المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ تطوير الصراع المسلح - سلسلة جهاد شعب الجزائر - جـ ١٠

[بسام العسلي]

الفصل: ‌ تطوير الصراع المسلح

4 -

‌ تطوير الصراع المسلح

وقعت في يوم (20 - أوت - آب - 1955) معركة حاسمة كانت نقطة تحول في حياة الثورة. فعلى الرغم من وصول إمدادات إفرنسية كبيرة، وعلى الرغم أيضا من إعلان (حالة الطوارىء) فقد تابع جيش التحرير الوطني الجزائري تطوير أعماله الثورية. وخلق حالة من الفزع وعدم الطمأنينة في المزارع الفردية وفي مخازن الغلال، وفي قطع طرق المواصلات. ونجحت مقاطعة المنتجات الإفرنسية نجاحا منقطع النظير (مثل مقاطعة الأطباق أو الصحون).

وجاءت معركة العشرين من أوت - آب - 1955 تتويجا لهذه المجهودات كلها، فبعد أشهر طويلة من الإعداد، قام جيش التحرير بمجموعة من الهجمات المنسقة والتي تم تنفيذها في وقت واحد، ضد أهداف محددة في منطقة قسنطينة. وكان القتال أشد ما يكون في (كولو) و (سكيكدة - أو فيليب فيل كما كان يسميها الإفرنسيون) و (غويلمة) و (قسنطينة). وفي هذا الوقت ذاته، قام المغاربة (المراكشيون) بالهجوم على قرية (وادي زم) في المغرب، وقامت اضطرابات أخرى في أماكن أخرى بمناسبة الذكرى الثانية لقيام السلطات الإفرنسية بخلع السلطان (مولاي محمد الخامس). وفي

ص: 75

الجزائر أوقع جيش التحرير بالمستوطنين الإفرنسيين خسائر فادحة. وقام الجيش الإفرنسي، تدعمه القوات الجوية، بمجموعة من الإجراءات الانتقامية الرهيبة. وقد كتبت (جبهة التحرير) عن هذه المعركة - ما يلي:

(لقد تحطمت قبضة العدو، وتنفس الشعب الصعداء، وعادت الثقة إلى النفوس. وقد ربحنا معركة الولاية بصورة مؤكدة. وأقمنا الدليل على الصعيد القومي بأن في استطاعتنا، عندما نريد، أن نهز إرادة العدو وجهازه العسكري، ونعرضه للخطر). (وفي واشنطن، حيث عرضت القضية الجزائرية للمرة الأولى، تمكن العالم من أن يكون لنفسه صورة عن إمكانياتنا وتصميمنا)(*).

كان لهجمات العشرين من (أوت - آب) نتائج كثيرة، فقد شن الإفرنسيون هجمات عنيفة على قوات جيش التحرير، وارتفعت الأصوات وهي تطلب النجدات من فرنسا. وأخذت الصحافة الإفرنسية في توجيه النقد العنيف ضد الأساليب التي يستخدمها الجيش في محاولاته للقضاء على الثورة. وشجع ذلك (الإمعات) أو (المترددين) من الجزائريين الذين كانوا من أنصار التعاون مع فرنسا في الجمعية الجزائرية، دراسة الاصلاحات التي اقترحها (سوستيل) لدمج الجزائر بفرنسا. وقد استنكر هؤلاء الجزائريون، المذعنون عادة لإرادة الإفرنسيين، أعمال العنف العمياء، وحملوا على مبدأ المسؤولية الجماعية، وأجبروا على القول:(بأن سياسة التكامل التي لم تطبق أبدا بإخلاص، قد غدت عتيقة لا تصلح. وأن الغالبية العظمى للشعب باتت متعلقة بالفكرة القومية). وفجأة أمرت

(*) سيرد في القسم الثاني من هذا الكتاب صورة حية عن هذه المعركة وسواها

ص: 76

السلطات الإفرنسية بتعليق جلسات الدورة الطارئة للجمعية الجزائرية.

