المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ مجزرة قرية ميلوزة - سلسلة جهاد شعب الجزائر - جـ ١٠

[بسام العسلي]

الفصل: ‌ مجزرة قرية ميلوزة

8 -

‌ مجزرة قرية ميلوزة

تقع في كل حرب من الحروب - التقليدية أو الثورية - بعض الأحداث المثيرة والغريبة، وهي أحداث قد لا تكون ذات أهمية من الناحية العسكرية، إلا أنها تحمل مضمونا كبيرا من حيث تأثيرها في الرأي العام المحلي أو العالمي. وقد وقع مثل هذا الحدث في قرية (ميلوزة) في أواخر (ماي - أيار - 1957) حيث زعم أن الذكور من أهل هذه القرية الواقعة في وسط الجزائر، والذين يبلغ عددهم ثلاثمائة وثلاثة أشخاص، قد قتلوا في ليلة واحدة بسبب ولائهم للحركة الوطنية الجزائرية التي كان يتزعمها (مصالي الحاج). وقد أعلن رئيس الجمهورية الافرنسية (كوتي) عن تأثره الشديد لهذا الحادث، فناشد الضمير العالمي أن يحمل على هذا العمل وأن يستنكره.

وقد أحيط الحادث بالكثير من الغموض، ولم تسمح السلطات الإفرنسية لأي مراقب خارجي محايد بإجراء تحقيق في الموضوع، أو إحصاء عدد القتلى، والظاهر أن هذا الحادث لم يقع في قرية (ميلوزة) ذاتها وإنما في قرية مجاورة لها. وأكد الأمين العام للحركة الوطنية الجزائرية بأن للإفرنسيين علاقة بالحادث، وقد اتهمت جبهة

ص: 105

التحرير الوطني الجزائرية القوات الافرنسية بالحادث، وطلبت إلى الأمين العام لهيئة الأمم المتحدة أن يطلب من فرنسا الموافقة على إرسال لجنة دولية للتحقيق في القضية. ولكن الحكومة الافرنسية رفضت الطلب، وبعد حوار طويل في الصحافة العالمية، انتهى البحث في موضوع هذه المجزرة.

وسواء أكان الصراع بين جبهة التحرير وبين حركة مصالي الحاج وراء هذه المجزرة أو لم يكن، فإن الوضع في وسط الجزائر، خلال منتصف العام 1957، يشرح ما يمكن أن تحدثه أي حرب استعمارية من انقسامات في وسط الشعب الواحد، وما تحدثه من اضطراب في العلاقات الاجتماعية بسبب الاختلاف بين مراكز القوى، وبنتيجة تباين الولاء لها. وكانت هذه المنطقة مركزا (للجنرال بيلونس) وهو عضو سابق في اللجنة المركزية لحركة انتصار الحريات والديموقراطية. وقد عملت الادارة الافرنسية الاستعمارية على دعمه، وإمداده بالقوات والأسلحة، حتى يتصدى لقوات الثورة بحجة (الولاء لمصالي الحاج وحركته الوطنية). ولما شعر (بيلونس) بضعفه، وبعجزه عن مقاومة ضغط جبهة التحرير وقواتها العسكرية، عقد اتفاقا مع الجيش الإفرنسي يقضي بالحصول على السلاح من الإفرنسيين، وترك حرية العمل له من أجل مقاومة نشاط الجبهة وأعمالها وأدى هذا الأسلوب الذي سبق للافرنسيين استخدامه بنجاح في (فييتنام) إلى غضب جبهة التحرير.

ومن المحتمل أن يكون هذا الصراع هو الذي مهد السبيل للاصطدام العنيف بين الجبهة الوطنية الجزائرية، وحركة (مصالي الحاج). وعلى كل حال، فإن الجبهة لم تحاول إلقاء كل ثقلها في هذه المعركة الهامشية المصطنعة، وتركت (للجنرال بيلونس)

ص: 106

حريته دون أن تعمل على تصفيته. حتى إذا ما جاء عام 1958، تقدمت إليه الادارة الاستعمارية الإفرنسية بطلب من أجل الانضمام إلى الحركة التي تبناها الجيش الافرنسي، بالدعوة إلى التعاون بين

الجزائريين والافرنسيين في البلاد (حركة 13 أيار - مايو - 1958).

