الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَحُفِظَ مِنْ خُطْبَتِهِ أَيْضًا: ( «الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ، مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ، وَلَا يَضُرُّ اللَّهَ شَيْئًا» ) رَوَاهُ أبو داود وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُ خُطَبِهِ فِي الْحَجِّ.
[فصل فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي خُطَبِهِ]
فَصْلٌ
فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي خُطَبِهِ
( «كَانَ إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَعَلَا صَوْتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ، يَقُولُ: " صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ» ) وَيَقُولُ ( «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ، وَيَقْرِنُ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى» ) .
وَيَقُولُ ( «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» ) .
ثُمَّ يَقُولُ:
( «أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ، مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِأَهْلِهِ، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَإِلَيَّ وَعَلَيَّ» ) رَوَاهُ مسلم.
وَفِي لَفْظٍ: كَانَتْ خُطْبَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْجُمُعَةِ، يَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ عَلَى أَثَرِ ذَلِكَ وَقَدْ عَلَا صَوْتُهُ فَذَكَرَهُ.
وَفِي لَفْظٍ: يَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ يَقُولُ:( «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَخَيْرُ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ» ) .
وَفِي لَفْظٍ لِلنَّسَائِيِّ: ( «وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ» ) .
وَكَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ بَعْدَ التَّحْمِيدِ وَالثَّنَاءِ وَالتَّشَهُّدِ: " أَمَّا بَعْدُ ".
وَكَانَ يُقَصِّرُ الْخُطْبَةَ وَيُطِيلُ الصَّلَاةَ، وَيُكْثِرُ الذِّكْرَ وَيَقْصِدُ الْكَلِمَاتِ الْجَوَامِعَ، وَكَانَ يَقُولُ:( «إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ» ) .
وَكَانَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ فِي خُطْبَتِهِ قَوَاعِدَ الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعَهُ، وَيَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ فِي خُطْبَتِهِ إِذَا عَرَضَ لَهُ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ، كَمَا أَمَرَ الدَّاخِلَ وَهُوَ يَخْطُبُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ.
وَنَهَى الْمُتَخَطِّيَ رِقَابَ النَّاسِ عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَرَهُ بِالْجُلُوسِ.
وَكَانَ يَقْطَعُ خُطْبَتَهُ لِلْحَاجَةِ تَعْرِضُ، أَوِ السُّؤَالِ مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَيُجِيبُهُ، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى خُطْبَتِهِ، فَيُتِمُّهَا.
وَكَانَ رُبَّمَا نَزَلَ عَنِ الْمِنْبَرِ لِلْحَاجَةِ، ثُمَّ يَعُودُ فَيُتِمُّهَا كَمَا ( «نَزَلَ لِأَخْذِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رضي الله عنهما، فَأَخَذَهُمَا ثُمَّ رَقِيَ بِهِمَا الْمِنْبَرَ، فَأَتَمَّ خُطْبَتَهُ» ) .
وَكَانَ يَدْعُو الرَّجُلَ فِي خُطْبَتِهِ: تَعَالَ يَا فُلَانُ، اجْلِسْ يَا فُلَانُ، صَلِّ يَا فُلَانُ.
وَكَانَ يَأْمُرُهُمْ بِمُقْتَضَى الْحَالِ فِي خُطْبَتِهِ، فَإِذَا رَأَى مِنْهُمْ ذَا فَاقَةٍ وَحَاجَةٍ أَمَرَهُمْ بِالصَّدَقَةِ وَحَضَّهُمْ عَلَيْهَا.
وَكَانَ يُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ فِي خُطْبَتِهِ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَدُعَائِهِ.
( «وَكَانَ يَسْتَسْقِي بِهِمْ إِذَا قَحَطَ الْمَطَرُ فِي خُطْبَتِهِ» ) .
