وَأَغْلَاقُهَا مِنْهَا أَنْهَارُهَا مُطَّرِدَةٌ مُتَدَلِّيَةٌ فِيهَا أَثْمَارُهَا فِيهَا أَزْوَاجُهَا وَخَدَمُهَا. قَالَ: فَلَيْسُوا إِلَى شَيْءٍ أَحْوَجَ مِنْهُمْ إِلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِيَزْدَادُوا مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ عز وجل وَالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ، فَذَلِكَ يَوْمُ الْمَزِيدِ» ) .
وَلِهَذَا الْحَدِيثِ عِدَّةُ طُرُقٍ، ذَكَرَهَا أَبُو الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي كِتَابِ " الرُّؤْيَةِ ".
السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهُ قَدْ فُسِّرَ الشَّاهِدُ الَّذِي أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، قَالَ حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ: حَدَّثَنَا عبد الله بن موسى أَنْبَأَنَا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ عَنْ أيوب بن خالد عَنْ عبد الله بن رافع عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَالْيَوْمُ الْمَشْهُودُ هُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ وَلَا غَرَبَتْ عَلَى أَفْضَلَ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ يَدْعُو اللَّهَ فِيهَا بِخَيْرٍ إِلَّا اسْتَجَابَ لَهُ، أَوْ يَسْتَعِيذُهُ مِنْ شَرٍّ إِلَّا أَعَاذَهُ مِنْهُ» ) .
وَرَوَاهُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ فِي " مُسْنَدِهِ " عَنْ روح عن موسى بن عبيدة.
وَفِي " مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ " مِنْ حَدِيثِ محمد بن إسماعيل بن عياش، حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنِي ضمضم بن زرعة عَنْ شريح بن عبيد عَنْ أبي مالك الأشعري قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ ذَخَرَهُ اللَّهُ لَنَا، وَصَلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ» ) وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ.
قُلْتُ: وَالظَّاهِرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -: أَنَّهُ مِنْ تَفْسِيرِ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شعبة سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ زَيْدٍ وَيُونُسَ بْنَ عُبَيْدٍ يُحَدِّثَانِ عَنْ عمار مولى بني هاشم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَمَّا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ فَرَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَّا يونس فَلَمْ يَعْدُ أَبَا هُرَيْرَةَ أَنَّهُ (قَالَ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج: 3] قَالَ: الشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ) .
الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي تَفْزَعُ مِنْهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْجِبَالُ وَالْبِحَارُ، وَالْخَلَائِقُ كُلُّهَا إِلَّا الْإِنْسَ وَالْجِنَّ، فَرَوَى أبو الجواب عَنْ عمار بن زريق عَنْ منصور عَنْ مجاهد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اجْتَمَعَ كعب وَأَبُو هُرَيْرَةَ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «إِنَّ فِي الْجُمُعَةِ لَسَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ» ) .
فَقَالَ كعب: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ عَنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، إِنَّهُ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فَزِعَتْ لَهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْجِبَالُ وَالْبِحَارُ، وَالْخَلَائِقُ كُلُّهَا إِلَّا ابْنَ آدَمَ وَالشَّيَاطِينَ، وَحَفَّتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ، فَيَكْتُبُونَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ حَتَّى يَخْرُجَ الْإِمَامُ، فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ طَوَوْا صُحُفَهُمْ، وَمَنْ جَاءَ بَعْدُ جَاءَ لِحَقِّ اللَّهِ، وَلِمَا كُتِبَ عَلَيْهِ، وَيَحِقُّ عَلَى كُلِّ حَالِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِيهِ، كَاغْتِسَالِهِ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَالصَّدَقَةُ فِيهِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ، وَلَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ وَلَمْ تَغْرُبْ عَلَى يَوْمٍ كَيَوْمِ الْجُمُعَةِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا حَدِيثُ كعب وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَا أَرَى مَنْ كَانَ لِأَهْلِهِ طِيبٌ أَنْ يَمَسَّ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ( «لَا تَطْلُعُ الشَّمْسُ وَلَا تَغْرُبُ عَلَى يَوْمٍ أَفْضَلَ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا وَهِيَ تَفْزَعُ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ إِلَّا هَذَيْنِ الثَّقَلَيْنِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ» ) وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَذَلِكَ أَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي تَقُومُ فِيهِ السَّاعَةُ، وَيُطْوَى الْعَالَمُ، وَتَخْرَبُ فِيهِ الدُّنْيَا، وَيُبْعَثُ فِيهِ النَّاسُ إِلَى مَنَازِلِهِمْ مِنَ
الْجَنَّةِ وَالنَّارِ.
التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي ادَّخَرَهُ اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَضَلَّ عَنْهُ أَهْلَ الْكِتَابِ قَبْلَهُمْ، كَمَا فَيَ " الصَّحِيحِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:( «مَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَلَا غَرَبَتْ عَلَى يَوْمٍ خَيْرٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، هَدَانَا اللَّهُ لَهُ، وَضَلَّ النَّاسُ عَنْهُ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، هُوَ لَنَا، وَلِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ وَلِلنَّصَارَى يَوْمُ الْأَحَدِ» ) . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ " ذَخَرَهُ اللَّهُ لَنَا ".
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، عَنْ حصين بن عبد الرحمن، عَنْ عمر بن قيس، عَنْ محمد بن الأشعث عَنْ عائشة قَالَتْ:( «بَيْنَا أَنَا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذِ اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَأَذِنَ لَهُ فَقَالَ: السَّامُ عَلَيْكَ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَعَلَيْكَ. قَالَتْ: فَهَمَمْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ، قَالَتْ ثُمَّ دَخَلَ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَعَلَيْكَ، قَالَتْ فَهَمَمْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ، ثُمَّ دَخَلَ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: السَّامُ عَلَيْكُمْ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: بَلِ السَّامُ عَلَيْكُمْ وَغَضَبُ اللَّهِ إِخْوَانَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، أَتُحَيُّونَ رَسُولَ اللَّهِ بِمَا لَمْ يُحَيِّهِ بِهِ اللَّهُ عز وجل. قَالَتْ فَنَظَرَ إِلَيَّ فَقَالَ: مَهْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلَا التَّفَحُّشَ، قَالُوا قَوْلًا فَرَدَدْنَاهُ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَضُرَّنَا شَيْئًا وَلَزِمَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، إِنَّهُمْ لَا يَحْسُدُونَنَا عَلَى شَيْءٍ كَمَا يَحْسُدُونَنَا عَلَى الْجُمُعَةِ الَّتِي هَدَانَا اللَّهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى الْقِبْلَةِ الَّتِي هَدَانَا اللَّهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى قَوْلِنَا خَلْفَ الْإِمَامِ آمِينَ» ) .
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ( «نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، فَهَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، الْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ» ) .
وَفِي " بَيْدَ " لُغَتَانِ بِالْبَاءِ وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ وَمَيْدَ بِالْمِيمِ حَكَاهَا أبو عبيد.
وَفِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بِمَعْنَى " غَيْرَ " وَهُوَ أَشْهَرُ مَعْنَيَيْهَا، وَالثَّانِي: بِمَعْنَى " عَلَى " وَأَنْشَدَ أبو عبيد شَاهِدًا لَهُ:
عَمْدًا فَعَلْتُ ذَاكَ بَيْدَ أَنِّي
…
إِخَالُ لَوْ هَلَكْتُ لَمْ تَرِنِّي.
تَرِنِّي: تَفْعَلِي مِنَ الرَّنِينِ.
الثَّلَاثُونَ: أَنَّهُ خِيرَةُ اللَّهِ مِنْ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ، كَمَا أَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ خِيرَتُهُ مِنْ شُهُورِ الْعَامِ، وَلَيْلَةُ الْقَدْرِ خِيرَتُهُ مِنَ اللَّيَالِيِ، وَمَكَّةُ خِيرَتُهُ مِنَ الْأَرْضِ، وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم خِيَرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ.
قَالَ آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ، عَنْ أبي صالح، عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ. قَالَ:(إِنَّ اللَّهَ عز وجل اخْتَارَ الشُّهُورَ، وَاخْتَارَ شَهْرَ رَمَضَانَ، وَاخْتَارَ الْأَيَّامَ، وَاخْتَارَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَاخْتَارَ اللَّيَالِيَ، وَاخْتَارَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَاخْتَارَ السَّاعَاتِ، وَاخْتَارَ سَاعَةَ الصَّلَاةِ، وَالْجُمُعَةُ تُكَفِّرُ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى، وَتَزِيدُ ثَلَاثًا، وَرَمَضَانُ يُكَفِّرُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَمَضَانَ، وَالْحَجُّ يُكَفِّرُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَجِّ، وَالْعُمْرَةُ تُكَفِّرُ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعُمْرَةِ، وَيَمُوتُ الرَّجُلُ بَيْنَ حَسَنَتَيْنِ: حَسَنَةٍ قَضَاهَا، وَحَسَنَةٍ يَنْتَظِرُهَا يَعْنِي صَلَاتَيْنِ، وَتُصَفَّدُ الشَّيَاطِينُ فِي رَمَضَانَ، وَتُغْلَقُ أَبْوَابُ النَّارِ، وَتُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَيُقَالُ فِيهِ: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ هَلُمَّ. رَمَضَانُ أَجْمَعُ، وَمَا مِنْ لَيَالٍ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ لَيَالِي الْعَشْرِ) .
الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ: إِنَّ الْمَوْتَى تَدْنُو أَرْوَاحُهُمْ مِنْ قُبُورِهِمْ، وَتُوَافِيهَا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَيَعْرِفُونَ زُوَّارَهُمْ وَمَنْ يَمُرُّ بِهِمْ، وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ، وَيَلْقَاهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ مَعْرِفَتِهِمْ بِهِمْ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَيَّامِ، فَهُوَ يَوْمٌ تَلْتَقِي فِيهِ الْأَحْيَاءُ وَالْأَمْوَاتُ، فَإِذَا قَامَتْ فِيهِ السَّاعَةُ الْتَقَى الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ، وَأَهْلُ الْأَرْضِ وَأَهْلُ السَّمَاءِ، وَالرَّبُّ وَالْعَبْدُ، وَالْعَامِلُ وَعَمَلُهُ، وَالْمَظْلُومُ وَظَالِمُهُ، وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَلَمْ تَلْتَقِيَا قَبْلَ ذَلِكَ قَطُّ، وَهُوَ يَوْمُ الْجَمْعِ وَاللِّقَاءِ، وَلِهَذَا
يَلْتَقِي النَّاسُ فِيهِ فِي الدُّنْيَا أَكْثَرَ مِنِ الْتِقَائِهِمْ فِي غَيْرِهِ، فَهُوَ يَوْمُ التَّلَاقِ. قَالَ أبو التياح يزيد بن حميد: كَانَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللِّهِ يُبَادِرُ فَيَدْخُلُ كُلَّ جُمُعَةٍ، فَأَدْلَجَ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الْمَقَابِرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، قَالَ: فَرَأَيْتُ صَاحِبَ كُلِّ قَبْرٍ جَالِسًا عَلَى قَبْرِهِ، فَقَالُوا: هَذَا مطرف يَأْتِي الْجُمُعَةَ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُمْ، وَتَعْلَمُونَ عِنْدَكُمُ الْجُمُعَةَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، وَنَعْلَمُ مَا تَقُولُ فِيهِ الطَّيْرُ، قُلْتُ: وَمَا تَقُولُ فِيهِ الطَّيْرُ؟ قَالُوا: تَقُولُ رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ يَوْمٌ صَالِحٌ.
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ " الْمَنَامَاتِ " وَغَيْرِهِ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ عاصم الجحدري، قَالَ: رَأَيْتُ عاصما الجحدري فِي مَنَامِي بَعْدَ مَوْتِهِ لِسَنَتَيْنِ، فَقُلْتُ: أَلَيْسَ قَدْ مِتَّ؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: فَأَيْنَ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا وَاللَّهِ فِي رَوْضَةٍ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، أَنَا وَنَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِي، نَجْتَمِعُ كُلَّ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ وَصَبِيحَتِهَا إِلَى بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ فَنَتَلَقَّى أَخْبَارَكُمْ. قُلْتُ: أَجْسَامُكُمْ أَمْ أَرْوَاحُكُمْ؟ قَالَ: هَيْهَاتَ بَلِيَتِ الْأَجْسَامُ وَإِنَّمَا تَتَلَاقَى الْأَرْوَاحُ، قَالَ: قُلْتُ: فَهَلْ تَعْلَمُونَ بِزِيَارَتِنَا لَكُمْ؟ قَالَ: نَعْلَمُ بِهَا عَشِيَّةَ الْجُمُعَةِ، وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ كُلَّهُ، وَلَيْلَةَ السَّبْتِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ. قَالَ: قُلْتُ: فَكَيْفَ ذَلِكَ دُونَ الْأَيَّامِ كُلِّهَا؟ قَالَ: لِفَضْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَعَظَمَتِهِ.
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ، أَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ كُلَّ غَدَاةِ سَبْتٍ حَتَّى يَأْتِيَ الْجَبَّانَةَ، فَيَقِفُ عَلَى الْقُبُورِ، فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ وَيَدْعُو لَهُمْ ثُمَّ يَنْصَرِفُ. فَقِيلَ لَهُ: لَوْ صَيَّرْتَ هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ. قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ الْمَوْتَى يَعْلَمُونَ بِزُوَّارِهِمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيَوْمًا قَبْلَهُ وَيَوْمًا بَعْدَهُ.
وَذَكَرَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَالَ: بَلَغَنِي عَنِ الضحاك، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ زَارَ قَبْرًا يَوْمَ السَّبْتِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، عَلِمَ الْمَيَّتُ بِزِيَارَتِهِ. فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: لِمَكَانِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ.
الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّهُ يُكْرَهُ إِفْرَادُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِالصَّوْمِ، هَذَا مَنْصُوصُ أحمد، قَالَ الأثرم: قِيلَ لأبي عبد الله: صِيَامُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ؟ فَذَكَرَ حَدِيثَ النَّهْيِ عَنْ أَنْ يُفْرَدَ، ثُمَّ قَالَ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صِيَامٍ كَانَ يَصُومُهُ، وَأَمَّا أَنْ يُفْرَدَ فَلَا. قُلْتُ: رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا، فَوَقَعَ فِطْرُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَصَوْمُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَفِطْرُهُ يَوْمَ السَّبْتِ، فَصَارَ الْجُمُعَةُ مُفْرَدًا؟ قَالَ: هَذَا إِلَّا أَنْ يَتَعَمَّدَ صَوْمَهُ خَاصَّةً، إِنَّمَا كُرِهَ أَنْ يَتَعَمَّدَ الْجُمُعَةَ.