ولكن (بيلونس) رفض هذه الدعوة. فوقع صدام بينه وبين جماعة الانقلاب من رجال الجيش الافرنسي والمستوطنين وسقط (بيلونس) قتيلا في الثالث عشر من أيار - مايو - (يوم الانقلاب)، ثم زعم الافرنسون فيما بعد أنهم أعدموه.

ووقع حادث غريب آخر في الصراع الجزائري - الافرنسي، أظهر بوضوح مدى الانقسام الواقع بين الاستعماريين ومسلمي الجزائر، وأكد طبيعة الحرب التي أخذت أبعادها الدينية كرد فعل طبيعي ضد الظاهرة الصليبية التي اتسمت بها حرب الاستعمار منذ بدايتها.

كان جميع الحكام العامين الإفرنسيين في الجزائر، تواقين دائما، ومنذ نشوب الثورة، إلى إظهار وجود تأييد جزائري إسلامي إلى جانبهم، وضمن هذا الإطار عمل الحاكم العام (سوستيل) وهو من دعاة (سياسة التكامل) على تنظيم جماعات مسلحة من مسلمي القبائل (البربر) تحت ستار (الدفاع عن النفس) لتتصدى لمقاومة جيش التحرير (سنة 1955) وكان بين الجزائريين الذين طلبت إليهم السلطات الإفرنسية الانضمام الى هذه الجماعات، عدد غير قليل من مجاهدي جيش التحرير، وقد انضموا الى المشروع الجديد بعد أن حصلوا على موافقة قائدهم. وقد ظهرت المشكلة الأولى للجبهة، عندما صدر الأمر لهذه الجماعات، بعد أن اجتازت مرحلة

ص: 107

من التدريب، بالخروج الى الجبال لقتال جيش التحرير الوطني. وعقد قادة القبائل مؤتمرا سريا لمناقشة الموقف، وقرروا تمثيل معارك صورية مع إخوانهم المجاهدين، وأن يتركوا على أرض المعركة (جثث الخونة) الذين يتم إعدامهم عادة.

وقد طبق هذا النظام بصورة دقيقة بضعة أشهر، كان فيها السلاح والمدافع والذخيرة، تتسرب كلها من هذه المجموعات الى المجاهدين في (منطقة القبائل). ومن السخرية حقا - بالكفاءة الافرنسية - ألا يكتشف القادة الاستعماريون سر هذه العملية، إلا عندما أعلنها مباشرة القائد (عبانة) أبرز قادة منطقة القبائل، ولكن وقبل أن يسمح (عبانة) لنفسه يكشف السر، وقبل أن يتمكن الافرنسيون أيضا من القيام بأية عملية انتقامية ضد هذه الجماعات، كان أفرادها قد قتلوا ضباطهم الافرنسيين، وعادوا إلى الالتحاق بقواعدهم لخوض الصراع مع إخوانهم المجاهدين.

لقد حملت هذه العملية اسم (الطائر الأزرق). وما من أحد يعرف سبب هذه التسمية. غير أن الأمر الثابت والمؤكد هو أن هذه العملية لم تكن الفريدة في نوعها. ويضم التاريخ - غير الرسمي وغير المعلن - للثورة الجزائرية، كثيرا من القصص المماثلة، والأحداث المثيرة وقد عرف عن بعض الضباط الافرنسيين - من رجال الخدمات الادارية الخاصة - أنهم تعاونوا أحيانا مع قادة جبهة التحرير الوطني - المحليين - أحيانا عن قصد، وأحيانا بدون قصد، في مشاريع مفيدة للجانبين. وكثيرا ما كان بعض الأثرياء من المستوطنين يجدون أنفسهم مرغمين على دفع الجزية إلى جبهة التحرير، مقابل سلامة ممتلكاتهم والمحافظة على أرواحهم.

ص: 108

وكثيرا أيضا ما قيل من أن عددا منهم كان يقدم الملجأ والمأوى لقادة الثورة، ويضمن حمايتهم من الجيش الافرنسي.

وتبقى هذه الظاهرة من أبرز الظواهر التي حملت في مضمونها العامل الحاسم لانتصار الثورة. لقد جهدت فرنسا طوال (130) عاما على خلق هوة بين مسلمي الجزائر (عربهم وبربرهم) وكانت الوحدة الاسلامية تحت راية الجهاد في سبيل الله هي العامل الأقوى من كل محاولات التجزئة.

ص: 109