وَكَانَ يُمْهِلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ، فَإِذَا اجْتَمَعُوا خَرَجَ إِلَيْهِمْ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ شَاوِيشٍ يَصِيحُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَا لُبْسِ طَيْلَسَانٍ وَلَا طُرْحَةٍ وَلَا سَوَادٍ، فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ اسْتَقْبَلَ النَّاسَ بِوَجْهِهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَدْعُ مُسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةِ، ثُمَّ يَجْلِسُ وَيَأْخُذُ بلال فِي الْأَذَانِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَخَطَبَ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْخُطْبَةِ، لَا بِإِيرَادِ خَبَرٍ وَلَا غَيْرِهِ.
وَلَمْ يَكُنْ يَأْخُذُ بِيَدِهِ سَيْفًا وَلَا غَيْرَهُ، وَإِنَّمَا ( «كَانَ يَعْتَمِدُ عَلَى قَوْسٍ أَوْ عَصًا قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَ الْمِنْبَرَ،» ) وَكَانَ فِي الْحَرْبِ يَعْتَمِدُ عَلَى قَوْسٍ، وَفِي الْجُمُعَةِ يَعْتَمِدُ عَلَى
عَصًا. وَلَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ أَنَّهُ اعْتَمَدَ عَلَى سَيْفٍ، وَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ الْجُهَّالِ أَنَّهُ كَانَ يَعْتَمِدُ عَلَى السَّيْفِ دَائِمًا، وَأَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الدِّينَ قَامَ بِالسَّيْفِ، فَمِنْ فَرْطِ جَهْلِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُحْفَظُ عَنْهُ بَعْدُ اتِّخَاذُ الْمِنْبَرِ أَنَّهُ كَانَ يَرْقَاهُ بِسَيْفٍ وَلَا قَوْسٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَلَا قَبْلَ اتِّخَاذِهِ أَنَّهُ أَخَذَ بِيَدِهِ سَيْفًا الْبَتَّةَ وَإِنَّمَا كَانَ يَعْتَمِدُ عَلَى عَصًا أَوْ قَوْسٍ.
وَكَانَ مِنْبَرُهُ ثَلَاثَ دَرَجَاتٍ، وَكَانَ قَبْلَ اتِّخَاذِهِ يَخْطُبُ إِلَى جِذْعٍ يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا تَحَوَّلَ إِلَى الْمِنْبَرِ، حَنَّ الْجِذْعُ حَنِينًا سَمِعَهُ أَهْلُ الْمَسْجِدِ، فَنَزَلَ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم وَضَمَّهُ، قَالَ أنس: حَنَّ لَمَّا فَقَدَ مَا كَانَ يَسْمَعُ مِنَ الْوَحْيِ، وَفَقْدَهُ الْتِصَاقَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَلَمْ يُوضَعِ الْمِنْبَرُ فِي وَسَطِ الْمَسْجِدِ، وَإِنَّمَا وُضِعَ فِي جَانِبِهِ الْغَرْبِيِّ قَرِيبًا مِنَ الْحَائِطِ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَائِطِ قَدْرُ مَمَرِّ الشَّاةِ.
وَكَانَ إِذَا جَلَسَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ، أَوْ خَطَبَ قَائِمًا فِي الْجُمُعَةِ،
اسْتَدَارَ أَصْحَابُهُ إِلَيْهِ بِوُجُوهِهِمْ، وَكَانَ وَجْهُهُ صلى الله عليه وسلم قِبَلَهُمْ فِي وَقْتِ الْخُطْبَةِ.
وَكَانَ يَقُومُ فَيَخْطُبُ، ثُمَّ يَجْلِسُ جِلْسَةً خَفِيفَةً، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ الثَّانِيَةَ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا أَخَذَ بلال فِي الْإِقَامَةِ. وَكَانَ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالدُّنُوِّ مِنْهُ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالْإِنْصَاتِ وَيُخْبِرُهُمْ ( «أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَالَ لِصَاحِبِهِ: أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَا» . وَيَقُولُ: «مَنْ لَغَا فَلَا جُمُعَةَ لَهُ» ) .
وَكَانَ يَقُولُ: ( «مَنْ تَكَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، فَهُوَ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا، وَالَّذِي يَقُولُ لَهُ: أَنْصِتْ لَيْسَتْ لَهُ جُمُعَةٌ» ) . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ.
وَأَصْلُهُ فِي " مُسْنَدِ أحمد ".
