الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 -
جيش التحرير الوطني الجزائري
لقد ولد جيش التحرير الوطني الجزائري مع ولادة الثورة، وتطور مع تطورها، واكتسب قوته من قوتها. فصلب عوده من خلال الصراع المسلح. وبقي هو العمود الفقري للثورة، فلولاه لما كان لأي مجهود سياسي جدواه أو فائدته. وقد بدأ جيش التحرير عمله في بداية الثورة على شكل مجموعات منعزلة، لا تنسيق بين عملياتها، وكانت تفتقر إلى الأسلحة والذخائر والأعتدة القتالية، الأمر الذي دفعها إلى تركيز هجماتها ضد القوات الإفرنسية بحثا عن الأسلحة والذخائر، وقد دفعت ثمن ذلك غاليا من دماء مجاهديها وأرواحهم. وبقي الأمر على ذلك حتى شهر آب (أغسطس) 1956 حيث أعيد تنظيم الجيش وفقا لمقررات موتمر (وادي الصومام). فقسمت الجزائر إلى ست ولايات، طبقا لتقسيماتها الإدارية السابقة، مع بعض الاختلاف في الحدود أحيانا بين التقسيمين، وتبعا لاختلاف النشاط في كل منطقة. وقد ضمت إلى الولايات الخمس الأصلية، ولاية الصحراء الجديدة. كما اعتبرت مدينة الجزائر منطقة مستقلة ضمن الولاية الرابعة، بسبب وضعها الخاص. وتم في العام 1957 تنظيم قاعدتي الشرق والغرب على كل من الحدود التونسية
والمغربية، بهدف تأمين وصول الأسلحة والرجال من المنطقتين وإليهما.
قضى مؤتمر الصومام بتقسيم كل ولاية إلى مناطق، والمنطقة إلى أقاليم، والإقليم إلى قطاعات. وفي كل مركز قيادة للجيش (قائد سياسي - عسكري) يعاونه ثلاثة مساعدين، أحدهم للشؤون السياسية والثاني للعسكرية والثالث للمخابرات والارتباط. ويكون القائد على صعيد الولاية برتبة عقيد (كولونيل)(*). وهي أعلى الرتب العسكرية التي سيستخدمها الجيش حتى الاستقلال. وتم في مؤتمر وادي الصومام تقسيم وحدات الجيش إلى أفواج يضم الواحد منها أحد عشر جنديا، وفرقا تضم الواحدة منها خمسة وثلاثين جنديا، وكتائب تضم الواحدة مائة وعشرة جنود، وفيالق تضم ثلاثمائة وخمسين جنديا. وقرر المؤتمر أن يتبنى الجيش نظام الدرجات العشر الموجودة بين المجاهدين في القبيلة، وهي تبدأ بالعريف وتنتهي بالعقيد. وتم تنظيم الرواتب على درجات تبدأ بألف فرنك في الشهر للجندي العادي، وتنتهي بخمسة آلاف للعقيد. ولكن ثمة كثيرين من المجاهدين لا يتقاضون رواتب. وقرر المؤتمر أيضا، تخصيص علاوات للعائلات، ومنح رواتب لأسر الشهداء، أو في حالات الأسر.
كتبت صحيفة 5 المجاهد، في نوفمبر - تشرين الثاني - 1957
(*) بقي هذا النظام متبعا طوال ربع قرن بعد الاستقلال، ولم يحمل الرئيس هواري بومدين أكثر من رتبة عقيد. وفي 1979/ 7/1، أصدر الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد مرسوما رفع بموجبه وزير الدفاع (القاصدي مرباح) إلى رتبة عميد. فأفسح بذلك المجال أمام ترفيع القادة الى رتب أعلى تتناسب مع حجم التشكيلات التي يقودونها والأعمال التي يمارسونها أسوة ببقية جيوش العالم.
(وهي الناطقة باسم جبهة التحرير، عن الجيش، فأكدت المخطط العام الذي وضعه مؤتمر (وادي الصومام) ثم قالت: (إن جيش التحرير هو جيش منظم ومسلح على أحدث طراز. لكن سر قوة الجيش وفعاليته، تقوم بصورة رئيسية في العون غير المشروط الذي يتلقاه من الشعب).