وَأَبَاحَ مالك، وأبو حنيفة صَوْمَهُ كَسَائِرِ الْأَيَّامِ، قَالَ مالك: لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَمَنْ يُقْتَدَى بِهِ يَنْهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَصِيَامُهُ حَسَنٌ، وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَصُومُهُ، وَأَرَاهُ كَانَ يَتَحَرَّاهُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: اخْتَلَفَتِ الْآثَارُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي صِيَامِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ( «كَانَ يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ» ) وَقَالَ: قَلَّمَا رَأَيْتُهُ مُفْطِرًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّهُ قَالَ:«مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُفْطِرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَطُّ» . ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ عمير بن أبي عمير عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ وَيُوَاظِبُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الَّذِي ذَكَرَهُ مالك، فَيَقُولُونَ: إِنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ. وَقِيلَ: صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ.
وَرَوَى الدراوردي عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي جُشَمَ أَنَّهُ
سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «مَنْ صَامَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ كُتِبَ لَهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ غُرَرٌ زُهْرٌ مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ لَا يُشَاكِلُهُنُّ أَيَّامُ الدُّنْيَا» ) .
وَالْأَصْلُ فِي صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَنَّهُ عَمَلُ بِرٍّ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ لَا مُعَارِضَ لَهُ.
قُلْتُ: قَدْ صَحَّ الْمُعَارِضُ صِحَّةً لَا مَطْعَنَ فِيهَا الْبَتَّةَ، فَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ، قَالَ: سَأَلْتُ جابرا: «أَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صِيَامِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ» .
وَفِي " صَحِيحِ مسلم " عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ، قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ: ( «أَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صِيَامِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ وَرَبِّ هَذِهِ الْبَنِيَّةِ» ) .
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ( «لَا يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَّا أَنْ يَصُومَ يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ يَوْمًا بَعْدَهُ» ) . وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
وَفِي " صَحِيحِ مسلم " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:( «لَا تَخُصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِيِ، وَلَا تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَيَّامِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ» ) .
وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " «عَنْ جويرية بنت الحارث " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهِيَ صَائِمَةٌ، فَقَالَ: (أَصُمْتِ أَمْسِ؟ قَالَتْ: لَا. قَالَ: فَتُرِيدِينَ
أَنْ تَصُومِي غَدًا؟ قَالَتْ: لَا. قَالَ: فَأَفْطِرِي) » .
وَفِي " مُسْنَدِ أحمد " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:( «لَا تَصُومُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَحْدَهُ» ) .
وَفِي " مُسْنَدِهِ " أَيْضًا عَنْ جنادة الأزدي ( «قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ جُمُعَةٍ فِي سَبْعَةٍ مِنَ الْأَزْدِ، أَنَا ثَامِنُهُمْ وَهُوَ يَتَغَدَّى، فَقَالَ " هَلُمُّوا إِلَى الْغَدَاءِ " فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا صِيَامٌ. فَقَالَ: أَصُمْتُمْ أَمْسِ؟ قُلْنَا: لَا. قَالَ: فَتَصُومُونَ غَدًا؟ قُلْنَا: لَا. قَالَ فَأَفْطِرُوا. قَالَ: فَأَكَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: فَلَمَّا خَرَجَ وَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، دَعَا بِإِنَاءِ مَاءٍ، فَشَرِبَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، يُرِيهِمْ أَنَّهُ لَا يَصُومُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ» ) .
وَفِي " مُسْنَدِهِ " أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «يَوْمُ الْجُمُعَةِ يَوْمُ عِيدٍ، فَلَا تَجْعَلُوا يَوْمَ عِيدِكُمْ يَوْمَ صِيَامِكُمْ إِلَّا أَنْ تَصُومُوا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ» ) .
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عمران بن ظبيان، عَنْ حكيم بن سعد، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: ( «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُتَطَوِّعًا مِنَ الشَّهْرِ أَيَّامًا، فَلْيَكُنْ فِي صَوْمِهِ يَوْمُ الْخَمِيسِ، وَلَا يَصُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّهُ يَوْمُ طَعَامٍ وَشَرَابٍ، وَذِكْرٍ، فَيَجْمَعُ اللَّهُ لَهُ يَوْمَيْنِ صَالِحَيْنِ: يَوْمَ
صِيَامِهِ وَيَوْمَ نُسُكِهِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ» ) .