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: ( «يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ: رَجُلٌ حَضَرَهَا يَلْغُو وَهُوَ حَظُّهُ مِنْهَا، وَرَجُلٌ حَضَرَهَا يَدْعُو فَهُوَ رَجُلٌ دَعَا اللَّهَ عز وجل إِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ، وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُ، وَرَجُلٌ حَضَرَهَا بِإِنْصَاتٍ وَسُكُوتٍ وَلَمْ يَتَخَطَّ رَقَبَةَ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُؤْذِ أَحَدًا فَهِيَ كَفَّارَةٌ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ الَّتِي تَلِيهَا، وَزِيَادَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عز وجل يَقُولُ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] » ) ذَكَرَهُ أحمد وأبو داود.
وَكَانَ إِذَا فَرَغَ بلال مِنَ الْأَذَانِ، أَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْخُطْبَةِ وَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ يَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ الْبَتَّةَ، وَلَمْ يَكُنِ الْأَذَانُ إِلَّا وَاحِدًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ كَالْعِيدِ لَا سُنَّةَ لَهَا قَبْلَهَا، وَهَذَا أَصَحُّ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ، وَعَلَيْهِ تَدُلُّ السُّنَّةُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ، فَإِذَا رَقِيَ الْمِنْبَرَ أَخَذَ بلال فِي أَذَانِ الْجُمُعَةِ، فَإِذَا أَكْمَلَهُ أَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْخُطْبَةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَهَذَا كَانَ رَأْيَ عَيْنٍ فَمَتَى كَانُوا يُصَلُّونَ السُّنَّةَ؟! وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا فَرَغَ بلال رضي الله عنه مِنَ الْأَذَانِ قَامُوا كُلُّهُمْ فَرَكَعُوا رَكْعَتَيْنِ فَهُوَ أَجْهَلُ النَّاسِ بِالسُّنَّةِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ لَا سُنَّةَ قَبْلَهَا هُوَ مَذْهَبُ مالك وأحمد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.
وَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ لَهَا سُنَّةً مِنْهُمْ مَنِ احْتَجَّ أَنَّهَا ظُهْرٌ مَقْصُورَةٌ، فَيَثْبُتُ لَهَا أَحْكَامُ الظُّهْرِ، وَهَذِهِ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ جِدًّا، فَإِنَّ الْجُمُعَةَ صَلَاةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا تُخَالِفُ الظُّهْرَ فِي الْجَهْرِ وَالْعَدَدِ، وَالْخُطْبَةِ، وَالشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ لَهَا، وَتُوَافِقُهَا فِي الْوَقْتِ، وَلَيْسَ إِلْحَاقُ مَسْأَلَةِ النِّزَاعِ بِمَوَارِدِ الِاتِّفَاقِ أَوْلَى مِنْ إِلْحَاقِهَا بِمَوَارِدِ الِافْتِرَاقِ، بَلْ إِلْحَاقُهَا بِمَوَارِدِ الِافْتِرَاقِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ مِمَّا اتَّفَقَا فِيهِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ السُّنَّةَ لَهَا هُنَا بِالْقِيَاسِ عَلَى الظُّهْرِ، وَهُوَ أَيْضًا قِيَاسٌ فَاسِدٌ، فَإِنَّ السُّنَّةَ مَا كَانَ ثَابِتًا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، أَوْ سُنَّةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، وَلَيْسَ فِي مَسْأَلَتِنَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ إِثْبَاتُ السُّنَنِ فِي مِثْلِ هَذَا بِالْقِيَاسِ؛
لِأَنَّ هَذَا مِمَّا انْعَقَدَ سَبَبُ فِعْلِهِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْهُ وَلَمْ يَشْرَعْهُ، كَانَ تَرْكُهُ هُوَ السُّنَّةُ، وَنَظِيرُ هَذَا أَنْ يُشْرَعَ لِصَلَاةِ الْعِيدِ سُنَّةٌ قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا بِالْقِيَاسِ، فَلِذَلِكَ كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُسَنُّ الْغُسْلُ لِلْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَلَا لِرَمْيِ الْجِمَارِ، وَلَا لِلطَّوَافِ وَلَا لِلْكُسُوفِ وَلَا لِلِاسْتِسْقَاءِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ لَمْ يَغْتَسِلُوا لِذَلِكَ مَعَ فِعْلِهِمْ لِهَذِهِ الْعِبَادَاتِ.