وهناك ثلاث فئات من المتطوعين في الجيش وهم:
1 -
المجاهدون.
2 -
المسبلون (*).
3 -
الفدائيون وهم الذين يحاربون في المدن. وهناك في بعض المناطق فئات (المغاوير، أو فدائيو الموت) ويعمل هؤلاء بصفة مستقلة عن القيادات المحلية ويتولون القيام بمهام خطرة.
وكان الجيش قد أقام في العام 1957، عددا من الخدمات المركزية، كالخدمة الطبية بما تشتمل عليه من عيادات ومستشفيات وخدمات الاتصال مع القيادات الأخرى، والخدمات الاجتماعية لأسر الضحايا والشهداء، والدعاية والإعلام والثقافة، كما وسع نشاط المفوضين السياسيين. وفي غضون العام 1958، تحول جيش التحرير الجزائري بصورة طبيعية وتدريجية إلى جيش نظامي عامل، من غير أن يفقد روحه الثورية.
(*) المسبلون (جمع مسبل - بضم الميم وتسكين السين وكسر الباء وإسكان اللام) والمسبلون هو اصطلاح جزائري يقصد به الأنصار الذين يتطوعون للعمل في مناطقهم، فيقومون بتدمير طرق المواصلات، وتفجير أعمدة الهاتف والقدرة الكهربائية، وينقلون المعلومات لجيش التحرير عن تحركات العدو وقواته، كما يعملون على نقل الذخائر والأسلحة ومساعدة الجرحى وإخلائهم من ميادين القتال، ويستدرجون العدو إلى الكمائن المنصوبة. ويؤمنون حراسة قطعات جيش التحرير خلال توقفها، ويعملون أدلاء لها في تحركها، الخ
…
كانت القيادة تقبل في صفوف الجيش، عند بداية الثورة، كل من يقبل على التطوع، ولكن هذه الفئات الأولى لم تلبث أن اختفت تحت وطأة ما تكبدته من الخسائر الفادحة. وغدا التطوع يقوم على أساس الانتقاء، مع إعطاء الأفضلية لمن اكتسبوا من قبل خبرة قتالية - عسكرية -. وكان التدريب العادي على أساليب القتال والنظام يجري ضمن الوحدات نفسها. أما الإعداد العسكري العالي للضباط والجنود، فكان يتم في المسعكرات الخاصة بذلك في القطرين المجاورين (تونس والمغرب). وكان يتم إرسال بعض الشبان للتدريب على الأعمال الخاصة (كأعمال الفدائيين، أو قيادة الطائرات النفاثة، أو الهندسة العسكرية، أو قيادة القطع البحرية) إلى القاهرة أو بغداد أو ألمانيا الشرقية أو دمشق.
كان من أبرز مظاهر (تنظيم الجيش) وضع القوانين العسكرية للانضباط والقضاء العسكري التي أصبحت سارية المفعول في الولايات اعتبارا من شهر (أفريل - نيسان - 1958) وحدد القانون الجديد العقوبات للجنح والجرائم (أنظر قراءات 1 و2 في آخر الكتاب).
شهد عام 1958 تحسنا أيضا في وسائل المواصلات، على الرغم من أن التنقلات ظلت على الغالب مقصورة على السير (المشي)، أو امتطاء البغال، أو ركوب السيارات المدنية في المناطق الأمينة. وتم تنظيم شبكات الاتصالات السلكية واللاسلكية، وأصبح بإمكان القيادة في كل ولاية أن تتصل في كل يوم اتصالا مباشرا، عن طريق اللاسلكي، مع القيادة العامة خارج الجزائر. وغدا الجيش في الداخل غير مفتقر إلى صحفه الداخلية
ووسائله الترفيهية. وكانت الصحف المحلية توزع يوميا لتنقل إلى الجنود وصف الضباط، صورة عن المعارك في كافة الأقاليم ممتزجة بالأحداث الطريفة والمثيرة.