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مغيرة، عَنْ إبراهيم: أَنَّهُمْ كَرِهُوا صَوْمَ الْجُمُعَةِ لِيَقْوَوْا عَلَى الصَّلَاةِ.
قُلْتُ: الْمَأْخَذُ فِي كَرَاهَتِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ، هَذَا أَحَدُهَا، وَلَكِنْ يُشْكِلُ عَلَيْهِ زَوَالُ الْكَرَاهِيَةِ بِضَمِّ يَوْمٍ قَبْلَهُ، أَوْ بَعْدَهُ إِلَيْهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ أُورِدَ عَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ إِشْكَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ صَوْمَهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَصَوْمُ يَوْمِ الْعِيدِ حَرَامٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْكَرَاهَةَ تَزُولُ بِعَدَمِ إِفْرَادِهِ، وَأُجِيبَ عَنِ الْإِشْكَالَيْنِ بِأَنَّهُ لَيْسَ عِيدُ الْعَامِ، بَلْ عِيدُ الْأُسْبُوعِ، وَالتَّحْرِيمُ إِنَّمَا هُوَ لِصَوْمِ عِيدِ الْعَامِ.
وَأَمَّا إِذَا صَامَ يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ يَوْمًا بَعْدَهُ فَلَا يَكُونُ قَدْ صَامَهُ لِأَجْلِ كَوْنِهِ جُمُعَةً وَعِيدًا، فَتَزُولُ الْمَفْسَدَةُ النَّاشِئَةُ مِنْ تَخْصِيصِهِ، بَلْ يَكُونُ دَاخِلًا فِي صِيَامِهِ تَبَعًا، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رحمه الله فِي " مُسْنَدِهِ " وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ إِنْ صَحَّ قَالَ:«قَلَّمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُفْطِرُ يَوْمَ جُمُعَةٍ» ". فَإِنْ صَحَّ هَذَا تَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ فِي صِيَامِهِ تَبَعًا، لَا أَنَّهُ كَانَ يُفْرِدُهُ لِصِحَّةِ النَّهْيِ عَنْهُ.
وَأَيْنَ أَحَادِيثُ النَّهْيِ الثَّابِتَةُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ الْجَوَازِ الَّذِي لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الصَّحِيحِ، وَقَدْ حَكَمَ الترمذي بِغَرَابَتِهِ، فَكَيْفَ تُعَارَضُ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ ثُمَّ يُقَدَّمُ عَلَيْهَا؟!
وَالْمَأْخَذُ الثَّالِثُ: سَدُّ الذَّرِيعَةِ مِنْ أَنْ يُلْحِقَ بِالدِّينِ مَا لَيْسَ فِيهِ، وَيُوجِبَ التَّشَبُّهَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي تَخْصِيصِ بَعْضِ الْأَيَّامِ بِالتَّجَرُّدِ عَنِ الْأَعْمَالِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَيَنْضَمُّ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى: أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ لَمَّا كَانَ ظَاهِرَ الْفَضْلِ عَلَى الْأَيَّامِ، كَانَ الدَّاعِي إِلَى صَوْمِهِ قَوِيًّا، فَهُوَ فِي مَظِنَّةِ تَتَابُعِ النَّاسِ فِي صَوْمِهِ، وَاحْتِفَالِهِمْ بِهِ مَا لَا يَحْتَفِلُونَ بِصَوْمِ يَوْمٍ غَيْرِهِ، وَفِي ذَلِكَ إِلْحَاقٌ بِالشَّرْعِ مَا لَيْسَ مِنْهُ. وَلِهَذَا الْمَعْنَى - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - نُهِيَ عَنْ تَخْصِيصِ لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ بِالْقِيَامِ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي،
لِأَنَّهَا مِنْ أَفْضَلِ اللَّيَالِي، حَتَّى فَضَّلَهَا بَعْضُهُمْ عَلَى لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَحُكِيَتْ رِوَايَةٌ عَنْ أحمد فَهِيَ فِي مَظِنَّةِ تَخْصِيصِهَا بِالْعِبَادَةِ، فَحَسَمَ الشَّارِعُ الذَّرِيعَةَ وَسَدَّهَا بِالنَّهْيِ عَنْ تَخْصِيصِهَا بِالْقِيَامِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا تَقُولُونَ فِي تَخْصِيصِ يَوْمٍ غَيْرِهِ بِالصِّيَامِ؟ قِيلَ: أَمَّا تَخْصِيصُ مَا خَصَّصَهُ الشَّارِعُ، كَيَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمِ عَرَفَةَ وَيَوْمِ عَاشُورَاءَ فَسُنَّةٌ، وَأَمَّا تَخْصِيصُ غَيْرِهِ كَيَوْمِ السَّبْتِ وَالثَّلَاثَاءِ وَالْأَحَدِ وَالْأَرْبِعَاءِ فَمَكْرُوهٌ. وَمَا كَانَ مِنْهَا أَقْرَبَ إِلَى التَّشَبُّهِ بِالْكُفَّارِ لِتَخْصِيصِ أَيَّامِ أَعْيَادِهِمْ بِالتَّعْظِيمِ وَالصِّيَامِ فَأَشَدُّ كَرَاهَةً وَأَقْرَبُ إِلَى التَّحْرِيمِ.
الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ: إِنَّهُ يَوْمُ اجْتِمَاعِ النَّاسِ وَتَذْكِيرِهِمْ بِالْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ، وَقَدْ شَرَعَ اللَّهُ سبحانه وتعالى لِكُلِّ أُمَّةٍ فِي الْأُسْبُوعِ يَوْمًا يَتَفَرَّغُونَ فِيهِ لِلْعِبَادَةِ وَيَجْتَمِعُونَ فِيهِ لِتَذَكُّرِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَيَتَذَكَّرُونَ بِهِ اجْتِمَاعَهُمْ يَوْمَ الْجَمْعِ الْأَكْبَرِ قِيَامًا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَكَانَ أَحَقُّ الْأَيَّامِ بِهَذَا الْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ الْيَوْمَ الَّذِي يَجْمَعُ اللَّهُ فِيهِ الْخَلَائِقَ، وَذَلِكَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فَادَّخَرَهُ اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ لِفَضْلِهَا وَشَرَفِهَا، فَشَرَعَ اجْتِمَاعَهُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ لِطَاعَتِهِ، وَقَدَّرَ اجْتِمَاعَهُمْ فِيهِ مَعَ الْأُمَمِ لِنَيْلِ كَرَامَتِهِ، فَهُوَ يَوْمُ الِاجْتِمَاعِ شَرْعًا فِي الدُّنْيَا، وَقَدَرًا فِي الْآخِرَةِ، وَفِي مِقْدَارِ انْتِصَافِهِ وَقْتَ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ يَكُونُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَأَهْلُ النَّارِ فِي مَنَازِلِهِمْ، كَمَا ثَبَتَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ قَالَ:(لَا يَنْتَصِفُ النَّهَارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَقِيلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي مَنَازِلِهِمْ وَأَهْلُ النَّارِ فِي مَنَازِلِهِمْ وَقَرَأَ: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24] )[الْفُرْقَانِ: 24] وَقَرَأَ: (ثُمَّ إِنَّ مَقِيلَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) ، وَكَذَلِكَ هِيَ فِي قِرَاءَتِهِ.
وَلِهَذَا كَوْنُ الْأَيَّامِ سَبْعَةً إِنَّمَا تَعْرِفُهُ الْأُمَمُ الَّتِي لَهَا كِتَابٌ، فَأَمَّا أُمَّةٌ لَا كِتَابَ لَهَا، فَلَا تَعْرِفُ ذَلِكَ إِلَّا مَنْ تَلَقَّاهُ مِنْهُمْ عَنْ أُمَمِ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ هُنَا عَلَامَةٌ حِسِّيَّةٌ يُعْرَفُ بِهَا كَوْنُ الْأَيَّامِ سَبْعَةً، بِخِلَافِ الشَّهْرِ وَالسَّنَةِ وَفُصُولِهَا، وَلَمَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ،
وَتَعَرَّفَ بِذَلِكَ إِلَى عِبَادِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ، شَرَعَ لَهُمْ فِي الْأُسْبُوعِ يَوْمًا يُذَكِّرُهُمْ فِيهِ بِذَلِكَ، وَحِكْمَةِ الْخَلْقِ وَمَا خُلِقُوا لَهُ، وَبِأَجَلِ الْعَالَمِ وَطَيِّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَعَوْدِ الْأَمْرِ كَمَا بَدَأَهُ سُبْحَانَهُ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقَّا، وَقَوْلًا صِدْقًا، وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي فَجْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ سُورَتَيِ (الم تَنْزِيلُ) وَ {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} [الإنسان: 1] لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ هَاتَانِ السُّورَتَانِ مِمَّا كَانَ وَيَكُونُ مِنَ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ، وَحَشْرِ الْخَلَائِقِ وَبَعْثِهِمْ مِنَ الْقُبُورِ إِلَى الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، لَا لِأَجْلِ السَّجْدَةِ كَمَا يَظُنُّهُ مَنْ نَقَصَ عِلْمُهُ وَمَعْرِفَتُهُ، فَيَأْتِي بِسَجْدَةٍ مِنْ سُورَةٍ أُخْرَى، وَيَعْتَقِدُ أَنَّ فَجْرَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فُضِّلَ بِسَجْدَةٍ، وَيُنْكِرُ عَلَى مَنْ لَمْ يَفْعَلْهَا.