وَمِنْهُمْ مَنِ احْتَجَّ بِمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " فَقَالَ: بَابُ الصَّلَاةِ قَبْلَ الْجُمُعَةِ وَبَعْدَهَا: حَدَّثَنَا عبد الله بن يوسف، أَنْبَأَنَا مالك عَنْ نافع عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ( «كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ، وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ، وَقَبْلَ الْعِشَاءِ رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ لَا يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَنْصَرِفَ، فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ» ) وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْبُخَارِيُّ إِثْبَاتَ السُّنَّةِ قَبْلَ الْجُمُعَةِ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ أَنَّهُ هَلْ وَرَدَ فِي الصَّلَاةِ قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا شَيْءٌ؟ ثُمَّ ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ، أَيْ أَنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَنْهُ فِعْلُ السُّنَّةِ إِلَّا بَعْدَهَا، وَلَمْ يَرِدْ قَبْلَهَا شَيْءٌ.
وَهَذَا نَظِيرُ مَا فَعَلَ فِي كِتَابِ الْعِيدَيْنِ، فَإِنَّهُ قَالَ: بَابُ الصَّلَاةِ قَبْلَ الْعِيدِ وَبَعْدَهَا، وَقَالَ أبو المعلى: سَمِعْتُ سعيدا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَرِهَ الصَّلَاةَ قَبْلَ الْعِيدِ. ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ( «خَرَجَ يَوْمَ الْفِطْرِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهُمَا وَلَا بَعْدَهُمَا وَمَعَهُ بلال» ) الْحَدِيثَ.
فَتَرْجَمَ لِلْعِيدِ مِثْلَ مَا تَرْجَمَ لِلْجُمُعَةِ، وَذَكَرَ لِلْعِيدِ حَدِيثًا دَالًّا عَلَى أَنَّهُ لَا تُشْرَعُ الصَّلَاةُ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ مِنَ الْجُمُعَةِ كَذَلِكَ.
وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْجُمُعَةَ لَمَّا كَانَتْ بَدَلًا عَنِ الظُّهْرِ - وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ السُّنَّةَ قَبْلَ الظُّهْرِ وَبَعْدَهَا - دَلَّ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا قَالَ ( «وَكَانَ لَا يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَنْصَرِفَ» ) بَيَانًا لِمَوْضِعِ صَلَاةِ السُّنَّةِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ، وَأَنَّهُ بَعْدَ الِانْصِرَافِ، وَهَذَا الظَّنُّ غَلَطٌ مِنْهُ، لِأَنَّ الْبُخَارِيَّ قَدْ ذَكَرَ فِي بَابِ التَّطَوُّعِ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه:( «صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ» )
فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْجُمُعَةَ عِنْدَ الصَّحَابَةِ صَلَاةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا غَيْرَ الظُّهْرِ، وَإِلَّا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذِكْرِهَا لِدُخُولِهَا تَحْتَ اسْمِ الظُّهْرِ، فَلَمَّا لَمْ يَذْكُرْ لَهَا سُنَّةً إِلَّا بَعْدَهَا عُلِمَ أَنَّهُ لَا سُنَّةَ لَهَا قَبْلَهَا.
وَمِنْهُمْ مَنِ احْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي " سُنَنِهِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وجابر، قَالَ جَاءَ سليك الغطفاني وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فَقَالَ لَهُ:( «أَصَلَّيْتَ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ؟ " قَالَ لَا. قَالَ: " فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا» ) وَإِسْنَادُهُ ثِقَاتٌ.