تطور جيش التحرير الوطني الجزائري تطورا مستمرا من خلال الصراع المسلح، ولهذا فقد بقي من الصعب تحديد حجمه بدقة، وكذلك الأمر بالنسبة لتسلحه. وتشير أرقام الجيش ذاته إلى أنه بدأ في العام 1954، بمئات من المتطوعين، ثم أصبح يضم ثلاثة آلاف مع بداية منة 1955. وارتفع عدده إلى (40) ألفا في سنة 1956، ثم إلى (100) ألف في سنة 1958 ووصل إلى (130) ألفا في سنة 1959. أما الإفرسيون فقد قدروا عدد أفراد جيش التحرير في سنة 1956 بـ (15) ألفا من الجنود النظاميين و (10) آلاف من المتطوعين الإضافيين - وفي سنة 957 1 كانت تقديراتهم تشير إلى أن جيش التحرير بات يضم (35) ألفا من النظاميين و (30) ألفا من المتطوعين الإضافيين. وعلى كل حال، فإن السبب في بقاء الجيش محدود العدد، يعود إلى قلة السلاح وليس إلى عدم توافر الرجال.
وكانت أسلحة الجيش الأولى في مستهل الثورة، عبارة عن بنادق الصيد والمدي والأسلحة البدائية الأخرى التي كان الجزائريون من أبناء الجبال يملكونها. وقد سقطت بعض مخابىء الأسلحة التي كانت مطمورة (مدفونة) منذ أيام الحرب العالمية الثانية في أيدي جيش التحرير. وقد تمكن جيش التحرير في السنة الأولى من القتال، من الحصول على بعض الأسلحة الحديثة التي جاءته من الخارج، أو من الاغارات على المستودعات العسكرية للافرنسيين. وتحسنت وسائل تسلح الجيش قبيل نهاية العام 1955، ووصلت إلى الجزائريين بعض المدافع من الأنواع التي استخدمت في الحرب
العالمية الثانية، إما من بعض الدول العربية (مثل سورية) وإما من أسواق السلاح الأوروبية. وكان الجيش حتى (نوفمبر - تشرين الثاني - 1957) يؤكد أن ثلاثة أرباع سلاحه، جاءت من الإغارات التي كان يقوم بها على مستودعات الإفرنسيين. وأصبحت بنادق الصيد التي استخدمت في الأيام الأولى للثورة مجرد ذكرى من الذكريات القديمة، واستعيض عنها ببنادق ومدافع رشاشة خفيفة وثقيلة ومدافع البازوكا والهاون. وانتشرت أقوال في سنة 1958 تؤكد أن جيش التحرير سيحصل على بعض الطائرات الخفيفة لتأمين الارتباط والاستطلاع. ولكن هذه الطائرات لم تظهر حتى مطلع العام (1959). واستمر السلاح في التدفق على جيش التحرير، عن طريق البر والبحر، من تونس ومراكش (المغرب). وكانت البلاد
العربية هي المصدر الرئيسي للأسلحة، كما وصلت أسلحة أخرى من أوروبا، أما الأموال فمن بلاد عديدة. ولم يعثر في الجزائر على أسلحة من صنع الكتلة الوفييتية منذ عام 1954، وإن عثر فيها على أسلحة تشيكية من إنتاج الحرب العالمية الثانية، اشتراها الجزائريون من الأسواق الأوروبية وإذا قدر لشحنات من الأسلحة الشيوعية أن تصل إلى البلاد، فإنها ستأتي حتما من الصين الشيوعية.
اعتمدت الثورة الجزائرية في أساليبها الاستراتيجية وطرائقها التكتيكية على أصالتها الثورية وتجاربها القتالية الخاصة في مختلف الثورات التي سبقتها. غير أن قادة الثورة حاولوا الإفادة من تجارب الآخرين - مثل تلك التي طبقها (ماوتسي - تونغ - الزعيم الصيني) وشرحها في كتبه. وقد زودت حرب المقاومة الإفرنسية ضد الاحتلال النازي، الثورة الجزائرية بالكثير من تعابيرها واصطلاحاتها.