وكان لانتصار (20 أوت - آب - 1955) دوره في تشجيع جبهة التحرير على قبول أول اتصال مع الصحافة الإفرنسية الليبيرالية. فقد أجرى (عمارنة) القائد الثوري في منطقة القبائل، مقابلة صحفية مع صحيفة (فرانس أوبزرفاتور) اليسارية نشرت في الخامس عشر من سبتمبر - أيلول - 1955، أكد فيها:(مواقف جبهة التحرير المعروفة الواضحة تجاه الطبيعة الوطنية وغير الشيوعية وغير الأجنبية للثورة. وأكد عدم وجود أية قوة لمصالي الحاج وحركته الوطنية في الجزائر، وتمسك الجبهة تمسكا صادقا بقوانين الحرب). وقال: (إن الجبهة تتلقى طلبات تطوع كثيرة، وقد بدأت في قبول أولئك الذين سبق لهم أن مروا بفترات من التدريب العسكري. وقد نشأت قوة جيش التحرير عن طبيعة الأرض المؤاتية، ومن الحقيقة الواقعة بأن الجيش يعمل في أرضه، ويحظى بتأييد الشعب. ومع ذلك، فقد أدرك جيش التحرير أنه لا يستطيع الانتصار في الحرب بهذه الوسائل وحدها)، وقد أكد (عمارنة) أن جيش التحرير كان يضم في سنة 1954 ما لا يزيد عن ثلاثة آلاف مقاتل، فأصبح يضم الآن اثني عشر ألفا، وسيصبح بعد بضعة أشهر مائة ألف بكل سهولة. وحدد عمارنة الشروط التي لا محيص عنها لوقف إطلاق النار، وهي: إنهاء جميع الحركات العسكرية، ووضع حد لأعمال العنف، وإصلاق سراح المعتقلين السياسيين، وصدور بيان إفرنسي يعترف بحق الشعب الجزائري في الحرية والاستقلال، ثم مضى يقول:

(لقد تحدثنا عن مبدإ الحق في الاسقلال. إننا واقعيون،

ص: 77

وأصبح جيش التحرير جيشا حديثا

ص: 78

فالاستقلال يمكن تحقيقه على مراحل وبصورة ديموقراطية، ومن الضروري والحالة هذه، أن ننظم بعد بضعة شهور من عودة الهدوء، انتخابات حرة لجمعية تأسيسية تنبثق عنها حكومة جزائرية تتفاوض مع الحكومة الإفرنسية حول الوضع السياسي المقبل للجزائر، والعلاقات الجديدة التي ستربط الجزائر بفرنسا).

وأكد (عمارنة) أن جبهة التحرير الوطني لا تضم أحدا من المصابين بعقدة (كره الأجانب) وأضاف قائلا: (وعليك أن تفهم أننا لن نقبل أبدا الدمج أو التكامل - مع فرنسا- فنحن جزائريون.

وهذه قضية كرامة بالنسبة لنا. والخطيئة الكبرى التي يقع فيها معظم الساسة عندكم، هي محاولة تفسير - المأساة الجزائرية - على أنها نتيجة الجوع والشقاء والافتقار إلى المدارس، بينما تقوم جذورها على التعطش إلى الشرف وإلى العدالة والحرية. ونحن نعرف أنه لا أمل لنا في المجلس الوطني الإفرنسي الحالي - البرلمان - لأنه لا يستمع إلينا، ولذا فنحن نعد أنفسنا لصراع طويل وشاق. وقد حققنا حتى الآن الكثير من أهدافنا العسكرية. فبعد مرحلة الثورة العامة المدهشة في الفاتح من نوفمبر - تشرين الثاني - 1954. وبعد مرحلة نشر عدم الطمأنينة في المنطقة (يوم 20 أوت - آب - 1955) سنبدأ حالما تسمح لنا ظروفنا المادية بذلك، في تنفيذ المرحلة الثالثة، وهي تكوين منطقة محررة في منطقة كاملة من البلاد، نعلن فيها استقلالنا، ونقيم حكومة مؤقتة تطلب مساعدة من الخارج، وتعمل على تدويل القضية الجزائرية. أما متى سيتحقق هذا؟ فنحن أنفسنا لا نعرف

ولكننا نأمل أيضا في أن يتطور الشعب الإفرنسي - سياسيا - أيضا).