قَالَ أَبُو الْبَرَكَاتِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَقَوْلُهُ: (قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ) يَدُلُّ عَنْ أَنَّ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ سُنَّةُ الْجُمُعَةِ وَلَيْسَتَا تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ. قَالَ: شَيْخُنَا حَفِيدُهُ أبو العباس: وَهَذَا غَلَطٌ، وَالْحَدِيثُ الْمَعْرُوفُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ جابر، قَالَ: «دَخَلَ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فَقَالَ: (أَصَلَّيْتَ قَالَ: لَا. قَالَ: فَصَلِّ
رَكْعَتَيْنِ) » . وَقَالَ ( «إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ الْجُمُعَةَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا» ) . فَهَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَأَفْرَادُ ابْنِ مَاجَهْ فِي الْغَالِبِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ.
وَقَالَ شَيْخُنَا أبو الحجاج الحافظ المزي: هَذَا تَصْحِيفٌ مِنَ الرُّوَاةِ إِنَّمَا هُوَ ( «أَصَلَّيْتَ قَبْلَ أَنْ تَجْلِسَ» ) فَغَلِطَ فِيهِ النَّاسِخُ.
وَقَالَ: وَكِتَابُ ابْنِ مَاجَهْ إِنَّمَا تَدَاوَلَتْهُ شُيُوخٌ لَمْ يَعْتَنُوا بِهِ بِخِلَافِ صَحِيحَيِ الْبُخَارِيِّ ومسلم، فَإِنَّ الْحُفَّاظَ تَدَاوَلُوهُمَا، وَاعْتَنَوْا بِضَبْطِهِمَا وَتَصْحِيحِهِمَا، قَالَ: وَلِذَلِكَ وَقَعَ فِيهِ أَغْلَاطٌ وَتَصْحِيفٌ.
قُلْتُ: وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا أَنَّ الَّذِينَ اعْتَنَوْا بِضَبْطِ سُنَنِ الصَّلَاةِ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا، وَصَنَّفُوا فِي ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْأَحْكَامِ وَالسُّنَنِ وَغَيْرِهَا، لَمْ يَذْكُرْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ فِي سُنَّةِ الْجُمُعَةِ قَبْلَهَا، وَإِنَّمَا ذَكَرُوهُ فِي اسْتِحْبَابِ فِعْلِ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَالْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَاحْتَجُّوا بِهِ عَلَى مَنْ مَنَعَ مِنْ فِعْلِهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ فَلَوْ كَانَتْ هِيَ سُنَّةَ الْجُمُعَةِ لَكَانَ ذِكْرُهَا هُنَاكَ، وَالتَّرْجَمَةُ عَلَيْهَا وَحِفْظُهَا وَشُهْرَتُهَا أَوْلَى مِنْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْ بِهَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ إِلَّا الدَّاخِلَ لِأَجَلِ أَنَّهَا تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ.
وَلَوْ كَانَتْ سُنَّةَ الْجُمُعَةِ، لَأَمَرَ بِهَا الْقَاعِدِينَ أَيْضًا وَلَمْ يَخُصَّ بِهَا الدَّاخِلَ وَحْدَهُ.
وَمِنْهُمْ مَنِ احْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ أبو داود فِي " سُنَنِهِ " قَالَ: حَدَّثَنَا مسدد، قَالَ حَدَّثَنَا إسماعيل، حَدَّثَنَا أيوب، عَنْ نافع، قَالَ:«كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُطِيلُ الصَّلَاةَ قَبْلَ الْجُمُعَةِ، وَيُصَلِّي بَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ، وَحَدَّثَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ» .
وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ لِلْجُمُعَةِ سُنَّةً قَبْلَهَا وَإِنَّمَا أَرَادَ
بِقَوْلِهِ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ: أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ فِي بَيْتِهِ لَا يُصَلِّيهِمَا فِي الْمَسْجِدِ، وَهَذَا هُوَ الْأَفْضَلُ فِيهِمَا، كَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ( «كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ» )
وَأَمَّا إِطَالَةُ ابْنِ عُمَرَ الصَّلَاةَ قَبْلَ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ تَطَوُّعٌ مُطْلَقٌ، وَهَذَا هُوَ الْأَوْلَى لِمَنْ جَاءَ إِلَى الْجُمُعَةِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالصَّلَاةِ حَتَّى يَخْرُجَ الْإِمَامُ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، ونبيشة الهذلي عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: ( «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ، فَصَلَّى مَا قُدِّرَ لَهُ، ثُمَّ أَنْصَتَ حَتَّى يَفْرُغَ الْإِمَامُ مِنْ خُطْبَتِهِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَعَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى، وَفَضْلُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ» )
وَفِي حَدِيثِ نبيشة الهذلي: ( «إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى الْمَسْجِدِ لَا يُؤْذِي أَحَدًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْإِمَامَ خَرَجَ، صَلَّى مَا بَدَا لَهُ وَإِنْ وَجَدَ الْإِمَامَ خَرَجَ جَلَسَ فَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ حَتَّى يَقْضِيَ الْإِمَامُ جُمُعَتَهُ وَكَلَامَهُ، إِنْ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ فِي جُمُعَتِهِ تِلْكَ ذُنُوبُهُ كُلُّهَا أَنْ تَكُونَ كَفَّارَةً لِلْجُمُعَةِ الَّتِي تَلِيهَا» ) هَكَذَا كَانَ هَدْيُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم.
قَالَ ابن المنذر: رَوَيْنَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الْجُمُعَةِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي ثَمَانِ رَكَعَاتٍ.
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ بَابِ التَّطَوُّعِ الْمُطْلَقِ، وَلِذَلِكَ اخْتُلِفَ فِي الْعَدَدِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ الترمذي فِي " الْجَامِعِ ": وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ (كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الْجُمُعَةِ أَرْبَعًا وَبَعْدَهَا أَرْبَعًا) . وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَالثَّوْرِيُّ.
وَقَالَ إسحاق بن إبراهيم بن هانئ النيسابوري: رَأَيْتُ أبا عبد الله إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ يُصَلِّي إِلَى أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ قَارَبَتْ أَنْ تَزُولَ، فَإِذَا قَارَبَتْ أَمْسَكَ عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى يُؤَذِّنَ الْمُؤَذِّنُ، فَإِذَا أَخَذَ فِي الْأَذَانِ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَرْبَعًا، يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِالسَّلَامِ، فَإِذَا صَلَّى الْفَرِيضَةَ انْتَظَرَ فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهُ فَيَأْتِي بَعْضَ الْمَسَاجِدِ الَّتِي بِحَضْرَةِ الْجَامِعِ فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَجْلِسُ وَرُبَّمَا صَلَّى أَرْبَعًا، ثُمَّ يَجْلِسُ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ فَتِلْكَ سِتُّ رَكَعَاتٍ عَلَى حَدِيثِ علي وَرُبَّمَا صَلَّى بَعْدَ السِّتِّ سِتًّا أُخَرَ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ.
وَقَدْ أَخَذَ مِنْ هَذَا بَعْضُ أَصْحَابِهِ رِوَايَةً: أَنَّ لِلْجُمُعَةِ قَبْلَهَا سُنَّةَ رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَرْبَعًا وَلَيْسَ هَذَا بِصَرِيحٍ، بَلْ وَلَا ظَاهِرٍ، فَإِنَّ أحمد كَانَ يُمْسِكُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِ النَّهْيِ، فَإِذَا زَالَ وَقْتُ النَّهْيِ، قَامَ فَأَتَمَّ تَطَوُّعَهُ إِلَى خُرُوجِ الْإِمَامِ فَرُبَّمَا أَدْرَكَ أَرْبَعًا، وَرُبَّمَا لَمْ يُدْرِكْ إِلَّا رَكْعَتَيْنِ.
وَمِنْهُمْ مَنِ احْتَجَّ عَلَى ثُبُوتِ السُّنَّةِ قَبْلَهَا بِمَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي " سُنَنِهِ " حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ، حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ عَنْ مبشر بن عبيد، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَةَ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ ( «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَرْكَعُ قَبْلَ الْجُمُعَةِ أَرْبَعًا، لَا يَفْصِلُ بَيْنَهَا فِي شَيْءٍ مِنْهَا» )
قَالَ ابْنُ
مَاجَهْ: بَابُ الصَّلَاةِ قَبْلَ الْجُمُعَةِ فَذَكَرَهُ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ عِدَّةُ بَلَايَا، إِحْدَاهَا: بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ: إِمَامُ الْمُدَلِّسِينَ، وَقَدْ عَنْعَنَهُ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالسَّمَاعِ.