ويظهر أن التجربة السوفييتية لم تفد الجزائر ولم تطبق في الجزائر.
أما حروب العصابات اليوغوسلافية إبان الحرب العالمية الثانية، فقد أوحت للجزائريين الثوار بالكثير من الدروس. ولعل السبب في ذلك هو التشابه في الطبيعة الجغرافية والتماثل في موقف (القوى المتصارعة). كما أن قادة الثورة استوحوا من أعمال الجيش الجمهوري الإيرلندي، على ما يظهر، الكثير من وجهات
النظر العسكرية والآراء السياسة. غير أن معظم الأساليب التي تم اتباعها هي تلك التي سار عليها المجاهدون الجزائريون طوال السنوات التي سبقت الثورة، والتي تعتمد على أصالتهم الثورية الذاتية وتجاربهم القتالية الخاصة، وتطوير تلك الأساليب وفق مبادرات القادة. ولقد اعتمدت الخطة الاستراتيجية العامة للجيش على تصعيد الصراع المسلح بصورة منتظمة وبمعدل متزايد. وقد تحدث العسكريون - من وقت إلى آخر - عن معركة من نموذج معركة (ديان بيان فو) ينوون شنها ضد الإفرنسيين، ولكن ما لم تظهر الأسلحة الجديدة، وتحدث تبدلا أساسيا في قوة النار، فستظل الخطة العامة مرتكزة على بث الشعور بعدم الطمأنينة للإفرسيين في كل موقع، وفي أي مكان، من أرض الجزائر. ولا ريب في أن الظروف المحلية وقوة الجيوش الإفرنسية العاملة في الجزائر، واحتمالات التموين، قد احتكلت كلها المكان الأول في الاعتبارات المتعلقة بهذا الموضوع.
يظهر ذلك، أن جيش التحرير الوطني الجزائري قد اكتسب منذ بداية عهده الشكل الحقيقي والمضمون العملي للجيش النظامى المحارب، ولم يكن أبدا، لا في انضباطه، ولا في أساليب عمله ولا في طريقة عمله، مجموعة من العصابات (أو الفلاقة) أو (العصاة) كما أطلقت عليهم فرنسا حتى آخر عهدها بالجزائر. ولم
يكن هذا الانكار لحقيقة وجود جيش التحرير، إلا من أجل ممارسة الإرهاب، وإهدار دم الثوار، وتطوير أعمال الابادة باعتبارهم (خارجين على القوانين - الإفرنسية) فوق أرض (الجزائر الإفرنسية) كما كان يزعم دهاقنة الاستعمار ورجاله وأجهزته.
لعل من أدعى خصائص جيش التحرير الجزائري، المدهشة، هي أنه تكون في بداية عهده بمنتهى التواضع من بضع مئات من الرجال، فلم يلبث أن تطور بسرعة تكاد تكون خيالية. ولقد وطن هذا الجيش نفسه على مستلزمات النضال التحرري، وأخصها حرب العصابات، فكان بذلك جيشا ثوريا من الأنصار، وجيشا نظاميا في آن واحد. وقد ظهر ذلك واضحا من خلال تنظيمه وكيانه الحقوقي. فتقسيم البلاد، إلى ولايات ومناطق، وتعيين المسؤولين العسكريين والمدنيين في كل منطقة ومديرية وقسمة، ونظام التسلسل العسكري، ونظام التجنيد، وصدور قانون للجيش (المجاهد). وظهور المصالح المتخصصة في الجيش (كالخدمات الصحية والإدارية والتعليمية الخ
…
). كل ذلك ينفي عن جيش التحرير صفة (العصابات) ويؤكد صفة جنوده كمحاربين، نظاميين، لهم هويتهم الوطنية والقومية، ولهم قيادتهم المسؤولة، ولهم شاراتهم المميزة، وهم يحملون السلاح علنا، ويتقيدون في حروبهم ومعاركهم بالقوانين والأعراف الدولية.