وَهَكَذَا كَانَتْ قِرَاءَتُهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَجَامِعِ الْكِبَارِ كَالْأَعْيَادِ وَنَحْوِهَا بِالسُّورَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَالْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ، وَقَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ أُمَمِهِمْ، وَمَا عَامَلَ اللَّهُ بِهِ مَنْ كَذَّبَهُمْ وَكَفَرَ بِهِمْ مِنَ الْهَلَاكِ وَالشَّقَاءِ، وَمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ وَصَدَّقَهُمْ مِنَ النَّجَاةِ وَالْعَافِيَةِ.
كَمَا كَانَ يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ بِسُورَتَيْ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] وَ {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1]، وَتَارَةً: بِ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] وَ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] وَتَارَةً يَقْرَأُ فِي الْجُمُعَةِ بِسُورَةِ الْجُمُعَةِ لِمَا تَضَمَّنَتْ مِنَ
الْأَمْرِ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ، وَإِيجَابِ السَّعْيِ إِلَيْهَا وَتَرْكِ الْعِلْمِ الْعَائِقِ عَنْهَا، وَالْأَمْرِ بِإِكْثَارِ ذِكْرِ اللَّهِ لِيَحْصُلَ لَهُمُ الْفَلَاحُ فِي الدَّارَيْنِ، فَإِنَّ فِي نِسْيَانِ ذِكْرِهِ تَعَالَى الْعَطَبَ وَالْهَلَاكَ فِي الدَّارَيْنِ، وَيَقْرَأُ فِي الثَّانِيَةِ بِسُورَةِ {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون: 1] تَحْذِيرًا لِلْأُمَّةِ مِنَ النِّفَاقِ الْمُرَدِّي، وَتَحْذِيرًا لَهُمْ أَنْ تَشْغَلَهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ عَنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَعَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَأَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ خَسِرُوا وَلَا بُدَّ، وَحَضًّا لَهُمْ عَلَى الْإِنْفَاقِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ سَعَادَتِهِمْ، وَتَحْذِيرًا لَهُمْ مِنْ هُجُومِ الْمَوْتِ وَهُمْ عَلَى حَالَةٍ يَطْلُبُونَ الْإِقَالَةَ، وَيَتَمَنَّوْنَ الرَّجْعَةَ وَلَا يُجَابُونَ إِلَيْهَا، وَكَذَلِكَ كَانَ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ عِنْدَ قُدُومِ وَفْدٍ يُرِيدُ أَنْ يُسْمِعَهُمُ الْقُرْآنَ.
وَكَانَ يُطِيلُ قِرَاءَةَ الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ لِذَلِكَ كَمَا صَلَّى الْمَغْرِبَ بِ (الْأَعْرَافِ) وَبِ (الطُّورِ) وَ (ق) . وَكَانَ يُصَلِّي الْفَجْرَ بِنَحْوِ مِائَةِ آيَةٍ.
وَكَذَلِكَ كَانَتْ خُطْبَتُهُ صلى الله عليه وسلم، إِنَّمَا هِيَ تَقْرِيرٌ لِأُصُولِ الْإِيمَانِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَلِقَائِهِ، وَذِكْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ وَأَهْلِ طَاعَتِهِ، وَمَا أَعَدَّ لِأَعْدَائِهِ وَأَهْلِ مَعْصِيَتِهِ، فَيَمْلَأُ الْقُلُوبَ مِنْ خُطْبَتِهِ إِيمَانًا وَتَوْحِيدًا، وَمَعْرِفَةً بِاللَّهِ وَأَيَّامِهِ، لَا كَخُطَبِ غَيْرِهِ الَّتِي إِنَّمَا تُفِيدُ أُمُورًا مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْخَلَائِقِ، وَهِيَ النَّوْحُ عَلَى الْحَيَاةِ، وَالتَّخْوِيفُ بِالْمَوْتِ، فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ لَا يَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ إِيمَانًا بِاللَّهِ، وَلَا تَوْحِيدًا لَهُ، وَلَا مَعْرِفَةً خَاصَّةً بِهِ، وَلَا تَذْكِيرًا بِأَيَّامِهِ، وَلَا بَعْثًا لِلنُّفُوسِ عَلَى مَحَبَّتِهِ وَالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِهِ، فَيَخْرُجُ السَّامِعُونَ وَلَمْ يَسْتَفِيدُوا فَائِدَةً غَيْرَ أَنَّهُمْ يَمُوتُونَ، وَتُقَسَّمُ أَمْوَالُهُمْ، وَيُبْلِي التُّرَابُ أَجْسَامَهُمْ، فَيَا لَيْتَ شِعْرِي أَيُّ إِيمَانٍ حَصَلَ بِهَذَا؟ ! وَأَيُّ تَوْحِيدٍ وَمَعْرِفَةٍ وَعِلْمٍ نَافِعٍ حَصَلَ بِهِ؟ .