***

ص: 79

ووردت في مقابلة صحافية تالية، مع زعيم آخر من زعماء جبهة التحرير في الواحد والعشرين من سبتمبر - أيلول - 1955، تفاصيل أخرى، وإيضاحات إضافية. فقد أوضح هذا الزعيم إيضاحا كاملا أن الشروط التي ذكرها (عمارنة) هي (لوقف إطلاق النار، لا لوضع السلاح، إذ أن جبهة التحرير لن تلقي سلاحها إلا إلى حكومة جزائرية) وقد علق الزعيم الجزائري على التدريب السياسي والعسكري لجنود جيش التحرير فقال: (لا يسمح لأي فرد بالتطوع في جيش التحرير الوطني إلا بعد أن يكون قد تطوع في الجبهة نفسها، وهو يتطوع في الجبهة على الصعيد السياسي. ويقوم التدريب السياسي على أسس فريدة من العقائدية القومية، فنحن قبل كل شيء جزائريون. وليس في وسع الاسلام أن يزدهر بالتأكيد في ظل الاستعمار. وهذا ما يشكل حافزا للعمل. ولكننا لا نسأل أي عضو من أعضائنا عن دينه، وعما إذا كان مسلما

وقد حارب الطلاب والفلاحون والعمال جنبا إلى جنب في جيش التحرير). وتحدث الزعيم الجزائري عن الشيوعية، فقال:(لن يشترك الشيوعيون كحزب في الحرب التحررية. أما إذا أراد شيوعي أن يشترك في جبهة التحرير كأي مناضل سياسي، فعليه أن يستقيل من حزبه أولا، وأن يتبنى برنامج الجبهة) وسيتعرض أنصار (مصالي الحاج) وحدهم للهجوم المباشر، أما الوطنيون المعتدلون، فلن يساء إليهم ما داموا يسهمون في النضال ضد الاستعمار، على الرغم من استخدامهم وسائل غير صالحة. وأشار الزعيم الجزائري إلى أبطال الجزائر في الماضي (كالشيخ الحداد والمقراني في ثورة عام 1871 وقال عنهم: إنهم مصدر إيحاء للثورة). ثم رسم خطا يفصل بين ثورتي الصين والجزائر فقال:

ص: 80

(إن المشكلة التي تواجهنا ليست مشابهة للمشكلة التي واجهت الصين، فقد حمل الصينيون لواء المقاومة الوطنية والثورة الاشتراكية معا أما نحن فنقف في نصف الطريق بالنسبة إليهم. فالمشكلة الثانية لا تعرض لنا في الوقت الحاضر. لقد حملنا السلاح لتحقيق غرض محدد بدقة وهو: التحرر الوطني).

لا ريب أن هذا الاعتدال الذي يظهر في موقف جبهة التحرير من خلال الحديثين الصحفيين، هو أمر مدهش للغاية. لا سيما وأن موقفها العسكري في سبتمبر - أيلول - عام 1955. كان لا يزال في منتهى الضعف. فأين تكمن القدرة على إجراء تسوية سياسية؟ إنها في مكان ما بين الدمج والتكامل، وهما أمران مرفوضان رفضا كاملا من قبل الثوار الجزائريين. ومقابل ذلك فقد اشترطت الجبهة لمثل هذه التسوية (إعلان الحكومة الإفرنسية اعترافها بمبدإ - حق تقرير المصير واستقلال الشعب الجزائري) وهو الأمر الذي كانت ترفضه السياسة الإفرنسية. ولقد كان الوضع - إذا ما تم استثناء هذا الشرط (بالإعلان) الذي لم تحدد مدته - قابلا للتفاوض بين الحكومة الإفرنسية وبين حكومة جزائرية تنبثق عن انتخابات حرة تجري في ظل الحكم الإفرنسي. ولا شك في أن هذا الاعتدال مذهل أيضا، عند تذكر مضمونه الدولي. فقد كانت تونس والمغرب على وشك الاستقلال الذي تحقق فعلا بعد بضعة أشهر. ويظهر أن (عمارنة) قد شعر بأن جبهة التحرير لم تكن آنذاك على ثقة تامة من قدرتها على رفض السيادة إذا ما قررت فرنسا منحها لها. لكن هذه هي المرة الأخيرة التي قبلت فيها جبهة التحرير إجراء انتخابات تحت الإشراف الإفرنسي، وكانت المرة الأخيرة أيضا التي أظهرت فيها الجبهة

ص: 81

تفاؤلا بصدد التفاهم مع فرنسا. وقد بلغ هذا الأمل في الاتفاق مع فرنسا ذروته عند زعماء جبهة التحرير من ذوي الإدراك السياسي، إبان الحملة الانتخابية الإفرنسية في جانفي (كانون الثاني) 1956، عندما تكاتف الاشتراكيون الإفرنسيون والراديكاليون في الدعوة إلى برنامج (لإقامة السلام في الجزائر). ولكن ما إن وصل زعيم الاشتراكيين (غي موليه) إلى السلطة، وأخذ في ممارسة دوره على المسرح السياسي، حتى انهارت كل احتمالات التسويات السلمية

ص: 82