الثَّانِيَةُ: مبشر بن عبيد الْمُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ عبد الله بن أحمد: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: شَيْخٌ كَانَ يُقَالُ لَهُ: مبشر بن عبيد كَانَ بِحِمْصَ أَظُنُّهُ كُوفِيًّا، رَوَى عَنْهُ بَقِيَّةُ، وأبو المغيرة، أَحَادِيثُهُ أَحَادِيثُ مَوْضُوعَةٌ كَذِبٌ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: مبشر بن عبيد مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، أَحَادِيثُهُ لَا يُتَابَعُ عَلَيْهَا.
الثَّالِثَةُ: الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَأَةَ الضَّعِيفُ الْمُدَلِّسُ.
الرَّابِعَةُ: عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: كَانَ هشيم يَتَكَلَّمُ فِيهِ، وَضَعَّفَهُ أحمد وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ البيهقي: عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، ومبشر بن عبيد الحمصي مَنْسُوبٌ إِلَى وَضْعِ الْحَدِيثِ، وَالْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَأَةَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلَعَلَّ الْحَدِيثَ انْقَلَبَ عَلَى بَعْضِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ الضُّعَفَاءِ لِعَدَمِ ضَبْطِهِمْ وَإِتْقَانِهِمْ، فَقَالَ: قَبْلَ الْجُمُعَةِ أَرْبَعًا، وَإِنَّمَا هُوَ بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَيَكُونُ مُوَافِقًا لِمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " وَنَظِيرُ هَذَا: قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الله بن عمر العمري: ( «لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ» ) قَالَ الشَّافِعِيُّ: كَأَنَّهُ سَمِعَ نافعا يَقُولُ: لِلْفَرَسِ سَهْمَانِ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ، فَقَالَ لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ. حَتَّى يَكُونَ مُوَافِقًا لِحَدِيثِ أَخِيهِ عبيد الله، قَالَ: وَلَيْسَ يَشُكُّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَقْدِيمِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَلَى أَخِيهِ عبد الله فِي الْحِفْظِ.
قُلْتُ: وَنَظِيرُ هَذَا مَا قَالَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ( «لَا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيهَا، وَهِيَ تَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا قَدَمَهُ فَيَزْوِي بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ وَتَقُولُ قَطْ قَطْ. وَأَمَّا الْجَنَّةُ: فَيُنْشِئُ
اللَّهُ لَهَا خَلْقًا» ) فَانْقَلَبَ عَلَى بَعْضِ الرُّوَاةِ، فَقَالَ: أَمَّا النَّارُ فَيُنْشِئُ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا.
قُلْتُ: وَنَظِيرُ هَذَا حَدِيثُ عائشة ( «إِنَّ بلالا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ» ) وَهُوَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ "، فَانْقَلَبَ عَلَى بَعْضِ الرُّوَاةِ، فَقَالَ ( «ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ بلال» )
وَنَظِيرُهُ أَيْضًا عِنْدِي حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ ( «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلَا يَبْرُكْ كَمَا يَبْرُكُ الْبَعِيرُ وَلْيَضَعْ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ» ) وَأَظُنُّهُ وَهِمَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - فِيمَا قَالَهُ رَسُولُهُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ " وَلْيَضَعْ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ ". كَمَا قَالَ وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ: ( «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَجَدَ وَضَعَ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ» )
وَقَالَ الخطابي وَغَيْرُهُ: وَحَدِيثُ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ، أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَدْ سَبَقَتِ الْمَسْأَلَةُ مُسْتَوْفَاةً فِي هَذَا الْكِتَابِ وَالْحَمْدُ لِلِّهِ.
وَكَانَ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى الْجُمُعَةَ دَخَلَ إِلَى مَنْزِلِهِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ سُنَّتَهَا،