وَمَنْ تَأَمَّلَ خُطَبَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَخُطَبَ أَصْحَابِهِ، وَجَدَهَا كَفِيلَةً بِبَيَانِ الْهُدَى وَالتَّوْحِيدِ، وَذِكْرِ صِفَاتِ الرَّبِّ جل جلاله، وَأُصُولِ الْإِيمَانِ الْكُلَّيَّةِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ، وَذِكْرِ آلَائِهِ تَعَالَى الَّتِي تُحَبِّبُهُ إِلَى خَلْقِهِ، وَأَيَّامِهِ الَّتِي تُخَوِّفُهُمْ مِنْ بَأْسِهِ، وَالْأَمْرِ بِذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ الَّذِي يُحَبِّبُهُمْ إِلَيْهِ، فَيَذْكُرُونَ مِنْ عَظَمَةِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ مَا يُحَبِّبُهُ إِلَى خَلْقِهِ، وَيَأْمُرُونَ مِنْ طَاعَتِهِ وَشُكْرِهِ، وَذِكْرِهِ مَا يُحَبِّبُهُمْ إِلَيْهِ، فَيَنْصَرِفُ السَّامِعُونَ وَقَدْ أَحَبُّوهُ وَأَحَبَّهُمْ، ثُمَّ طَالَ الْعَهْدُ وَخَفِيَ
نُورُ النُّبُوَّةِ، وَصَارَتِ الشَّرَائِعُ وَالْأَوَامِرُ رُسُومًا تُقَامُ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ حَقَائِقِهَا وَمَقَاصِدِهَا، فَأَعْطَوْهَا صُوَرَهَا وَزَيَّنُوهَا بِمَا زَيَّنُوهَا بِهِ، فَجَعَلُوا الرُّسُومَ وَالْأَوْضَاعَ سُنَنًا لَا يَنْبَغِي الْإِخْلَالُ بِهَا وَأَخَلُّوا بِالْمَقَاصِدِ الَّتِي لَا يَنْبَغِي الْإِخْلَالُ بِهَا، فَرَصَّعُوا الْخُطَبَ بِالتَّسْجِيعِ وَالْفِقَرِ، وَعِلْمِ الْبَدِيعِ، فَنَقَصَ بَلْ عَدِمَ حَظُّ الْقُلُوبِ مِنْهَا، وَفَاتَ الْمَقْصُودُ بِهَا.
فَمِمَّا حُفِظَ مِنْ خُطَبِهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يُكْثِرُ أَنْ يَخْطُبَ بِالْقُرْآنِ وَسُورَةِ (ق) . قَالَتْ أم هشام بنت الحارث بن النعمان: ( «مَا حَفِظْتُ (ق) إِلَّا مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا يَخْطُبُ بِهَا عَلَى الْمِنْبَرِ» ) .
وَحُفِظَ مِنْ خُطْبَتِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ وَفِيهَا ضَعْفٌ " ( «يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ عز وجل قَبْلَ أَنْ تَمُوتُوا، وَبَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ قَبْلَ أَنْ تَشْغَلُوا، وَصِلُوا الَّذِي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ رَبِّكُمْ بِكَثْرَةِ ذِكْرِكُمْ لَهُ وَكَثْرَةِ الصَّدَقَةِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ تُؤْجَرُوا وَتُحْمَدُوا وَتُرْزَقُوا. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عز وجل قَدْ فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْجُمُعَةَ فَرِيضَةً مَكْتُوبَةً فِي مَقَامِي هَذَا، فِي شَهْرِي هَذَا فِي عَامِي هَذَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، مَنْ وَجَدَ إِلَيْهَا سَبِيلًا، فَمَنْ تَرَكَهَا فِي حَيَاتِي أَوْ بَعْدَ مَمَاتِي جُحُودًا بِهَا أَوِ اسْتِخْفَافًا بِهَا وَلَهُ إِمَامٌ جَائِرٌ أَوْ عَادِلٌ، فَلَا جَمَعَ اللَّهُ شَمْلَهُ وَلَا بَارَكَ لَهُ فِي أَمْرِهِ، أَلَا وَلَا صَلَاةَ لَهُ، أَلَا وَلَا وُضُوءَ لَهُ، أَلَا وَلَا صَوْمَ لَهُ، أَلَا وَلَا زَكَاةَ لَهُ، أَلَا وَلَا حَجَّ لَهُ، أَلَا وَلَا بَرَكَةَ لَهُ حَتَّى يَتُوبَ، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، أَلَا وَلَا تَؤُمَّنَّ امْرَأَةٌ رَجُلًا، أَلَا وَلَا يَؤُمَّنَّ أَعْرَابِيٌّ مُهَاجِرًا، أَلَا وَلَا يَؤُمَّنَّ فَاجِرٌ مُؤْمِنًا، إِلَّا أَنْ يَقْهَرَهُ سُلْطَانٌ فَيَخَافَ سَيْفَهُ وَسَوْطَهُ» ) .